جوزيف الشعار .. وداعاً .. بعض من ذكريات بعيدة ..

 

 

شبكة المنصور

جلال / عقاب يحيى - الجزائر

يلتهم الموت الحياة . يفترس الأحلام، والقامات، والحب، وذلك المشترك الكثير، ويبقينا على قارعته : انتظاراً مبهماً ..

 

تكبر الغربة فتتسع أشداقها : غولاً يبتلع الألق، ودفق التواصل، فترغمنا على ابتلاع الحزن، وتثليج الأحاسيس، وتجميد الدموع .

 

أحبة كثر رحّلهم موت عاصف : أمي، وأخوتي، أعمام، وأخوال. عمتي وخالاتي، والكثير الكثير من الأصحاب والأصدقاء والأقارب والمعارف، وما زالت هجرة القسر تلطم الفؤاد فتدميه . ينتصب الوطن راية، والحلم يصغر فتمضغه أشداق الاستبداد، وما من سبيل سوى تكرار بيت شعر المتنبي :

 

أما الأحبة فالبيداء دونهم        ودونك بيد بعدها بيد

 

****

 

يرتحل جوزيف الشعار( أبو أسعد) منذ أيام كمداً . يصارع الموت والكآبة فينتصران.. أو لعله استسلم بقرار إرادي منه، والزمن شباط، وشباط قصة، ومليون غصة . وشباط مفرق ومفترق، والزمن أربعة عقود وثلاث سنين، والقصة أقدم، وجوزيف يشقّ الأمل فيزرع النبت شباباً، والشباب أحلاماً كبرى، وفيض دفق، وتحليقاً في السماء السابعة يحدو أسطورة الجوع، فيصدّق، ولو لبعض الوقت فلحوط المفلحط . يمسك البعض الراية :

 

وعلى الشمس بقايا مضربي !!

                    

يحترق كثير، ويلدع كثير، ويرتجّ كثير، وقد فتحوا أعينهم على الواقع . الواقع غير الحلم، والواقع يبتعد عن الحلم . يطير الحلم . يصغر . يتلاشى، ويبقى الواقع حربة توخز القلب والعقل، وتدعوه للفهم . الفهم الصحيح.. وحينها تظهر الهوّة، ويتلاطم الهدير هديراً، وإذ بالهدير جعيراً ..

 

الموحد . المنتصر . البشير المبشر . الجامع الصانع . الواحد الرائد . القائد . المستبد السائد يتفرقع في الحكم . تكثر الاتجاهات وتتعدد الصراعات، وبين اليمين واليسار، والعسكر والانبهار يحدث الانفجار، والزمن شباط، والربيع على مرمى حجر ، والرفاق الأخوة يفترقون . يتخاصمون ويحتربون كما لم تحترب داحس والغبراء، وتمتدّ الصحراء.. تلتهم ا؟لأماني، والشعارات الكبيرة . يخرج زبد . تكثر الخنادق والخندقة، وتتهاطل الاتهامات والتصنيفات : الردة والزندقة، والطائفية، والعائلية والبندقة ..والعمالة والعملاء، والمؤامرة والنفط، وألف تهمة في ذلك اللغط . وتبتعد بغداد عن دمشق . يبتعدان كثيراً، وطويلاً، وتبتعد معهما الأهداف، خاصة : الوحدة، وفلسطين . وتكسر الردة عصر الأحلام . تعلب الأوهام وتبيعها، وفلسطين التي كانت على مرمى حجر.. باتت "مبعث الهمّ والغمّ والضجر" .. بعيدة، عصيّة، مجزوءة، ورجمها واجب المقايضة والتجارة والاستثمار .

 

****

 

كنا في أول العمر، مراهقين بلباس ومهمات رجال، ونظن أننا(امتلكنا العلم والعالم)، وكان جوزيف أكبر منا  بنحو خمس سنوات، والخمس سنوات كبار طوال في مثل ذلك العمر . كنا في (التنظيم القومي) المتصارع مع" التنظيم القطري"، نلملم البقايا، ونعزف على الحكايا، ورفاق العراق رافعة .

 

كان متميزاً عن زملائه( خريجي دار المعلمين ـ البعثيين) : شكلاً، وطبيعة، وحضوراً، وقرباً منّا نحن الأصغر : العمود الفقري للتنظيم .

 

كان جريئاً تكتشفه منذ الوهلة الأولى، يدخل القلب دون استثذان، فتظن أنك تعرفه منذ وقت طويل، وأنك ترتبط به بعلاقة حميمية، وكان شاباً عمراً، وعقلاً، قادراً على التعامل معنا كأنداد( وهذا يزيدنا ثقة بالنفس، وتوطيداً للعلاقة معه) . لم يكن يحب الصمت والتأمل في صياغة الفكرة الموقف يطلق ما بداخله كالقذائف، لا يهمه كيف تخرج، ولا من تصيب .. فالمهم : أن صادق يطرح ما يراه صحيحاً وواجباً .

 

ـ كان مصطفى رستم، الذي لا يكبره سوى ببضعة سنوات : أستاذنا، وأمين الشعبة .. صاحب الوجه الطفولي البريء، يقود هذا الخليط بصدره المنفتح، وعقله المتطور، فيتناغم مع المهمات، وقد صارت على مرمى حجر من انقلاب يعده الرفاق العسكر، بعد أن وصل بعث العراق /8 شباط /1963، حين رفعنا شارات النصر، وشربنا نخب الوليد القادم كؤوساً متقشفة من عرق (حايك سروبيان)، والدنيا لا تسعنا ..

 

****

 

قام العسكر بالانقلاب، ونحن نصرّ على أنه الثورة، ثم ثورة البعث التي ستضع الأهداف الكبرى في مرمى التحقيق : الوحدة، وتحرير فلسطين، فالتقدم، والاشتراكية، والمجتمع العربي الموحد ..وانتشينا بعض وقت مراهق، بينما كان الوعي الملتهب، والمكوّن على نار حامية يشير إلى الكثير من النواقص والفجوات، ويعلمنا أن نهدأ قليلاً، وأن نمعن ونتأمل . أن نفكر ولا نكتفي بصراخ المظاهرات، وتسجيل النقاط على الناصريين(حلفاء الانقلاب)، ثم على عبد الناصر . وأن محفوظاتنا الشعرية( على كبرها، يومذاك)، وتطويلها من شعراء البعث السابقين والمستمرين، القدامى والمحدثين : سليمان العيسى، وكمال ناصر، ويوسف الخطيب، وفلحوط، وكنعان، وغيرهم كثير..لا تكفي لتشكيل ثقافة تردّ على الأسئلة، وتمتحن داخلنا في تلك الجولات الكثيرة التي نقوم بها على القرى(لكسب وتوعية الفلاحين، والبدو، والفقراء، أو في مجادلاتنا مع الشيوعيين وغيرهم)، وأن الحكم منهاج، وبرنامج، ومؤسسات، ونظام وقوانين، وليس فقط لباس(حرس قومي) مسلح بتلك الرشاشات (ساموبال)، أو تلك البنادق البلجيكية التي نفتخر باستعراضها ونحن في دوريات شعارها" حفظ الأمن" لمنطقة لم يهتزّ أمنها، وهي بعيدة، بعيدة عن (بؤر التوتر)، وميادين الصراع !!..وليس مقولات عامة جميلة، وشعارات طافحة ..

 

****

 

في أول انتخابات حزبية(بعد الانقلاب ـ الثورة) بفترة قصيرة، وكان جوزيف أبرز وجوه(فرقتنا الحزبية) طلب مني، هامساً، أن أترشح لقيادة الفرقة، رفضت، لصغر السن، كما قلت له، ونجح هو في قيادة الفرقة رغم أن بعض زملاءه لم يكونوا يرغبون. كانوا ينافسونه، ويخشون شعبيته المتنامية وسطنا، نحن الجيل الذي يلي .. وثقل الحزب الرئيس . كان من طبيعة جاذبة، ولم يقدروا على مجاراته ومزاحمته .

 

ـ عندما عاد(الرفاق القطريون) إلى الحزب، صرنا(شلة) كبيرة، متميزة بنوع من ثقافتها المتقدمة(على السائد طبعاً)، وبتلك الطبيعة الاحترافية التي تضع المهام الحزبية في المقام الأول. قبل الدراسة، وأي شيء آخر. بالطبع لم نعرف المراهقة. كانت مراهقتنا مزيداً من الأعباء والجولات والنقاشات والاجتماعات الحزبية، والتهام ما يصل إلينا من نشرات صرنا نراها مكرورة، قاصرة، فاتجهنا، ما وسعنا الحال، نحو كتيبات " دار التقدم"، وبعض ما نستطيع استعارته من كتب يسارية . وبتنا في موقع اليسار، خاصة وأن مقررات المؤتمر القومي السادس، و" بعض المنطلقات النظرية" فتحت الباب لتداول شعارات اليمين واليسار، والاصطراع، والفرز العام. وكنا فخورين بأننا جزء من هذا اليسار الذي يتبلور في الحزب ..وكان جوزيف، بالتأكيد، في رأس قائمة يسارنا، والاتجاه المتحمّس والمتطرف منه .

 

****

 

الحق أن التعبئة ضد(الأساتذة الثلاث) كانت شاملة، وتداخلت مع تكوين وعينا، وكان " حل الحزب" كمهر للوحدة، وما أعقبه من فرفطة وانقسامات مجالاً خصباً للنيل من (القيادة التاريخية)، وهلهلة موقعها في الوسط الحزبي، وفي مخيلتنا ووجداننا، حتى بين مؤيدين وأنصار يجمعون الأخطاء ويكبّرونها، ثم"يجدون" أنفسهم في الخندق الآخر : اليسار .  وكنا فخورين بما نمتلكه من معلومات وإدانات، وبموقعنا اليساري الذي أخذ يتعضدى ويتبلور، ويجنح إلى التطرف. وهذا مفهوم في مثل ذلك العمر، وفي جميع الصراعات، خاصة مراحلها الأولى الملتهبة  ..

 

****

 

كان جوزيف يسارياً جريئاً، بهذه المعاني السائدة، محارباً بلا هوادة(للعقل اليميني) الذي " حلّ القيادة القطرية"، وأقام هيئة ما أنزل النظام الداخلي من مكان لها، عبر ما عرف ب"القفزة النوعية"، وتشكيل قيادة من خمسة أعضاء فيها المرحوم الأستاذ البيطار، المفصول، والمرحوم اللواء محمد عمران المبعد .. فثارت ثائرتنا، ورفعنا وتيرة الاصطراع حداً لا مهادنة فيه، وطردنا علي غنام، عضو القيادة القومية، من الاجتماع عندما جاءنا لشرح( مبررات تلك " القفزة" . كنا فخورين جداً بأن أخرجناه دون أن يردد الشعار، وأن نستثيره بتلك الطريقة(الصراعية) التي لا مكان فيها للصلح والتفاهم، وكان جوزيف في المقدمة ..

 

ـ كنا مع عقد مؤتمر قطري، أرادت القيادة أم رفضت( هددت بالفصل كل من يحضره)، لأنه المكان الوحيد لحل الخلاف . تحمّسنا له، وراهنّا عليه، لكننا كنا نستشعر اللجوء إلى القوة للحسم، وهناك من كان يهمس بأذننا : أنّ الدعوة للمؤتمر تغطية لانقلاب عسكري معدّ . وكانت لدينا حساسية خاصة من تدخل الجيش في السلطة، والحزب. وكان جوزيف أكثرنا تشنجاً في هذا المجال ..

 

ـ ليلة 23 شباط كنا عنده في سهرة طويلة امتدّت حتى الفجر. نقلب الاحتمالات، والمعلومات التي تتسرّب إلينا بطريقة من الطرق، كنا لا نوافق على أي تحرك عسكري، ونرى فيه خطراً كاسحاً على حزب يلملم نفسه، وأنه سيفتح باباً لن يغلق . وأعلن جوزيف موقفه الحاد : سيكون ضدّ الانقلاب إذا ما قام ..

 

ـ لم ننم ساعتين حين دقّ باب غرفتي الصديق حسن قاسم . كان فرحاً مبتهجاً، عرفت من لباس (الحرس القومي)، و(الساموبال) أن الانقلاب وقع. قلت كلمة : عملوها !!، وران وجوم، ثم حاول سحبي للاستنفار، والاحتفاء فرفضت ..

 

ـ انقسمت الشلة، تلك النخبة المتقدمة في الشعبة . قسم تحمّس للانقلاب، على أساس انتصار اليسار، وواجب بتر، واشتلاع، واجتثاث اليمين بكل السبل، ثم إطلاق العنان للتنظير في موقع" الجيش العقائدي" من " الحزب الثوري" كفصيل متقدّم منه وفيه، وكثير من التبريرات التي يقتضيها صراع من ذلك المستوى العنيف .

 

وقسم اتخذ موقفاّ معارضاً، لكنه أبى أن يحسب في الخندق الآخر.. إلا جوزيف الذي كان مفاجأة الجميع، خاصة نحن صحبه وأصدقاؤه ..

 

ـ كطبيعته جوزيف اندفع حتى الحد الأقصى . وبين يوم وليلة بات هناك، إلى جوار رفاق كان هو أكثر من يوجّه لهم سهام نقده الجارح، وينبهنا من عقلهم(بأوصافه القاسية) . لكنه جوزيف : الاندفاعي، الجريء، وقد التحق بالآخر وتركنا(نحرد) أشهراً ، ثم نلتحق بالحزب، فهو عالمنا، وحياتنا ..وبتنا نقيضين، وأعداء جداً، و "يمين ويسار" !! ..

 

****

اعتقل جوزيف، واتخذ الحزب قراراته القراقوشية( مقاطعة اليمين، ورفض التحدث إليهم، أو الاتصال بهم)، وكان هذا خارج المعقول، وجوزيف في سجن حماة، وأنا( رئيس اتحاد طلاب المحافظة)، ويستحيل ألا أزوره، وأعرف إذا كان بإمكاني مساعدته بشيء إنساني ‘ على الأقل . زرته، ولم يهمني أي إجراء يتخذ بحقي، فهذا صديق حميم، وأكثر يسارية مني، ومن أغلبية المنضوين تحت اليافطة، وهو سجين من قبل رفاق الأمس ...!! ..

 

كان حزيناً، متوتراً، كعادته . قابلني بهجوم كاسح، ولعله أدرك أن مثل هذا الهجوم لا يليق توجيهه لي، خاصة وأنا أزوره . فجأة هدأ، وراح يسألني عن الأحوال والدراسة، والرفاق الأصدقاء، ثم ركّز على الانتهازيين، مصاصي الدماء، وخونة كل عهد ..

 

خلال لحظات اغرورقت عيناه بدمع حار . كان هكذا، أدرت وجهي ومضيت ...

ـ رحل جوزيف، أو خرج من البلد لأنه لا يستطيع أن يرى رفاق الأمس ولا يتعارك معهم، أو يعانقهم ..كانت الجزائر وجهته، وعدد من صحبه ...

 

****

 

في أول تموز 1968، سافرت رفقة الرفيق/سهيل مهنا/ في وفد(طلابي ـ شبيبي) إلى مصر والجزائر، والهدف : توحيد المواقف من مشاركة(الحزب الشيوعي الإسرائيلي في مهرجان الشبيبة الذي سيعقد في صوفيا من نفس الشهر) .

 

كانت مواقفنا تحلق في سماء رفضية لا قرار لها، وقد كتبت، لاحقاً، حول المعادلة المتناقضة التي كنا نرفعها. فنحن نحضّ الشعب الفلسطيني على الثبات في الأرض، وكثير من عربان النقد يحملون الفلسطينيين مسؤولية التشرد، و(بيع الأرض)، وبالوقت نفسه نتعامل مع من بقي كإسرائيليين لأنهم يحملون الهوية مرغمين، والوفد يضم شعراء المقاومة الذين ندرس أشعارهم في المدارس : محمود درويش، توفيق زياد، سميح القاسم، ورموز الثقافة والأدب والصمود الفلسطيني في الداخل : إميل حبيبي، وجورج طوبي، وأخوه، وعدد من اليهود المدافعين عن الحق الفلسطيني، كالمحامية فلانسيا لانجر الشهيرة، وغيرهم .

 

كانت إشكالية فعلية لم يبحث الحزب جوانبها المختلفة . لم نوفق في القاهرة، فاتحاد الشباب سيشارك(كان الدكتور مفيد شهاب رئيساً له)، أما الأخوة الجزائريون فكانوا على مثل موقفنا، فاتفقنا على المقاطعة هناك .

 

كانت الجزائر حلماً كبيراً. ذلك المارد الذي ملأ رؤوسنا، وأساطيرنا، وبدويتنا المهزومة، فكبّرناه ملايين المرات، وسقيناه قصائدنا، وخيباتنا، وعنفواننا، وتلك الحالة الاندفاعية التي لا يهمها الواقع ومفرداته، وصعوباته ..

 

كنا في عيد الاستقلال، واستقبلنا الرئيس الراحل بومدين لبعض الوقت، وكنا فخورين به.. لكنها، وعبر انطباعات سريعة، لم تكن جزائر الحلم الخارق تلك التي رأيناها في الشوارع واليافطات ووجوه الناس، ولغتهم، وبمن احتكينا به.. لقد رأينا بشراً عاديين، ليسوا عمالقة. يعانون مرحلة بناء صعب، وتركة ثقيلة شديدة التشعب .. وأمور كثيرة رحت أقلبها عن وعينا، ومقولاتنا، وشعاراتنا التي لم تقف عند المفردات والتفاصيل .

 

قلت لرفيقي : لي أصحاب هنا ويجب أن ألقاهم، كان جوزيف هدفي، وكذا خالي، وابن خالتي(وجميعهم في الخندق الآخر)، وعلمت أن الشرقيين يتواجدون في مقهى (اللوتس) فاتجهت إليه . كان خالي وابن خالتي قد غادرا في العطلة الصيفية، وجوزيف موجود.. فوصلت إليه، والتقينا .. لقاء حاراً .

 

مفلس كعادته، يمضغ السجائر حتى أنه يريد أكلها. عنيف، متحمس، شديد النقد لنا، لكنه ودود، كريم، عاطفي . وكان(عضو القيادة القومية : علي غنّام، السعودي، ينزل عنده منذ بعض الوقت، ولم أره، وقلت له : أما تذكر؟!!) . ودّعت جوزيف، وقرأت الأمل بين عيونه، كأنه ينتظر حدثاً كبيراً قادماً، مما جعلني أتساءل عن ذلك التفاؤل الذي لم يطل أمده أياماً ..ففي السابع عشر من تموز وصل البعث / جناح البكر ـ صدام/ إلى السلطة بانقلاب تمّ بالتعاون مع عبد الرزاق النايف وآخرين ..وكنا في بلغاريا..

 

ـ اشتعلت الحرب الضروس بين الحزبين والنظامين، والبلدين، لم تبق وقوداً إلا قذفت به إلى أتونها، ولم يوفر الطرفان تهمة موجودة في القاموس إلا واستخدماها، كبرت فجوة الخنادق، والناس تستغرب ، والثانوي يصبح الرئيس، والاحتراب يجلب الخراب، وما من سبيل لهدنة، أو تهدئة، ناهيك عن فكرة التسوية، ولو ب"إقرار الأمر الواقع"، وجوزيف صار هناك. وهناك يرتقي في المسؤولية ..

 

****

 

سنوات طويلة لم أره، وكانت أخباره تصلني بين الحين والآخر من بعض المعارف المنخرطين في تنظيمهم، خاصة بعد إقامتنا بالجزائر . كانت الأغلبية متفقة على أن جوزيف في موقع مهم جداً، لأنه : على صلة مباشرة بصناع القرار . إنه مسؤول عن البعثات الخارجية، ومسؤول في مكاتب قومية على علاقة مباشرة (بنائب الرئيس صدام ـ قبل أن يصبح رئيساً)، وأنه(دولة) على حدّ تعبيرهم ..

 

****

 

كان جوزيف مسؤولاً وصرنا نحن في موقع المعارضة، بعد انقلاب الأسد، وناره تطاردنا، ونحن نحاول الثأر، ونحاول سدّ الفجوات الكبيرة، الكثيرة التي أظهرتها التجربة، ونحاول النهوض بمهامنا الكثيرة بواقع التذرية، والملاحقة، وألف سؤال يعشش في العقول عن الذي جرى، والحاضر، والقادم . وكان العراق حاضراً في تلك الحرب المستعرة، وعديدنا يحمله مسؤولية هامة في دعم الأسد وانقلابه، وفي المراهنة عليه، بينما وهج التصنيف السابق ساري المفعول إلى ما شاء العقل العربي المدمن فعل الاحتراب، والتآكل، وتغليب البداوة على العقلانية، والثانوي، أحياناً، على الرئيس .

 

****

 

مياه كثيرة جرت في سنوات الانتظار المنتظر، والمسافة تبعد بين الآمال والواقع ..

 

ـ في عام/1987/ والحرب العراقية الإيرانية يستمر أوارها، علمت أن جوزيف صار في مدريد(مسؤولاً عن تنظيمات البعث في أوربا)، وربما كان له بعض الوقت هناك .

 

في زيارة إلى برشلونة رفقة عائلتي الصغيرة، وقد علم، أصرّ بإلحاح أن أوافيه إلى مدريد، أي بعد نحو عشرين عاماً، وسافرنا إليه، وبتنا ليلتين، أو سهرنا ليلتين عنده، وامتدّ حبل الذكريات، وكلام كثير يحتاج كتيّباً .

 

كان جوزيف ممتلئاً بالمرار والخيبة والحزن . حدثني كثيراً وطويلاً عن تجربته، وخلاصات استنتاجاته، ودخلنا المناطق الخطرة في التقويم، والاستدلال . نصحني، وأفادني بكثير المعلومات التي يختزنها.. وودعته وفي الذهن أسئلة عميقة، وخوف من قادم مجهول ..

 

****

 

كنت أسافر بغداد بهدف" إقامة جبهة عريضة"، وفقاً لتوفر شروطها، وتحاورنا كثيراً، وطويلاً حول الأسس، والميثاق، واتفقنا على الأساس، لكن عوامل متداخلة، في طليعتها : جاهزية قوى الداخل، حالت دون الوصول إلى تجسيد ..

 

في واحدة منها،(مطلع العام1990)، إن لم تخني الذاكرة) سألت، صدفة، أحد أصدقائه(من البعث القومي) عنه . كان فرحاً وهو يعلمني : (( أنه سيأتي قريباً ويقيم، وأنهم يجهزون له إحدى الفيلات ))، فسكتّ .

 

في اليوم الثاني، وعندما كنت أتصل بالجزائر لإعلامهم موعد قدومي، جاءت المفاجأة : (( جوزيف في البلد منذ أكثر من عشرين يوماً، وربما من شهر ويزيد))!!.. شيء أقرب للخيال، وإن ربطته ببعض ما قاله لي عن ملله، ويأسه ..

 

كان يجب إعلامهم: رفاقه، فأخبرت (مسؤول القطر) عندهم، وكان كالزوج المخدوع، وتهاطلت الأسئلة عليّ لمعرفة الذي جرى، ولاحقتني بعد الوصول إلى الجزائر، وأنا مندهش ليس لذهابه فقط، بل لعدم معرفتهم بغيابه، ثم أن أصبح(مصدر معلومات عنه)!!، لذلك رددت بانفعال على واحدة من تلك المكالمات بأنني لست موظفاً عندكم، وأن ما سمعته قلته، وكان يجدر بكم أن تعرفوا أنتم بوسائلكم ..

 

****

 

انفتح كهف الاتهامات..كثرت الأسئلة، والشكوك، والقصص، والروايات . بعضهم عاد إلى أيام زمان.. يوم اتهمه رفيق منافس(ليس من مقامه) بأنه يتعامل مع أجهزة عبد الناصر . ورغم أن القصة تافهة، ومطوية بعلم قيادة الشعبة، إلا أنها أثيرت بخبث قبيل انتخابات حزبية، وإذ بها تنتشر كالنار في هشيم ذهن غوغائي، تشكيكي، تتناقلها فرق الأنصار والمؤيدين، والأعضاءوغيرهم، وتحاك الروايات لتهشيمه وتشويهه.. والنتيجة(فأر) . والنتيجة : صك براءة معلن.. لكن !! .. بعد تلويث سمعته لأيام طوال . ( وأعتقد أن تلك الحادثة تركت جرحاً غائراً لم يندمل داخله، وربما كانت واحدة من أسباب وقفته الحادّة ضدّ حركة 23 شباط ) ..

 

من جديد تفتح تلك العودة المبهمة سيل الاتهامات ..وتضع أحبّاءه، ومن عرفوه عن قرب في موقف حرج . الذي لا شكّ فيه أن تلك العودة لم تأت عفوية، وبنت لحظتها. لا بدّ وأن سبقتها تمهيدات ولقاءات مع جهات أمنية سورية، فجوزيف ليس عنصراً عادياً، والنظام السوري كان يتلهف لالتقاط أي منتم للنظام العراقي لاستخدامه كدليل إثبات في حربه الشاملة ضد النظام العراقي، وقد فعلها مع بعض النماذج البائسة، فكيف بشخصية مهمة كجوزيف يملك  مخزن معلومات ؟؟!! ، ووجهاً مهماً ؟؟!! ..

 

لكن، ورغم أني ضد تلك العودة، مهما كانت مبرراتها، ودواعيها، واعتبرتها سقوطاً كان الانتحار أفضل منها.. إلا أنني لم أشك لحظة واحدة بشرف، وحزبية، وأصالة جوزيف .

 

ليس جوزيف من النوع الرخيص الذي يبيع نفسه ..لكن شخصيته الانفعالية، وفي لحظة ما، لا أعرفها، قررت ذلك القرار الخطير ..ربما طفح كيله، ربما سدّت المنافذ كلها . وربما توقّع الأسوأ .

 

****

 

عاد جوزيف غارقاً بذل العودة . تكوّر وانطوى، وقد قاطعه جلّ الرفاق القدامى والجدد فتح(دكانة) صغيرة يأكل منها، ويتآكل فيها، وجوزيف لا يتصور نهاية له بهذه الطريقة البائسة ..

 

ـ الأكيد أن جوزيف، القومي حتى النخاع، لم يتحمل غزو واحتلال العراق، وسيل الشهداء، وما جرى له ولرفاق كثر هناك يعرفهم رحّلهم الحقد الكحلي، فلم يهنوا، أو يخفضوا الرأس..أبقوا الراية التي آمنوا بها عالية، فأجبروه على مضغ المزيد من السجائر، وعصر قلب هدّه الانفعال المتواتر .

 

والأكيد أيضاً، أن فلسطين الحلم، المركز، القصائد والأغاني . الحب والأماني.. ظلت حاضرة تشعل القرب فترق صماماته، وغزة جرح يلطم الركود، والكلمات، والأكاذيب المحنطة، والركوب المركوب ..

 

كان جوزيف متمرداً،(زجرتاوياً) بكل المعاني . كريماً، شجاعاً،، ملتزماً ك(بغل الساقية) في عشق الحزب وإدمان  العمل وخدمة الأهداف . وهو شفاف كالبلور النقي . صلب كالماس، لكنه يمكن أن ينكسر فجأة، وعندما ينكسر يتذرّى .

 

جوزيف انكسر . وأعتقد أن خيبته بنفسه، وخيبته بما آمن، وما ضحى في سبيله كانت علته التي صارعها سنوات وجوده في البلد، فأراد التغلب عليها بالمزيد من قضم وعصّ السجائر، والمزيد من الكزّ على أسنان لم تعد تتحمل علوك الاستبداد، والسجن الكبير، ومملكة الخوف ..ولا أدري هل كان نادماً، وعلى أي شيء أكثر ..

 

ـ لم يبلغ السبعين حين انتصر الموت، ولعله استقبله بترحاب . لعله انتظره زمناً : سنوات المرار، والتآكل، لعله عجّله كي يستريح.. فقد بلغ المدى.. والمدى شبق يفتح فكيه، وأبو أسعد يستسلم أخيراً، هو الذي كان يمقت الكلمة ومداليلها . يرفضها ويقاتلها .. فصرعته ..

 

مات جوزيف، والغصة كبيرة، والبلعاس يعلن التصحّر أما م زحف القحط، والجراد والقوارض النهمة . مات وهو يكزّ على أسنان هدّها التكرار، وغزة في أتون المحرقة، والعراق النازف يفيض كأسه، وما من صحب لقرع كؤوس تنتشي، أو تخترع الأمل سراباً عربياً من المحيط إلى الخليج .

 

تسقط سنديانة بلعاسية أخرى مما تبقى،

وما تبقّى قليل،

 والليل يا جوزيف طويل طويل،

والحلم قتيل ..

أيها النبت الصلب، الحاد، الكريم، الأصيل ..

 

الرحمة عليك أيها السهم ، الشهم، الجيل، الخيبة، العنفوان .

والصبر والسلوان لعائلتك وأبنائك وزوجتك .. ومن يحبك ..

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

السبت / ١٢ صفر ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٧ / شبـــاط / ٢٠٠٩ م