يوميات الجحيم

( تأملات في كتابات بثينة الناصري )

 

 

شبكة المنصور

الدكتورعبد الستارالراوي

-1-

 

الوطن، هو جملة الوجود؛ المبتدأ والخبر، الكلمة والمعنى، فلا وجود للإنسان العائم فوق سطح الحياة، فالإلتزام بقضيته (أنْ تكون أنت) حاضرا في عين الشمس، أن تنصهر بالحجر والشجر، مقيما في فصول النار ،أن تتشكل الكلمة من جرح النهر، ومن ضراعة الامهات، ليولد النص المبجل من قيامة العراق، (أن تكون حاضرا) في قلب الحرائق، وليس في ظل الاشياء، أو تحت سقف الذات، أن تتحمل بوعيّ، مسؤولية هويتك، فكرا وعملا، منهجا وسلوكا، فالدفاع عن قضايا الوطن، متعدد الجبهات داخل البلاد وفي المنافي،  وهو واجب قبل كل شيء، فالإنشغال بالمقاومة العراقية، وإعلاء صوتها، والعمل تحت راياتها ، هواليقين المؤكد، وهو القضية التي تمنح الكاتب شرف الإنضمام الى موكب المرابطين، الذين يقاتلون على جبهة الحاضر من أجل المستقبل ، ومن هنا يصبح النص الابداعي أداة للتعبئة وشدا للعزائم، ورسالة للشعب المقاوم، تحمل الاماني والاحلام التي قد تضيع معانيها في زحمة النار والدخان، بهذه الروح يتعين أن نكتب أحزان طيور الماء، والطين الحري، وأنْ يمتلئ القلب بأناشيد المستقبل، بـ(عمي يبياع الورد كلّي الورد بيش؟!)  وأن يبقى الجسر متصلا بين ضفتيّْ المنفى وأرض الدم، وأن يبقى الحب كما الحبل السري لكل الناس والارض، يتخطى جدران العزل الخائبة، ليعيد تعبيد الطريق النافذة من الوزيرية الى ساحة التحرير، ومن مدينة صدام الى شارع حيفا، من بغداد عاصمة الفكر والجمال الى البصرة مدينة الفلسفة الاولى.

 

 -2-

 منذ أن نزلت بثينة الناصري عاصمة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر(1979) وهي تحمل بين حنايا فؤادها جهات العراق الاربع، مبدعة الكلمة المقاتلة، واحدة من رواد  الادب العراقي المقاوم، صدق القول، وحرارة الفعل الشجاع، تبث الدنيا بوح الفرات، وماينشده دجلة من مواويل الصبر والحزن والاشواق ، إختارت الكاتبة منذ لحظة الحقيقة، (أن تكون) في الصفوف الامامية على جبهة الثقافة المقاتلة؛ الكلمة والبندقية، كتفا بكتف، ومع أبطال المقاومة خطوة بخطوة، ومن موقعة الى أخرى، تولج الزمان بالمكان،  الانسان بالارض، والفكر بالعمل، لينهض النص الإبداعي من بين أناملها نشيدا عراقيا متألقا، منغمرا بالحب والتوق والحنين، كما في كتابها الطريق الى بغداد(1998) الذي إستعادت به وحدة الاشياء الحميمة المتناثرة في زوايا الذاكرة، وهي كما في تجربتها الاولى (حدوة الحصان 1974)  وأعمالها الإبداعية اللاحقة كانت توقظ بصوتها البغدادي الاصيل  بهجة الدار الاولى، وجماليات الوطن، والايام البيضاء في مدينة السلام، وإذْ تواصل الطريق كتابة وبحثا وترجمة، فإن السهم الوافر في أعمالها كان يتجه الى الزوراء حاضرة الدنيا فأشرقت بغداد على صفحات مؤلفاتها نورا وضاء، إمتد شعاعه الى بقاع القارات الخمس، عندما تُرْجمتْ أعمالها الإبداعية الى لغات العالم الحية، والى الألسنة الأخرى، وفي مُدوّنتها كما في كتاباتها وعدستها، يرتفع الصوت المقاوم الذي إستحدث فصلا خامسا للطبيعة وللامم، فجعل تاريخ الحقيقة يبدأ من دم الشهيد، وليس من رتابة الفصول الاربعة، وإذْ تقوم الكاتبة المناضلة بكل هذه الادوار الشجاعة، فإنها تؤمن تماما بأن الدرب الى الغد قد يكون طويلا وشاقا ، ولكيّ نبلغه يجب أن نهبّ الوطن وجودنا، وأن نمنح معركته الخلاقة التي يقودها الفتية المرابطون، كل مابحوزتنا من محبة وإيثار، ومن يقرأ كتابها (لماذا لانذهب الى البحر كثيرا2008) يجد الجواب فاجعا مثل أسئلة غامضة، وعندما تشاهد أفلامها التجريبية القصيرة وتصغي الى نثرياتها الشعرية  تدرك بأن المواجهة الكبرى التي تخوضها المقاومة العراقية اليوم،  تتعدى صفحاتها الحدود القطرية، أو الخارطة الإدارية المحلية، إنها تفتح أنوارها على ظلمات العصر الراهن، وتبعث برسالتها للمستقبل رسالة الإرادة الخالقة، لتجديد العزم على النضال من أجل الوحدة والنهضة والمستقبل. وتتجه  بنفس الحرارة  من الامة الى أحرار العالم ، لتؤكد قيم الفعل المرابط، بوصفه المقدمة الحقيقية لإنهاء زمن القوة العمياء وإسقاط (موديلات) الامركة، والعولمة ومشروع الشرق الاوسط  بخرائطه الرثة.

 

-3-

الصورة البهية والواقعية للفعل الوطني المقاوم، بشهادة مكتوبة من العدو نفسه، وهو توثيق حيّ ودقيق لم يحدث من قبل في مادته ونسيجه في أي كتاب وفي أيّ لغة من لغات العالم . وهي شهادة العديد من القراء والمتابعين، يصدر كتاب يوميات الجنود الامريكان ليترجم للعالم؛ القاع السفلي للعقل الامريكي السياسي والميداني معا، إيذانا بسقوط الامبراطورية الامريكية وتداعي أحلامها الخائبة في العصر العراقي الذي أنشأته وأقامت قوانينه المقاومة الماضية الى أمام  

إرادة المقاومة العراقية التي تواجه العدو الامريكي بكل نفوذه ومرتزقته وذيوله، وتواجه بنفس الإرادة الواعية حكومات الاحتلال الدخيلة بعموم تشكيلاتها المخادعة والسائرين في ركاب العدو الامريكي من دعاة التقسيم والمحاصصة وحماة  ولاية الفقيه، هذه المقاومة المعروفة بهويتها الوطنية المستقلة، الحرة في إرادتها والصانعة لخياراتها ومعاركها، تقف لوحدها في جبهة قتال مفتوحة ضد أكبر قوة في عالمنا المعاصر، تقاتل بعزم وثبات جيش الولايات المتحدة، هذا النموذج المتفرد من البطولة الإنسانية هو الذي سيعيد للعراق إعتباره التاريخي والحضاري، وهو نفسه الذي يستولّد الآن  قانونا جديدا في فلسفة التاريخ، قانون الفعل الوطني المقاوم من أجل الحرية وإزدهار الوطن، المتمثل بالارادة الوطنية الحرة ، صانعة الكيّْف التاريخي الاعظم في القرن الحادي والعشرين، الذي أحدث إنقلابا في فقه المدركات والمفاهيم، عندما برهن بإن قانون الارادة الشعبية الحرة التي تعرف نفسها وتثق بقدراتها الذاتية، تتفوق بالحتم والضرورة على مبدأ القوة العمياء، وبأن جدليات العقل الوطني التاريخي النقدي ينفي عقل الكم النفعي اللاتاريخي، الذي نتج عنه إضمحلال العصر الرأسمالي  وتهاوي الفلسفة البراجماتية بكل تكويناتها النظرية والتطبيقية، في مقابل عقل السببية الإنسانية في نموذجها العراقي المقاوم، الذي يشرع لهذا العصر سلّما جديدا للقيم الاخلاقية، هذا العصر هو عصر المقاومة العربية من العراق الى فلسطين ومن الاحواز الى الصومال.

-4-

إنها بادئة الخلاص من أزمنة الانحطاط المتمثلة بالتراخي والكسل واللامبالاة ، من أجل أن يبقى صوت الحرية هو الاعلى في ملحمة وادي الرافدين ومعاركه الحامية، لتطهير أرض العراق العربي الواحد الاحد،

تواصل مدونة الناصري الالكترونية وماتزال مهامها النضالية عبر سلسلة من إبداعاتها الثقافية؛ السر القصصي، النصوص النثرية، الافلام التسجيلية، الترجمة، وآخر أعمالها  (يوميات الجنود الامريكان) الذي يعد وثيقة دامغة،على عدوانية الولايات المتحدة، وأساطيرها، وأكاذيبها، وإجرام إداراتها المتعاقبة ضد التجارب الوطنية والعداء المسبق لشعوب العالم، والكتاب يحمل منهج الناصري في البحث المجالد والإستقصاء الدقيق لكل كلمة، وعبارة وموقف، عبر المشاهد القصية والزوايا الغائرة، في المدونات والمذكرات الشخصية  لجنود العدو الامريكي،  هذه السيدة المبدعة تنقل بكتابها القارئ العربي الى حرارة الوقائع الفاشية والسلوكيات المبتذلة للغزاة القتلة، وعلى صفحات الكتاب نفسه نقرأ قصص طيور الجنة الصبية والاطفال الذين أبوا أن يتركوا آباءهم لوحدهم في ميدان القتال، فحملوا السلاح  وانتظموا في كتائب الجهاد، الذين خرجوا من  كل درب وشارع ودار في أرض السواد، يطاردون جيش إمبراطورية جيمس بوند .   

 

-5-

من هنا تأتي أهمية النص، وتجيء أيضا القيمة التسجيلية ليوميات الجنود الامريكان في بلاد الرافدين، الذي تفصح صفحاته ولاول مرة عن الهوية الحقيقية لامبراطورية الشر،  وتكشف أيضا وفي الوقت عينه الصورة القبيحة للولايات المتحدة والسلوك العدواني اللاأخلاقي لقواتها المحتلة في العراق، إن القيمة التوثيقية لليوميات تتعدى الجهود المبذولة في تنظيم وإعداد وترجمة تأملات وإعترافات العدو الامريكي إن الجهد الحقيقي يكمن في قدرة الباحثة على إلتقاط الزوايا البعيدة والإصغاء إلى الهمسات الداخلية ،المعبأة بأسرار العدوان الفاشي، والوصول الى أدق نبضات العقل العدواني ضد شعبنا، ممثلا في أدواته  الهمجية من الجند والمرتزقة والوسطاء والمرابين، الذين يقفون على خط جنائي واحد ، وهو إرتكاب أفظع وأحط أنواع الجرائم في تاريخ الإنسانية ، فقد كشفت النصوص على لسان جند الولايات المتحدة أسطورة الثقافة الامريكية الهزيلة وشعاراتها الزائفة، فالديمقراطية وحقوق الانسان والحرية تجد مرئياتها الواقعية  في إستخدام أسلحة المحق الشامل، وفي إبتكار وسائل التعذيب، وفنون القتل، وصناعة الموت. وفي هوس ذبح الضحايا وسلخ جلودهم، والرقص على جثث الاطفال والامهات.

  اللحظات الغائبة عن العين، وعن عدسات الاعلام ، تلك اللحظات التي تختبئ وراء ميادين الموت، بين جدران البيت الامريكي، تلك التي ستنتهي بالخيبة والخسران المبين.

 

-6-

إنها المرة الاولى التي تنفتح فيها مذكرات وإعترافات ومدونات العدوّ على مشهد رباعي الابعاد شبيه بالبانوراما، يتحدث فيه الكاوبويّ الآتي من تكساس، عن أرض مستعرة باللهب، من الحجر والشجر ومن مياه النهر، تطيح بالرؤوس وتصهر قذائفها العربات المصفحة، ثمة شيء  يفوق الموت عندما تتخلى المدن في الفجر الابيض عن صمتها المهيب، لتهز الوجود كله، فتزلزل الارض بنا، إنها القيامة العراقية، فجأة يتغير وجه الارض ، يصير الغبار مطرا يزخ رصاصا، وتشق الحمم السماء، صبي في العاشرة يرشق الدبابة، وصبي آخر يرفع علم العراق، ونساء في الريف والقرى يزغردن، يلّوحن بعلامات النصر، القذائف تتدفق كما السيل العرم، جثث المارينز تتناثر على قارعة الطرقات، الموت أكثر رحمة من الفجر الابيض، الخوف المرّ يسكن روح الرتل، ويفتت الفزع أكباد الجند، الضربات الصاعقة  تأتي من كل الانحاء. 

لعلها المرة الاولى التي يقرأ فيها المواطن العراقي والعربي مثل هذه الاعترافات ويطلع على مذكرات بالغة الخصوصية على نحو غير مسبوق، وخال من أي إعداد أو ترتيب، ودون إجراء أي نوع من عمليات المونتاج، إنها نصوص آتية من قاع الجحيم،  طبقا لإعترافات الجند:

 (كانت تجربة مرعبة، لقد سقط زميلي أرضا وهو يرفس بقدميه، لقد مات، ياإلهي لقد أصبحت لوحدي).

 ( كلمة موت بطيء مرقومة على كل جدران الكرابلة،المارينز قتلوا هنا..)

 

-7-

 قد يوفر معسكر لمنتسبيه القتلة، عبر سلسلة من الموانع  والاحزمة الامنية قدرا نسبيا من الحماية، إلا أن ذلك لم يعد مجديا أو كافيا حتى داخل المخابئ الحصينة، فالمقاومة لاتكف عن الحركة، إنهم يتنقلون كومضة البرق، تعجز معها كل الوسائل البشرية والفنية من النيل منهم، فالمراصد والقناصون والأسلحة الهائلة، والجدران الكونكريتية العملاقة، وشبكات الانذار الالكترونية، بكل جبروتها القتالي والتقني، يصبح وجودها بلا جدوى لانها لاتستطيع دفع الموت الآتي الى بروجهم المشيدة بالحديد والنار. ولا يجرؤ أي من عناصر العدو أن يجرب مرة واحدة أن يضع نصف خطوة خارج باب المعسكر،(ضع قدمك خارج المعسكر لن تنجو) بهذه الجملة المفيدة يكثف كاتب المذكرات صورة جهنم الحمراء التي يقفون ببابها وسيلجونها ولو بعد حين، هنا تنقرض أسطورة أمنية القواعد وتتهاوى الحصون والقلاع العسكرية التي أنشأها العدو لحمايته.

 

 قال نفر منهم وأقر الآخرون:(..المقاومون يزدادون إبتكارا في هجماتهم، وهم يستخدمون أيّ شيء لتفجير القنابل؛ فتحات المرآب، الهواتف الخلوية، اللعب والدمى الالكترونية، يفخخون صدور الأباعر والكلاب النافقة، وينصبون الفخاخ في كل مكان...إنه الجحيم؟! ..عندما نقتل واحدا من هؤلاء المقاومين نفاجأ بحلول إثنين بدلا من واحد، هذا التعويض الفوري، كاف لأنْ يصاب الجند بالجنون) أمام هذه الحقيقة أو الصفعة الحارة، يبدأ البناء النفسي للعدو الامريكي بالتفكك والتداعي، عندما تنقلب خطط العدو في الفلوجة على رأسها من إستراتيجية التعرض والإسلوب الإقتحامي، إلى دفاع عن النفس، والإنسحاب من الارض، والهروب من المواجهة.

 

-8-

 يقول ملازم ثان: (المعنويات تنخفض تصل الى أدنى مستوياتها،.. لقد توصلت الى إستنتاج أننا لن نربح هذه الحرب لعدة أسباب، فالايديولوجية والمثالية لن تستطيع أن تمحو التاريخ والواقع...أعتقد كنا سنفوز بهذا الغزو غير الدستوري، وربما كان الاحتلال غير القانوني سينجح لو فرضنا الديمقراطية على الشعب، الذي يبدو أنه لايعير إهتماما أو يبدي إحتراما لمثل هذه الخطوة،.. إن النجاح  في كل هذا كان سيأخذ وقتا طويلا، يتطلب بضع بلايين من الدولارات، وحتى المزيد من الضحايا أكثر مما رأينا حتى الآن، هذه هي الاسباب المحددة لإستحالة الإنتصار في هذه الحرب).

 

(كان شيئا مثل الافلام .. بدأ سائقنا يصرخ.. سقط وهو يرفس .. وبقيت وحدي ياللجحيم لقد مات، ..أن الدم الذي كان على وجه السائق كان دمي.. قبل أن أدير رأسي  ضربني شيء في صدري ، رصاصة مدفونة في سترتي الواقية، إنتزعت الرصاصة وإحترقت أصابعي.)

 

)  كان طفلان يحملان كلاشنكوف، أحدهما في العاشرة والآخر في حوالي السابعة كان الاول يطلق ثلاث رشقات في المرة الواحدة ، جنّ جنوني. عرفت ان النهاية إقتربت. الطفلان اللذان كانا فوق الجسر، عادا يطلقان النار مرة أخرى  بدأ يصرخ آه لقد أصبت..كان قد إنتهى؟)

(جلسنا داخل الهمفي ينظر أحدنا للآخر، كان يراودنا شعور واحد: لن ننجو.)

(كانت هذه اكبر عملية للمقاومة في نهايتها قتل جنديان وستة سواق أمريكان، واصيب أحد عشر تم علاجهم ولكنهم مازالوا يعانون من مرض إضطراب مابعد الكارثة؟!!)

 

-9-

يدون ضابط آخر في مذكراته إعترافا صريحا عن الإنحطاط الاخلاقي للشخصية الامريكية ممثلا في السلوك الإجرامي واللا أخلاقي في واحد من المشاهد المأساوية التي يتكرر حدوثها يوميا عشرات المرات على أيدي الامريكان الاوغاد التي تُشّيءْ المواطن العراقي (تتعامل معه كما لو كان شيئا من الاشياء) تسحق آدميته، وتسلب كرامته الإنسانيةL.. لم أدخل من قبل بيتا عراقيا، وجدنا في المنزل طفلين ومراهقة وإمرأة، كما وجدنا شابين كانا أخوين، صرخنا وشتمنا، وقد بصقتُ التبغ على الارض، وإختلط صراخي مع صراخ الجنود الآخرين، كنت أعرف أن أهل المنزل لن يفهموا ولكني مع ذلك أصرخ، إنبطحوا، إنبطحوا يأأولاد...؟!!!! أخرسوا أفواهكم اللعينة،  لم يعرفوا ماذا تعني عبارة: (get down) ولهذا ضربنا الاخوين حتى وقعا على الارض، وضعنا رُكبّنا على ظهريهما وسحبنا أيديهما خلفهما، وفي أقل من رمشة عين أوثقناهما، بوثاق بلاستيكي يضيّق الخناق على اليدين، وقد ينغرس الى ماتحت الجلد، وليس له مفتاح، دفعنا الاخوين الى الخارج، وأُخذا الى مركز إحتجاز للاستجواب، لا أعرف ماذا يسمى؟! كل ما أعرفه هو أننا نرسل الى هناك كل رجل أو بالاحرى كل (ذكر) طوله أكثر من خمسة أقدام ؟!!.. واصلنا بعثرة موجودات ومقتنيات المنزل، وكلما فشلنا في العثور على أسلحة أو أدلة،  كلما زدنا من بعثرة موجودات الدار، قلبنا الدواليب، وقطعنا المفارش والمراتب بالسكاكين، وأطحنا بالابواب، وقد داهمنا ثلاث غرف نوم في الطابق الثاني، ثم أسرعنا إلى الطابق الثالث، قلبنا كل شيء، وكسرنا الاثاث بشكل عشوائي ونحن نبحث عن الاسلحة والذخائر وأي دلائل على أنشطة إرهابية،أو علامات أسلحة دمار شامل؟!!

 

لم نجد سوى(C D) واحد، قال الجنود اول الامر: إنه دليل على نشاط إرهابي؟!! ولكن إتضح أنه يحوي خطب صدام حسين، وحالما قلبنا أحشاء البيت وفتشنا كل شيء، حلّ فريق ثان، إمعانا في التحطيم وإشاعة الفوضى بحثا عن اسلحة ربما أفلتت من إنتباهنا...)

 

يستمر الكاوبوي الامريكي في السرد: ( الفتاة الصغيرة بدأت تكلمني بالإنجليزية وعيناها تحفران ثقوبا في جسدي، كانت جلدا على عظم، ولم تكن حتى إمرأة كاملة، ولكن شيئا فيها كان قويا ومثيرا للقلق، شعرت بالخوف منها، كانت عيناها بلون الفحم مليئتين بالكراهية، سألتني:

 

-أين تأخذون أخويّ؟!

- لا أعرف يأ آنسة.

- متى تعيدونهما؟!

- لا أستطيع أن أصرّح .

- لماذا تفعلون بنا كل هذا ؟!

لم أُجبْ.. شعرت أن أسئلتها قد نالت مني ؟!!

ماذا حدث لسماح واخوتها التسعة ؟!..

ماذا جمع الجنديّ في حرب الاطفال ؟!

الجندي الهارب من أمه؟!

هل كنت هنا من قبل ؟!

لماذا يطلب منها أن تنتظر  كل يوم وفي نفس المكان ؟!

ماذا حدث بين السائق وفتاة..؟!

الاجوبة تفتح جحيم الاسئلة؟!

-10-

عنما تشتيك المعاني وتتداخل الظواهر، تضج الاسئلة، هل بوسع الجملة العصبية لأي كائن أن يجد جوابا شافيا للسلوك الهمجي لفلسفة الكوكا كولا الذرائعية؟! هل بمقدور وليم جيمس وأضرابه من مبتدعي ومريدي البراجماتية القائمة على مجرد المنفعة، بصرف النظر عن الوسيلة والاسلوب، في تحقيقها هل يقسرون لنا المنفعة المترتبة على إنتزاع فروة الرؤوس؟! وإقتلاع العيون؟! وتراجيديا أبي غريب والسجون الاخرى؟! ماذا تقول فلسفة الحرية الامريكية في تغييب حرية شعب بكامله؟! أين تختبئ حكمة تفجير البيوت المدنية على سكانها؟!

 

وماذا بقي في جعبة البراجماتية التي إبتذلت منذ البداية التعليل والتفسير ولجأت الى المنهج التبريري لتسويق المزاعم وقبول الدعاوي، وإعلاء شأن المزورين ؟ بم ستجيينا الاكاديميات الامريكية عن أكاذيب البيت الابيض في العام 2003 وعلى إمتداد سنوات الاحتلال ؟!

 

إن الذي جرى ويجري من تدمير لبلدنا وما آلت إليه النتائج من تشريد وتهجير وقتل مئات الالوف من المواطنين على أيدي روبنسون كروزو، والسوبرمان ؟! ماذا يقول مثقفو الامبراطوية عن مخلوقات (خان جغان) الاميين المجوفين البلداء الذين إستولدتهم المواخير والارصفة ؟!

 

أقترح على مريدي البراجماتية أن يقرأوا يوميات جنودهم في بلاد الرافدين وأن يتأملوا النص التالي وسوف ننتظر الجواب:

يقول جوشوا كي:( لم أجد شيئا يبرر الرعب الذي نسببه كلما فجرنا باب منزل مدني، وكسرنا كل مايملكه وضربنا وقيدنا الرجال واعتقلناهم،.. ولكن الاسوأ كان مافعلناه في إحدى المداهمات كان منزلا جميلا، فجرنا الباب وإندفعنا الى الداخل كانت النساء يتعثرن وهن يخرجن من غرفهن، وصرخت ثلاث فتيات حين رأيننا، ... رفاقي الجنود أمسكوا بهن موجهين أسلحتهم إليهن، وركضنا نحن نفتش المنزل ، لم نجد رجالا على الإطلاق، بل وجدنا ست نساء أخريات، مابين العشرين والثلاثين،  كالعادة لم نعثر على شيء، ..إزددنا في البيت تخريبا وتهشيما للمقتنيات، وقطعنا الافرشة والمراتب، وأسقطنا الرفوف ومحتوياتها، الجندي هيز يوجه سلاحه الى رأس إمرأة تصرخ في مرآب الدار كانت تقول: لماذا تفعلون هذا؟

أمرها هيز أن (تخرس) لكنها لم تكف عن الصراخ، وهي تقول:

 

 لم نفعل لكم شيئا.

رأيت الجندي وقد جنّ جنونه.

 قلت لها:  بأننا ننفذ الاوامر.

 فردت عليّ:

 

(أنتم الامريكان حقراء، من تظنون أنفسكم لتفعلوا هذا بنا)؟!!!

 ضربها هيز على وجهها ببندقيته فسقطت على التراب وهي تنزف، لم تحرك ساكنا)!!

( حدث شيء مازلت أراه كوابيس في منامي حتى اليوم إقتيدت النساء الى داخل المنزل وطُلّب منّا جميعا أن نقف حراسا في الخارج، دخل أربعة عسكريين أمريكان، وأغلقوا الابواب، وإنفردوا بالنساء، لم نرّ أيّ شيء من خلال الشبابيك، لم أعرف هوية الرجال العسكريين، أو من أي وحدة ولكني كنت أعلم أنهم من ذوي رتب أعلى منا ملازم أول فما فوق... بدأت النساء يصرخن خلف الابواب الموصدة...وإستمر الصراخ طويلا، أمضى الرجال العسكريون ساعة من الزمن قبل أن يخرجوا ويأمرونا بالانصراف....طرأ على ذهني حينها أن الارهابيين هم نحن الجنود الامريكان، إننا نرهب العراقيين، نرعبهم، نضربهم، ندمر منازلهم، ربما نغتصبهم، من لانقتله، نخلق له كل الاسباب ليتحول الى إرهابي، وبما نفعله بهم، من يلومهم على رغبتهم  بقتلنا؟ وقتل كل الامريكيين.

هذا الادراك المثير للغثيان تحول في أحشائي الى مايشبه الورم السرطاني، نما وتضخم وسبب لي معاناة هائلة مع كل يوم يمر عليّ في العراق,الارهابيون في العراق .. هم نحن الامريكان )

ماسي:( 2يونيو 2004 في شهر ونصف قتلت أنا وفرقتي أكثر من 30 مدنيا... كان يوما جيدا قتلنا فيه الكثير من الابرياء) ؟!!

(في أوائل نيسان – أبريل، كان هناك عشرة متظاهرين قرب دبابة وسمعنا طلقة من بعيد وفتحنا النار عليهم قتل الجميع ماعدا واحدا، وقد تركنا القتلى غارقين في دمهم ، ومضينا) ؟!!.

 

-11-

هذه هي الثقافة الامريكية الهوليودية عبادة القوة الغبية، رامبو، روبنسون كروزو، المسلح بقيم البارود، عبقرية الرجل الابيض، السوبرمان- المنقذ، صانع المعجزات، والآتي بالافعال الخارقة، هذا هو النموذج الديمقراطي الذي تريده فلسفة البعد الواحد، الذي يخفي ضحالته، ووجدانه المنحط، تحت غطاء الاكاذيب، والكبرياء المصطنع، الذي لم يجد معادلا سايكولوجيا لجهله المطبق وعدوانيته المرضية، التي تغذيها الاوهام والاساطير التلمودية والقيم اللاهوتية المتعفنة، لم يجد العقل السياسي الامريكي علاجا شافيا لخيباته الاجتماعية في الداخل وهزيمته في العراق، إلا بإنتهاج طريق الدم واللجوء الى القوة الغاشمة، لتدمير الشعوب وحرق الاوطان، تعبيرا عن بنائه النفسي اللا أخلاقي ، ومنهجه العدواني الذي أسقطت الايام العراقية أوهامه وأحلامه معا.

 

هل ثمة من يدعي أن الإجتياح الامريكي أحرز بطولة أو حقق نصرا، في  الميدان العراقي المكتظ بالمقاومة؟!

هذا هو السؤال الذي وجد العالم إجابته على جبهة العراق، على الابواب والنوافذ والجدران على وجوه الآباء والابناء والامهات، وهو أن العقل العراقي العلمي النقدي، الذي تنتهجه المقاومة في كل أشكال القتال من البندقية الى الكلمة واللوحة والاغنية والقريظ، سوف يستمر على كل الجبهات القريبة وفي البقاع البعيدة داخل وخارج الوطن. ولن يلقي أي من مقاتلينا سلاحه إلا بالنصر المبين في صباح أبيض، كما قال حمادة الكرخي في وصيته عشية إستشهاده:

 ( لكي تكون عراقيا ولكي يليق الاسم بالمسمى يجب أن تكون مقاوما )..

هذاهو المأزق الذي يعيشه رامبو في العراق، من يسقط شهيدا يحل في مكانه وعلى الفور عشرة فدائيين، ولهذا تكون يوميات الجنود وأفكارهم ، خواطرهم وإعترافاتهم، رسائلهم ومدوناتهم، نافذة تطل على أرواحهم الضائعة في بلاد الرافدين .

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الخميس  / ٠٣ صفر ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٢٩ / كانون الثاني / ٢٠٠٩ م