قانون اجتثاث البعث .. عار لا يمحى

 

 

شبكة المنصور

أ.د. كاظم عبد الحسين عباس / أكاديمي عراقي

كان قانون اجتثاث البعث بصيغته المتفق عليها سلفا بين اميركا وعملاءها عرّابي الغزو والاحتلال يشمل البعثيين بصفة عامة وشاملة ودون تحديد لدرجة حزبية دون سواها. وقد صدر القرار وفقا لهذه الصيغة الشاملة، الاّ انه سرعان ما تم اجراء تعديل جوهري عليه ألا وهو عدم شمول اعضاء الحزب  بالاجتثاث والاقتصار على الدرجات القيادية من عضو فرقة فما فوق. وبعد ايام او اسابيع قليلة تم ادخال تعديل آخر وهو شمول اعضاء قيادات الفرق بحق الاستئناف وطلب الاستثناء.

 

السؤال الكبير هو لمَ تمت تجزئة القرار واعادة تصنيف المشمولين بالاجتثاث وفق هذه الصورة؟ وللاجابة على السؤال سنضع الافتراضات والتساؤلات الآتية:

 

1- هل ادرك مشرعوا القرار ثقل العدد الكبير من العراقيين الاعضاء في الحزب الذين سيشملهم القانون بآثاره الكارثية؟ وهل ان هذا الادراك قد ادى الى خشية على العراقيين ام خوفا منهم؟

 

2- هل ادرك المشرعون صعوبة تنفيذ الاجتثاث والتصفية الجسدية بقرابة خمسة ملايين عراقي في اقل تقدير دفعة واحدة؟ وان عليهم تجزئة هذا الكم البشري الهائل الى وجبات؟

 

3- هل امتلك الاحتلال وعملاءه بوصلة هادية الى عقل ثلاثة ملايين عضو تقريبا بانهم انتموا للبعث جميعا عن غير قناعة ولاغراض نفعية، وبالتالي فان المنطق يقضي رفعهم من قرار التصفية الفيزيائية؟ وما هي الاسس التي اعتمدها عقل تجار الدم والموت الجماعي المستمد من روح النازية وتطبيقاتها ليتبنوا موقف متصاعد ومتدرج من اعضاء البعث بكل ملايينهم على انهم ليسوا اهل مبادئ ولا عقيدة تضعهم تحت طائل نازية الاجتثاث؟

 

4- ان الاحتلال قد امتلك بوصلة اخرى اكثر حساسية في القياس بحيث صار بوسعه ان يستثني عضو الفرقة الفلاني ويبقي التنفيذ الشرير ساريا على آخر على افتراض ان الاول لا تنطبق عليه شروط الاجتثاث كقانون حضاري متمدن قدم اروع صورة عن انسانية الغزاة واعوانهم من الخونة والعملاء في حين انها تنطبق على الآخر، ام ان الامر لا يعدو كونه ضرورة عمل تنفيذية تقتضي العمل بالقانون بصيغة التقسيط وليس بصيغة التنفيذ الجمعي وبجانبيه الفكري والكياني.

 

5-  اكتشف المحتل واعوانه ان فكرة تشغيل مؤسسات الدولة غير ممكنة نهائيا مع تطبيق اجتثاث شامل لكل العناوين التنظيمية وخاصة في قطاعات إن توقفت فان معالم الحياة كلها تتوقف وتضع الاحتلال واعوانه في معالم لا تخدمهم مثل التعليم والصحة، وعليه فان تاجيل التنفيذ بالكم الاكبر امر لا مفر منه.

 

قد تكثر الافتراضات والتساؤلات في موضوع من بين اكثر المواضيع خطورة في عراق ما بعد الغزو واكثرها ضررا على تشكيلة النسيج الاجتماعي العراقي وعلى صورة السلم الاجتماعي الواجبة بين مكونات الشعب، بل يمكن الجزم ان الاجتثاث قد فاق باثاره المدمرة على وحدة المجتمع،حتى تاثيرات التطبيقات الطائفية والعرقية. اضافة الى كونه قانون اثبات همجية وظلامية اميركا وتخلفها في عصر التمدن والديمقراطية.

 

الفكرة من تعديل القرار وتجزئة تنفيذه حملت من اللؤم والخبث والعدوانية البغيضة ما هو اسوأ من الاجتثاث نفسه كقانون نازي _ صهيوني بامتياز. لان هذه التجزئة قد وضعت اعضاء الحزب كلهم في دائرة الاجتثاث الفكري واخرجتهم من دائرة الاجتثاث الوظيفي والى حد ما من دائرة الاجتثاث الجسدي ليس حبا بهم او تقديرا لانسانيتهم وحاجتهم الانسانية بل لان استهداف قرابة ثلاثة ملايين عراقي بالاجتثاث الجسدي والتصفية هو هدف صعب التحقيق او مستحيل. ونعتقد ان عبقرية الكراهية والحقد الاسود والروح المخابراتية البغيضة المتأصلة في شخصية السفاح احمد الجلبي قد تدخلت في هذه الفقرة بالذات حيث اقترح على بريمر استثناء الاعضاء. ان حقيقة استثناء الاعضاء هي لحجرهم في الوظائف وتحت سيطرة الاحتلال وعملاءه باستخدام احقر وسيلة ضغط ممكنة وهي محاربة الانسان بخبز عياله واطفاله خاصة وان معظم المعنيين من شريحة مجتمعنا التي لا تمتلك الثروة ولا مؤهلات الاشتغال خارج العراق.

 

استثناء الاعضاء جاء لتجنب الصدام الحتمي مع قرابة ثلاثة ملايين عراقي للاحتلال واعوانه ولوضعهم تحت طائل الحاجة المعيشية الى حين تاتي لحظة ادخالهم تدريجيا في قوائم الموت أي تنفيذ الاجتثاث الجسدي لان قانون الاجتثاث اصلا لم يقصد به الاجتثاث الفكري معزولا عن الاجتثاث الجسدي بل متلازمان ومتداخلان.

 

لكن ... كيف يمكن لعرّاب الاجتثاث احمد الجلبي المجرم ان يضمن ان هذه الملايين من الرجال التي اقسمت عند نيل شرف العضوية باغلظ الايمان ان تكون كلها خانثة باليمين و بلا عقيدة وبلا مبادئ ولا شرف رجال بحيث يغادرون بهذه البساطة انتماءهم الى عقيدة الثورة العربية القومية التحررية مصداقا لبهتان الجلبي في كونهم جميعا قد انتموا لاغراض نفعية؟. وكيف له ان يغض الطرف عن حقيقة ان شيوعيي حميد مجيد الذين التحقوا به بعد الاحتلال كلهم دون استثناء كانوا قد تبرءوا من الشيوعية والتحق الكثير منهم في صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي ... يعني .. كيف يضمن الجلبي واعوانه ان لا تكون هذه الملايين خلايا نائمة كما يطلقون على خلايا حزب الدعوة العميل والحزب الشيوعي مثلا قبل الغزو والاحتلال؟ الامر الذي يعني ان الحل الجذري والامثل هو ان يحيدون مؤقتا دون ان يكون ذلك الا كسبا للوقت حيث ينفذ بهم الاجتثاث الجسدي توافقا مع نظرية شمر بن ذي الجوشن عندما أمر بنحر رضيع الامام الحسين بن عبد الله عليه السلام ( اقطع نزاع القوم يا حرملة ).

 

زارني قيادي في الحزب الشيوعي بعد الاحتلال بشهر بصحبة زميل لي ليعرفه علي وليعرض علي الانتماء الى الحزب الشيوعي!!, وحين رفضت هددني ضمنيا بأنهم سيعتبروني قائدا لخلية نائمة من اعضاء حزب البعث يتوجب التعامل معي أمنيا ما دمت حيا !!!

 

اما معايير الاستثناء لفئة قيادات الفرق الحزبية فان لها معاني ودلالات قد تتداخل مع ما ذكرناه اعلاه اضافة الى دلالات مضافة اخرى وخاصة في الجيش والجامعات وكون اعضاء الفرق هم القاعدة الواسعة التي يتكون منها كادر الحزب عن طريق الانتخابات الحزبية وكونهم مع الاعضاء هم الفئة العمرية المستقبلية لان اكثرهم من الشباب والذين يشكلون عماد الحزب المستقبلي. لقد اثبتت الاحداث صحة ما نسوقه الآن من وضع هذه الفئة القيادية تحت طائلة الاقامة الجبرية والرغبة في العودة للوظيفة كحاجة حياتية لهم ولعوائلهم وكاحساس فطري بانها حقهم الطبيعي الذي شكل دافعا للعودة الى وظائفهم غير ان عتاة ودهاة الاجتثاث ومنظريه قد اعتبروها تنازل عن المبادئ وضربة للبنية التنظيمية للبعث. وفي الوقت نفسه تم تصفية المئات منهم جسديا وهم في الدوائر اثناء الدوام الرسمي حيث استخدمت الاعادة الى الوظيفة كمصيدة لتسهيل اقتناصهم وتغييبهم نهائيا كتعبير عن المعنى الحقيقي للاجتثاث.

 

سواءا كان الاجتثاث فكريا فهو عار على اميركا، وسواءا كان الاجتثاث جسديا فهو جريمة تتنافى مع حق الانسان في الحياة الذي كفله الباري سبحانه وتعالى وحقه في الاختيار والانتماء الفكري كما كفلته القوانين البشرية الوضعية والسماوية وجميع لوائح حقوق الانسان. وان نقطة الانفلات التي لم يحسبها الاميركان والتي ستاتي بعد زمن من عام 2003 هي تلك المتعلقة بانفراط عقد سلسة الاكاذيب التي تم تسويقها على امل ان يتم اجتثاث البعث فكريا وجسديا أي ان تنجح فكرة الاجتثاث فيموت كل طلاب الحق والشهود ... وقد فات عجلة الغباء المتجبرة ان الحق قد يضعف غير انه غير قابل للفناء ابدا. وهناك امر آخر قد تكون ماكنة الاجتثاث الفكري قد وضعته في حساباتها وهو ان اعضاء الفرق في البعث هم الحلقة التنظيمية الواقعة في دائرة الانتقال الى دائرة المواقع التنظيمية القيادية والتي بخلخلتها ينقطع نسغ الاتصال في السلسلة التنظيمية وترتبك هذه السلسة وتدخل في متاهة انفراط عقد الاتصال التنظيمي وبالتالي المساعدة في انهاء الوجود التنظيمي للحزب، اذ يبدو ان الجلبي وازلامه قد درسوا تكتيك واستراتيج تفتيت الحركات الثورية.

 

في كل الاحوال وسواءا كانت هذه الاعتبارات كلها حاضرة في ذهنية التعديل في شمولية الاجتثاث والتي يتبجح احمد الجلبي كثيرا في تبنيها واقتراحها على بريمر, فان الاجتثاث وفق كل ممكنات التفسير المنطقي هو قانون يسير بخطين متوازيين وضمن افق زمني مقدر سلفا قد يقع بين عشرة الى عشرين عام ليصل الى:

 

1- انهاء الوجود الفكري لعقيدة البعث على ارض العراق كعراق واحد او كعراق مجزأ وفقا لمخطط الشرق الاوسط الكبير المنتج في كواليس الكنيست الصهيوني.

 

2- التصفية الجسدية لعناصر البعث الفاعلة في قواعد الاعضاء وفق جدول زمني يمتد ما بين عشرة الى عشرين عام مع تركيز على قتل الاعضاء القيادين في جلهم في السنوات العشر الاولى من الخطة أي بين 2003 و2013.

 

3- ايكال مهمة القتل الى اكثر من ثلاثين جهة من المليشيات الكردية والعربية والاحزاب المختلفة وفرق الموت التابعة للجلبي وبطريقة تجعل من المستحيل تحديد مَن هو المسؤول عن القتل, أي اعتماد اسلوب تعدد الفئات والجهات المنفذة بحيث يصير مستحيلا اخذ الحق لا قانونيا ولا شخصيا.

 

4-  ان توفر اجهزة الاعلام وادوات الاحتلال المختلفة الاغطية المطلوبة لطمس جريمة الاجتثاث بخطيها الفكري والجسدي ووضعها ضمن اطر اعلام الشيطنة والتبشيع وادعاءات تزوير الواقع بحيث تصبح عملية قتل مناضلي الحزب وكانها حق منزل بنصوص لاهوتية قبيحة.

 

لقد اجتهد الاحتلال وادواته العميلة في تنفيذ القرار الصهيوني باجتثاث البعث وما زال يجتهد بطريقة جعلت من عملية الاجتثاث وكانها الانجاز الحكومي الوحيد الموكل الى حكومات الاحتلال المختلفة اذ لم تحصل متابعة وتنفيذ لاي قانون بدءا من الدستور الصهيوني ولا لأي مشروع بعد الاحتلال كما حصل مع الاجتثاث. وبعد ذلك اجتهد الاحتلال وعملاءه ايضا في امتصاص ردود الافعال الشعبية العراقية الواسعة والعالمية ضد هذا القانون عن طريق الاعلام وعن طريق التعديلات التي وصلت في ذروتها الى تغيير الاسم الذي صار اعظم علامة عار وشنار في تاريخ اميركا والعالم الاخرس حيث منح اسما غاية في التمويه والخداع وهو المساءلة والعدالة والذي مضى الان اكثر من عام على اقرارة من قبل برلمان الببغاوات دون ان يرى التطبيق لبنوده التي يعرف العالم انها اسوأ بكثير من الاجتثاث مما يثبت ان هدف التغيير هو استبعاد الاسم الملطخ بالعار فقط.

 

تُرى متى ستراجع اميركا المتحضرة فكرة الاجتثاث بطريقة موضوعية لترى انها ارتكبت جريمة نازية ضد حزب تتهمه جزافا ودون أي دليل على انه حزب نازي؟ وهل سيكون نجاح البعث في خروجه من محنة الاجتثاث وقيادته الجسورة للمقاومة العراقية البطلة وخروجه المعمد بالدم حيّا معافى من مقبرة الاجتثاث عاملا ضاغطا لتقرأ معاهد اميركا الاستراتيجية صفحة العار التي لطخت بها عصر التمدن؟

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الخميس / ٢٢ ربيع الاول ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١٩ / أذار / ٢٠٠٩ م