العراق من الأمن النسبي إلى العنف المطلق

 
 

شبكة المنصور

نزار السامرائي

لا أدري لماذا تعود بي الذاكرة إلى طرفة سمعتها أيام الشباب ، عن رسام دخل مسابقة كبرى لرسم لوحة تحكي قصة عبور سيدنا موسى البحر ببني إسرائيل وهلاك قوم فرعون ، كلما وقع تفجير في أحدى مدن العراق ، فيبادر متحدث عسكري أو أمني ليقول بأن انتحاريا بحزام ناسف أو أن امرأة مختلة عقليا  من نفذ الحادث ، تقول الطرفة إن الرسام جاء بلوحة رسم فيها البحر الأحمر فقط ، ولما سئل عن مغزى هذه اللوحة وعلاقتها بالموضوع ، أجاب بأن موسى وقومه مروا من هنا بسلام بعد عبورهم البحر ، وأن قوم فرعون هلكوا واستقروا في باطن البحر .

 

اللافت أن الشرح وبتفاصيل دقيقة عن الطريقة التي تم فيها تنفيذ التفجير ، لا يمكن أن تتاح لأحد من الباقين على قيد الحياة ، فالتفجير بحزام ناسف لا يمكن أن يسمح ببقاء أحياء وعندهم القدرة على ضبط تسلسل الأحداث بعد وقوعها ، إلا لمن كان يتحدث عن مشاهدة واحد من أفلام الإثارة الأمريكية .

 

لاحظ مراقبو المشهد العراقي أن التصعيد في حوادث التفجيرات التي شهدتها مدن عراقية ، ترافق مع عدة مؤشرات

الأول هو ارتفاع وتيرة الحديث الأمريكي عن إتمام سحب القوات من المدن في التوقيتات المعلنة سلفا ، وبعد ذلك استكمال الانسحاب الكامل قبل نهاية عام 2011 ، تنفيذا لوعود قطعها الرئيس الأمريكي باراك أوباما خلال حملته الانتخابية ، وعززها في خطبه اللاحقة ، ولذلك يذهب من لا يستبعد الدور الأمريكي في مثل هذه الحوادث ، إلى الاعتقاد بأن القيادات الميدانية الأمريكية تريد إثبات مصداقية تحليلها الأمني عن مستقبل الوضع في العراق في حال استكملت انسحابها ، وبالتالي وقوع خرق لمنظومة الأمن في مناطق حساسة دون أن تستطيع قوى الأمن العراقية من منع وقوعه ، إنما يفتح الباب على احتمالات انفلات أمني أوسع يتطلب إعادة نظر بمفردات قرار الانسحاب الأمريكي أو بتوقيتاته ، وبالتالي فلا يستبعد الكثير من متابعي المشهد العراقي قيام القوات الأمريكية أو جهات استخبارية مرتبطة بها بتنفيذ تفجيرات مدروسة لتوقع أكبر تأثير نفسي وسياسي وطائفي على الساحة العراقية ، ويستند هؤلاء إلى ماضي أجهزة الاستخبارات الأمريكية في بلدان اخرى ، وخاصة ما أنجزه جون نكروبونتي السفير الأمريكي الأسبق في العراق والذي كان قد شغل منصبا مماثلا في أمريكا اللاتينية للقيام أو الإشراف على عمليات مماثلة .

 

الثاني حديث المالكي عن احتمال عودة العنف الطائفي ، ولا أحد يدري ما إذا كان المالكي يهيئ أذهان العراقيين لقبول الكارثة قبل وقوعها ، أم أنه يريد منهم التحرك المبكر لمنع وقوعها ، ولما كان التعرف على حقيقة النوايا من الأمور الصعبة في وضع متغير المزاج كالوضع العراقي ، ولذلك فإن العودة إلى التجارب السابقة يمكن أن يساعد على تبين حقيقة النوايا الكامنة وراء تحذير المالكي .

 

ربما يكون إشغال نوري المالكي لرئاسة الوزارة في العراق ضربة حظ نادرة الوقوع ، سواء ما يتصل بقدراته ومؤهلاته الخاصة ، أو ما يرتبط بوضع حزب الدعوة الذي لم يكن زعيما له يوم توليه منصبه ، والذي كان حزبا صغيرا ضمن قائمة الائتلاف الموحد لا يزيد عدد نوابه على 17 نائبا ، ثم تقلصت مقاعده بعد خروج إبراهيم الجعفري رئيس الحزب السابق وبعض نوابه منه ، وربما يحاول المالكي تأجيل الانقسامات داخل الائتلاف ملوحا بخطر خارجي يشمل الجميع ، ويستعيد المراقبون بذاكرتهم ما حصل من رسم جديد لخارطة التحالفات الحاكمة في عراق ما بعد الاحتلال ، وخاصة بعد اجتماع دوكان في كانون الأول / ديسمبر 2008 والذي ضم قيادات الحزب الإسلامي والمجلس الإسلامي الأعلى والديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني ، إذ اتفقت الكتل الأربع على استبعاد حزب الدعوة وبالتالي نوري المالكي من رئاسة الحكومة ، وقد تكون مخاوف المالكي من إفلات الفرصة من أصابعه هي التي دفعت به لاستخدام القوة الأمنية الخاصة بمجلس الوزراء وهي خليط من عناصر حزب الدعوة والمنتفعين وعناصر مليشيات تقلبت في ولواءاتها فاستقر بها الحال في قوة مطلقة اليد والصلاحيات والمال مع رئيس الوزراء ، في عمليات لم يحسب نتائجها وتداعياتها على وضع حكومته كما ينبغي ، فاندفع وراء حماقة الاستئثار بالحكم مجازفا باعتماد وسائل ساقطة أخلاقيا وقانونيا .

 

الثالث تواتر الأحاديث بعضها من مصادر أمنية أو سياسية حكومية في بغداد ، وبعضها من مصادر أمريكية ، عن عودة المجاميع الخاصة التي تم سحبها بقرار من مقتدى الصدر بعد  المعارك التي بدأتها حكومة المالكي ضد جيش المهدي ، والتي انطلقت من البصرة ووصلت امتداداتها إلى مدينة الثورة في بغداد ، في ربيع عام 2008 ، والتي أخرجت معظم قوة جيش من الخدمة الفعلية ، ويبدو أن هذه المجاميع قد استكملت تدريباتها المطلوبة لتنفيذ الصفحة اللاحقة من المهمات الموكولة إليها من طرف إيران ، فإيران وباختصار شديد لا تريد رؤية عراق موحد وقوي ، ولإبقائه ضعيفا لا تتورع عن استخدام أدواتها المعروفة أو الخفية في زرع أسباب الفتنة الطائفية .

 

الرابع انتهاء الزواج السياسي المؤقت بين الحكومة وما يسمى بالصحوات ، وتحول العلاقة من رفقة سلاح ، إلى تقابل بالسلاح بين حلفاء المصلحة القاهرة في الأمس إلى أعداء حالة الاسترخاء المفضي إلى استغناء اليوم ، إذ يرى معظم العراقيين وبصرف النظر عن محاولات تلميع صورتها ، أن بروز الصحوات لم يكن وليد روح مواطنة صالحة أو نتاج موقف وطني ، وإنما كان على يد قابلة أمريكية وبفعل ضراوة المال المتدفق على أمراء الحرب الجدد الذين يكنزون الذهب والفضة ويوزعون الفتات على الأتباع ، ولما كان البعض يعتقد أن إثارة الاضطراب سيخدم ولا شك الإحساس بالحاجة إلى الصحوات ، فربما يجد من مصلحته استمرار القتل على الهوية كي يجد لنفسه مساحة يقف فوقها في مشهد الدم في العراق .

 

الخامس التطورات الأمنية التي شهدتها محافظة نينوى بعد تسلم الإدارة الجديدة ، ولغة التصعيد التي انتهجتها الحركة الكردية وما رافق ذلك من تمرد لعدد من رؤساء الوحدات الإدارية في المحافظة المرتبطين بقائمة نينوى المتآخية ، وإعلان نيتهم الانفصال عن المحافظة والانضمام إلى ما يسمى بإقليم كردستان ، وما يمكن أن يرافقه من تصدير للعنف بهدف صرف الأنظار عما يخطط لتمزيق أوصال العراق ، خاصة وأن تقارير غربية كانت قد كشفت مدى تغلغل الموساد في شمال العراق الخاضع لسيطرة الكيان الكردي ، فإذا عرفنا أن للحزبين الكرديين فرق موت خاصة بهما ، واجبها تصفية الخصوم السياسيين الحاليين والمحتملين ، وإذا استذكرنا ما قامت به فرق الموت تلك منذ الاحتلال حتى الآن ، من أجل تسميم العلاقات بين العرب السنة والشيعة ، من أجل إشغالهما بحرب مفتوحة كي يستطيع الحزبان استغلال هذا الظرف في التوسع الجغرافي لكيان يريد استنساخ التجربة الصهيونية بكل مفرداتها وآلياتها وضم مناطق مما يسميه الحزبان بالمناطق المتنازع عليها في ديالى ونينوى والتأميم مما لا صلة له بالمنطقة الكردية ، فإننا لا نستبعد أبدا أن تكون فرق الموت التابعة لحزبي الطالباني والبرزاني ضالعة في التفجيرات التي شهدتها المدن العراقية في الآونة الأخيرة .

 

والسادس نتائج انتخابات مجالس المحافظات التي دفعت إلى الوراء عن الواجهة قوى كانت تعتقد أنها ممسكة بمواقعها إلى الأبد وإذا بها تضطر تحت ضغط حلفاء الأمس لإخلاء الساحة لصالح قوى وظفت ما تحت يديها من أموال وسلطة للتأثير على نتائج تلك الانتخابات ، لاسيما وأن أجهزة الأمن من جيش وشرطة وبكل الأسماء والعناوين المطروحة في الشارع العراقي ، كانت قبل أن ترتدي الزي الرسمي ، تعمل كمليشيات في فيلق بدر أو في جيش المهدي ولها صولات معروفة في شلالات الدم العراقي ، ولذا فإن أي تسخين لأجواء العلاقة فيما بينها سيعني فتح أبواب الصراع الدموي على مصاريعه ، ويكون المواطن العراقي هو ضحية الاقتتال على الأدوار السياسية أو مواقع المسؤولية في بلد فقد أية مسؤولية تحت ظل الاحتلال الأمريكي ، ويبدو أن محاولة بعض الكتل السياسية من داخل ائتلاف أو التي كانت جزء منه قبل خروج التيار الصدري ، خلط الأوراق من أجل رفع وتيرة العنف الطائفي ، تؤكد أن هذه الورقة تستخدم عادة في حالة الرغبة الخفية في إعادة الاصطفافات القديمة التي قادت حرب تصفيات على الهوية عامي 2006 و 2007 بشكل خاص ، ويذهب مراقبون إلى الاعتقاد بأن استهداف مناطق دينية مثل الكاظمية التي تكتسب أهميتها الخاصة عند الشيعة ، أو ذات طابع سكاني شيعي مثل مدينة الثورة في بغداد ، إنما يراد له إيصال رسالة للشيعة بأنهم مستهدفون في حياتهم ومقدساتهم سواء ألقوا السلاح أو احتفظوا به ، من قبل قوى تنتمي إلى قوى طائفية مضادة ، وأن خلاصهم لا يتم إلا في إعادة اللحمة إلى النسيج الاجتماعي الشيعي وحمل السلاح مرة اخرى للدفاع عن النفس .

 

ولأن العمليات التي تتعجل الأجهزة الأمنية الفاشلة ، ومن اجل التغطية على سلسلة إخفاقاتها المتواصلة ، في نسبتها إلى عمليات انتحارية ، تقطع سلسلة المعلومات برحيل الدائرة القريبة من موقع الحدث ، فإن أي حديث عن مشاهد كالتي يطرحها قادة الأجهزة الأمنية هي مجرد صور نسجتها خيالات مريضة أو أربكتها حالة الرعب المترافقة مع دوي تلك الانفجارات ، ومن حق المراقب أن يسأل من هو الذي نفذ الانفجار ومن هو الذي نجا ممن كان قريبا من موقع الحدث وتمكن من سرد الحكاية على صورتها الدقيقة ؟

 

فالاحتمال المرجح أن تكون هذه التفجيرات نتيجة عبوات موقوتة أو يتم التحكم بها عن بعد ، ولكن التركيز على أنها عمليات انتحارية يقصد به إعطائها طابعا مذهبيا يرمي إلى إثارة الفتنة الطائفية ، وفتح أبوا العراق على رياح الحرب الأهلية ، التي أخفقت في اختراق نسيجه الاجتماعي المتماسك والعصي على مثل هذه الفتنة ، وخاصة منذ شباط 2006 وما تبعه ذلك من أحداث دامية .

 

أما السيارات الملغمة والتي تترك عادة لتفجر عن بعد أو بتوقيتات ، فإن أي طرف يمكن أن تتجه إليه أصابع الاتهام في تنفيذها ، وربما تورطت بعض أجهزة الأمن ذات الإنحدار المليشياوي المنقسم على نفسه والمتصارع في حرب تصفية حسابات ، بعضها يرتبط بمحاولة احتكار التمثيل ، ومعظمها يعود لإقامة مراكز نفوذ لا وجود له أو تعزيز نفوذ محدود وخاصة في مجال الصفقات المشبوهة والسمسرة والمقاولات الوهمية وتهريب النفط والاتجار بالمخدرات والتزوير وغير ذلك مما دخل العراق مع الغزو ، وعلى ذلك فإن محاولة أطراف تجد من مصلحتها توصيف تلك العمليات بوصف طائفي ، إنما يؤكد النية المبيتة لتصدير أزمة داخلية لتعم المجتمع العراقي كله .    

 

يمكن أن يكون أي من الأطراف التي مر ذكرها ، وراء تفجيرات بغداد ، ويمكن أن يكون أكثر من طرف وراءها ، وخاصة في بلد تمت استباحته من قبل أجهزة استخبارات دول كثيرة ، منها الكبير الذي يتواجد فيه بحكم وجوده العسكري المباشر كالولايات المتحدة وبريطانيا ، ومنها ما يمتلك أدوات مباشرة وحضورا ميدانيا مثل إيران ، ومنها ما يمتلك حضورا ونفوذا كبيرا جدا مثل إسرائيل عبر بوابات اقتصادية وواجهات علمية وشركات مختلفة النشاط ، أو عبر الحليف الدولي الإستراتيجي الأمريكي ، أو المحلي المتمثل بالحركة الكردية ذات الجذور التاريخية في فتح أبواب العراق أمام إسرائيل .

 

ولأن اللجان التحقيقية التي كانت حكومات الاحتلال تشكلها للنظر في خلفيات مثل هذه   الأحداث ، كانت تتلاشى قبل أن تباشر عملها ، لأنها في واقع الحال ليست لجانا مهنية متخصصة ، وإنما لجان مسيسة بامتياز وتحاول أن توجه بوصلة التحقيق في الاتجاه الذي يخدم خطة سياسية مرسومة سلفا ، فستبقى كل هذه الأحداث في عالم المجهول أو المعلوم الذي يخدم غرضا سياسيا افتقد النزاهة .

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاحد / ٠٧ جمادي الاولى١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٣ / أيــــــار / ٢٠٠٩ م