صدام حسين مناضلا ومفكرا وانسانا

﴿ القسم الاول – الجزء الثاني

 
 

شبكة المنصور

الفنان سيروان انور

4- شراع الثورة الغارق

 

كثيرا هي الثورات التي وقعت في مراحل التاريخ المختلفة وسلكت طريق العنف وتذوقت طعم الدم بيد ان العنف كان موجها ضد اعدائها والدماء التي سالت كانت بمعنى ما من المعاني  ضرورة لشجرة الثورة حتى تمد جذورها وتعلى غصونها وتؤتي ثمارها .

 

غير ان ماحدث في العراق خلال تلك المرحلة الماساوية الحزينه من تاريخه كان اسبه بكابوس مرعب في ليلة مظلمة ان احدا لايمكنه ان يتصور كيف يمكن لانحرافات الفكر وجمةده وانغلاقه على مقولاته الجاهزه ان تدفع بالاف البشر الى اشكال جديدة همجية من المذابح الجماعية والغريب في الامر ان ذلك جرى في ظل الشعارات التي تكثف اجمل وانبل ماتحاول ان تصل اليه البشرية : الاشتراكية ان الانسانية جمعاء وفي مقدمتها الانسانية التقدمية لم تغفر لستالين – رغم كل انجازاته الداخلية وفي الحرب العالمية الثانية – ما ارتكبه من جرائم في حق الديمقراطية والحرية وضد من وصفهم بانهم اعداء التطور الاشتراكي بين جماهير شعبه وكان للتقرير الذي ادلى به خروشوف في جلسة مغلقة من جلسات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي وكشف فيه لاول مرة حجم تلك الجرائم وابعادها وقع الصاعقة على كل من كانت عقولهم وقلوبهم مشدودة الى الفردوس الاشتراكي الذي كان يحرسه جوزيف ستالين نيابة عن (( الاممية )) والانهيارات والانقسامات التي حدثت على اثره في كثير من الاحزاب الشيوعية في اربعة اطراف العالم كانت تعبيرا تراجيديا حادا على المستوى الجماعي والمستوى الفردي عن يقظة الوعي بين احباب الاشتراكية في كل مكان واكتشافهم فجأة انهم انما كانوا يتعبدون لجسد بغير روح وانه ليس بالخبز وحده يحيا الانسان وانما بالحرية والديمقراطية ايضا.

 

ومع ذلك فان ذلك كله جرى في اطارتجربة تاريخية كانت تقتحم عبودية الانسان لاول مرة وعلى الرغم من ان هذا لايبرر ماانطوت عليه من نقيض لما يفترض انه جوهرها فانه على الاقل يمكن ان يقدم كتفسير – وما اكثر ماقدم كتفسير – لما اصاب التجلربة التاريخية من مطاعن في صميمها ولكن ماالذي دفع بالثورة العراقية التحررية بعد شهور قليلة من قيامها بنجاح وبالتضامن مع كل السواعد الوطنية وتلاحم كل الاكتاف الحزبية الى تلك الحماة ؟لماذا اندفعت او دفع بها بهذه السرعة الى مشارف مستنقعات الدم التي اوغلت فيها ؟وكيف تحولت كل اهدافها ومثلها النبيلة في الحرية والوحدة والاشتراكية – وكلها وجوه لمنظور واحد – الى تلك الصراعات الدامية التي تقطر حقد ومرارة بين جنود الخندق الواحد وابناء الحلم الواحد ؟

 

ان ماحدث في مدينة (( الموصل )) في مارس- اذار عام 1959 ثم ماحدث بعد ذلك في مدينة كركوك في يوليو – تموز 1959 لايستطيع ان يصفه الا الراسخون من مؤلفي روايات الرعب او كبار كتاب المآسي التاريخية في التاريخ البشري ولم يكن (( الاقطاع )) او(( الرجعية )) او (( الراسمالية الاحتكارية )) بل ولا حتى شركات النفط (( الاستعمارية )) هم ( ضحايا ) او شهداءحمامات الدم الوطنية على العكس كانت القوى الوطنية والقومية هي التي تسقط بين عقد الحبال المجنونة وترصف الطرقات والشوارع باجسادها المنهكة بينما كان الاقطاع يشد على يدي الرجعية والراسمالية الاحتكارية تشرب انخاب الدم مع الشركات الاستعمارية .

 

لقد حاول الحزب الشيوعي ان يقيم في الموصل استعراضا كبيرا لقوته تحت عنوان ( مهرجان السلم الكبير ) في اليوم السادس من مارس – اذار 1959 وحشد له الافا من المواطنين في قطار مجاني يغادر العاصمة حاملا لافتة كتب عليها ( قطار السلام الى الموصل ) وظل ينشر على صفحات جريدته شعارات تحريضية من قبيل ( هلموا الى الموصل للاشتراك في مهرجان السلم الكبير ) ( الى المدينة الباسلة مدينة الامجاد الثورية ) ( قطار السلام يغادر بغداد مساءا اليوم ) ....وبالطبع لم يكن السلام العالمي في خطر ولا الحرب العالمية على الابواب .

 

كان المهرجان مظهرا من مظاهر الصراع العنيف واللامبرر ضد القوى الوطنية والقومية الاخرى وكان من الطبيعي – وذلك كان هدفه – ان تحدث صدامات بين الشيوعيين والقوى القومية ذات الثقل في المدينة واجتمع ضباط الجيش بعدها وقرروا تكليف امر اللواء الخامس العقيد الركن عبد الوهاب الشواف بالسفر الى بغداد ومقابلة عبد الكريم قاسم لاعطاءه صورة عن الوضع في المدينة حتى يسارع الى اخماد الفتنة قبل ان تستيقظ غير ان قاسم كان في واد اخر وكان يسعده ان تستفيد القوى الوطنية نفسها في الصراع ضد بعضها البعض حتى يزداد استقراره – كما يتوهم – في حكمه فلم يفعل شيئا ولم يقدم حلا للموقف المتوتر سوى بضع كلمات لاتطيب الجراح والموقف يزداد توترا .

 

ومرة اخرى يذهب الشواف الى بغداد ليلتقي بقاسم ولكنه يعود كما عاد في المرة الاولى صفر اليدين من اي قرار يعيد الوضع الى نصابه وان كانت حقيبته قد احتوت صورة ( الزعيم الاوحد ) كتب عليها ( الى اخي النبيل عبد الوهاب الشواف ) ...بينما الموصل تغلي وبغداد نفسها تزلزل فيها الارض زلزالها .وزراء يستقيلون ضباط كبار يحالون على التقاعد ( المقاومة الشعبية) تسلط سيوفها على رقاب الناس .العقيد فاضل عباس المهداوي رئيس قضاة محكمة الشعب يحول القاعة الى صالة مسرحية تؤدي فيها كل ليلة مسرحية الصراع ضد القوميين في العراق وضد دولة الوحدة في الجمهورية العربية المتحدة .

 

ويذهب الشواف مرة ثالثة الى بغداد ويلتقي بقاسم ايضا فاذا بقاسم يتجاهل كل دواعي الموقف المتوتر الذي جاء اليه من اجله ويقول له هامسا انه سيفسي اليه بسر لم يقله لاحد من قبله ويدس في جيب الشواف ( مدالية ) كتب عليها ( عائدون ) الى اين ؟ الى فلسطين بالطبع ولكن متى ياسيادة الزعيم ؟متى ستكون العودة الى فلسطين ؟ قال قاسم سأعلن ذلك في الوقت المناسب .

 

كان هذا المشهد العبثي دليلا في حد ذاته على ان سفينة اليلاد صارت هي نفسها بدون ربان وان العراق يندفع – او تدفعه قوى خفية – نحو المجهول .وفي شوارع الموصل وطرقاتها كانت قوى الوطن مقسومة على نفسها وقسم منها تزين له قرباه من قلب الزعيم – او من خبث الزعيم – انه قادر على ان يسحق الاخرين وان ( يسحل ) بالحبال التي تتلوى في الهواء كل من يقف في طريقه .

 

ماجرى بعد ذلك هو النتائج الطبيعية لمقدمات الماساة ..عقد المهرجان الكبير في هذا المناخ العصيب المتوتر بعد ان ارسل مكتب الزعيم الاوحد برقية الى الشواف تطلب منه بقاء القطعات العسكرية في ثكناتها يومي 5و6 بمناسبة انعقاد المهرجان وفي اليوم السابع ايضا ارسلت برقية اخرى تطلب من امر المنطقة العسكرية استمرار بقاء القطعات العسكرية داخل ثكناتها وبعدما تم المهرجان وانفض حاولت القوى القومية ان تقوم بالمقابل بالتعبير عن وجودها الحقيقي في المدينة واعترض الشيوعيون وطالبوا بنزول القوات العسكرية – التي كانت لديها اوامر بالبقاء في ثكناتها حتى يغقدوا مهرجانهم – كي تفض التجمع القومي ولكن التظاهره القومية سارت في المدينة وازدادت اتساعا وذا بطلقات الرصاص تنهمر عليها ونيران الحرائق تتصاعد من المكتبات والمحلات والمقاهي المملوكة لعناصر تنتسب الى الحركة القومية ومظاهرة مقابلة يقودها الشيوعيون تحاول ان تحاصر المظاهرة الاولى وعند منطقة في المدينة تسمى ( باب البيض ) وهي منطقة يهيمن عليها القوميون بشكل كامل – بدات المظاهرة الشيوعية تفقد اعصابها فاخذ افرادها يهاجمون البيوت ويخرجون ساكنيها منها ويلقون بهم الى الطرقات المجنونة حيث العنف وحده هو السيد المطاع .

 

لم يكن ثمة مفر من ان تبدأ قوات الجيش القيام بواجبها نزلت الى الشوارع واعلنت منع التجول في المدينة بعد ان صارت نهبا لحرائق الدم والنار.

 

في بلاد بلا رأس يديرها قرر الضباط الذين اجتمعوا بالشواف على اثر منع التجول ان يقوموا بانتفاضة مسلحة وان يكونوا الراس الذي يستطيع ان يمسك بدفة البلاد وفي مارس – اذار اعلن الشواف على راس فرقته المسلحة بيان انتتفاضته الاول ...والاخير .

 

لم يكن لهذه الحركة تخطيط دقيق ولم يكن لها تنظيمها الذي يساندها في المواقع العسكرية الاخرى وشاء حظها العاثر الا يكون ظرفها مواتيا فأرسل قاسم طائراته لقمع الحركة في مهدها وجرح الشواف من جراء القصف الجوي وحاول ان يذهب الى المستشفى بنفسه ليداوي جراحه وفي الطريق اطلقت عليه رصاصه وعلقت جثته وسط العراء كشاهد حزين على قمة الماساة التي بلغها الصراع الدامي بين الشيوعيين والقوميين.

 

وبعد ان ضربت حركة الشواف في راسها كان ذلك ايذانا بفتح ابواب السعير على مصراعيها انطلق جنون العنف كعملاق اعمى يضرب في كل اتجاه وصارت شوارع المدينة غابة من الحبال التي تسحل الاجساد البريئة حتى تفارقها الحياة وتحطمت ابواب وتهدمت بيوت واختنق شيوخ ونساء واطفال وصلبت الاجساد على اعمدة الكهرباء ومن بينها اجساد العذارى عاريات بينما شوارع بغداد تتدفق عليها مظاهرات غريبة لم يكفها ماجرى في الموصل فاذا بها تهتف اعدم ..اعدم ..وصحيفة (( اتحاد الشعب )) لسان حال الحزب الشيوعي العراقي تصدر في صفحتها الاولى تقول : ( بعد ان شهدت الموصل امس سحل جثة عبد الوهاب الشواف جاء يوم الثلاثاء ليلا دور الاخرين فبدأت الجماهير الغاضبة منذ المساء بسحل جثثهم في الشوارع ليكونوا عبرة ...) وبعده بقليل نداء من المنظمات النقابية التابعة للحزب الشيوعي يقول ( سنقلب العراق جحيما ان كل مدينة وكل قرية وكل شبر من ارض العراق ستلقن كل من يقدم على التجاوز على جمهوريتنا درسا ابلغ من درس الموصل ...) ثم بعد ذلك بيومين وفي مجال تقويم التجربة ( الثورية) التي خاضها الشيوعيون في الموصل كتبت جريدة اتحاد الشعب تحيي ( المناضل البرزاني )الزعيم الاقطاعي الكردي قائلة ( كان وجود المناضل البرزاني في كردستان اثناء حدوث تمرد العصاة الخونة زمرة الشواف ذا اثر كبير في زيادة اندفاع الاكراد للمساهمة في قمع العصيان وقتل مؤامرة الشواف في مهدها )

 

وبعد مهرجان القتل والسحل في الشوارع والطرقات بدأ مهرجان اخر في ( محكمة المهداوي ) والمأسي من فرط مأساويتها تتحول احيانا الى مهازل مضحكة فلم يحدث قط في اية محكمة في العالم حتى في محاكم مجرمي الحرب العالمية الثانية في نورمبرج ان وقفت الجماهير في قاعة المحكمة لتقول بصراخ عصبي مجنون وهي تلوح في الهواء بحبال في ايديها (( اعدم ...اعدم ..)بينما كان فريق من الضباط القوميين – الذين مهما كان خلافهم مع الحكم القائم فهم وطنيون من قمة راسهم حتى اخمس اقدامهم _ يقفون في قفص الاتهام وينتظرون ان يفرغ رئيس المحكمة من سبابه للقومية والوحدة العربية والجمهورية المتحدة وجمال عبد الناصر حتى يتلو عليهم وسط التكبير والتهليل الحكم بالاعدام .

 

وفي ساحة ( ام الطبول ) لاعاصمة بغداد انتصبت المشانق لتقطف رؤوس رجال من المع واشرف من حملوا السلاح في الجيش العراقي دفاعل عن شرف الوطن وكرامة المواطن .

 

ماحدث في البصرة بعد ذلك حدث نظيره بصورة اعنف واكثر شراسة في كركوك وكلاهما مأساة اخرى تنسج على منوال مأساة الموصل حتى ان عبد الكريم قاسم نفسه في لقائه مع وفد المنظمات المهنية والنقابية التابعة للحزب الشيوعي قال لاعضاءه مستفزا (( ساوزع عليكم الان بعض الصور لتروا الفوضى التي وقعت تجاه اخواننا المواطنين التركمان انظروا هل يبيح احد منكم لنفسه ان يقوم مقام السلطة ويعتدي على ابناء الشعب ويجرهم من بيوتهم وينكل فيهم هذا التنكيل الوحشي الفظيع ؟ ةان الذين يدعون بالحرية والذين يدعون بالديمقراطية لايعتدون اعتداء وحشيا ان حوادث كركوك لطخة سوداء في تاريخنا هل فعل مثل ذلك هولاكو ؟اهذه مدينة القرن العشرين ...))

 

ومع ذلك كانت جريدة اتحاد الشعب تكتب قائلة (( جاء الحزم في كركوك مثالا اخر رائعا على الاسلوب الوحيد المجدي في سحق اعداء الجمهورية )) وفي مكان اخر تقول (( ان قوى الجمهورية اليقظة اظهرت قدرتها الجبارة فأنزلت ضربتها القوية الحازمة في كركوك بنفس الطريقة المحنكة عند سحقها مؤامرة الشواف )).

 

ولابد ام كارل ماركس الذي كان يقول ( ان الانسان هو اثمن راسمال ) قد تململ في قبره في تلك الساعات الحزينة التي ارتكبت فيها كل هذه الخطايا باسمه ولاشك انه اعاد ترديد قوله الشهير الذي كان يتبرأ به من الذين يعلقون على مشجبه جرائمهم (( لو كانت هذه هي الماركسية فكل ما اعرفه انني لست ماركسيا )).

 

5- شرخ في جدار الارهاب

 

من هو الرابح ..من الذي كسب في سباق الدم ؟

لقد اريد للقوميين ان يكونوا الذبيحة التي تقدم لعبد الكريم قاسم على مذبح دكتاتوريته الفردية حتى يصبح الشيوعيون وحدهم سدنة المعبد وكهانه ولكن (( الزعيم الاوحد )) الذي كان يجيد في تلك المرحلة لعبة ( فرق تسد ) لم يفته ان الشيوعيين يتصورون ان بوسعهم ان يجعلوا منه لعبتهم مثلما يتصور هو ان بوسعه ان يجعل منهم لعبته واذا كان قد ساندهم في ضرب البعثيين والاجتهاد في تصفيتهم فانه سيسارع لايقافهم عند حد لايتخطونه حتى يظل محتفظا بميزان القوى المتوازنة بين يديه ولم يستطع الشيوعيون رغم كل ما بذلوه ان يصلوا الى المشاركة الرسمية في السلطة بل ان الساتحة السياسية بدت خالية تماما الا منهم بعد ان اعلن الحزب الوطني الديمقراطي تجميد نشاطه احتجاجا على ممارساتهم الخاطئه ورغم ذلبك كان هذا الفراغ في غير صالحهم لانه يضع على عاتقهم وحدهم كل انهيارات الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد ..

 

تلك كانت لحظة من لحظات الجزر السياسي بالنسبة للقوى القومية ولم تعد لحظة مد بالمعنى الايجابي بالنسبة لهم كان الطاووس المختال يمشي وحيدا مترنحا من فرط خيلائه على قمة السلطة بينما جماهير الشعب ماتزال تعاني على كل المستويات الامها الدائمة التي تزيدها الفوضى الضاربة اطنابها في افاق البلاد حدة وتفاقما .

 

في تلك المرحلة قتل قتل شخص يدعى (( سعدون الناصري )) حيث يلتقي وهو العضو الحديث في حزب البعث العربي الاشتراكي بموجات متلاحقة من رفاقه كانت اللحظة شديدة السواد حتى ان السجن قد اصبح هو المكان الوحيد الامن بالنسبة للمناضلين من وغبة القتل العشوائي او السحل المجاني في الشوارع والطرقات من يتصور ؟ من يتصور ان السجناء يتوسطون لدى شرطة السجن حتى تدخل معهم وراء القضبان مناضلين من رفاقهم يقضون سحابة يومهم امنين ثم ينسحبون عائدين تحت جنح الظلام الى بيوتهم ةحتى تطلع الشمس فيفزعون الى وراء القضبان من جديد ؟

وذات صباح جاء من يخبره بان قضيته قد سحبت من محكمة العرف العسكري الاول الى محكمة الثورة اي محكمة المهداوي فأيقن انهم يريدون اعدامه مع المتهمين معه من اقاربه ورفاقه .

 

وكان رد الفعل في نفس

وكان رد الفعل في نفس صدام هو ان يحاول الخلاص بالقوة من هذا الكمين الذي يدبر له واتفق مع شخص يدعى (( عوني رفاعي )) ان يجلب له – اثناء ذهابهم الى التحقيق – مسدسات يستعينون بها على محاولة تخليص انفسهم قبل ان تبدأ المحاكمة ويجد نفسه مع رفاقه طعاما سائغا لمقصلة المهداوي وشرح لرفيقيه في القضية الخطة التي يدبرها كان احدهما ابن عم امه والثاني ابن عمه شابان مثله اما خاله وعمه اللذان كانا متهمين معهم فلم يفاتحهما غير انه عاد فتريث في تنفيذ الخطة اذ خشىان تنفرد السلطة بخاله وعمه وهما لايستطيعان الهرب وبعد فترة قصيرة وكان المد القومي قد بدأ يشتد مرة اخرى اعيدت اوراق القضية الى العرف العسكري الاول فالغى قراره باستخدام القوة للخلاص من المحاكمة وبقي في السجن ستة اشهر ثم افرجت عنه المحكمة وبراته من التهمة التي الصقت به .

 

عاد الى القرية وكل مساء كان يخرج ليكتب على جدران البيوت ومباني المؤسسات شعارات البعث من (( العوجة )) الى (( تكريت )) كان المارة يقراون كل صباح كلمات جديدة لايعرفون من كتبها وبعض هذه الكلمات ماتزال تحتفظ به جدران تكريت حتى الان .

 

واقبل عليه ذات يوم رفيق حزبي اسمه ( عطا حسين السامرائي ) وهو في قريته (( العوجة )) حيث كان مازال يعيش مع عمه ووالدته وقال له : ان الحزب يريدك في بغداد .

 

في الصباح التالي سلك طريقه على الفور نحو العاصمة واتجه الى بيت مسؤوله الحزبي وكان يومها عبد الخالق السامرائي ولكن مسؤوله لم تكن لديه صورة واضحة عما يريده الحزب منه ولا المهمة التي يريد القاءها على عاتقه .

 

قال له السامرائي :سيمر عليك احمد طه العزوز وكل مااعرفه انه سياخذك الى الجهة الحزبية التي طلبتك وهناك سيقولون لك ماهو الواجب الذي يترتب عليك بعد ساعات طرق بابه ( احمد طه العزوز ) وصحبه الى شخص اخر اسمه (( اياد سعيد ثابت )) نظر اليه اياد بعمق وقال له بصوت هادئ رزين واضح النبرات : (( الواجب )) هو ضرب عبد الكريم قاسم فهل انت مستعد ؟

 

على الفور اجاب صدام حسين بصوت فيه رنين فرح : بالطبع انا مستعد ..لقد اعتبر تكليفه بهذاتالواجب تكريما له فمثل هذه المهمة الكبيرة عندما توكل اليه هو الحزبي الحديث العهد بنضالات الحزب لابد وان تنطوي على تقدير خاص له .

 

لم يكن استخدام السلاح غريبا عليه فلقد امتلك اول مسدس وهو في العاشرة من عمره حين كان هاربا من بيت اسرته في طريقه الى تكريت كي يدخل المدرسة رغما عنهم ولكن استخدام المدفع الرشاش كان يحتاج الى بعض التدريب فأداه بسرعة في منطقة تعرف باسم (( الحصوة )) .

 

كان عبد الكريم قاسم قد اعتاد ان يسلك شارع الرشيد في ذهابه من بيته الى مكتبه في وزارة الدفاع او اثناء عودته من مكتبه الى بيته في ( العلوية ) ولذلك كان لابد ان يكون شارع الرشيد مسرحا للعملية استاجر الحزب شقة في شارع الرشيد اقم فيها صدام حسين ورفاقه الذين يشاركونه تنفيذ الخطة وفي الخارج كان هناك من يراقب الطريق ليعرف الاتجاه الذي سوف يسلكه قاسم فاذا كان قادما من ناحية الباب الشرقي ستكون كلمة السر (( شكري )) واذا كان قادما من ناحية وزارة الدفاع ستكون كلمة السر (( محمود )) والفرق بين الاثنين هو رصيف الشارع الذي سوف تمر بجانبه سيارة (( الزعيم الاوحد )) حتى تكون تحت مرمى البنادق الرشاشة.

 

في السابع من شهر اكتوبر – تشرين الاول عام 1959 كانت مجموعة من الشباب واقفة على رصيف شارع الرشيد الموازي لاتجاه السيارات الذاهبة ناحية الباب الشرقي كانت عيونهم كلها مركزة على السيارات التي تعبر الطريق وايديهم فوق الزناد وكان المرء يستطيع  ان يميز بينهم ذلك الشاب النحيل الذي يضع على اكتافه (( جاكيتة )) طويلة تبدو وكانها ليست له وهي بالفعل لم تكن له كانت جاكيتة (( خاله )) استعارها من دولاب ملابسه دون ان يدري حتى يسمح طولها الظاهر بتغطية الغدارة التي يحملها الى جانبه وكانت مهمة هذا الشاب في تنفيذ الخطة ان يحمي رفاقه الذين سوف يطلقون النار على سيارة (( الزعيم )) في تنفيذ الخطة ان يحمي رفاقه الذين سوف يطلقون النار على سيارة الزعيم وان يغطي انسحابهم بعد تأدية واجبهم ويكون هو اخر من ينسحب .

 

غير انه عندما وجد نفسه وجها لوجه امام الدكتاتور لم يتمالك نفسه نسي التعليمات كلها .راسا اطلق عليه الرصاص وانهمرت النار على السيارة من الغدارات والرشاشات الاخرى .كانوا خمسة ولكن اثنين منهما تعطلت غدارتيهما فبقيت الاخريات يلقين على سيارة الزعيم الاوحد كل عنف الجماهير المكبوت في صدرها .هذه باسم شهداء الموصل وهذه باسم شهداء البصرة وهذه باسم شهداء كركوك وهذه باسم شهداء بغداد وهذه باسم كل الشيوخ والنساء والاطفال الذين ماتوا موتا مجانيا فداء لجنون السلطة .وهذه حتى تختفي افاعي الحبال المسعورة التي تزحف في غابة لايمكن ان يعيش فيها الانسان .اما هذه فمن اجل بعث هذه الامة من اجل حريتها ووحدتها وغدها الافضل من اجل الدفاع عن احلام البسطاء بحياة ليس فيها فقر ولا خوف ولا مذلة .

 

هل مات ؟لقد نفذ الرصاص من غدارات الشباب ولا بد ان يكون قد لقي حتفه انسحبت المجموعة وانسحب من ورائها صدام واذا به يسمع طلقات رصاص تطاردهم كان واحدا من شرطة المرور يحتمي بسيارة ويرمي برصاصه عليهم .التفت اليه وقبل ان يحاول اطلاق الرصاص عليه رماه الشرطي واختفى سريعا خلف السيارة اصابته الطلقة في رجله ولكنه لك يشعر بها لحظتها كان يريد فقط انذاك ان يؤمن انسحاب المجموعة الى سيارة تنتظرهم بالشارع الفرعي الذي يقطع عرضيا شارع الرشيد والكفاح وكان واحد من افراد المجموعة قد اصيب وصدره ينزف ولا يكاد يقوى على السير .عندما وصلوا الىالمكان الذي توجد به السيارة التي يفترض ان تنتظرهم وجدوا السيارة ولم يجدوا السائق ووقفوا ينتظرون لحظات اطول من الدهر وبينهم سمير النجم صدره ينزف .نظر صدام حسين الى كريم الشيخلي وقال له : لن ننتظر هنا اكثر من هذا الوقت لابد ان ناخذ سارة بالقوة من هذه السيارات الموجودة في الطريق وبالفعل سحب غدارته على احد السائقين وتوقف الرجل مذعورا وقبل ان يصعدوا الى سيارته وصل علي حسون قائد سيارتهم وضعوا سمير النجم داخل السيارة بسرعة وصعد كريم الشيخلي الى المقعد الامامي واتخذ صدام مكانه خلف السائق ..

 

لم يكن يعرف الى اين سوف يذهبون كان على حسون يعرف مكان (الوكر) الذي سوف يختبئون فيه حسب تعليمات القيادة غير ان سمير قال وهو في قمة الالم : انني اموت يجب ان تحملوني الى المستشفى بدا ان رفاقه يميلون الى الخضوع لرايه والسائق نفسه اخذ ينحرف بسيارته عن الطريق الذي كان يسير فيه وكانه وافق هو ايضا على الاتجاه الى المستشفى فجأة تنبه صدام الى وجهتهم قال :الى اين ؟ قال علي حسون :الى المستشفى .لكزه صدام بيده من خلف مقعده وقال له :سر في طريقك الى الوكر والا فاني سوف اطلق عليه النار من الخلف .

 

كان الذهاب الى المستشفى هو الجنون بعينه اذ سرعان ما سوف ينكشف امرهم وتكون الكارثة ليس بالنسبة لهم كافراد فحسب وانما بالنسبة للتنظيم الحزبي كله واذا كان الموت ينتظرهم او ينتظر بعضهم في الوكر فان الموت سوف يطبق عليهم بالقطع اذا حاولوا الذهاب الى المستشفى ولذلك قرر صدام ان يتجهوا الى الوكر مباشرة وان يتجاوز الام رفيقه النازف حتى لاينزف الحزب كله.

 

اما بيت مسرور يحمل على بابه رقم 721 في منطقة الكرادة الشرقية ( حي من احياء بغداد ) وقفت السيارة وهبط منها ركابها دخلوا الى البيت الذي كان يحوي على طابقين :اربع غرف في الطابق الارضي وغرفة واحدة في الطابق العلوي والى يسارالبيت حيث مدخل الحديقة كان ثمة مستودع ارضي يختبئ فيه السلاح : مجموعة من الرشاشات طراز تومسون و ستن وسرلنك .

 

عندما دخلوا الردهة وجدوا ( خالد على صالح ) وكان عضو قيادة ايامها في حزب البعث العربي الاشتراكي وبعد برهة قصيرة لحق بهم اثنان من الذين اشتركوا معهم في العملية ولم يركبا معهم في السيارة التي اقلتهم الى هذا المكان : حاتم حمدان العزاوي واحمد طه العزوز .

 

كانت حالة سمير النجم تتدهور الدم ينزف من صدره والطبيب الذي كان من المفترض ان يلحق بهم لم يات بعد وهو لن ياتي ابدا وكان لابد من مواجهة الوضع كما هو بشجاعة بل بقسوة تتطلب في بعض اللحظات مثلما هي هذه اللحظة قوة تفوق صخر الجرانيت في صلابته .

 

هذا البيت المعزول في شارع جانبي من جوانب هذا الحي الهادئ يضم الان بداخله خمسة شبان حاولوا مواجهة الموت عينه على قارعة الطريق ولكنه افلت منهم وها هو الان يطاردهم في كل شبر من المدينة المذهولة ويسن كل نخالبه الحادة لينشبها في اجسادهم ما عساهم يفعلون الان ؟

 

ان عمنليتهم لم تنجح لم تصب رصاصة واحدة من كل رصاصاتهم اصابة قاتلة جسد الدكتاتور الاوحد لم تتمزق ظلمات الليل ولم تبد بعد تباشير الصباح بل والفجر مازال بعيدا خلف الافق ومحطات الاذاعة تعلن نجاة الزعيم من محاولة اغتيال وسط جو هستيري مشحون بالقلق الحاكم العسكري العام يقرر منع التجول في المدينة بشكل مطلق حتى اشعار اخر عيون الشرطة العلنية والسرية تثقب كل جدار في الطرقات والشوارع والازقة بحثا عمن قاموا ( بالمؤامرة الكبرى ) لاغتيال ( الزعيم المفدى ) وغدا سوف تصدر كل صحف السلطة قائلة ( ان الرصاصات الآثمة التي اطلقها امس الخونة المتآمرون من عملاء الاستعمار والطامعون على ابن الشعب البار الزعيم عبد الكريم قاسم لم تكن الا نذيرا بالمؤامرة المبيتة ضد جمهوريتنا ) وستضيف الى ذلك توصياتها يجب غلق الحدود بوجه المتآمرين الهاربين .الجبهة القومية زمرة من الخونة تعمل في خدمة الاستعمنار والطامعين قوميون واعداء .جريمة حزب البعث ومخططه التامري .البعث وحكام القاهرة ادوات تنفيذ المؤامرة ...الخ ...الخ ..

 

وهي بالطبع سوف تتجاهل الاف الجرائم التي ارتكبت بحق جماهير هذا الشعب من ( ابنه البار ) والملتفين حوله يزكون فيه جنون السلطة الفردية المطلقة مشانق الموصل ضحايا البصره شهداء كركوك وبغداد الاف المعذبين في السجون والمعتقلات بشاعات القتل المجاني بالشبهات في الشوارع والطرقات من يذكر الان  نيران الجحيم التي اصطلى بها شعب بأسره ؟

 

وهؤلاء الشبان الذين يناهزون الورد في عمره هل كانوا حقا مغامرين ومتآمرين يسلكون طريق الارهاب الفردي ؟ ان احدا منهم لم يكن يفكر وما كان بوسعه ان يتصور لحظتها انه ينتزع من براثن الدكتاتور السلطة لنفسه كانوا يستشعرون فداحة الظلم الذي يلحق بهم وكانوا يتصورون فحسب انهم يصنعون فجرا اخر لوطنهم وقبل ذلك وبعده كانوا رفاقا منضبطين ملتزمين في حزب اصدرت لهم قيادته العليا اوامرها وتصوروا الامر اكبر من حقيقته ..

 

وعندما تنعقد محكمة المهداوي ويرتفع الستار عن ازلام السلطة وهو يتبارون في تدبيج قصائد التدله بدكتاتورها الاوحد ورجم معارضيه بقوارص السباب لن يتوانى صوت البعث عن تحمل مسؤولية العملية بغض النظر عن وجهات النظر التي تدعو الى ماهو افضل منها (( ان النضال الشعبي هو اسلوب العمل الحزبي وقد يصل النضال الشعبي الى اعمال عنف ثورية قد ترافقها حوادث قتل وهذا امر طبيعي ولكن القتل المجرد كعملية اغتيال مثل الاغتيال السياسي اسلوب يتنافى مع عقيدة الحزب ويهدده بالانحراف ...

 

( ان الحزب حينما يخطئ محاولة الاغتيال فانه يعلن في نفس الوقت تقديره لبطولة الرفاق الذين ساهموا في تنفيذها بجرأة لاسيما وان جرأتهم خلال المحاكمة لم تمنع ظهور موقفهم المتمسك بعقيدة الحزب والاخلاص لاهدافه ).

 

ومع ذلك وبصرف النظر عن تقويم تلك العملية من الناحية السياسية العامة او من الزاوية الايديولوجية الخاصة لحزب البعث فان الامر الذي لايمكن انكاره ان المحاولة التي جرت ببسالة على ايدي هؤلاء الشبان الصغار: قد هزت بعمق اركان النظام الدكتاتوري الذي كان متسلطا على رقاب الشعب وكانت بمثابة المسمار الاول في نعشه لقد اذكت من جديد الامال المحيطة في امكانية  الخلاص منه ورفعت الغطاء من فوق القمقم الذي احتبس بداخله المارد الجماهيري المغلل انها كانت في اضعف الايمان شرخا هائلا في جدار الخوف كان جديرا بان يسمح لاشراقات النور الاتي بان تتسرب من خلاله ..

 

6- رحلة الفارس الجريح

 

لم يستطع ان ينام حتى الصباح قبل ساعة من طلوع الفجر نهض صدام حسين من فراشه فجأة وهو يحس بجمرة موقدة تتلظى في ساقه الم حاد مرعب لم يستشعر مثله قط من قبل ادرك ان الرصاصة داخل ساقه هي التي تتسبب في كل ما يعانيه الان اين الطبيب ؟ما من طبيب يمكن ان ياتي الى هنا او ان تذهب اليه ليس هناك معنى للانتظار يجب ان تكون طبيب نفسك قرر على الفور بارادته الفولاذية ان يجري العملية بنفسه.

 

بهت الرفاق الذين تحلقوا حوله بعد ان تحسسوا انينه المكتوم كيف يمكن له ان يستخرج الرصاصة من جسده بنفسه ؟ قال لهم بصوت خفيض حبسه الالم : انا انتظر الطبيب الذي ياتي ولا ياتي ونظر لاحمد طه العزوز وقال له : هل لديك الشجاعة لتقوم بالعملية ام اقوم بها انا ؟

 

من الافضل ان امد ساقي هكذا وتجريها انت .اما ان لم تستطع فسأفعلها انا ..قال احمد : وكيف يمكنني ان اجريها ؟باي أداة؟ نظر اليه صدام بثبات وقال كانه يتحدث عن شخص اخر : احضر شفرة حلاقة جديدة ومقص .ابدأ بقص اللحم الذي يغطي الطلقة على شكل صليب + وبعد القص عقم المقص وادخله داخل الجرح واخرج الطلقة هذا كل شئ ..

 

عندما انتى احمد العزوز من اجراء العملية كانت يداه ترتجفان وعيناه لاتقويان على النظر الى وجه صدام صب كمية من اليود فوق الجرح ووضع بداخله كمية من القطن ولفه باطباق كثيفة من الشاش ثم تنفس الصعداء وتوقف وكان صدام حسين قد غلبه الاغماء من شدة الالم ومرت لحظات قصيرة ولكنها ثقيلة وبطيئة مثل دهر وقد تركزت على وجهه عيون الرفاق ولكنه مالبث ان فتح عينيه ونظر اليهم وقال : صار كل شئ طبيعيا الان .

 

بعد برهة تحامل على نفسه ونهض من مقعده مقال لهم :يارفاق انا لن ابقى في الوكر بعد الان واقترح عليهم ان يتركوا الوكر جميعا ماعدا سمير النجم الذي لايستطيع بصدره النازف ان يغادره على ان يبقى شخص واحد يقوم بدور( الداوريه ) معه وليس بالضرورة يظل معه داخل الوكر وانما من الممكن ان يتابعه بشكل غير مباشر كأن يجلس امام الدار ويتخفى في شخصية بائع .متجول وبين الحين والاخر يمر عليه في الداخل ليلبي طلباته واحتياجاته وفي كل الاحوال لايمكن الاستمرار في هذا الوكر فأغلب الظن انه سيكون عرضة لهجمات الشرطة ومن الخير بل من الواجب الا يقعوا فريسة سهلة في ايدي السلطة حيث ينتظرهم واجب اعادة الكرة كما كانوا يفكرون .

 

لم ينتظر حتى يحسموا تردداتهم قال كلمته ومشى خرج الى الطريق وسار باتزان محاولا ان يمتص الالم الحاد الذي يمزق ساقه بين اسنانه متجها نحو بيت خاله الحاج خير الله طلفاح كانت هذه هي المرة الاولى التي ينام فيها خارج دارهم وكان من الطبيعي ان تستقبله العيون بالاسئلة المحرجة :اين كنت ؟لماذا تاخرت ؟ اين نمت البارحة ؟ قال في هدوء : صار منع التجول ولم اتمكن من الوصول الى البيت فنمت في احد الفنادق ولكنهم لاحظوا انه يعرج على ساقه قليلا .فقال على الفور : لما صار الركض في الشوارع سقطت على الارض وانا اركض حتى اصل الى البيت في الوقت المناسب ومع ذلك لم اتمكن وهي الان تؤلمني قليلا ...وتركهم متجنبأ المزيد من الاسئلة وصعد الى غرفته في الطابق الثاني حتى ينام .

 

فجأة دخل خله عبد اللطيف غرفته وهو يحاول الاستلقاء على الفراش وقال له :

- هه . الم يمت ؟

- من هو ؟

- عبد الكريم قاسم

عقدت الدهشة لسانه ولكنه تمالك نفسه وقال في لا مبالاة مصطنعة وكأن الامر لايعنيه :

- وما ادراني انا به ؟

- صدام اتنكر علي انا ؟ لقد رايتك بعيني من شرفة حازم البكري بشارع الرشيد وانت ترتدي جاكتتي وتطلق النار على عبد الكريم قاسم ..رئيس الوزراء ..وهو يعبر الطريق كل هذا وتنكر ؟

 

قال له صدام : مادمت قد رايتني فارجوا ان تعاونني انا اريد بعض حقن – الانتي بيوتيك – حتى يشفى جرحي ساقول للمضمد ان لدي التهابا في اللوزتين وبالفعل بدأ يتعاطى الحقن حتى يكف الجرح عن ايلامه

 

وكان عليه ان يعود الى مدرسته حتى لا يلفت الانتباه اليه بتغيبه على الاقل يذهب في البداية ثم يطلب اجازة من الدراسة بحجة المرض كان حينذاك في الصف النهائي بالمدرسة الثانوية ولم يكن بوسعه الاستمرار العادي في الدراسة حتى لايتعرض لاسئلة الطلاب الاشد احراجا حول الجرح الذي يتلظى في ساقه.

عندما كان خارجا من باب المدرسة حاملا كتبه وجد امامه فجأة عبد الخالق .قال له على الفور :

 

- قل لي هل تعرف اياد سعيد ثابت ؟

- لا لا اعرفه .

- هل تعرف خالد علي صالح ؟

- لا لا اعرفه .

- هل تعرف سمير النجم ؟

- لا لا اعرفه

 

- طيب انا لااريد ان اسالك الان عمن تعرف او لاتعرف .المهم انني اريد ان اقول لك ان هؤلاء جميعا كانوا في احد الاوكار في الكرادة الشرقية .وقد هاجم البوليس الوكر وقبض عليهم كلهم ...فاذا كانت لديك علاقة باي منهم انتبه لنفسك ..

 

هكذا اذن .بعد خروجه من الوكر بساعات وقع الرفاق كما توقع لهم في ايدي السلطة ماذا عليه ان يفعل الان ؟ حث خطاه مسرعا نحو البيت دخل الى غرفته مباشرة وسحب البوم صور كان يضم صورا عديدة له مع  بعض رفاقه ثم دخل الى غرفتة عدنان خير الله ابن خاله وسحب البوم صوره ايضا وكان يضم كذلك مجموعة من الصور المشتركة واحرق الصور جميعا ثم قرر ان يغادر البيت في نفس اللحظة .وبعد ان غادر البيت بربع ساعة هاجمت البيت مفرزة الشرطة .

مضى صوب جسر الشهداء ليحوم حول الفندق الصغير الذي كان يقيم به عبد الخالق السامرائي صلته بالحزب حتى يستفسر منه عن امكانيته في معاونته على الهروب في الطريق صادفه زميل كان متعلقا بسلم حافلة نقل الركاب قفز منه وجاء اليه يحييه بصوت عال حيث يتطلب الامر اخفاض الصوت حتى يكاد ان لايسمع وهو لا يعرف شيئا عما يجري في هذه اللحظة وفي تلك اللحظة واذا بشابان قد خفت شفاهما من اللهاث وهما يتمتمان بكلمات استطاع ان يفهم منها ان الشرطة قد داهمت بيت خاله .لم يعد هناك مايمكن اخفاءه بعد ان اقتحمت الشرطة بيته قال لعبد الخالق الذي التقاه في الفندق فكرة عامة عن الاحداث وطلب اليه ان يتوجه الى بيت قريب من بيت خاله ومن هناك يرسل سيده الى البيت تجلب له بطكاقة هويته لان منع التجول المؤقت الذي كان مازال ساريا ونقاط التفتيش المنتشرة في الطرقات يمكن ان تقوده الى مخافر الشرطة بالصدفة المطلقة وقال له بحزم بعد ان حسب مسافة الطريق والوقت الذي يمكن ان تستغرقه:

 

سانتظرك في هذا المقهى اربعين دقيقة فقط اذا لم تحضر قبل ان تنتهي لن تجدني ..كانت اطول الدقائق في عمره فالوقت نهار والعيون مفتوحة وكل الاحتمالات قائمة ومضت الدقائق الاربعون ولم ياتي فخرج من المقهى على الفور ومضى في طريقه . لم يكن يعرف الى اين يتوجه فجأة تذكر ان لديه قريبا في احد اطراف بغداد كان يذهب اليه مع خاله كي يصطاد الطيور في الحقول المجاورة حث خطاه في اتجاهه دون ان يتردد طرق الباب ففتحت له زوجته ولم يكن قريبه بالمنزل فطاب اليها  ان ينتظره وعندما جاء الرجل دهش للحظة لمجيئه ولكنه رحب به فبادره صدام قائلا :والله ياعمي انت تعرف ان الظزروف معقدة الان وقد يختلط فيها الحابل بالنابل في كيل التهم وتوجيه الضربات مما يتطلب ان ابتعد عن وجه مركز السلطة في بغداد واود ان اصل الى تكريت دون ان يعرف احد فهل يمكنني ان انام الليلة عندك ؟

 

في الصباح طلب الى الرجل ان يقدم له اعتق مالديه من ملابس نزع سترته وتركها وارتدى دشداشة بالية ووضع على راسه عقالا ويشماغا لا يقلان عنها بلى وعلى اكتافه وضع عباءة سوداء مليئة بالثقوب ولطخ حذاءه بالطين حتى يبدو عتيقا وودع الرجل ...ومضى بعد ان استعار منه سكينا صغيرة قال له انها يمكن ان تفيده في الطريق .

 

استوقف سيارة اجرة وطلب الى السائق ان يقوده الى منطقة الصليخ ( احدى المناطق القائمة فيؤ اطراف بغداد ) حيث يمكن ان يسلك طريقه بعد الوصول اليها نحو تكريت نظر السائق الى صورته المنعكسة في المرآة امامه واستلفت منظره انتباهه قال له : ماذا تفعل في بغداد ؟ اجابه صدام بلهجة الاعراب الريفيين :عمي انا اشتغل عامل هنا ..تعجب الرجل اكثر وقال له : انت تشتغل عاملا وتركب تاكسيا ؟قال له صدام :عندك حق ولكني اقول لك ان لدي اقرباء في منطقة الصليخ ..وانا لا اعرف مكانها جيدا ولذلك قررت ان اركب سيارة اجرة ..لم يكن امامي سوى هذه الطريقة قال السائق : يابني ساوصلك الى محطة الاوتوبيس الذي يمكن ان تركبه حتى الصليخ هذا اوفر لك ..اعطاه اجره وصعد الى الاوتوبيس الذي قاده الى منطقة الصليخ وهناك هبط عند اطراف المدينة وبدأ يتطلع بعينيه من حواليه حتى يعرف بداية الطريق الذي سوف يسلكه ماشيا على قدميه نحو قريته في تكريت .

 

كان الوقت شتاء والحقول الواسعة على جانب الطريق تلوح له خضراء داكنة في ساعة الغروب والليل البارد يوشك ان يهبط عند الافق وساقه المجروحة تنضح بالالم العنيف الذي يحول بينه وبين متابعة السير في تلك الساعة القلقة وفجأة سمع صهيل فرس على مسافة قريبة منه في الحقل المجاور مضى نحوها ولم يكن بجانبها احد ظل واقفا حتى ياتي صاحبها بعد برهة جاء الفلاح صاحب الفرس فبادره صدام قائلا :عمي اريد ان اشتري هذا الفرس هل تبيعها ؟ قال الرجل بعد لحظة :نعم ابيعها .طلب سبعة عشر دينارا ..اعطاها له وامتطى الفرس وسلك  طريقه بمحاذاة النهر بعد ان تاكد ان هذا الطريق  سوف يقوده مباشرة الى تكريت .

 

اشترى لنفسه خبزا وتمرا واشترى لفرسه شعيرا ..متاع الطريق .كان يسير بفرسه من مطلع الشمس حتى الغروب فاذا ماهبط الليل كان يتوقف  فالسير في الليل كان يمكن ان يعرضه لنقاط التفتيش على طول الطريق .وهو لايحمل معه هوية وفي الليلة الاولى طرق باب واحد من العربان وقال له :يااخي انا ضيفك هذه الليلة ونام نوما عميقا لم ينمه منذ ايام وفي الصباح الباكر سحب فرسه وواصل السير وفي الليلة الثانية لم يصادف بيوت الاعراب في طريقه فقرر ان ينام على جانب الطريق وضع رسن الفرس بيده واستلقى على الارض منهكا حتى اشرقت الشمس فنهض من مرقده وتابع مسيرته وفي الليلة الثالثة كان حظه اسعد فلقد كان ضيفا عند اعرابي يسكن بيتا من بيوت الشعر على مشارف ( سامراء ) وكان لدى الاعرابي عرس في تلك الليلة وذبيحة فتعشى عشاء جيدا من لحم الاغنام بعد ان عصر معدته اكل الخبز الجاف والتمر وعند طلوع الفجر ضم عباءته المثقوبة حول جسده وارخى الزمام لفرسه واخترق اطرافه سامراء وتركها قبل ان ترتفع الشمس في كبد السماء وفي الطريق وجد فلاحين يبيعون ( بطيخا ) فاشترى عددا منها تعاونه وتعاون فرسه على العطش بالطريق .

 

عندما اوشكت الشمس على المغيب كان قد وصل الى وادي جنوب (الدور) في منطقة تتوسط مابين سامراء والدور وكان التعب قد اخذ منه كل مأخذ والبرد يتسلل الى عظامه ويلسع باسواطه جسده وفجأة وجد سيارتين توجهان مصابيحهما الكشافة الى عينيه ولم يكن بوسعه ان يتوقف فظل يغذ السير في طريقه وكانه لم يلتفت اليهما واذا به يسمع من يصيح به : قف والا رميتك ..حينذاك ادرك انها سيارات حكومية ولا بد له من التوقف ومع ذلك حاول ان يوجه فرسه نحو المناطق الوعرة المجاورة في التلال المحيطة بالمكان ولكن فرسه المتعبة لم تستجب له وما هي الا لحظات حتى كانت السيارتان تحيطان به من كلا الاتجاهين والرشاشات مصوبة الى وجهه.

 

رغم كل شئ قال في نفسه ربما لا يقصدونني وعلي ان اتماسك حتى النهاية ...سحب عباءته على ساقه حتى تخفي الشاش الذي يربط جرحه ونظر اليهم في هدوء اعصاب واتزان كامل دون ان يتكلم صرخ به الضابط من السيارة :ياولد لماذا هربت ؟

 

بذكائه الحاد ادرك على الفور انه ليس مقصودا واجابه بسرعة :انتم لماذا ترمونني ؟قال الضابط :نحن هنا كمين للمهربين وانت ارسلوك حتى تراقب لهم الطريق ....هكذا اذن مااعجب المفارقة قال له بثبات اكثر :ليس لك الحق في ان ترميني .انا لست مجرما وهذا الشك الذي انتابك لامحل له ..وافضل طريقة بالنسبة لك حتى تتاكد من شخصيتي خذني الى مركز الشرطة حتى الصباح وحينذاك سوف ادلك على اهلي اين يسكنون ..وانا ماذا افعل ..

 

قال له الضابط :اذن اعطني هويتك ..بنفس الهدوء والثبات قال له بلهجة مشوبة بالسخرية :يابا نحن هنا العربان لانحمل هوية .انا لست ذاهبا الى المدينة حتى احمل هوية ..انا في هذه المنطقة ماذا افعل بالهوية ؟ اتراحت قسمات الضابط وقال له :اجل واضح الامر الان ..غير انه واصل اداء الدور الذي يقوم به ..وقال للضابط في شئ من الاستخفاف :

 

ماهو الواضح يابا ؟

خذوني الى مركز الشرطة وانتم تعرفون ولكن احد الجنود اقترب منه وقال له : يابني امضي في طريقك بسلام ولكن اقسم لنا انك اذا وجدت احدا بالطريق فلن تقول له انك شاهدت كمينا هنا ..

سحب فرسه وركبها وانطلقت ركض بها دون ان يفكر بالالتفات الى الوراء متوجها صوب مدينة صغيرة اسمها ( الدور ) تقع على ضفة النهر المقابلة لمنطقة يقال لها (( العوينات )) التي تبعد عن قرية العوجة – حيث يعيش اهله – بضع كيلومترات قليلة .

 

كانت الساعة الحادية عشر قبل منتصف الليل وهو يجتاز شوارع المدينة التي لم يكن قد قدم اليها منذ اربع سنوات واذا به يجد نفسه وجها لوجه امام الشرطة الواقفين امام باب المخفر صعد الدم الى راسه وانتابه القلق للحظة لم يكن بوسعه – وقد رأوه – ان يستدير عائدا من حيث جاء : فما عساه يفعل الان ؟ قرر مواجهة الموقف على طريقته الدائمة :الاقتحام لكز فرسه وسار حتى حاذى الحراس الواقفين والقى عليهم بالسلام فاذا بهم من فرط دهشته يردونالتحية باحسن منها ..اخترق الطريق ووصل الى قرب حافة النهر حيث وجد مقهى ماتزال به بقية من رواده ترجل من على فرسه وسال احد الرواد :

 

ياب اين العّبارة ؟( العبارة هي زورق كبير ينقل العابرين من ضفة النهر التي تقع عليها الدور الى الضفة الاخرى حيث توجد منطقة العوينات ) .واشار اليه الرجل بالتوجه الى احد الرواد الاخرين الذين كان يملك تلك العبارة فقال له : اريد ان اعبر انا والفرس ياعمي وهذا نصف دينار ( كان ثمن العبور خمسين فلسا فقط ) رفع الرجل عينيه الى وجهه في تثاقل وقال له :لااستطيع العبور ممنوع بالليل الم تسمع عن منع التجول ؟... ياعمي هذا دينار ..لا ..ياعمي هذا دينار ونصف ؟... لا ايضا تصلب الرجل في موقفه الرافض وقال الحمد لله .

 

لم يرد ان يعطيه اكثر حتى لايشك به فمضى الى ضفة النهر وحده ووقف لحظة يفكر ان العبارة لايستطيع ان يحركها الا ثلاثة رجال اقوياء فماذا يفعل ؟ لابد ان يكون قبل مطلع الفجر في منطقة اهله حتى يتدبر امر خروجة من الحدود قبل ان يستفحل الخطر ويصبح عصيا عليه الهروب نظر الى فرسه مرة اخرى ثم نظر الى الضفة الاخرى البعيدة للنهر وقد لفها الظلام الا من بضع التماعات خفيفة تنعكس عليها من النجوم لابد وان يكون هناك بعد ساعات قليلة مهما كلف الامر.القى عنان الفرس من يده وقبلها في جبينها وتركها لتمضي مع قدرها وقرر ان يواجه هو ايضا قدره : ان يبلغ الضفة الاخرى سابحا عرض النهر في هذه الساعة الباردة المتأخرة من الليل وجرحه مازال يفرز الما حادا في ساقه لايطيقه انسان عادي .

 

مامن خيار اخر خلع ملابسه كلها ولملمها في عباءته وكورها فوق راسه وربطها بحبل حول رقبته .اما السكين الصغيرة فقد وضعها بين انانه ثم القى بجسده في النهر .الله وحده يعلم من منحه تلك القوة التي تفوق قوة البشر .في تلك الساعات العصيبة التي كان يصارع فيها الموج بجرحه النازف وكومة الملابس فوق راسه مثقلة بالماء تدفع بجسده المنهك اكثر من مرة نحو الاعماق وهو يقاوم ويعاند الموج يتحداه ويتشبث بارادة الحياة كم بقي من عرض النهر؟ هذا الظلام كله يطبق ثقيلا ضاغطا على النفس والجسد قواه تخور شيئا فشيئا وجرحه يعاديه ويسحب ساقه الى الخلف ولكنه يقاوم السقوط ويرفض الموت .ويطفو من جديد خفيفا فوق السطح وهذا الحبل الذي يلتف حول عنقه ويربط كومة الملابس الممزقة التي سترت جسده وسترت هويته على طول الطريق لماذا لايقطعه الان ويستريح من ثقله ؟ان عرض النهر لاينتهي .لا ليس هذا دجلة الذي يعرفه تماما .انه صحراء من الثلج ومع ذلك لابد من الصمود ومواجهة كل قوى الموت .

 

وهم بان يستل السكين من بين اسنانه ويقطع الحبل الملتف حول رقبته لولا انه احس بقدمه تمس شيئا صلبا فأدرك ان عمق النهر بدأ يتضاءل معلنا هزيمته امام ارادة خارقة تتشبث بالحياة والشاطئ الذي كان بعيدا .بعد الحياة عن الموت .وصار على مرمى حجر رفع راسه فوق الماء وملأ رئتيه المجهدتين بهواء الليل البارد .وطرقت اذنيه اصوات الكلاب النابحة في الحقول المجاورة ولم تمض سوى لحظة حتى كان جسده العاري يرتعش من شدة البرد وهو يسير فوق اليابسة وكأنه طائرة صغيرة تهبط الى الارض وسط العواصف والانواء .

 

القى بنفسه فوق وصل الشاطئ كي يلتقط انفاسه ثم تذكر انه لايمكن ان يسير على الشاطئ عاريا فارتدى ملابسه وهي مبللة ومضى خطوات الى الامام فوجد بيتا طينيا صغيرا امامه .طرق الباب ثم دفعه دون ان يؤذن له كعادة اهل الريف في هذه المناطق .اطلت عليه امرأة في نحو الخمسين من عمرها قصيرة القامة ترتدي لباسا اسود وعلى وجهها وشم اخضر وجدت امامها شابا مبلل الملابس يهتز جسده اهتزازات واضحة وتطقطق اسنانه بصوت مسموع في هذه الساعة المتاخرة من الليل .برد الفعل المباشر راحت المراة تصرخ ..حرامي حرامي ..اذبحوه واسرع يلحق بها من الداخل رجل يحمل في يده عصا غليضة رفعها في وجهه ويريد ان يهوي بها عليه .على الفور تمالك صدام نفسه نسي البرد والجوع وخوار الجسد وصاح في الرجل :ماهي القصة ؟انتم  من انتم ؟ الستم عربا ؟ اتشاهدون واحدا على هذا الحال وتصرخون في وجهه : حرامي حرامي .واستدار وهم بان يخرج ولكن الرجل وقد استفاق الى طبيعة الموقف رفض خروجه واصر على ان يبقيه في الدار .

 

اشعلوا النيران وخلع ملابسه الخارجية وجففها وظهرت ملابسه الداخلية نظيفة لا تتلائم مع قدم وقذارة ملابسه الخارجية وتنبهت المرأة الى هذا التعارض الغريب وراحت تنظر اليه بتشكك ولكنها بمكر فطري قالت له معلقة على مظهره :

(( كله على الله ياولدي ياما يعلي وياما وطي )) اجابها في اقتضاب (( كله على الله يا خالة .

 

عاد الدم الى عروقه واستعاد نفسه من جديد وهم بأن يرتدي ملابسه المجففة ليخرج وتنبه الى ان الشاش الذي كان يربط جرحه قد سقط منه دون ان يدري في الطريق .واذ رأى الرجل الجرح في ساقه نظر الى المرأة ونظرت اليه وكانهما قد فهما امرا قالا له : الى اين تمضي ؟ قال الى اهلي ..قالا له ::الحق  انك لم تجرح وانت تقفز من الساقية كما قلت لنا منذ قليل .انت قد عبرت النهر سباحة ولابد ان وراءك بلوى كبيرة ونحن لن نتركك حتى الصباح كي نعرف حقيقتك ....اتراه اذن قد خاض كل هذا النضال المضني كي تسلمه العجوز ورجلها فريسة سهلة للشرطة ؟ كتم حنقه وقال لهما في هدوء : نعم صحيح ..لنفترض ان هذا الذي تقولانه صحيح وانني قد ارتكبت جرائم كبيرة مع عشيرة من العشائر وانهم يطاردونني ويمكن ان يظفروا بي عندما يطلع النهار عندكم هنا ..ويقتلونني ..فهل تتحملون انتم وزر هذه النتيجة وانتم لا علاقة لكم بالامر ؟ قالا في صوت واحد :يابني :لا والله .اذهب الان في امان الله .

 

خرج في الهزيع الاخير من الليل وسار وحده على الطريق متخذا وجهته مدرسة العوينات الابتدائية التي سمع اثناء اقامته في بغداد ان اخاه (( ادهام )) يعمل حارسا بها لم يكن يعرف الطريق اليها ولكن كان عليه ان يسير حتى يجدها وفجأة وجد امام عينيه لافتة المدرسة طرق الباب واذا بصوت ادهام يعلو من الداخل من بالباب ؟قال صدام :انا .انا صدام ..وعرف ادهام صوته من خلف الباب .

 

فتح الباب ورأه امامه جذبه الى صدره وراح يقبله ويبكي تمالك صدام نفسه وقال له انظر ليس هذا وقت بكاء هيا بنا نذهب الى دارنا .انا اسير من هذه الطريق وانت تمضي في الطريق الاخرى الموازية وتستطلع الجو هناك انت تعرف كل شئ فمن المحتمل ان تكون الشرطة قد داهمت البيت سأنتظرك في الادغال المجاورة للبيت فأذا كانت الشرطة تطوقه سأذهب واختفي في مكان اخر .

 

لم يكن ادهام يعرف ماجرى بدقة كل ماكان يعلمه ان محاولة جرت لاغتيال عبد الكريم قاسم وان الشرطة جاءت وفتشت الدار ولم تجد احدا ممن تبحث عنهم وصدام لم يقل له سوى عبارة مقتضبة :وانا كنت مشتركا في العملية .

 

دخل ادهام الى بيت ابيه (( الحاج ابراهيم )) – عم صدام وزوج امه – فدهش والده لمجيئه في هذه الساعة ..قال له : لقد جاء صدام وهذه هي قصته .قال الوالد : واين هو ؟قال ادهام :ينتظرني في الادغال حتى استكشف اذا ماكان البيت مطوقا ام لا قال له : كما ترى ليس هناك شئ .نادي عليه الان .

 

عندما دخل صدام الى البيت احتضنته امه وحبست دموعها امام الحاج ابراهيم فلقد كان متماسك الاعصاب .قويا مهيبا باعثا على تبديد القلق .كان يعرف ان الساعة هي ساعة التدبير الذكي البعيد عن العواطف التي يكبحها في نفسه قال له : خذ هذا الطعام وهذا الماء وفي الساعة الرابعة قبل طلوع الشمس بقليل تذهب الى (( سوبرات )) الاتراك (( ملاجئ عسكرية كان قد اعدها الجيش العثماني اثناء الاحتلال العثماني )) وتمكث هناك حتى الساعة السابعة مساء وبعد ذلك لاتاتي راسا الى هنا وانما تمكث في حقل الاذرة حتى اتي اليك واصحبك الى الدار بعد ان اتاكد من انه غير مطوق او مراقب او به غريب ولا ينبغي ان يراك .

 

استجاب صدام لخطة عمه ولكنه قبل ان يخرج في الرابعة صباحا قال لادهام : عندما يطلع النهار تذهب الى سامراء وتبحث عن شخص اسمه عطا حسين السامرائي او علي النقيب واي منهما – اذا وجدته – قل له صدام موجود .

 

في الصباح فك ادهام قطعة من ماكينة مياه كانوا يملكونها وحملها معه وكانه ذاهب الى سامراء ليصلحها كغطاء لمهمته دق باب عطا السامرائي ولم يجده قالت له زوجته سياتي في الخامسة عصرا انتظره حتى عاد واسر في اذنيه بالنبأ قال له عطا لقد كنا نبحث عنه طيلة الايام السابقه .الان اذهب انت واسترح لقد انتهت مهمتك .

 

في الساعة السابعة جاءت سيارة جيب عسكرية يقودها عطا حسين السامرائي ويصحبه ثلاثة اشخاص :عبد الخالق السامرائي .حمود العوادي .حسين الجاسم ..ووقفت بعيدا في اطراف القرية وارسلوا الى صدام اخاه حتى يلتقي بهم .

اقبل عليه عمه يودعه ودخل هو الى الدار فاحتضنته امه ورفعت وجهها الى السماء تطلب له السلامة ولم ينس وهو يغادر البيت ان يلقي بناظريه على شجيرة التوت التي كان قد بذربذرتها بالقرب منه .اما النخلة التي زرعها فكانت قد بدأت تورق سعفا اخضر .

 

قال له رفاقه ان هناك رفيقا اخر سوف يصحبه في طريقه الى الحدود السورية لانه مطلوب ايضا من الشرطة وهو يقول عندما علم ان صدام حسين سيكون رفيقه في رحلة الهروب :انا احمله على اكتافي واوصله الى سوريا .كان اسمه :فاتك الصافي .

 

لم يتخذ طريقه على الفور الى سوريا بل مكث مختفيا بعد ذلك عدة ايام .كان لابد من البحث عن دليل يقودهما في الطريق وكان في المنطقة رجل يدعى محمد سلطان يعيش متخفيا باسم مستعار في القرية لان البوليس كان يبحث عنه لاتهامه بارتكاب جريمة قتل ولذلك لم يعرفه سوى قلة يثق بهم باسمه الحقيقي اما سكان المنطقة فكانوا يعرفونه ان اسمه هو (( عبد الله ابو نجم )) ولقرب المنطقة من الحدود السورية فان محمد سلطان كان يعرف الطريق اليها وكثيرا ما قطعه على دراجته البخارية متسللا عبر الحدود وعائدا مرة اخرى الى قريته .

 

في هذه المرة ذهب الى سوريا وعاد ليتكشف الطريق فاذا بالشرطة تتكالب عليه وتمسك به .فادعى ان لديه اغناما عبرت الحدود فقالوا له – وكانوا يعرفون ان هنالك من يتسللون بين الحدود عن طريق الادلاء الذين يعرفون هذه الطرقات جيدا – هذه المرة تذهب واحدا وتعود واحدا .لا ان تذهب (( اثنين ))وترجع (( واحدا ))...

 

كرر العملية ولكن الشرطة كانت ماتزال منتشرة على طول الطريق فنصحهم بان يأخذ صدام وراءه على دراجته البخاريه الى منطقة (( الثرثار )) ( وهي المنطقة المعروفة الان بسد الثرثار وهي قريبة ايضا من الحدود السورية ولكن من ناحية اخرى اشد بعدا من الطريق الاول ) ومن هناك يذهب الى سوريا مع الدليل على ظهر دابة لان المسافة ستة ايام سيرا على الاقدام .ركب عبد الله النجم دراجته البخارية وخلفه صدام حسين وفاتك الصافي ومضى بها الى منطقة الثرثار حيث وجدوا الدليل المتفق معه على ان يصحبهما الى الحدود السورية وكان اسمه ( دحام الشمران ) اتفق عبد الله النجم مع دحام على كل شئ .دفع له خمسة واربعين دينارا واشترى دابتين واحداهما كبيرة والاخرى صغيرة وزودهم بالخبز والتمر وتمنى لهم السلامة وتحركت القافلة الصغيرة في طريقها الى الحدود السورية عبر الطرق الصحراوية غير المأهولة والتي لايعرفها سوى امثال هذا الدليل الذي اختلطت سنوات عمره بحبات الرمال .

 

كان يهتدي في طريقه بنجمة الليل اذا وضع الجدي فوق كتفه الايسر فان الحدود السورية ستكون هي وجهته الصحيحة وماكانوا يسيرون في النهار حتى لاتكتشفهم دوريات الشرطة كان اليل هذه المرة هو رفيقه ..رفيقهم الامين .

 

سبعة ايام بلياليها وهم يطوون رمال الصحراء .دحام يركب الدابة الكبيرة وصدام ورفيقه يركبان الدابة الصغيرة واحيانا ينفرد بها احدهما ويمضي الاخر اليل سيرا على قدميه مااكثر مالقيتهم المفاجأت في الطريق اضواء سيارات شرطة تمزق استار الظلام التي يتخفون بها محام نفسه – الذي لم يكن يعرف هوية من يصحبهم – كثيرا ما عرضهم للمخاطر لانه قد شم رائحة خبز او رائحة قهوه عربية على البعد .يريد ان يتبعها حتى بيوت الشعر التي يسكنها الاعراب وتطول ليالي السفر ويمتد الطريق .

 

سبعة ايام بلياليها وهم يقاومون برد الصحراء وقلة الزاد ويزرعون الرمال امالا في الوصول .ان الحدود تبدو له الان بمثابة الشاطئ الاخر الذي كان يصارع امواج النهر حتى يبلغه مااكثر الشواطئ الاخرى التي سوف يصارع من اجل ان يلقي عليها بمراسيه ..

 

في الليلة السابعة نظر دحام من فوق دابته العالية وقال اعطني كمية من تراب هذه الارض انظر ما نوع هذه التربة ؟قال له فاتك : فيها حصووبها ...لم يواصل دحام الاستماع اليه .قال على الفور لقد وصلنا داخل الحدود..

 

صحيح ..اخيرا ...اتجهوا الى خيام الاعراب القريبة فأيقنوا انهم عرب سوريون قضوا ليلتهم في ضيافتهم وفي الصباح – ولاول مرة يسيرون في نور الصباح – اتجهوا الى (( البو كمال )) اول مركز على الحدود السورية – العراقية ومنها الى (( دير الزور )) وهناك اتصلوا(( بأمين الحافظ  )) وكان قائدا عسكريا للمنطقة الشرقية فاستقبلهم على الفور – وكانت لديه معلومات عن قرب وصولهم – واكل دحام خبزا حارا وشرب القهوه العربية ولكن ليس في بيوت الشعر التي يسكنها الاعراب هذه المرة .

 

في الشام مكث صدام حسين ثلاث اشهر وفي الحادي والبعشرين من شهر فبراير – شباط عام 1960 ..غادر الشام وهبطت طائرة تحمله الى عاصمة الجمهورية العربية المتحدة ..في مطار القاهرة الدولي  

 
 
نهاية الجزء الثاني وستكون لنا معكم رحلة اخرى من سفر القائد في المواضيع القادمة من سفر نضاله الطويل وستكون حسب التسلسل :
7- عودة الروح من جديد
8- سفينة الثورة بلا ربان حكيم
9- هذا القرار لن التزم به
10- حتى تتحطم كل القضبان
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاثنين / ١٥ جمادي الاولى١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١١ / أيــــــار / ٢٠٠٩ م