مذكرات سجين : عندما يفقد الرجال عقولهم وضمائرهم
(
هل تمهد الإعدامات السرية طريق السلطة الديمقراطية في العراق ؟ )

﴿ الجزء الثاني ﴾

 
 

شبكة المنصور

د. مثنى عبد الله

في وطني الحبيب العراق ذاك السجن العائم فوق بحيرات الخير والثروات ، بلاد الرافدين وبابل وحمورابي وسرغون الأكدي المحاط الآن بهالة الديمقراطية الزائفة وصفقات العهر بين المحتل الأمريكي وأعوانه ، بينما تكتب قصص ألف ليلة وليلة من التعذيب الوحشي بين سجين وسجان في أكثر من 600 سجن سري مزروع في أرضه الطاهرة حتى فاقت أعداد أضرحة الأنبياء والأولياء الصالحين الراقدين في أرضه على كثرة عددهم والتي يفاخر بهم أبناءه ، قادني سجاني معصوب العينين من زنزانتي التي لا أكاد أستطيع أن أمد فيها أطرافي السفلى لضيقها والتي لاشيء فيها يطل على الحياة سوى كوة صغيرة في بابها تمتد لي من خلالها يد تحمل صحن (حساء) بسيط ثلاث مرات يوميا ، كنت لا أقوى على المشي بعد تعرضي الى تعذيب جسدي مركز دام ثلاثة ايام متواصلة تضمن ضربا مبرحا مقصودا على منطقة المفاصل في أطرافي السفلى بالعصا الكهربائية والعادية كي امون مهيئا لأول جلسة تحقيق تفصيلي ، فما كان من سجاني الا أن طرحني ارضا وسحبني من ياقة البجامة التي كنت ارتديها حتى أدخلني غرفة التحقيق ثم حملني من تحت ذراعي ليجلسني على كرسي خمنت بان أمامه منضدة ثم بصق في وجهي بهدوء وخرج بعد أن أغلق الباب خلفه. قطع سكون الغرفة ذات الرائحة النتنه دخول شخص قوي الخطوات جلس أمامي عندما تزحزحت المنضدة التي بيني وبينه وتبعته خطوات أخرى لأشخاص آخرين دخلوا الغرفة واحسست بانهم جلسوا خلفي تماما .

 

انهالت الأسئلة علي لبيان معلوماتي الشخصية ثم أسئلة أخرى لبيان مواقفي وآراءي ومعتقداتي السياسية والفكرية وذلك لعدم وجود فعل جرمي بل هي عملية اجتثاث فكري بحت . ماهو موقفك من المرجع الفلاني؟ وايران؟ والأمريكان؟ والاحزاب الموجودة الآن؟ ولماذا تقول في محاضراتك على الطلاب في الجامعة بان الامريكان محتلون؟ لماذا لاتؤمن بانه تحرير؟ لماذا انت من الطائفة ال(....)؟ هل لديك الاستعداد لتبديل طائفتك والإنتماء الى الطائفة ال(..)؟ ماذا كان عملك في السفارة العراقية عندما كنت تعمل دبلوماسيا؟ لماذا تركت الوظيفة عندما حصل التحرير؟ من هم الذين كانوا في السفارة تابعين للمخابرات العراقية؟ هل لديك علاقة بحزب البعث؟ من تعرف من الإرهابيين (المقاومة)؟ وعشرات الأسئلة الأخرى التي توالت علي كتوالي الصفعات والركلات التي كنت أتلقاها على رأسي ووجهي والتي كانت تسقطني ارضا في كل مرة لتوفر عنصر المفاجاة حيث ان عصب عيني أفقدني القدرة على ايجاد رد فعل نفسي وجسدي أواجه به هذه الصفعات وأتمالك توازني . بعد مايقارب الثلاث ساعات من التحقيق غادر الشخص الذي حقق معي ورفعت العصبة عن عيني لأجد ثلاثة شباب تتراوح أعمارهم بين 18-25 سنة تقريبا ، فتحت الباب ليتقدم أحد الاشخاص فيقدم لهم وجبة طعام متنوعة بينما وضع أمامي صحن الحساء المعتاد الذي تركته على حاله حتى دخل أحدهم مسرعا وابلغ الثلاثة بان السيد قد وصل ثم وضع العصبة على عيني على عجل وغادر . سمعت حركة نهوضهم المستعجلة وطويهم الصحف التي كانوا قد أفترشوها لتناول الطعام عليها ثم تقدم أحدهم مني وتأكد من وضع العصبة على عيني بصورة جيدة وهو يكيل لي مختلف انواع الشتائم والسباب ويصفعني بصورة متكررة على مؤخرة راسي ثم استقر خلفي تماما حتى لامس جسده ظهري.

 

لم يكد يمضي وقت طويل حتى فتحت الباب وكانت الضجة تشير الى دخول عدد من الأشخاص وليس شخصا واحدا ، أقترب الجميع مني ، كان المتحدث يتحدث بلغة غير عربية لكن شخصا اخرا كان يقوم بالترجمة عنه . كم مجرما لديكم اليوم ؟ خمسة سيدنا . كلهم تكفيريون؟ نعم سيدي وصداميون . هل هذا واحد منهم؟ هذا سيدنا صاير مناضل يحرض الطلاب بالجامعة أثناء المحاضرة ويقول بأن العراق محتل وليس محررا والجماعة سجلوا صوته بالمحاضرة وكان مسجون عند الأمريكان قبل ما نلقي القبض عليه . لم يكد ينهي كلامه حتى انهالت علي الضربات والركلات من كل جانب حتى سقطت أرضا فتكاثرت علي ضربات العصي والكابلات الكهربائية حتى شعرت بأن الدماء قد سالت على صدري من فمي وأنفي ، عندها بدأت الأسئلة المعتادة التي سمعتها من المحقق السابق تتكرر علي مرة اخرى ، وتتوقف بين حين وآخر كي يتم تعريضي لنوبة جديدة من التعذيب المتكرر وذلك بأن يمسكني مجموعة منهم ثم يتم ادخال أنبوبة مطاطية (صوندة) في فمي ثم الى المريء حتى اكاد أختنق من كثرة الغثيان ، ثم يتم ايقافي بشكل مقلوب ويبدأ الضرب المبرح على راحتي قدماي بالفلقة ، أو تعريض اذني الى أصوات عالية جدا لا أعرف مصدرها بعد ان يضعوا شيئا ما في أذني ، حتى قطع أسئلته قائلا لافائدة منه الان ضعوه في التابوت حتى الصباح وهو يتادب ويعرف كيف يتكلم ويعترف ثم نراه غدا. تم إخراجي من الغرفة بسرعة سحبا على البلاط واتجهوا بي الى مكان اخر حيث تم رفع العصبة عن عيني فوجدت نفسي في غرفة كبيرة ملقاة على ارضها العديد من الاشياء حبال وسلاسل حديدية وهراوات متعددة وبقع دماء صغيرة وكبيرة يتجمع عليها الذباب وتوابيت مرصوفة بصورة شاقولية جنب احد الجدران ، فاجأني السجان وهو يقول لي هذا قبرك هذه الليلة يابن(...) ثم أدخلني في أحداها واوقفوني فيها ثم أعاد الغطاء وتعاون مع أثنين أخرين كي يربطوا الغطاء على التابوت الواقف بحبل غليظ ثم أغلقت الباب ، كانت أطرافي لاتقوى على حمل جسدي الهزيل وكانت رائحة الموت وبقع الدماء في التابوت تخترق رئتي كسكاكين وتهيج معدتي الخاوية على الغثيان بدون جدوى . كان من المستحيل علي التململ ولو بقياس مللمتر واحد ولهواء الداخل لي من الثقوب الصغيرة في التابوت لايكاد يملء حجيرة واحدة من حجيرات رئتي والدماء المنسابة على صدري من التعذيب قد تجمدت وبدأت رائحتها تمزق انفي.

 

كنت أسمع توسلات السجناء الآخرين في التوابيت المرصوفة قربي وطرق ايديهم عليها ، كان بعضهم يبكي بصوت عال والآخر يدعوا الله بصوت جهوري , وصوت امرأة تصرخ وتقسم بالله بانها لاتعرف مكان (خالد) ولامع من يعمل ، ولا من مجيب فلا يوجد أحد في الغرفة لكن الصمت قاتل بالنسبة للسجين فيضطر للكلام مع ربه أو نفسه ، خاصة عندما يتعلق بين الموت والحياة ويصبح الفرق بين العقل والجنون والموت والحياة مجرد خيط رفيع. كانت أقدامي لاتحملني على الوقوف ونعشي لايسمح لي حتى بالتململ حتى اصبحت أحس بأن جسدي قد أصبح بثقل الجبل، كنت أتمنى أن يسرق ألمي هذا نوم عميق أو فقدان وعي فالأمر سيان عندي في هذه اللحظة فكلاهما رحمة من الله لكن أنين أحدهم كان ناقوسا يقرع داخل جمجمتي ، كان يتسا ءل بحرقة لماذا هو الآن هنا؟ مالذي فعله؟ لماذا افنى حياته دفاعا عن الوطن في ايام المحن في الحرب لمدة ثمان سنوات؟ لماذا هو تعب وشقى ثم تتم مجازاته بهذه الطريقة؟ لماذا تتحكم هذه القاذورات وأشباه الرجال بالرجال الذين افنوا حياتهم من اجل الوطن؟ كان صوته وتساؤلاته مطارق تدق في رأسي وتحفز بقايا خلايا دماغي على التفكير ايضا بنفس الطريقة!! ثم أجهش بالبكاء المر. ماأصعب الشعور بالغبن والظلم عندما يجري انتزاعك من عرشك المعنوي ثم تلقى على قارعة الطريق ويصبح مصيرك مرهونا بيد أراذل القوم ، كان يتوسل قائلا : " أرجوكم أنا اللواء الركن (......) بيتي في منطقة اليرموك محلة(....) زقاق(....) دار رقم (....) إن كان سوف يكتب الله لأحدكم الفرج والخروج من هذا القبر فاستحلفكم بالله أن تبلغوا أهلي بأني هنا في سجن الكاظمية منذ تسعة أشهر وليحاولوا التوسط لي هنا وهناك ، وابلغوهم بأنهم قطعوا ثلاثة من أصابع يدي وقلعوا جميع اظافري ويهددوني الآن بقلع عيني ولاذنب لي سوى انني قاتلت في الحرب العراقية الايرانية ويتهموني بأني أرهابي" . كان الألم قد مزق قدماي حتى باتت السيطرة على عدم خروج فضلات جسدي من المحال وبدأت اشعر بأن قدماي قد انتفختا وان ضغط الدماء فيهما يكاد يتفجر.

 

أعادت الحياة لي رشقة ماء بارد فوجدت نفسي مطروحا على الأرض وأربعة وجوه كثة اللحى تحدق في وجهي ، وغطاء تابوتي مفتوح وجملة أسمعها من بعيد على الرغم من أن المتحدث قريب جدا مني وهو يقول : " لازال حيا.." . كنت قد فقدت الإحساس تماما بقدماي حتى ظننت بأنهما قد قطعتا . حملني هؤلاء من يدي وقدمي الى غرفة صغيرة فتطلع الجالس فيها في وجهي ثم قال خذوه الى المستوصف بعد أن سمع صراخي من الألم ، فالقوا بي في سيارة مظللة الزجاج وغادرت المكان. لم يمض وقت طويل حتى توقفت السيارة وفتحت الباب فاذا هو بيت بسيط فحملني آخرين الى داخل البيت وأدخلوني الى غرفة كبيرة نسبيا كان فيها اكثر من سبعة اشخاص مطروحين أرضا بينما كان شاب في الثامنة عشرة من العمر تقريبا يصرخ بأعلى صوته من الألم والدماء تسيل على أطرافه السفلى من مؤخرته ، بينما كان إثنان يتجادلان في كيفية نقله الى المستشفى لأن الطبيب الذي يعتمدون عليه في المستشفى غير موجود الآن لأنه كان خفرا ليلة أمس ولايمكن الإعتماد على غيره ، ثم اتجه احدهم الى الشاب محاولا اسكاته بالقوة بينما كان الشاب يصرخ بأنهم اغتصبوه وادخلوا قنينة في مؤخرته ، وهو ويقول " والله لاأعلم اين أبي ولاأعرف عنه شيئا ، أرجوكم اقتلوني وخلصوني". تم إخراجه من الغرفة بسرعة بينما أخذ الآخر يهددنا بنفس المصير إن لم نعترف في التحقيق ، وانهم سوف يجلبون عوائلنا كي يفعلوا بهم مافعلوه بالشاب المصاب . نظر الي المدعو أبو حسنين وتفحص قدمي عن بعد ثم قال ليس في حالته خطورة ثم مال على أذن سجاني فوشوش له ببعض الكلمات ثم أنتقل لمعاينة الآخرين وتبين أنه ليس طبيبا بل ممرضا يمارس زرق الأبر وتضميد الجراح .

 

تمت إعادتي الى السجن ، لكن هذه المرة الى زنزانه أكبر كان فيها اكثر من عشرين شخصا تقريبا ، فهمت بعدها بأن وضعي فيها كان بمشورة من ابو حسنين الذي ابلغهم بان من الضروري اعطائي مكانا اكبر، كي استطيع ان أمد قدمي علهما يعودا الى سابق عهدهما بعد ان تعذر علي المشي بسبب الالتهاب الحاد. كان أبشع مافي هذه الزنزانة هي الحرب النفسية التي مورست ضدنا فيها . كان السجانون يأتون الينا وياخذون أرقام هواتف ذوي السجناء وعوائلهم كي يتصلوا بهم موهمين إياهم بأن ابناءهم سوف يخرجون من السجن بأقرب وقت ان تم دفع المال ، بل أن بعضهم كان يقوم بتسجيل احاديث السجناء وسلامهم الى اهاليهم كي يسمع الاهل ويسرعوا في دفع الأموال . كانت المبالغ المطالب بها كبيرة جدا في ذلك الوقت و تصل الى آلاف الدولارات وبعد أن يتم دفع المال من قبل أهالي السجناء يجري إعدامهم وإلقاء جثثهم في اماكن بعيدة ثم يتصلون بأهالي الضحايا مرة اخرى كي يرشدوهم الى أماكن جثث ابناءهم مقابل دفع مبالغ مالية ايضا. ولكثرة عددنا في هذه الغرفة صار السجانون يستصعبون فتح باب الزنزانة بين فترة وأخرى لقضاء حوائجنا ، مما جعلهم يطبقون علينا أسوء نظام لم يعرفه سجن في التاريخ على مر العصور وفي مختلف الأزمان حيث طلب منا ان نتغوط ونتبول في نفس الصحون التي نتناول بها طعامنا وفي نفس الغرفة التي كنا نحتجز فيها مما حدى بنا الى ان نمتنع عن تناول الطعام لأسباب نفسية .

 

بعدها مباشرة جاءت الأوامر بمعاقبة السجان المسؤول عن توزيع الطعام للسجناء الذين لايوجد في صحونهم غائط عندما يحين موعد توزيع الطعام ، ثم يأتي الضابط ليشرف على تناولنا الطعام مع الغائط. لكن الليل كان أبشع شيء في هذه الزنزانة . كان السجانون يأتون ليلا كي يختاروا بعض من صغار السن ويجبرونهم على ارتداء الملابس الداخلية النسائية أمامنا جميعا مع وضع مساحيق التجميل لهم والطلب منهم الرقص والغناء حتى يأتي المدعو (نقيب حيدر) ضابط خفر السجن ثملا يكاد لا يستطيع المشي من كثرة ماتناول من المشروب ، ويجلس على كرسيه المخصص في وسط الغرفة ليختار أحد هولاء الشباب قائلا له "أريد أن أزني باختك هذه الليلة ولكونها غير موجودة فاريدك ان تتقمص شخصية أختك كي أزني بك ، فقل لي الآن ما أسمها كي أسميك باسمها ، وكيف هو شكل صدرها وشعرها و.........." ثم يبدأ بتقبيله ويلامس المناطق الحساسة بجسده ثم يطلب من الحراس بعد ان ينتهي هذا الفصل البائس بنقله الى غرفته حيث يتم أغتصابه من قبل الضابط وحراسه معا وبالتناوب وقد أستمرت هذه العملية القذرة مع احد الشباب لعدة ليالي حتى صحونا فجر أحدى الأيام على صراخ صديقه (طارق) الذي كان بنفس عمره تقريبا والذي تم اعتقاله معه ، وهو يطلب منا أن نصحو لنرى (علي) جثة هامدة وقد تهشم رأسه والدماء تسيل بغزارة منه حيث ضرب رأسه منتحرا بجدار الغرفة وبقوة شديدة بعد دقائق من انتهاء الفصل الماجن معه في غرفة الضابط حيدر وإرجاعه الى السجن .

 
 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاحد  / ١١ شعبــان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٢ / أب / ٢٠٠٩ م