(( وقعة عكّازيّة )) !! ..

 

 

شبكة المنصور

جلال / عقاب يحيى - الجزائر

صار لزاماً عليّ امتطاء العكّاز(شئت أم أبيت)، ولم يسبق لي استخدامه، أو التدرّب عليه . ولم تسمح بدويتي، أو بالحقيقة : ما تبقّى منها، ومن تلك العزة، وذلك الجموح أن أقبل التعايش، أو التكيّف، أو التدجّن مع جسم غريب بدا ضرورياً، ومحرجاً بآن، فتعاملت معه بإرباك، ونوع من قمع، ولو مظهري .


ما كنت أعرف أن استخدام العكاز فنّ له شروط، وأسس، وقواعد، وأن على من يتكيء عليه أن يخضع مرغماً . أي : أن يصبح واقعياً، عقلانياً، مرناً، ويملك قابلية التعلم، والأقلمة السريعين، وعصرياً، إن شئتم . لأن العصرية تعني الدخول في العصر


، ودخول العصر بمنطق ومفهوم سائدنا : الانخلاع ونزع العناد، وتلك الثوابت، والمبادئ(التي يعتقد كثير أنها سبب تخلفنا وهزائمنا، وفوات، وتجويف، وتجفيف المشروع القومي النهضوي، وتحرير فلسطين، وربما : تأبيد الأحادية والاستبداد الشمولي والأشمل ) للتعاطي مع المفرزات والتطورات، والعولمة، مهما كانت قوية، وعاصفة، ولاطمة، وإلا سنبقى ندور في حلقة التخلف المغلقة ..!!! ..


قال لي صاحب عصري جداً، يسبقني بعقود، وربما بقرون : مالك، أو مالكم لا ترون تحت أقدامكم وما يدور حولكم ؟؟!. ما لكم تتمسكون بالفوات والممات فتزدادون عزلة وضعفاً وهامشية ؟!! .


واحترت . احترت ولا أدري مبعث الحيرة : طبيعتي ـ طبيعتنا التي تظهر وكأنها خارج العصر(كاد يتهمني بأنني أنتمي إلى مرحلة الكهوف)، فلا ترى، أو لا تستطيع أن تفهم ما يجري حولها، وتحت أقدامها، وإن حاولت أن تفهم يكون القطار قد فاتها منذ وقت طويل، حيث لا يمكن اللحاق به، ناهيك عن مخاطر الركض لمن كان في عمر الكهولة، ولم يتمرّن على الجري، والعدو "الماراطوني" السريع !!..


أم تركيبتنا المشوّهة(خلقياً) بما فيها من جينات الذات، والفرد، والأنا، ومن غضنفر الموروث، وعنترة المتجدد، و(المستبد العادل) المتجول، المخلد، وامتداد الصحراء باندفاع عواصفها، ورياح السموم، والخماسين، والربّاعين، والأحاديين !! ؟؟


نصحني العصري بثقة لا يأتيها الشكّ أن أتدرّب جيداً على استخدام العكاز، وأن أضبط خطواتي معه، وليس العكس . وقال : هناك فرق كبير بين الحالين . فرق أن تسخر بالعكاز فلا تحترمه وتنزله مكانة لائقة في خلاياك وتفكيرك وحركتك وخطواتك، وحتى أحلامك . وبين أن تهمله، أو تتجاهله، أو تلغيه، وهو حقيقة واقعة أكبر من إرادتك، ومن محاولات التغطية، وإظهار نفسك قادراً، وبغير حاجة إليه(يعني مستقلاً، أو قادراً على الاستقلال، لا سمح الله)!! . العكاز يا صاحبي، حتى لو كان مجرد عصا معقوفة، كيان له حقوق واجبة السداد، وإلا ستدفع أثماناً غالية، فانتبه لأنك تحتاجه، ولا غنى لك عنه . صدمني كلامه لأني أرى أنني مستقل جداً، إلى درجة حلمت فيها مراراً بالعيش في جزيرة معزولة، أو مقاطعة الناس كلها، حتى أقرب الناس، لأحقق ذاتي، وماهيتي(حسب التعبير الماركسي)، وأن ذلك ممكن حتى بعد استخدامي الاضطراري للعكاز .

 

****


يبدو أنني كالعادة، كعادتنا، لم أنتبه، أو لم آخذ كلام صاحبي مأخذ الجد، خصوصاً وأنه راح يحدثني، انطلاقاً من العكاز ودوره، عن البناء الفوقي والتحتي، وجدلياتهما، وأخطائنا في ترجيح أحدهما، وعواقب ذلك على بنياننا الفكري، والسياسي، والقومي، وهزائمنا، وتكلسنا، وضعفنا، وحتى على(المشروع الوحدوي، النهضوي)!!، وأمور عديدة من العيار الثقيل، وأنا لا أجد أن (القصة) تستحق كل هذا الجهد(النظري)، والمناكفة، فهي بالأول والآخر عكاز لشخص مهجّر قسرياً من أمة يقال أنها تتجاوز الثلاثمئة مليون مشطورة، منتشرة، موزعة بطريقة خارقة (من الماء للماء)، ومسؤوليها الكبار، الكبار لا يحملون عكاكيزاً، رغم تقدّم العمر !!، وتصلب الشرايين (شرايينهم)، وتقوّس (أعمدتهم الفقرية ـ لكثرة ما حملت وشقت !!)، اللهم سوى (عصا ماريشالية بشير السودان المؤبدة والمستخدمة للهيبة والزينة) !!. ورغم ذلك لا يملون حديثاً عن الاستقلال والاستقلالية، والممانعة والعقلانية، والمصارعة والتبعية، والمسالعة والريعية ..!!!..


فعلاً لم آخذ كلام صاحبي العصري مأخذ الجد، وبالوقت نفسه كانت تلك الكبرياء المحلقة في سماء حلم الامتداد تمنعني، وكأنني أعتبر ما قاله نوعاً من استسلام رفضته عمري ..فوقعت.. وانكسرت يدي .
الحقيقة لم أستطع تحديد السبب المباشر للوقعة : أفقداني للتوازن ؟. أم لآن قدمي المعطوبة لم تتحمل ثقلاً فوق طاقتها ؟، أم بسبب سوء استخدامي للعكاز الذي يبدو أنني وضعته في مكان غير ثابت فاختلّ وسقطت ؟؟!! ..( والنتيجة : وقعت وانكسرت)


أعرف ما سيقوله صاحبي العصري، وخجلاً منه، وربما مزيداً من عنادي ومكابرتي ، رفضت رؤيته . كان سيقول : (( أما قلت لك؟ . أما نبهتك وحذرّتك؟. واحمد ربك أن جاءت هذه المرة بكسر في اليد، وليس في الرقبة أو العمود الفقري، أو أكثر!! )). كان سيفقعني محاضرة أخرى عن الواقع والواقعية، وعن أهمية المرونة التي طالما شدد على مخارج حروفها، لموقعها الهام، برأيه، في الأقلمة، والتطور، واستيعاب العصر وفنونه، ومعطياته وقواه . عن ضعفي وحاجتي الأكيدة(أمر مفروغ منه) للعكاز، وعن العقلانية المعقّلنة، وضرورة التكيّف حتى لو اضطررت لأخذ دروس عند أخصائي، أو التسجيل في واحد من تلك المعاهد المنتشرة المختصة ب"إعادة التأهيل" في نظمنا المفتوحة، المغلقة ليلاً نهاراً ..


****


"إعادة التأهيل" جملة استوقفتني، ومحرقة غزة متواصلة، وكسر يدي يقيّد حركتي أكثر مما أنا مقيّد أصلاً، فحاولت الركوب على مصطلح(بريء) لأسقطه في غير سياق ومكان، وإذ بي أفتح الملفات، ملفاتنا، النظم، والأفكار، والأحزاب، والأديولوجيات المؤدلجة، ومشاريع التحرير والتحريك والتمرير والتزوير والتغرير، وفلسطين وحطين وصلاح الدين، والمعارضات المعارضة ومشكلاتها مع العكاز.. والهدنة والمفاوضة، ووقف "إطلاق النار" كموقف ارتكاز لمرحلة المقايضة ..


الركوب قادني إلى (نار جهنم) الوضع العربي : اللافح، الحارق، المؤهل والمتأهل خلقة، المرن والمتمرن ولادة، ووراثة، وإذ بالصورة تتضح أمامي جلية، فخفت .


لم أر عكاكيزاً (بالعين المجردة) ل" نظامنا" الشاب أبداً، المتصابي على طول العهود والعصور ومرّ الزمن، واحترت للأمر، ولعل مبعث حيرتي غشمنتي وبساطتي، وانخداعي بالمظهر والكلمات والخطابات والهيئات المهيأة، واللحى المطرزة، والشعور المصبوغة المزوّقة، والكلمات المنشاة المنتقاة، والقدرة الفائقة في التكييف والتكيّف، والترويض والتريّض، والمرونة والتمرّن، فقلت عجباً .


فجأة، ونحن في خضمّ مناقشة الملفات، وجدت صاحبي، العصري جداً، صار، بقدرة قادر: ماضوياً، سلفياً، عقلانياً جداً، خلائطياً من طراز غريب عجيب، راح يقنعني وهو ينكش في تراث الاستبداد والمستبدين، القمع والقامعين، الفساد والمفسدين، أن ذلك تلاؤماً وانسجاماً مع الطبيعة والمعطيات والوقائع، وتوقف طويلاً عند العكاكيز المنظورة والمخفية، وأخذ بالشرح والتوصيف بحماسة أذهلتني :


ـ قال صاحبي : لا تصدّق، الجميع يتعكّز، وعلى أكثر من عكاز، لكن الفرق : أنهم يولدون مدربين، مرنين، عاقلين، متكيفين فلا تظهر عكاكيزهم لأمثالك . هناك عكاكيز(أبدية) جاء بها هولاكو وتركها، وهناك عكاكيز "صليبية"(كنت سأحتجّ على المصطلح لو ترك لي فسحة للتدخل) ألقوا بها فأنبتت، وهناك عكاكيز صهيونية ما أنزل بها الصانع من أشكال، وعكاكيز محلية(إقليمية) كثيرة، وأشدها، في هذه الفترة، الإيرانية، وغيرها، وغيرها، إلى درجة أن المنطقة تعجّ بالعكاكيز، وبما يفتح شهية الجميع لاقتناء مجاميع منها، والأشطر من يعرف كيف يتأقلم معها ..وحاول أن يقنعني بأن الشاطر، الفهلوي من يقدر على استخدام مجموعة عكاكيز دفعة واحدة، ثم يتمظهر اللعب بها في الأفراح والمجالس العامة(على طريقة الرقص الصعيدي بالعصا) دون أن ’يزعل أحداً، أو يكسر عكازاً، أو أن ’يخبر أحداً عن مصدر العكاز، أو أين أتقن اللعب به ..


ـ كنت سأسأله عن المعارضة، المعارضات . النخب الأنخاب، لكنه قاطعني، وكأنه يريد أن يفحمني : ((انظر ما جرى للعراق عندما رفض التعكيز . اتعظ . اتعظوا . افهموا وتفهموا )) .


ـ مسكينة المعارضة، المعارضات لأنها لم تتقن اللعبة، فلم تجد عكازها المناسب، أو أن من هو أهم منها في عالم الحسابات والرهانات والمصالح سبقوها إلى احتكار جميع العكاكيز، فلم يبق لها سوى الحسرة والتحسّر، واللطم على الخدود، والاشتباك الذاتي على السراب ، ومراهنة البعض على المراهنة.. علّ عكازاً يرمى إليها فتلتقطه، حتى وإن كان مهترئاً، جرباناً، متآكلاً، فالمهم أن تعتقد أنها وجدت ما تتعكز عليه(حبل نجاة)، ثم يفرجها الله والزمن، خصوصاً وأنه لا حساب للزمن عندنا لا في عمر الحاكم، ولا الاستبداد، ولا التخلف، ولا احتلال الأرض، والعقول، ولا الحروب المتحاربة على العكاكيز، المتشاطرة في علم الغشّ، والتزوير، والتزييف . ولا في انتظار المنتظر ..


مشكلتي، وربما واحدة من حسناتي(الكبرى) أنني أعترف جهاراً نهاراً بالعكاز وحاجتي إليه، ومشكلتهم أنهم يتعكزون أكثر مني( لأنهم أكثر حاجة حيوية، ومصيرية)، ومع ذلك لا يعترف أحد منهم بأن مقتنياته من العكاكيز كثيرة، وأن خياراته واسعة، بالنظر إلى شهيته المفتوحة، وقدراته الكبيرة على استخدام أكثر من عكاز بآن، أيّاً كانت البلاد التي صنعته، وجهة استيراده، ومبلغ صلابته، واشتراطات استخدامه .( وما زالت المعارضة، المعارضات، يتيمة تبحث عن عكاكيز ضرورية لأنها وصلت من العمر عتيّاً، مثل النظام العربي، وما عادت قادرة على السير خطوة واحدة دون سند من أحد : عكازاً قوياً، مجرّباً، لا يشترط استخدامه الحنكة والكثير من التدريب والمقومات ..) ..

أما فلسطين . أما المقاومة العراقية . أما الشعب الشهيد . الجريح . المقاوم . الصابر، الضحية. الفداء . ..فليس له من عكاز إلا ما يصنعه بيديه ..


ورغم أن نظرة سطحية ستظهر لأي متتبع مبلغ العكاكيز العربية الملقاة في قارعة الاستخدام، وعلى منصة الخطابات المفتوحة، وفي المعارض الراقية، الاختصاص، وتعدد ألوانها، وأشكالها، وعقفاتها، وطلائها ..


رغم هذا الكرم العربي الشهير بصناعة عكاكيز من (دمائهم الطاهرة، الزرقاء النبيلة) وتقديمها مجاناً لفلسطين، وتسابقهم، وتنافسهم، وتقاتلهم على من يكون الأول، ومن يظهر أكثر في احتفالات الاستعراض الكلامية، والعنتريات اللفظية..فإن فلسطين كشفتهم أكثر . عرّتهم تماماً : كما هم .. بعكاكيزهم المنخورة، الآمرة، المأمورة، وكسورهم في الجمجمة والنخاع الشوكي والعمود الفقري.. رغم كل ما يملكونه من دروع الانتصاب، وعشق الاحتراب، وفنون التقمّص والتمويه ..


عندما رأيتهم على حقيقتهم، ومحرقة غزة تصفعهم، وجدت العزاء الكبير في وقعتي العكازية، لأنها تبقى، مهما ضخّمتها، حادثاً فردياً، صغيراً لا يمكن قياسه بمصائب الأمة التي سببوها هم وعكاكيزهم الظاهرة والخفية . الدولية، والمحلية، والإقليمية، وكل عكاكيز الدنيا التي يملكون، أو تملكهم .

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الثلاثاء / ١٥ صفر ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١٠ / شبـــاط / ٢٠٠٩ م