المحرقة .. وماذا بعد ؟؟..

 

 

شبكة المنصور

جلال / عقاب يحيى - الجزائر

تكثر الأسئلة حول الذي يجري : خلفيات، وأهداف، ونتائج ، وتتعدد الرؤى والتحليلات في الأسباب، والمسار، والعلاقات، والتصورات ..


تحضر إيران بقوة عند ( المعتدلين)، أو المعادين لإيران ومشروعها، وتتهاطل الشواهد والأمثلة عن خلفيات مشروع قومي ـ مذهبي، فيأتي العراق : المثال، الاختلاط،، الوضوح، وحرب تموز، و"حزب الله"، وحماس المتهمة " بتنفيذ أجندة خارجية"، وسياقاتها في " رفض استمرار التهدئة"، وفي إطلاق تلك الصواريخ.. فتتعدد صيغ الاتهام ..


لكن المحرقة . المجزرة . منظر الأشلاء . الأطفال . النساء .الدمار .عنف الإجرام . الصمود والاستبسال يلقي بطبقة كثيفة على تلك التهم، ويربك، أو ’يخجل تلك الأسئلة التي يحرجها الوضع فتبهت، وتتناثر، خاصة وأن مخزون الاحتقان الشعبي العربي، والإسلامي، وحتى العالمي .. يتدفّق بما يفاجئ الكثيرين، فتنفجر العواطف والاندفاعات، كما هو شأننا في المحطات المماثلة، وتبقى الأسئلة تفرض احتلالها للعقل حول الذي يجري، والغد.. الأمر الذي يدعو إلى الوقوف عند بعض النقاط المحورية :


1 ـ لقد طغى طمي مستنقع الواقع العربي الرسمي على حقائق الصراع، وجوهر الكيان، فكانت فلسطين الضحية الأولى له .تقزّمت واضمحلت بعد حروب الحروب والضغوط والحصار والترحيل والشقّ، فدخلت، أو أدخلت منظمة التحرير نفق التسوية بواقع ميزان قوى يتأرجح اختلالاً متعاقباً لصالح العدو وحلفائه، ومع كل أرجحة كان التنازل تناغماً مع اشتراطات العدو، وقابلية النظام العربي الرسمي له، ولممارسة الضغط والإغواء، ومغادرة شرط الفعل الذاتي، وخط المقاومة، متعدد الأشكال من معادلة الصراع، وحتى المفاوضات .


لا شكّ أن حقائق كثيرة تفقأ العيون، وتحتل الوعي والموقف أفرزتها الهزائم والانهيارات العربية، وباتت واقعاً يفرض نفسه، وينبت مقولاته في استحالة العودة إلى أبجديات الصراع، وإلى فلسطين الأساس : من البحر إلى النهر، وأصبحت الضفة والقطاع( مع قابليات للتنازل) غاية المنى لإقامة الدولة، أو ما يشبه الدولة .


لكن التجربة الدامية، واستشهاد الرئيس عرفات بتلك الصورة، بعد رفضه التنازل عن الحد الأدنى، واللاجئين، وعدم تقدّم العملية التسووية، رغم توفير كل متطلباتها عربياً( كثيرة هي تلك المتطلبات).. وتعنت "إسرائيل" الكاشفة عن جوهرها بما يفقأ عيون ( النبت الواقعي)، واصطدام" المبادرة العربية"، وكل الوعود الخلّبية بجدار الجوهر الصهيوني ..


ناهيك عن عمليات القتل الممنهج، والتدمير الاستنزافي، واستهداف المقاومين، وارتكاب فعل الإبادة، والمحارق، والحصار المميت ..


كل ذلك فتح المجال لأسئلة مشروعة : وماذا بعد ؟..وإلى أين تتجه الأمور في المنطقة؟. وماذا يريد هذا النظام العربي؟. بل ماذا يستطيع أن يفعل أكثر من التنازل، والتخاذل، والانصياع ؟؟..


2 ـ إن إفلاس ما يعرف بخط الاعتدال يفتح الطريق لبدائله المشروعة . البدائل الطبيعية، المنطقية التي طالما لجأت إليها الشعوب المحتلة أوطانها : خط المقاومة بكل أشكالها، بما فيها أرقاها وأشدها عنفاً : الكفاح المسلح، الذي يبدو الخيار الوحيد لمحاولة إقامة شيء من التوازن مع العدو الأقوى عسكرياً. وعلى الأقل : إجباره على التنازل لانتزاع الحد الأدنى من الحقوق المشروعة .


إن ملاحظات( بالجملة والمفرّق) طرحت وتطرح حول الأشكال الأنجع في مقاومة الاحتلال، وموقع السلاح منها، وترتيبه في سياق الأشكال الأخرى( الحجر، والمقاومة المدنية المنظمة)، أو تناغم الأشكال وفق استرتيجية متفق عليها ، وتكتيكات تصبّ في مجراها، وليست بديلاً عنها .


3 ـ بغياب أي مشروع للنظام العربي الرسمي : تضامني، تكافلي يحافظ على المصالح العليا للأمة، ويوحد جهودها في مجابهة الأخطار الحقيقية التي تتهددها، وليست تلك المختلقة، والموهومة.. فإن امتلاك الآخر( أي آخر) لمشروع قومي، أو غيره يبدو منطقياً، وأكثر ..فمثل هذا المشروع الذي يلتقط نبض الشارع ويعبّر عنه، سيجوب، بالتأكيد، العقول والساحات، وسيملأ الفراغ الكبير حتى ولو شكك البعض في خلفياته، بل وحتى لو حمل بصماته الواضحة .


إن الحالة الإيرانية مثال ساطع، حيث يلقى خط النظام الإيراني : الرسمي، المعلن من القضية الفلسطينية استجابة وقبولاً من عموم الشارع العربي، وتلك حقيقة لا يمكن طمسها بمقولات اتهام الشارع العربي ب(الدهماء) والعاطفية، وقلة الوعي. أو بعد إدراكه لمرامي إيران ومشروعها الخاص( وكل ما يقال فيه وعنه، وما يجري في العراق.. وغيره)..لأن المواطن وهو يقارن بين موقفين متناقضين سينحاز لما يلبي وعيه، وأهدافه، حتى وإن كان ذلك الموقف ملغوماً، أو مسموماً، أو مظهرياً .


4 ـ على هذه الخلفية، ودون الغوص هنا في طبيعة المشروع الإيراني، وأدواته، أو تناغمه وتقاطعه مع مشاريع كبرى تجوب المنطقة..فإنه يصعب على ذهن المواطن العربي أن يفسر الذي يجري لغزة على أنه ( ردّ فعل) إسرائيلي على ( تحالف حماس مع إيران). أو أن حماس مجرد بيدق ينفّذ أوامر إيرانية، أو أن "إسرائيل" لا تستهدف في محرقتها الإبادية سوى إضعاف حماس و" إنهائها"..فالوقائع تفقأ عيون هذه النظرة، وما يجري في غزة يصفع تلك التقولات .


وإذا كان الظرف، والمجال لا يسمحان بالتطرّق إلى أخطاء حماس، خاصة فيما يرتبط بالاقتتال الداخلي وتداعياته، وفي قبول دخول منازلة التراشق بالتهم والتصنيفات المؤذية، وردود الفعل السلبية، وغير المفيدة .. فإن لوحة الذي يجري أوسع من ذلك بكثير، وتتجاوز حماس إلى جوهر الخيارات، وإلى القلب : فلسطين، ومستقبل وموضعات الصراع ، ولوحة المنطقة التي تشتغل عليها صهيونية عاتية، وقوى يمينية متصهينة لتفتيت المنطقة عمودياً وعلى أكثر من شكل .


5 ـ إن خط المقاومة، بتنوعه، وأساليبه المختلفة هو الهدف، وعبره : فلسطين .
إن وضعاً عربيا ً مجرداً من كل مقومات الصمود، والقوة .مفتتاً .ذيلياً. منصاعاً هو الهدف، وهو الشرط اللازم للانتقال إلى الخطوات اللاحقة ضمن استراتيجية عامة .

 

هنا، وبغض النظر عن كل الأخطاء، وطبيعة الحسابات والتقديرات، ودخول هذا المحور الإقليمي، أو ذاك على الخط للتسرب، أو النفاذ، أو الاستغلال.. فإن الذي يجري في غزة يتجاوز ذلك، وقد تجاوزه بالفعل، لأنه يفصح عن فعل صهيوني مبرمج يجد الدعم من حليفه الطبيعي، ومن قوى عديدة، بما فيها بعض الأطراف العربية .


6 ـ لقد وحّدت "إسرائيل" من حيث تدري، أو لا تدري الشعب الفلسطيني بكل فئاته، كما وحّدت فصائل المقاومة التي تجد نفسها في الخندق الواحد، وقد تجاوزت، على الأرض،كل الإشكالات والتباينات، حيث العدو الواحد الذي يستهدف الجميع .
والحقيقة فإن أسئلة واقعية تطرح، حتى هذا اليوم، عن الذي حققته العدوانية الصهيونية في فعلها الإجرامي، وفيما تطرحه من أهداف معلنة، حيث تبدو النتائج عكسية .


صحيح أنها قتلت أزيد من/800/ شهيد بينهم نحو النصف من الأطفال والنساء، وجرحت أزيد من /3000/، وما زالت القائمة مفتوحة . ودمّرت البنية التحتية، ومئات البيوت، والمنشآت، والمساجد، وطالت الشجر والحجر.. والكثير الكثير من الإجرام الذي يرتدّ عليها ..لكن ماذا عن حماس، وفصائل المقاومة، الهدف الرئيس المعلن ؟؟..
وبواقعية، فحماس الهدف الأول، هي الآن أقوى على الأرض، وفي قلوب الشعب، والمقاومة تجوب اليوم أفئدة وعقول ملايين العرب والمسلمين والأحرار في العالم .


7 ـ لهذه الأسباب ترفض"إسرائيل"قرار مجلس الأمن/1860/ الذي يلبي، في عديد بنوده، شروطاً إسرائيلية معلنة، بينما لا ينصّ على بعضها، والتي تحاول" المبادرة المصرية" استكمالها، خاصة لجهة" منع تهريب الأسلحة"، ووجود قوات دولية شبيهة بتلك التي وضعت في لبنان وفق القرار /1707/ .


****

الوضع العربي على بوابة منعطف، لذلك سيتعرّض لمزيد من التفاعلات والخضّات .
لقد أكدت فلسطين موقعها : قضية مركزية . أم قضايا العرب، ومحط أفئدة الملايين من المسلمين والأحرار. وأظهرت مدى عمق الفجوة بين النظام العربي الرسمي والشعوب العربية.فجوة عميقة هي هوة ساحقة لا يمكنه بكل المساحيق وطمي الخطب والتصريحات، ومظاهر المساعدات ان يردمها .إنها الفجوة بين الاستبداد والحرية . بين الخنوع.الاستسلام. الجبن .التخاذل..وخط الكرامة الوطنية والقومية . خط الصمود، والمقاومة، وخط الاستجابة لنبض الأمة وحقها في الحياة .


ـ إن هذا الصراع الذي تخضبه غزة بدمائها الطاهرة . بصمودها . برفضها الموت إلا استشهاداً وإباء، وعزة سيفتح الأبواب على جولات جديدة من التناقض، وستدخل على خط الأنظمة كل القدرات والأطراف الحليفة لإجهاض هبّة الشارع بأشكال كثيرة، كما فعلوا مع الانتفاضة الأولى، وانتفاضة الأقصى المبارك، ومع العراق النازف، المقاوم .


ـ إن الجميع : نخباً، وأحزاباً، وهيئات، وقوى مجتمع مدني، وشعوباً مدعوين لدرس ملحمة غزة وتداعياتها ونتائجها، لاستنباط الدروس، واستخلاص مناهج العمل للمرحلة المقبلة ، وفي المقدمة من ذلك : محاصرة نظم الاستبداد ، والفوات، والتخاذل كي تتصالح مع شعوبها وتذعن لمطالبها، ولأنها لن تفعل ذلك ، فإن فعل التغيير الجذري للأوضاع القائمة باتجاه أوضاع ديمقراطية تطلق الحريات العامة، وتتيح للشعب المشاركة الجدية في صنع القرار والمستقبل، هو المخرج الوحيد الذي يجب أن تنصبّ عليه الجهود .


ـ إن أوضاعاً ديمقراطية جديّة قائمة على الاعتراف بالآخر، وحقه بالاختلاف، والتداول السلمي على السلطة.. من شأنها وضع فلسطين في موقعها الطبيعي، وحل قضيتها حلاً عادلاً، وديمقراطياً يتناسب والحقوق التاريخية للأمة..وحق الآخرين في الحياة ضمن دولة ديمقراطية يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات ..


ـ إنه الرهان، والأفق .السباق والامتحان ..كي لا نظل ظاهرة صوتية ، وفقاعة مناسباتية عابرة .

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الاحد  / ١٤ محرم ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١١ / كانون الثاني / ٢٠٠٩ م