نحن ضحايا مثلك يا غزة .. فعذراً لتخاذلنا ..

 

 

شبكة المنصور

جلال / عقاب يحيى - الجزائر

مرة أخرى تتكرر المأساة .. ألمذبحة . المحرقة . المجزرة . حرب الإبادة..القتل . التدمير . الموت . منظر الأشلاء .جثث الأطفال . الأمهات الحبالى ..الفظائع المعممة ..


مرة أخرى، ومرات تصبح الصورة صرختنا، والمظاهرة غايتنا، والحناجر المبحوحة سمتنا وفعلنا، ودموع العجز وسيلتنا..
مرة أخرى يفيض الحنق فيتقيأ اللاجدوى، والاستكانة، واليأس، وغضب التوهان، فندخل الزواريب الفرعية وغزة تذبح.. وغزة تقاوم. وغزة تأبى الموت وسط الموت، فتنتصر الإرادة ..

و .. نحن ؟؟!!!!..

في كل مرة يجد النظام العربي المتخاذل، النذل أسبابه، وأطواقه التي يحتمي داخلها لعبور المرحلة.
وفي كل مرة : نغضب . نحنق. نمتلئ حماساً اندفاعياً. نفرّغ الشحنة في مقال، أو صيحة في مظاهرة، ونعود إلى مألوفنا، و( تحليلاتنا) . نغوص في التنظير، والتعبير، والتصغير والتكبير، وننام وقتاً يطول، أويقصر بانتظار مأساة ومذبحة جديدة ..


بالأمس كانت انتفاضة الأقصى ومراهناتنا، واندفاعنا، واجتياح المجرم شارون لمناطق الضفة، وملحمة جنين، ونابلس، ورام الله، وصورة الشهيد ياسر عرفات وكلماته المحاصرة على ضوء الشموع : (( يريدونني قتيلاً أو طريداً..بل شهيداً..شهيداً ..شهيداً)).. استشهد أبو عمار مسموماً، واستمر العقل العربي لاهياً بالتي، وتلك، وهذا وذاك ..

 

ـ احتل العراق، ودمّرت الدولة العراقية، وانفتح شلال الدم العراقي غزيراً آلافاً مؤلفة من الضحايا،( ونختلف حول الأرقام، وهل تجاوزا المليون ونصف المليون، أم نبالغ، وعدد المهجّرين، والعقول العلمية التي اغتيلت، أو أجبرت على الرحيل والانزواء) وفعل، وخلفيات، وبرامج المقاومة الباسلة : مارد العراق التاريخ، والبطولة.. واستشهاد الرئيس العراقي : صدّام حسين اغتيالاً على مرمى ومسمع الجميع.. وما قدرنا سوى على تدبيج الحزن قصائداً ومقالات، وتحسّرات.. وبعض تجمّعات .. وما زلنا نتناقش، ونختلف، ومن يملك سيوفاً وخناجر يشهرها، لإعلان الانتصار على ..


ـ وكانت حرب تموز، ومار العقل العربي يحلل الخلفيات، والأسباب، والبرامج والأهداف، والدول الإقليمية، والخارجية،، فتماهينا في الغوص،والاختلاف، والتحليل.. وصمدت المقاومة اللبنانية، ودفع لبنان مهراً غالياً. واختلفنا :هل كان انتصاراً؟، أم شيئاً آخر، وإيران، ومشروعها القمي، الدينيـ الطوائفي، وحقائقه، وتقاطعاته، وما زلنا نختلف في الأسباب والنتائج، ونشبع كلاماً، وقذف اتهامات، ومراهنات ، وتحليلات، أيضاً .


ـ منظر قمة(القادة) العرب في بيروت : الكاريكاتوري، البائس، الانهزامي يلخص الحال، وأكثر.


ـ قمة تعقد لأجل فلسطين ويمنع رئيس السلطة الفلسطينية من إلقاء خطابه فيها.هو المحاصر، غير القادر على الخروج. ويجتاح شارون مناطق الضفة في اللحظة التي كانوا يبصمون فيها على " المبادرة العربية"، وعلى معزوفتهم المحببة، المكررة "السلام خيار استراتيجي"( كره العدو، أو من كان عدواً، أو أحب"، وقائمة المعزوفات طويلة، ونظام الاستبداد العربي يتفنن في" علم" التوسل والتسول ، وفي آخر تطوراته :"علم الاختلاف حول الاختلاف" !! .." وآخر مبتكرات رمي القذائف على الآخر..".. والقائمة مفتوحة ..


*****


لسنا بحاجة إلى خبراء استراتيجيين، ومحللين سياسيين بشتى الألوان، ومراكز بحث كي نعرف الداء وبيته، والدواء : إنه فينا : بداية، ووقوفاً طويلاً .فينا نحن الشعوب، والنخب، والأحزاب، والقوى، والهيئات، وكل الأسماء والمسميات .في تركيب وتكوين العقل العربي، وفي هذا النتاج الذي نتقيّأه عقوداً، بل قروناً، وما مللنا، وما بدّلنا، وما تطورّنا .


ـ نعم نحن في وضع استثناء لجهة فعل الدور الخارجي، وأثره، وحجمه، ودوره الساحق . في مستوى الحقد، والدموية، والاندفاع لتمزيقنا، واحتلال عقولنا وأراضينا وثرواتنا( والعراق شاهد)، ومن قبلها فلسطين الجرح الغائر، والحالة الأعتى لذلك الفعل .


ـ ونحن في مواجهة كيان سرطاني متطوّر جداً، متغلغل في خلايا العالم ودماغه، ومفاصله، والكثير الكثير مما قلناه، والشواهد يومية ..ومن ينتظر منه غير ذلك يجهله .


ـ لكن سرطاننا الأخطر كامن فينا نحن : شعوباً، وقبائل، وأدياناً، وطوائف، ومذاهب، وأحزاباً، وتشكيلات .. وهذا النظام الرسمي المؤبّد الجاثم فينا، وعلى صدورنا، وعقولنا .


ـ الجرثومة أساساً من إنتاجنا، وقد تغوّلت كثيراً في أجسادنا. باضت، وفقّست، وانتشرت، وها هي مظاهرها الفاقعة تحاصرنا قبل محرقة غزة، وعلى امتداد يومياتها الدموية .البيوض كثيرة، وأنواع التفقيس أكثر، فيها كل الأنواع من عصور البداوة والغزو بين القبائل، إلى "سقيفة بني ساعدة"، وما جرى فيها، إلى موضعات الأديان والمذاهب. نحن والآخر الإسلامي، وغير الإسلامي ، وفوات المشروع النهضوي، واغتياله من قبل حملته، ثم الحرب على التجويف، والفراغ ( من يجوّف ويفرّغ أكثر) ، وحروب على الحروب، وعلى الذات.. والنظام العربي مستمر في كل المراحل والأطوار. يفلس ويستمر . يتعهّر تخاذلاً وتواطؤاً وهشاشة وتسولاً ويستمر . يختلف حول الاختلاف والكلمات ويستمر، ونحن في البراد، أو التأمل، أوالتبرير والتكرير و"التفكير" .


ـ النظام العربي المختلف على الاختلاف، المتفق على الاستبداد وقهر الشعوب، وعلى التخاذل( بألوانه وأطيافه الظريفة) يتفنن في تفصيح أبواب التصنيف : معتدل، وأقل اعتدالاً، وممانع .. وتنهاطل الاتهامات، وحروب الكلمات، والتصريحات، وتضجّ الأبواق المبوّقة.. وغزة تحترق، لكنها تقاوم، وتصمد، وتتحداهم ..


ـ المعتدلون أكثر متهمون بالتواطؤ، وطول الفرجة، ومنع انعقاد قمة عربية( كانت ستكون قصفاً نوعياً من المفردات العربية في بيانها الختامي)، والأقل اعتدالاً ملّوا الفرجة، فتململوا . أما "الممانعون"و"الحقيقيون" منهم ( استعدوا لكل الطوارئ..لولا)، وهذه اللولا طويلة كأيام هزائم العرب المتلاحقة، فيكتفون ببعض الشاحنات، والإكثار من الخطابات والتصريحات.. والجولان محتل. والجولان ساكن . والجولان على طاولة السمسرة ، وغزة تكابد وتناشد وتجاهد .


ـ يضحك المرء وهو يسمع الاتهامات المركّزة على النظام المصري، ورمزه الرامز، وكأنها المرة الأولى التي ( يعملها) صاحب مقولة(( هو نحن نقدر نحارب أمريكا..))، عند غزو العراق، وعندما كانت الأساطيل الغازية في طريقها إلى ضرب العراق من المياه اٌلإقليمية للدول الخليجية، بما فيها، أكبر القواعد الأمريكية في المنطقة، (للدولة العظمى) قطر ..!! ..


ـ نظام كمب ديفيد واضح في مواقفه، يعرف حدوده ويلتزم بها جيّداً، بما في ذلك تلك النكهة الخاصة لرئيسه، التي تضفي نوعاً متميزاً من المنشطات التخاذلية( العفوية)، أو المصابة بفقدان المناعة القومية ، وبالعمر(المديد) الذي يرفض الاعتراف بحقائق الزمن، والوقائع .


ـ لكن ماذا نقول عن غيره من أنطمة العرب الأخرى ؟.. وماذا فعلت لغزة وأهل غزة أكثر من الخطابات، ومظاهرات المناسبات ؟؟..


ـ ثم هل يمكن لعاقل، ومتعقّل وعقلاني أن يأمل شيئاً من هذا النظام العربي : بالجملة والمفرّق ؟!!، بقمة أم بلا قمة؟؟، وبمشروع هزيل يتسول الدول الكبرى في أروقة الأمم المتحدة ؟؟!!..أو بدونه..


ـ النظام العربي مفلس منذ زمن طويل، ولم يعد يستحي من إعلان ذلك على الملأ، بمناسبة وغيرها، وخط، وفكر المقاومة بكل أشكالها، وتعبيراتها: مكروه، ومرفوض،ويجب القضاء عليه. وفلسطين عبء ثقيل على الديمومة المؤبدة،و(الاستقرار).. ولا بدّ من التخلص منها بأي طريقة، حتى ولو بالكثير من التفريط،ولو بشكل ممسوخ سوف يصبغون عليه الألقاب، والأوصاف التي تغطي عورات خيانتهم لها مراراً ..


ـ هذا الإفلاس، وغزة تذبح، لكنها تقاوم. والعراق يدمّر ويقاتل.. والأمة تحمل قابليات الحمل لجنين مختلف..يطرح على الشعوب العربية أساساً، ونخبها، وأحزابها، وقواها، وخلاياها الحيّة، بالتحديد، إعمال العقل لوعي الأسباب : أولاً ومنطلقاً، على طريق بلورة مشروع نهضوي، حداثي، ديمقراطي يمثل المدخل والمخرج لأزمة الوضع العربي، والرد العملي على مجمل التحديات الداخلية والخارجية.


ـ إن المسؤولية الكبرى في الذي يحدث لنا، وغزة اليوم هي الصورة، والعنوان، والمشهد، تقع على عاتقنا . بدءاً من وعي المرحلة ومتطلباتها، بدروسها وخبراتها ونتائجها، ومروراً بتعزيز خط الحوار والتفاعل،وليس الاحتراب القبلي، والمذهبي، والاستنزافي، وصولاً إلى إقرار حق التنوع والاختلاف لأفرع الأمة في مجرى سياقها العام، ووقوفاً عند أهمية اشتلاع الاستبداد من عقولنا، وواقعنا : تكريساً للمواطنية الحقة التي تساوي بين البشر، ولا تفرٌق بين المواطنين مهما كان جنسهم، ودينهم، وانتماؤهم، واعتقادهم ..


ـ إن أمة تحمل مشروعها تعرف كيف تتعامل مع أعدائها، فلا تقتل بالمفرّق ولا تذهب تضحياتها الهائلة في أقنية فرعية، أو لخدمة مصالح ذاتية، أو إقليمية، تحت هذا البيرق أو ذاك .


ـ أمة تمسك قدرها بيد شعوبها ستتمكن من قبر الاستبداد، ومفرازته القهرية، وزيفه، ومن توليد الخصب، والعطاء، في برنامج مبادر تعرف طرق وزمن وقدرة تنفيذه، مثلما تعرف أنجع وسائل التفاعل مع الآخر الجواري والدولي . تميّز بين معسكر الأصدقاء، والحلفاء، ومعسكر الخصوم والأعداء على أسس واضحة، وتتعامل بنديّة تعي لغة المصالح المشتركة، وتوجه الإنسانية نحو العدل والمساواة والحرية للجميع .


ولأن الأمة غير قادرة اليوم على النهوض بالتزاماتها، ونجدة غزة، وإيقاف المجزرة بما يليق بالتضحيت، ونهر اللدماء المتدفّق، وهذا الصمود الأسطوري..فليس لنا إلا أن نقول : عذراً أهلنا في غزة.. أيها الشهداءـ المقاومون، الصامدون، المعذبون . عذراً أننا لا نملك اليوم غير بقية من دموع جامدة في المآقي، وغير أصوات بحّها المرار، وكلمات ألفت التكرار، والانتخاء ..فما قدرت على الارتقاء لبعض ما تقدمون ..


ـ عذراً شعبنا الفلسطيني.. أن أمتكم المثقلة بقوالبها الرسمية، والشعبية تخذلكم المرة الألف، انتم شعب الجبّارين، دافعي ضريبة هواننا، وعجزنا، ومضغنا فنون الاحتراب الداخلي، وعلم الفواصل وإشارات التعجّب، وقصائد التهليل ..


ـ عذراً منكم، وأملاً كبيراً فيكم أن تصعدوا فوق الخيانة والتواطؤ والتخاذل وعهر الكلمات والتصريحات والمشروعات..
فوق الموت، والمذابح، والقتل اليومي المنهّج.. والمعاناة الاستثناء.. كي تتحدوا. تتحاوروا، وتتحدوا : خندقاً واحداً يزدان برايات التعدد والتباين ، وحتى الاختلاف، ويلتحم في مواجهة العدو الواحد . العدو الرئيس ..كي تبقى فلسطين مركز المراكز . أم القضايا . الملهم، والمعلّم، والمعلم. الحافز والنابض.. والرافعة ..


عذراً فلسطين أن أمتكم مقيّدة.. تنتطر من يفكّ أسارها ..وانتم في مقدمة الركب ..

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الخميس  / ١١ محرم ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٨ / كانون الثاني / ٢٠٠٩ م