الرقم ٢٢ في التاسع من نيسان عام ٢٠٠٣

 

 

شبكة المنصور

الكاتب الصحفي محمد العرب
في التاسع من نيسان عام 2003 ، أسراب الجراد تقترب من بغداد ، مستعينة بأنصاف الرجال واللارجال ، طبول الحرب يقرعها سماسرتها ، كان الكل أمام اختبار الصمود ، السماء كانت متجهمة في ذلك اليوم ، ربما لأنها حزينة على شباب العراق الذين تطحنهم دون تمييز ماكينة الحرب الأمريكية البلهاء ، والشمس أثرت الأفول تجنبا لرؤية وجوه الغزاة القذرة ، كنا ثلاثين صحفيا نعد التقارير عن الحرب الشعواء وكنت أصغرهم عمرا وتجربة ، وكان الفخر والحماس يسكن جل مفاصلي لأني الرقم 22 في قائمة الصحفيين الثلاثين ، ولعل من المفارقات العجيبة أن يكون رقمي في قوائم الموت الخاصة بالصحفيين والتي أنعمت علينا بها الديمقراطية الأمريكية الإيرانية 22 أيضا ، 22 رقم الموت والفخر ، الهدوء يعم أجواء منطقة الوزيرية لا يجرحه سوى صوت مولد الكهرباء الصغير في مقر النادي ، كنا نستعمل المولد فقط لتشغيل جهاز استقبال رقمي لنتابع تغطية القنوات العربية الأجنبية لمجريات الغزو البربري ونكون شهود للتأريخ على مقارعة الكلمات للكلمات ، نتابع باندهاش فارس الكلمة والصحافة العراقية معالي الوزير الصحاف يصول ويجول وكأنه في بلاط صاحبة الجلالة الملك والإمبراطور ،

 

هواجس مختلفة تنتاب من كان يتابع انتصارات وانتكاسات الرجال أمام جيوش الحقد الأسود ، كنا مؤمنين بالنصر ولازلنا نؤمن به بعد ست سنوات عجاف ، لم يعد هاتف نادي الصحفيين في منطقة الوزيرية في بغداد يرن كثيرا ، أخبار سيئة وأخرى فرحة وأخرى رافعة للمعنويات تتقاطر ألينا ، كنا نستمع لتلك الأخبار بنفسيات متفاوتة ، ما بين مصدق ومكذب ومتقبل للأمر الواقع ومصر على المضي قدما في طريق الشهادة ، لم يبق من الخلية الصحفية في مقر نادي الصحافة في منطقة الوزيرية في بغداد سواي أنا والأخ الصحفي البطل حسين المعاضيدي ، لم نكن نريد الخروج من مقرنا لأننا كنا نتوقع انه ربما يتطلب الأمر وجودنا كصحفيين أو مقاتلين ، في ذلك اليوم العابس كانت غارات غربان الشر منخفضة الوتيرة ، والشوارع تنعي ضجيجها ، والوجه متسائلة كما يوم القيامة ، جلسنا أنا وحسين نأكل أخر رغيف متيبس من الخبز كانت قد زودتنا به ماجدة عراقية بطلة كانت تقود سيارتها وتوزع الطعام على المرابطين في خنادق الشرف ، صوت منبه سيارة بالطريقة التي اعتدنا دوما سماعها ، أنها سيارة أبو عدي العبيدي ، فتحنا الباب له كان وحيدا لأنه الأقدر على المواجهة وحيدا ، يدخل علينا البطل أبو عدي العبيدي يلقي التحية وابتسامة ثقة تعلو وجهه رغم التعب وقلة النوم يتوضأ ويصلى على عشب نادي الصحافة ، يلقي السلام على رب السلام ومن ثم يلتفت ألينا ليضرب لنا موعدا نعيش بشائره اليوم قائلا : أن النصر قريب مانحا إيانا جرعة من الصبر الجميل ومضيفا : لابد من ترتيب الصفوف وان موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ، يودعنا ويغادر كالأسد عندما يغادر عرينه فهو لابد له من العودة وان طالت السنون ، عيون حسين المعاضيدي امتزجت فيها دموع الحزن بدموع السؤال بدموع الرجال و آه ألف آه من دموع الرجال وقاكم الله إياها ، أصاب الشلل خلايا التفكير في رأسي المثقل بالأسئلة ، لماذا وكيف ومتى وماذا و أين وهل وما وربما ، فقررت أن أوكل مهمة رجوعنا إلى الفلوجة لحسين مشيا على الأقدام ، عدنا من على جسر الصرافية وفي وسطه التقينا بأبطال أبوا أن يفارقوا بغداد إلا جثامين عز وشرف وقالوا لنا نحن سنتخندق للغزاة في الرصافة ، في الطريق لا حوار يذكر بيني وبين حسين رغم أننا كنا لا نتوقف عن الكلام فيكاد كل شيء بيننا مشترك، الأحلام والتوجه و الأفكار والطموح و العمل ،

 

حسين مجنون بالعراق فما أن لاح له أول خنزير أمريكي حتى قال لي سأهاجمه ، قلت له يا حسين تعقل يا ابن عمي بماذا تهاجمه لم يعد قلمك اللاذع ينفع أمام خبث أسلحتهم ثق بالله وان الانحناء الوقتي للريح مناورة الأبطال وديدن المنتصرين ، طلب منا اخو مونيكا أن نرفع أيادينا وفتشنا واستحوذ على ما في جيوبنا واخرج هويات الصحافة قبل أن يتكلم خنزير آخر من أذناب الغزاة ناعقا ونابحا أنهم صحفيون أنهم من جماعة عدي ، وهم بالهجوم علينا إلا أن الخنزير الأمريكي ردعه واكتفى بالاحتفاظ بهوياتنا الصحفية ، في الطريق كان السؤال الذي كررناه أنا وحسين عشرات المرات ، هل فعلا دخل الخنازير بغداد ؟ ، وكان الجواب نعم لكنهم سيخرجون ، وصلنا أبو غريب ، الرجال يتخندقون كالليوث الضارية ، الطريق طويل يبلغ 60 كيلومترا ما بين بغداد المنصورة والفلوجة الأبية ، لم نفكر أن نبحث عن سيارة وهذا ما حدث فقد كنا كما الذي يمشي بلا رأس ، وصلنا الفلوجة بعد عشر ساعات من المشي على الأقدام لم نمش خلالها على الطريق المعبد وكم تهنا وسط المساحات الخضراء والجرداء ، استقبلونا أهل بيتي بذهول لأن خبر مقتلنا كان قد سبقنا وأصر حسين على أكمال مشواره بالسيارة إلى مدينة حديثة الشماء وانتهى ذلك اليوم، و اليوم وبعد ست سنوات اسأل المعاضيدي نفس السؤال ، رغم أنني ابعد عنه الآف الكيلومترات ، هل فعلا دخل الخنازير بغداد ؟

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الأحد / ٠٩ ربيع الثاني١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٥ / نـيســان / ٢٠٠٩ م