هل تمهد الإعدامات السرية طريق السلطة الديمقراطية في العراق ؟

﴿ الجزء الاول

 
 

شبكة المنصور

د. مثنى عبد الله / ناشط سياسي عراقي

هل يعقل ان يعم الحب في زمن الكوليرا والطاعون ؟ أو ان تبرعم أزهار الديمقراطية في عتمة الخوف القابع فوق الجفون ؟ وهل يمكن ان يستمر الزيف والتزوير الى مالانهاية في افواه حكام القتل واللصوصية ومليشيات الموت وهم يدعون ليلا ونهارا بأنهم جاؤوا لتخليص البلاد من الدكتاتورية ؟ هذه الاسئلة وغيرها أثارتها فينا الصحافة البريطانية في تحقيقها عن غرف الموت السرية في سجن الكاظمية في بغداد ، لكن الحقيقة سوف تبقى ناقصة في ظل غياب شهود الإثبات ، وفي لجة الدعاية الامريكية للنموذج الديمقراطي العراقي - العربي المدفوع ثمنه المعلن ب 300 مليون دولار لقنوات فضائية عربية مشبوهة ، وأشباه مفكرين ومحللين سياسيين اتخذوا من الدعارة السياسية وسيلة للإرتزاق في زمن مطلوب فيه شرعنة الإحتلال وتجميل الوجوه العميلة القبيحة ، والتغاظي عن قتل مئات الآلاف من الأابرياء بدم بارد في كافة انحاء العراق .

 

لم يبزغ الفجر بعد ومازال حظر التجوال ساريا ، عندما اقتحمت دارنا مجموعة مؤلفة من اثني عشر شخصا ، بعد ثمانية ايام من اطلاق سراحي من سجن المطار التابع للقوات الامريكية حيث امضيت فيه سنتين وثلاثة اشهر ، متهما بمقاومة قوات الاحتلال الامريكية . كان بعضهم يرتدي ملابس مايسمى الحرس الوطني الحكومي ، والآخرين ملابس مدنية ، يستقلون سيارات حكومية واخرى مدنية ، وفي وسط الصراخ والشتائم التي توالت علينا منهم عرفنا انهم يبحثون عني ، حيث تم اقتيادي من داخل البيت بملابس النوم ، وتقدموا بي نحو شخص معمم كان يجلس داخل أحدى السيارات ، فاخرج من حقيبته صورة لي طابقها مع وجهي فقال نعم هو ، لم يتم كلمته حتى انهالت علي الضربات من كل جانب ، وتم عصب عيني وتقيد يدي ورجلي ، والقي بي في الصندوق الخلفي للسيارة ، وماكادت السيارة تتحرك حتى سمعت وابلا من الرصاص ، لم استطع سوى التكهن بأنه وسيلة لإرهاب المواطنين الذين تجمعوا في باب دورهم صباح ذاك اليوم لمشاهدة الحدث ، كي لايتجرأ أحد لاخذ رقم أحدى السيارات او التعرف على وجوه المقتحمين.

 

لم تمض سوى ثلاثة ارباع الساعة تقريبا حتى توقفت السيارة التي تقلني وفتح الصندوق الخلفي لتمتد لي عدد من الايدي فتحملني الى حيث لاادري ، حينها شعرت بلطمة قوية على وجهي اسقطتني ارضا ، ثم امتدت الي مرة اخرى لتنزع عن عيني قطعة القماش التي عصبوا بها عيني ، عندها تلاقت عيني بعينيه ، فصاح بي مستهزئا أهلا وسهلا بالمناضلين ، اين ستذهب اليوم مني ، لقد اشتريناك منهم ، فاذا كنت آمنا لديهم في السجن سنتين ، فانت اليوم في الشعبة الخامسة ، الا تعرف الشعبة الخامسة في استخبارات صدام ، نعم انت اليوم ضيفها ، ثم صاح بأعلى صوته (سيدنا هذا جاهز) . لم تمض سوى لحظات حتى تقدم مني شخصان كانت بيد احدهما هراوة غليظة والاخر كان يحمل كيبل كهربائي ، واقتادوني الى غرفة كانت آثار الطلقات لم تزل على جدرانها ، وبقع دماء تكومت فوقها اكوام من الذباب ، كانت نافذتها الخارجية تطل على نهر دجلة ، وكان يتدلى من السقف حبل غليظ ، وفي وسطها طاولة اشبه بطاولة المنضدة عليها مساند لتثبيت اليدين والقدمين ، يلتصق بسطحها السفلي جهاز كهربائي تم ربطه بالكهرباء ، وفي ركن الغرفة كانت منضدة صغيرة رتبت فوقها العديد من الأشياء المختلفة الاستخدام ؛ مكواة كهربائية ، مثقاب كهربائي ، مطرقة ، ومفك يدوي. اتجه احدهم لغلق الباب بينما أنهال الآخر بالضرب علي بالكيبل في جميع الاتجاهات ، عندها سقطت ارضا فهجم الإثنان علي فخلعوا ملابسي عني ، وانهالوا علي ضربا بكل شيء ، فتفجرت الدماء من جميع انحاء جسدي ، حتى شعرت بان الغرفة دارت امام عيني وانقلبت فوقي ولم اعد اشعر بشيء بعد ذلك. لا أدري كم هو الوقت الذي استغرقته وانا فاقد الوعي ، لكن الماء الذي القي في وجهي اعاد الحياة لي مرة اخرى ، فوجدت نفسي ملقى على المنضدة الوسطية وقد كبلت يداي وقدماي على سطحها . وبعد مضي لحظات شعرت بأن الماكنة الكهربائية المربوطة بالمنضدة قد بدأت العمل ، ولكون المنضدة كانت من جزئين فقد بدأ كل جزء يسير بالاتجاه المعاكس للاخر ، مما أدى الى سحب الاطراف السفلى الى الاسفل والأطراف العليا الى الأعلى ، حتى بدأت اشعر وكأني سوف اقسم الى نصفين من وسطي ، لم اتمالك نفسي أمام الألم الرهيب حتى صرخت صرخة من شارف على الموت ، تم ايقاف الكهرباء فعاد نصفي المنضدة الى بعضهما البعض ، فتقدم مني احدهم قائلا ، اذا كنت مستعدا للاعتراف فلن ترى هذه الماكنة مرة اخرى ، اما اذا كنت غير مستعد لذلك فاقسم جسدك الى نصفين . تم اقتيادي الى غرفة اخرى ، وجلست امام منضدة كانت مفروشة بالاوراق بغير انتظام و يجلس على طرفها الآخر شخص كث اللحية يتحدث العربية بصعوبة تشير بأنه ليس عراقي الأصل . باغتني فورا ، هل ستعترف ؟ قلت بم ؟ قال من هم الذين عملت معهم ؟ ما أسماءهم وعناوينهم ؟ من الذي كان يمول أعمالكم ؟ وعشرات الاسئلة على هذه الشاكلة ، ثم ترك ورقة بيضاء امامي وقال اكتب . قلت ياسيدي سنتان يحقق معي الامريكان ولم يجدوا دليلا ضدي ، لم يدعني اكمل حتى قال سأنزع اليوم جلدك عن عظمك ، فأعادوني الى نفس الغرفة مرة اخرى ، التي اصبحت احد ضيوفها الدائميين على مدى ثلاثة اشهر قضيتها في هذا السجن .

 

لم يكن قد مضى على وجودي في المكان سوى ثلاثة ايام ، عندما فتحت باب الزنزانة ، ودخل السجان وهو يدعونا باستهزاء لحضور حفل الليلة ، لم افقه ماقال ، لكنه قيدني مع زميلي الآخر وقادنا الى غرفة اخرى . دخلت اليها فوجدت الكثير من السجناء يجلسون أرضا بينهم الشيخ والشاب والحدث ، بينما كان رجل في الثلاثين من العمر ، ينتصب واقفا أمام الجميع وقد قيدت يداه . تم جلب بقية السجناء حتى امتلات الغرفة ثم اغلقت الباب ، فتقدم احدهم وهو يحمل بيده هراوة غليظة بدأ يلوح بها أمامنا وهو يتحدث شاتما لاعنا ليشرح لنا كيف ان هذا الرجل الواقف أمامنا الان هو من الطائفة ال(......) ، ولم يستطع الأمريكان الحصول على اعتراف منه بانه عمل مع المقاومة العراقية لكنهم حصلوا على اعترافه بذلك ، وهو سيلقى جزاءه اليوم امامنا . تم وضع الحبل المتدلي من السقف حول عنق الرجل ، وأوقفوه على صفيحة دهن فارغة لايتجاوز ارتفاعها اربعين سنتمترا ، ثم دحرج احدهم الصفيحة من تحت رجليه ، ولكون الحبل طويلا ولاتوجد مسافة بعيدة تحت قدمية فقد سقط على الارض متدليا بالحبل لكنه لم يمت وراح يصرخ صراخا مدويا ، ويرفس بقدميه كما الذبيحة ، لكنهم انهالوا عليه ضربا بالهراوات حتى تضرج بدمه وفارق الحياة ، عندها طلبوا منا جميعا ان نبصق على وجهه جميعا ، وقبل ان نغادر الغرفة تم اختيار خمسة افراد منا كنت احدهم ، كي نحمل الجثة الى خارج القاعة ، حيث تبين ان هناك خندقا طويلا على الساحل الغربي لنهر دجلة المحاذي للسجن ، عمله الجيش العراقي السابق للتموضع فيه بغية التصدي للعدوان الامريكي ايام الغزو ، ثم طلب منا رمي الجثة في الخندق والقاء التراب عليه.


عدنا الى الزنزانات المخصصة لنا ونحن نمشي على غير هدى ، بينما كان السجانون يكيلون لنا الشتائم ويتوعدونا بنفس المصير غدا او بعد غد ، لكنني لم اكن اصدق اطلاقا بان هذه الجريمة ستكرر يوميا عندما سمعت ذلك من زميلي الذي يشاطرني نفس الزنزانة وهو يصف لي التفنن اليومي بالقتل ، حتى تيقنت في الليلة التالية من صدق كلامه عندما دعينا مرة اخرى الى نفس الغرفة التي كانوا يطلقون عليها أسم ’ملهى الطاحونة الحمراء‘ . كانت الضحية هذة المرة رجلا تجاوز الخمسين من العمر ، عمل ضابطا في الجيش العراقي السابق وكان آمرا لإحدى الوحدات العسكرية وقد افرجت عنه القوات الامريكية بعد اعتقال دام ثلاثة سنين وهذا ماسمعناه منه . كان على الضحية ان يقدم نفسه قبل الإعدام ، وبعد ان انهى كلامه برز احد السجانين اليه وقام بوضع حذاءه على كتفه قائلا له باستهزاء "هذه نجمة اخرى لك مني فقد رفعنا رتبتك اليوم الى رتبة أعلى ياسيدي و تكريما لبطولتك وشجاعتك" وتقدم الآخر منه وهو يخيره بين الموت شنقا او رميا بالرصاص باعتباره عسكري لكن ثالثهم أقترح عليه القتل بالكهرباء على الطريقة الامريكية وفورا تم جلب جهاز اشبه بجهاز شحن بطارية السيارة وتم ربط يده في طرف وقدمه بالطلرف الاخر ، وربط الجهاز بالكهرباء ، وماهي الا لحظات حتى أخذ الرجل يتدحرج على الأرض في كل الاتجاهات ، ويشخر شخيرا عاليا ويزبد فمه وانفه حتى فارق الحياة بعد ان أسودت يداه وقدماه ، ثم طلب منا كالعادة أن نبصق في وجهه قبل االمغادرة.


كنت في شك تام من ان القوات الأمريكية على علم بما يجري هنا عندما حدثني زميلي السجين من انهم يترددون بين الحين والآخر على هذا الموقع ، لكن نداء السجان علينا للخروج لتنظيف ارضيات السجن بمناسبة قدوم الامريكان جعل الحقيقة واضحة امام عيني ، كما انه نبهنا الى عدم التحدث معهم باي شيء ، والذي سيتحدث معهم بالانكليزية سيتم قطع لسانه ثم استدرك قائلا عموما هم لن يأتوا اليكم ليروكم بل سيذهبوا الى قاعة السجينات كي يقضوا احلى الأوقات مع رفيقاتكم في النضال ثم ينصرفوا . كان صراخ السجينات وعويلهن ودعوات كبيرات السن منهن على الجنود الامريكيين التي سمعناها في تلك الليلة دليلا على ان القوات الأمريكية شريكة فعلية في الجريمة التي ترتكب في هذا السجن بعيدا عن الانظار.


كان يوم الرابع عشر من كانون الاول عام 2007 شاهدا على ابشع جريمة في هذا السجن ، وهي وصمة عار في جبين الإحتلال وأعوانه وكل من سار في ركبهم وأعانهم بلسانه او بيده حيث دخلنا غرفة الإعدامات فوجدنا اربعة عشر شخصا مقيدي الايدي مكممي الافواه يصطفون على حائط الغرفة ، وعندما جلسنا على الارض نهض احد السجانين واقفا امامنا قائلا بانهم خلية مقاومة يريدون ارجاع العراق الى الدكتاتورية وسنقبرهم اليوم مع الدكتاتورية . فانهال بالضرب عليهم بالهراوات والكيبلات ، ثم بدوا بتعليقهم بالحبل المتدلي من السقف واحدا بعد الاخر ، كانت أرجلهم تمس الارض وهم متدلين بالحبل من رقابهم عندما يدفعون الصفيحة من تحت ارجلهم ويبقون يرفسون وهم مختنقين دون ان يموتوا . ثم ينهون حياتهم بطلقة في الرأس او بضربة هراوة على الاعضاء التناسلية . لكن أبشع مارأيناه عندما صعد أطول من فيهم وهو شاب في مقتبل العمر ، قوي البنية ، عندما تم دفع الصفيحة من تحت قدمية انتصب واقفا على الارض لكن رقبته معلقة بالحبل ولازالت الروح فيه وجسده يقاوم الموت ، عندئذ قفز اثنان من السجانين على كتفيه كي يزيدوا من ثقل جسده الى الأسفل فتوتر الحبل وضغط بقوة على رقبته حتى فارق الحياة وعلى أثره تقيء الجميع وفقد البعض الاخر وعيه ونحن ننظر الى الأجساد المتكومة بعضها فوق البعض . لكنهم لم يوعزوا لنا بالانصراف هذه المرة بل قال احدهم " لديكم عمل شعبي اليوم ، عليكم ان تنقلوا هذه الجثث الى الخندق على ضفة النهر فورا " . وفي خلال ساعة من الوقت أضحت الجثث متكدسة في الخندق ، ثم طلبوا منا أن نجمع بعض الأخشاب والأعشاب الملقاة هنا وهناك ونرميها فوقهم ، ثم تقدم أحدهم بصفيحة نفط ونثرها عليهم ، فأوقد النار في كومة الأجساد والأخشاب وأمر السجانين بصرفنا الى الزنزانات المخصصة لنا .

 
 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

السبت  / ١٠ شعبــان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠١ / أب / ٢٠٠٩ م