جذور مخططات تقسيم العراق في ملفات الاستعمار البريطاني - الامريكي

﴿ الحلقة الرابعة ﴾

 
 

شبكة المنصور

ا.د. عبد الكاظم العبودي

إرهاصات الثورة الكبرى في كل المدن

وحسب هامش للاستاذ جعفر خياط على هذه الاشارة فان الجمعية السرية التي كانت تقصدها المس بيل هي جمعية سرية تسمى: "جمعية النهضة الاسلامية" تشكلت في النجف للاعداد لثورة ضد الانجليز تستعين بعشاء الفرات الاوسط وغيرها من العناصر الاخرى. من اقطابها العلامة السيد محمد علي بحر العلوم، والعلامة الشيخ جواد الجزائري، والشيخ محمد علي الشامي، وعباس الخليلي" فتى الاسلام"، ومن اعضائها الاخرين كان الحاج نجم البقال، وسعيد حميد الحار، ومحسن غنيم، وعباس الرماحي. كما جرى الاتصال بعدد من شيوخ عشائر مثل مرزوق العواد شيخ العوابد، ووادي آل علي من بني حسن في الشامية، والحاج رابح العطية شيخ الحميدات، وسلمان آل فاضل شيخ الحواتم، "بني حسن"، ومشقوف.

 

غير ان ظروفا ما دفعت قسما من افراد هذه الجمعية"العصبة" بقيادة الحاج نجم الى تفجير الثورة قبل أوانها وقبل استكمال الترتيبات، دفعت نجم البقال، الرجل المعروف، انه من الاخيار الذي حفزه تقديره وحماسه الوطني البدء بالثورة، بان لبس هو وجماعته البالغين حسب تقديرات الروايات البريطانية 12 بطلا، وهم في لباس "الشبانة" في فجر ليلة الحادث 19 مارس، اثنان منهم من اولاد الحاج سعد، وثلاثة من الشرطة المسرحين، بقيادة الحاج نجم البقال. حيث انسلوا من كوة في سور البلدة في محلة المشراق. ثم كمنوا في المقبرة حتى الفجر، وبعدها دخلوا البناية المشار اليها، بخدعة فقتلوا الكابتن مارشال، كما قتلوا طبيبا ايرلنديا كان معه في الدار، وقتل من المهاجمين رجل واحد وجرح آخر، فحملاه الى الخارج بعد انتهاء المعركة.

 

كان الشهيد نجم البقال و إثنان معه من المسلحين قد اقتحموا المقر الذي اتخذه الحاكم البريطاني المدعو"الكابتن مارشال" قبل حصار النجف. ومقره كان ما يسمى "خان عطية ابو كلل"، يقع خارج اسوار النجف بأمتار معدودات، أي ضمن المباني الواسعة التي شيدها "عطية ابو كلل" في النجف، وكأنها شيدت لتكون مقرا للحاكمين الغزاة. تمكن الشهيد نجم البقال من قتل الحراس، والحاكم البريطاني الكابتن ماشال؛ مما دفع الكتيبة البريطانية وإضطرها أن تزحف لأول مرة نحو النجف لتطوق سورها، وتضرب حصارا عليها.

 

لاشك ان هناك شبه اجماع وطني ينصف "ثورة النجف" وابطالها ويعتبرها انها مهدت لاندلاع الثورة العراقية الكبرى في 1920 التي استحصلت للعراق استقلاله وكيانه السياسي الذي اسقطه الاحتلال الامريكي البريطاني بعد حوالي 80 سنة. لم تنجح الدعاية البريطانية في عزل اصداء الثورة ونسبها الى المخابرات الالمانية او بتحريك الاتراك لها. ولا شك حاولت القوات البريطانية عزل العشائر عن الثوار واخبارهم وتحاشت التعرض الى رجال الدين من غير المنفيين، او الهجوم على البلدة، لكنها لجأت الى العقوبات الجماعية بقطع ورود الماء الصالح للشرب وترك السكان لشرب المياه الملوثة وغير المستساغة، باللجوء الى شرب الماء من الابار العديدة الموجودة داخل البلدة. وتقدمت رويدا لاقتحام السور في 7 نيسان من محلة الحويش المشرفة على محلة السيد مهدي السيد سلمان الذي بقي مواليا لحكومة الاحتلال البريطانية وهو الذي وفر الايواء لشرطة الكوت خلال الحركة والهجوم على النجف. من خلال السيطرة اولا على اكوام السواتر الترابية التي تكومت نتيجة تراب السراديب التي حفرت على مدى سنوات واشتهرت بها بلدة النجف ثم تقدمت القوات البريطانية من دون مقاومة، خلالها احتفظت بعلاقات ودية ومستديمة مع السيد محمد كاظم اليزدي. وفي العاشر من نيسان كان الرتل الخامس من داخل المدينة يجبر الثوار الى الظهور العلني ويحاصرهم ويجبرهم على الاستسلام للقوات البريطانية.

 

كان تعاون الرتل الخامس النجفي، المتواطئ، واضحا، شاركت فيه اعداد من من بيوتات النجف المعروفة في استثمارها والتحكم بأرزاق الناس، وإخفاء المواد الغذائية، والتجسس على الثوار لصالح عيون ومخابرات الانجليز، كما تم تضييق الخناق على الممرات، والمخارج من وإلى المدينة؛ مما أجبر الثوار على الخروج العلني، فاستعرضوا موقفهم العلني بكل كرامة وفروسية مضحين بأنفسهم في الشوارع والأسواق، خرجوا، وهي يلبسون الاكفان إستعدادا للشهادة، لذا تم للمحتل واعوانه من تشخيصهم، وإعتقالهم بعدها واحدا بعد واحد، ثم قدمهم الى محكمة عسكرية ميدانية خاصة لتحكم على ثلة منهم بالاعدام شنقا حتى الموت، والحكم على آخرين بالنفي او السجن.

 

اعتقل في اليوم الاول من ماي 102 من مجموع الثوار التي تضمنتهم قائمة السلطات البريطانية من المطلوبين للاعتقال والمقدرة 110 شخص. وفي ذات الوقت هوجم الحاج عطية من قبل جماعة تنتسب الى عشيرة عنزة الموالين للسلطات البريطانية فسلم نفسه في السماوة قبل نهاية نيسان. وفي الرابع من ماي تم رفع الحصار عن النجف. عندها تم تشكيل محكمة عسكرية من ثلاث ضباط. وتمت المحاكمة باللغة العربية، فحكم على ثلاثة عشر من الثوار بالاعدام.

 

الكوكبة الاولى للثوار تسموا بأعناقها

معلقة على حبال مشانق الانجليز

 

. من اسماء الابطال الذين حكموا شنقا حتى الموت ونفذ بهم حكم الاعدام في الثلاثين من ماي : الحاج نجم البقال رئيس العصبة، وكاظم الصبي الذي ساعد الجمعية ولم يكم من اعضائها، وعباس علي الرماحي مع أخيه علوان، وكريم واحمد ومحسن اولاد سعد الحاج راضي، وعبدهم سعيد، ومحسن البوغنيم أحد قاتلي الكابتن مارشال، ومجيد بن مهدي دعيبل، وجودي ناجي، وقد تم شنقهم في خان علي حمزة النصر الله، في الكوفة يوم 20 شعبان 1336، وأفلت من الشنق عباس الخليلي، شقيق الاستاذ جعفر الخليلي ففر الى ايران. وكان من المنفيين الشيخ محمد جواد الجزائري والسيد محمد علي بحر العلوم، وسعد الحاج راضي، والحاج عطية او كلل واولاده واقاربه. وقد تدخل المرزا الشيرازي والشيخ خزعل شيخ المحمرة بأمر من الشيخ الجزائري والسيد بحر العلوم فاعفيا وأقاما في المحمرة برعاية الشيخ خزعل. كما تم نفي اكثر من مائة شخص منهم الى الهند كاسرى حرب.

 

الجدير بالذكر انه وفي نفس يوم تنفيذ احكام الاعدام بحق الشهداء وبعد ظهر يوم الثلاثين من ماي1918 عقد اجتماع في دار كليدار النجف، قدمت فيه الى الحاكم السياسي البريطاني جماعة تمثل رجال الدين "حسب تعبير المس بيل" والاهالي وشيوخ المحلات "سيف شرف" للحاكم السياسي. وبعد عشرة أيام قام القائد العام بزيارة رسمية للنجف، فنحرت له الذبائح عند ابوابها، وكان مشهدا "لم يسبق له مثيل منذ زيارة ناصر الدين شاه ملك ايران" حسب وصف المصادر البريطانية. وفي الحفلة التي اقيمت ترحيبا بالحاكم السياسي البريطاني التي حضرها "العلماء والوجهاء والشيوخ" اعلن الحاكم عن تأسيس بلدية للنجف تتولى شؤون البلدة ووعد بان تلقى قضية تحسين مياه الشرب عناية خاصة من لدنه.

 

كان اخماد ثورة النجف وبما احرزته السلطات العسكرية من تقدم للسيطرة على المدينة محطة لم يهنأ بعدها البريطانيون حيث تتالت اخبار نقل القوات البريطانية الى ايران لصد ما سمي حينها بالتقدم التركي من ناحية تبريز في خريف 1918 التي اعادت اوضاع المدينة الى المربع الصفر حيث عادت الاجتماعات التي نشطها عدد من العلماء وتصاعدت احتجاجات الطلبة وتنقلهم من طرف الى آخر من المدينة في تعبئة شعبية بدأت تقلق البريطانيين وعاد المجتهدون المتحركون الى استثارة نخوة العشائر من جديد.

 

الثورة الكبرى كانت تدق أبواب المدن العراقية

من الموصل الى جنوب الفرات

 

وفي جميع اطراف العراق كان العراق المحتل يواجه ارهاصات المقاومة بالانتقال الى التنظيم والاجتماعات ويرفض تسمية مقاومته للإحتلال انها "مجرد شغب يحركه الاتراك او بقاياهم"، كما يزعم البريطانيون. لقد تكشفت النوايا البريطانية عند كل طوائف الشعب العراقي في وضوح سياسة الغزاة واختزالهم للعراق وتحويله الى مجرد شذرة ترصع التاج البريطاني، وادارته باتت واضحة،. وإن ادعاءات الحرب ضد الاتراك وتبريرها لم تعد تقنع احدا. كما تبخرت الوعود بقيام دولة وطنية وحكم وطني وتنصيب ملك في العراق وباتت وعود الاحتلال بعدم توفر المرشح لملئ كرسي عرش العراق اكذوبة، كما ان شروط الهدنة التي توصل اليها البريطانيون مع الاتراك قد خرقت بإبعاد الوطنيين العراقيين ونفيهم الى المنافي البعيدة.

 

كما ان الوعود التي قطعها البريطانيون باجراء استفتاء حول تشكيل الدولة العربية أضحت مضللة لذا كثرت العرائض الرافضة للاحتلال والمطالبة بالاستقلال وازداد معها عدد حالات الاعتقالات بحق الوطنيين. كما ان الادارة البريطانية التي اقامها الاحتلال احتفظت لنفسها بالوظائف المقررة لتسيير الادارات الحكومية وظلت الحاكمية السياسية منذ نهاية عام1918 تحتفظ بطابعها العسكري ويشرف عليها ضباط ارتباط عسكريون بريطانيون.

 

وفي شمال العراق لم يكن وضع البريطانيين سهلا، كانت القبائل التي اشتركت في شن الغارات على سكة حديد بغداد – الموصل قد غنمت الكثير من المعدات وقلبت القطار. وفي شهر ماي شنت القبائل هجوما على طريق السكة بين بيجي وحمام العليل فغنمت غنائم اخرى. وتصاعدت الاخبار عن قرب هجوم على الموصل يقوده الضباط العراقيون المعادون للوجود الانجليزي. وفي الثاني من حزيران كان هناك اجتماعا في تلعفر عأقبه دخول الخيالة اليها إيذانا ببدء الثورة. وكان في نية جميل المدفعي القضاء على قوة الدرك الموجودة هناك والقضاء على جميع الضباط والموظفين البريطانيين قبل وصوله الى تلعفر. وهكذا قتل ضابط الدرك الكابتن "ستيوارت" من قبل الضباط التابعين له. قتله ضابط موصلي يدعى الملازم محمد علي الحاج حسين النعلبند واحتجز الموظفين البريطانيين الثلاث الباقين حتى مجيئ جماعة جميل المدفعي وعندئذ قتلهم جميعا بقنبلة في عين المكان. كما قتل الكابتن"بارلو" معاون الحاكم السياسي عند محاولته الهرب.

 

وهكذا كان سقوط تلعفر ايذانا بقيام الثورة، اشتركت فيها قبائل شمر برئاسة عجيل الياور والجبور بقيادة مسلط باشا الملحم والجحيش بقيادة صالح احمد الخضير والكرية بقيادة سليمان آغا آل سعدون، والبومتيوت، والبوحمد، والحسنيان "عشيرة كردية" برئاسة الحاج عبد العزيز. واشترككذلك العوجان برئاسة سلمو الخليف.

 

حاول البريطانيون استعادة السيطرة على تلعفر ولكنهم لم يتمكنوا من التحكم في الاوضاع خصوصا ان الحدود كانت مفتوحة للثوار الذين كانوا ينسحبون بعيدا عن الموصل التي ظلت تكمن الجمر تحت الرماد الانجليزي.

 

بغداد حاضنة الثورة ومركز شمولها الوطني

 

وهكذا انتقل نشاط الثورة من الموصل وجنوب الفرات وغربه الى بغداد وصارت الدعوة الى الثورة واستعمال السلاح اجتهادا تبنته حتى تلك الجمعيات السياسية ومنها " جمعية العهد" العراقية الى تم تأسيسها قبل الحرب العالمية الاولى، حين قام فريق من الشباب القومي العربي الواعي تأسيسها في اسطمبول برئاسة عزيزعلي المصري دعت الى استقلال البلدان العربية المرتبطة بالدولة العثمانية، وكان معظم اعضائها من الضباط السوريين والعراقيين، ومنهم من غير الضباط. وممن إنتمى اليها من العراقيين ياسين الهاشمي ومولود مخلص وجميل المدفعي ونوري السعيد وطه الهاشمي واسماعيل الصفار وعلي جودت الايوبي وتوفيق السويدي وشريف العمري وابراهيم كمال وعبد الله الدملوجي وثابت عبد النور وامين العمري وتحسين العسكري وعبد الرزاق منير والدكتور حسين حسني. وقد سبق أن إكتشف الاتراك امر هذه الجمعية فقررت في 1914 تشتيتهم والتنكيل بهم.

 

رغم تشتتهم الا ان العديد منهم واصل العمل في الموصل وبغداد وبقية انحاء العراق ضد البريطانيين عندما نضجت ظروف الحركة الوطنية. وقد نجحوا تماما في تجاوز التشتت الطائفي، وتجاوز ظروف التعصب والمشاركة في الفعاليات المشتركة ببغداد وغيرها من المدن العراقية.

 

وبعد تصاعد المظاهرات الوطنية اثر الاحتفالات بالمناسبات الدينية التي كانت تقام في المساجد، وكان اطلاق النار من سيارات الجيش البريطاني على المتظاهرين دفع الناس الى الاحتجاج؛ خاصة بعد حادثة دهس سيارة الحاكم العسكري البريطاني بلفور لرجل أخرس كان اسمه عبد الكريم بن رشيد، هاجم إحدى سيارات الدورية البريطانية التي كان في احداهما "بلفور" نفسه فدهسته السيارة فكان تشييع جنازته حدثا حماسيا ببغداد. لتتطور المظاهرات المنددة للاحتلال من قبل الحركة الوطنية في بغداد التي كانت تقودها في البدء، عدا الزعماء المعروفين من امثال جعفر ابي التمن والسيد محمد الصدر ويوسف السويدي وعلي البازركان، جمعيات وكتل مختلفة كانت تعمل بصورة سرية خوفا من بطش قوات الاحتلال، لكن أول من باشر العمل فيها بالاتفاق مع الزعماء المذكورين جمعية العهد العراقي التي كان مقرها العام في الشام وكان لها فرعان مهمان في كل من بغداد والموصل. ومن فرعها ببغداد انشقت جماعة متحمسة للاستقلال في اواخر شباط 1919 اطلقت على نفسها " جمعية حرس الاستقلال" السرية.

 

 هذه الجمعية نشط فيها ودعمها قادة عراقيون عديدون منهم علي البازركان، وتتعاون مع الزعماء مثل محمد الصدر في الكاظمية او جعفر ابو التمن في بغداد، وتحمس للعمل بها جلال بابان وعارف حكمت وباقر الشبيبي وجعفر الشبيبي والحاج محمود رامز وصادق حبه واحمد زكي الخياط وانور النقشلي وسامي النقشلي والحاج محي السهروردي وشاكر محمود والحاج اسماعيل كنة والشيخ احمد الداوود وصادق البصام وصادق الشهربنلي.

 

المولد النبوي والتعبئة للثورة

من الكاظمية الى الحضرة الكيلانية

 

وكانت الاحتفالات بذكرى المولد النبوي في جامع الحيدرخانة والسيد سلطان علي والكاظمية وجامع الاحمدية والحضرة الكيلانية وغيرها اماكن التحشد والاحتجاج. وقد اشتهر خطباء وشعراء في تلك الاجتماعات منهم الدكتور محمد مهدي البصير، والسيد عبد الرزاق الهاشمي وعبد الرحمن البنا والملا عثمان الموصلي والسيد محمد عبد الحسين، ومحمد الحداد الكاظمي، وتوفيق المختار.

 

تبلور حركة الاحتجاج نحو الاستقلال:

تبلورت حركة الاحتجاج نحو المطالبة بالحقوق وانهاء الاحتلال ونيل الاستقلال. وجرى التنسيق والاتصال مع أطراف الحركة الوطنية الثورية التي يضطلع بها قادة سياسيون وعلماء دين، والأعلام بزعامة العلامة محمد تقي الشيرازي، ومن يرتبط به من رؤساء العشائر المعروفة وشبان المدن المقدسة ورجالها البارزين.

 

ومما يذكر به هنا ان حلقة الوصل بين الحركة الوطنية في بغداد والنشاط الثوري الملتهب في الفرات الاوسط كان هناك الاستاذ باقر الشبيبي واحيانا السيد هادي زوين والشيخ كاطع العوادي الذي كان منتسبا الى جمعية الحرس ورؤوف الامين عن الحلة.

 

وهكذا نسقت الجهود وتصاعدت الفعاليات حتى تم ربط العراق من اقصاه الى اقصاه حتى اندلعت الثورة العراقية في الفرات وغيره خلال صيف 1920. كانت انسحابات القوات البريطانية المستمرة من كثير من المناطق وتقلص جبهتهم في الفرات الأعلى والهجمات التي شنت على تلعفر وعلى طريق الموصل إيذانا بضعف الوضع العسكري للقوات البريطانية، وبدء عجزها عن الصعود لملاحقة القبائل المتمردة في اعالي الفرات وغربه.

 

 وفي بغداد بدأ طوق الثورة يحاصر البريطانيين. وبدأ البريطانيون يتحدثون لاول مرة عن تقرير المصير ووضع خطة لوضع دستور مؤقت للعراق وتأسيس مجلس دولة يتألف من أعضاء بريطانيين وعرب برئاسة رئيس عربي يعينه المندوب السامي، ومجلس تشريعي ينتخبه الشعب. كل هذه الخطط لم تعلن رسميا؛ لكنها كانت تتسرب الى أسماع العراقيين بمختلف الوسائل وعبر الاوساط. لكن الحركة الوطنية بدورها لم تنتظر منة البريطانيين ولا تنصيب عملائهم فافرزت معارضتها الممثلة باختيار خمسة عشر شخصية عراقية، أُطلق عليهم "المندوبين" عن بغداد والكاظمية من اجل مقاومة الاحتلال والانتداب. بعد المظاهرة التي انطلقت ببغداد ليلة 7 رمضان المصادف ليلة 26 آيار. تم اختيارهم عن طريق الجمهور المحتشد في جامع الحيدرخانة، منهم الحاج محمد جعفر ابو التمن، السيد ابو القاسم الكاشاني، الشيخ احمد الظاهر، السيد عبد الكريم السيد حيدر، يوسف افندي السويدي، فؤاد افندي الدفتري، عبد الوهاب النائب، الشيخ سعيد النقشبندي، السيد محمد مصطفى الخليل، رفعت الجادرجي، علي البازركان، الشيخ احمد الداوود، عبدالرحمن الحيدري، الحاج ياسين الخضيري.

 

طلب المندوبون مواجهة الحاكم الملكي العام ليعرضوا عليه مطالبهم الشعبية؛ إلا ان الكولونيل "ولسن" رفض الطريقة التي تم بها اختيار المندوبين؛ لكنه قبل مقابلتهم في الثاني من حزيران المصادف 14 رمضان، وطلب إضافة خمسة وعشرين شخصا آخرين معهم، ممن وصفهم من "وجوه بغداد"، من بينهم عدد من اليهود والمسيحيين. ولم يمثل الاقليات المذكورة احد بين المندوبين. وكان من ضمن قائمة المندوب السامي المضافة كل من : السيد محمود النقيب، عبد القادر الخضيري، الحاج علي الآلوسي، محمود الشابندر، جميل الزهاوي، السيد صالح الملي، الحاج محمد حسن الجوهر، الشيخ شكر الله، السيد جعفر عطيفة، الحاج عبد الحسين الجلبي، محمود الاطرقجي، محمود الاسترابادي، عبد الكريم الجلبي، عبد المجيد الشاوي، مناحيم دانيال، عبد الجبار الخياط، خسرو قيومجيان، ساسون حسقيل، عزره مناحيم دانيل، يهودا زلوف، وقد اعتذر الحاج علي الآلوسي عن الحضور.

 

لا أمان من وعود المحتل

 

افتتح المندوب السامي الاجتماع بخطاب فيه من الوعود والوعيد، من إثارة الاضطربات، ووعد بالاقتراحات الدستورية المعروضة على ملك بريطانيا، وتعهد بنقل مطالب المندوبين، وبالمقابل رفع المندوبون بصفتهم نوابا عن أهالي بغداد والكاظمية مذكرة طالبوا فيها ثلاث مطالب أساسية هي: الاسراع بتأليف مؤتمر يمثل الامة العراقية ويقرر مصيرها وشكل ادارتها في الداخل، ونوع علاقاتها بالخارج. والمطالبة بحرية المطبوعات ليتمكن الشعب من الإفصاح عن رغائبه وافكاره. ورفع الحواجز الموضوعة في طريق البريد والبرق بين انحاء العراق اولا، وبينه وبين الاقطار المجاورة والممالك الخارجية ثانيا.

 

القبضة الحديدية تشتد رغم الايهام بالتراجع

 

 وهكذا استمرت المطالب، وعليها الردود البريطانية التي حاولت الإلتفاف على المطالب لكسب الوقت وتفريق وحدة الوطنيين ومصادرة الحريات واعتقال ومحاكمة النشطاء منهم ونفيهم الى خارج العراق. كما تم منع احتفالات المولد النبوي والتجمعات الاحتجاجية المترافقة مع تنظيم الاحتفالات الدينية، وجرى تلفيق التهم على قادة الحركة الوطنية وزجهم في السجون.

 

 وفي كل الحالات كانت صدور ابناء الشعب العراقي تواجه عسف الرصاص البريطاني خلال المداهمات للبيوت وللنشطاء من الوطنيين. فقد حوكم عبد المجيد كنه من أهالي بغداد في محكمة عسكرية يوم 16 أيلول، بتهمة ارتكاب جرائم ضد السلطات العسكرية البريطانية، ومناهضته للاحتلال. وصدر ضده حكم الاعدام شنقا حتى الموت، ونفذ الاعدام ليلة السبت 25 من ايلول 1920.

 

الشعور الوطني الموحد ضمانة الانتصار

 

انتشر الشعور الوطني العارم ضد الاحتلال والسلطات البريطانية وانخرط فيها جميع فئات الشعب العراقي تصدرهم العلماء وكانت وفاة السيد محمد كاظم اليزدي فرصة لانتقال الزعامة الدينية الى المرزا محمد تقي الشيرازي، الذي اصدر فتوى يحرم فيها قبول توظيف المسلمين والتعاون مع الادارة البريطانية، وقد وصل الامر ان رفض الناس قبول دفن والصلاة على من تعاون مع الادارة البريطانية؛ مما دفع بالكثير من تقديم الاستقالات من خدمة الادارة البريطانية. وعندما نضجت ظروف التنسيق بين قادة الحركة الوطنية في بغداد مع الوطنيين في المدن المقدسة وصلت الى القبائل وسكان المدن نصوص فتاوى قرب اعلان الجهاد وتشجيع المظاهرات السلمية والتعريف بالجهود السياسية التي قام بها المندوبون بالتعريف بالحقوق الوطنية تمت التوصية بالوحدة والحفاظ على الممتلكات العمومية واحترام حقوق جميع الملل والنحل وقعها محمد تقي الحائري الشيرازي في التاسع من رمضان 1338.

 

وفي نهاية شهر رمضان كانت المنشورات تدعو الى الى الثورة على البريطانين وطردهم وإجبارهم على الرحيل من العراق. كان الوضع يزداد حراجة مع تصاعد حملة السلطات البريطانية وقيامها باعتقالات واسعة شملت توقيف المرزا محمد رضا، ابن اية الله المرزا محمد تقي الشيرازي مع تسعة من أتباعه في كربلاء في 22 حزيران ونفيهم الى هنجام في الهند، ومن هناك تم اطلاق سراحه وسفره الى ايران وسلم في 28 تموز الى نائب بندر عباس بعد تدخل الحكومة الايرانية.

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الخميس  / ٢٣ رجــــب ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١٦ / تمــوز / ٢٠٠٩ م