مذكرات سجين : '' هذه مأساة شعب وليست مشكلة شخصية ''
هل تمهد الإعدامات السرية طريق السلطة الديمقراطية في العراق ؟

﴿ الجزء الثالث والأخير ﴾

 
 

شبكة المنصور

د. مثنى عبد الله  / أكاديمي وباحث سياسي عراقي
تم إرجاعي الى الزنزانة الإنفرادية بعد ان تحسنت حالة اطرافي السفلى بعض الشيء ، حيث تبين بان الزنزانة الكبيرة التي كنت فيها ماهي الا فترة نقاهة للسجناء الذين يتعرضون الى تعذيب شديد يتسبب في اعاقة مؤقته لأعضائهم الجسدية. بدأت جلسات التحقيق معي مرة اخرى بحضور ذلك الرجل الذي لايجيد اي شيء من العربية ومرافقه المترجم العراقي وشلة الحرس الخاص به والذين يجيدون إجادة تامة كل وسائل التعذيب الجسدي والنفسي . كان البرنامج التحقيقي حافلا بالفعاليات التعذيبية التي مررت بها في المعتقلات الأمريكية ونظيرتها العراقية حيث عمليات الصعق الكهربائي وصب الزيت الحار على بعض الأماكن الحساسة في الجسد الى المثقاب الكهربائي (الدريل) وشعلة الأوكسجين التي تستخدم في لحيم الحديد لكن اقسى ماتعرضت له هو عملية الحقن بفيتامين (سي) تحت الجلد والذي يؤدي الى الشعور بالحكة الشديدة في الجسم حتى تصل الى درجة البكاء.

 

استمر التحقيق معي لأيام عديدة وكان هدفه الإعتراف على لاشيء ، أو الاعتراف بأوهام يريدونها أن تكون حقيقة ، حتى وصل بي الحال أمام كل ذلك الضغط النفسي والجسدي ان اطلب منهم كتابة مايريدون وساقوم بالتوقيع عليه كاعتراف مني ، أو يملوا علي مايريدون كتابته , لكن محققي نهض من مقعده وتحث بلغته التي ترجمها لي مترجمه الشخصي قائلا لمن بمعيته من العراقيين لافائدة من هذا الكافر انه لايريد الإعتراف وعليه فان قرار الاعدام بحقه هو الحل . إذن لم يبق بيني وبين التخلص من هذا الذل والعذاب الجسدي والنفسي سوى أيام معدودة . إنه الحلم الذي يتمناه كل من هم حولي في هذا المكان . مع مجيء الموت ينشغل تفكير الإنسان بمصير أهله وأخوته وأولاده خاصة عندما يعلم بقدومه اليه بعد دقائق او ساعات ، ومعه يشعر بوطأة الألم الفادح عندما يتذكر بأن احلامه وسعيه وجهاده من أجل أن يحيا حياة عزيزة قد ذهبت أدراج الرياح في لحظة ، لكنه عندما يوازن كل ذلك بما يتعرض له الآن فانه يفضل أن يخسر كل مابناه لأن الخسارة لتي يعيشها الآن هي خسارة معنوية لايمكن تعويضها ، إنها خسارة في الكرامة الشخصية والإعتبار الانساني . أعادني سجاني الى زنزانتي الإنفرادية لكن صورة أبناءي ووالدتي المسنة كانت هي التي تطغي على ذهني في تلك اللحظة . نظر الي سجاني من خلف القضبان وهو يقول لي سوف يحضر لك السيد هذه الليلة كي تستغفر ربك على يديه وتتوب وتلاقي ربك طاهرا ثم غادر بعد ان اقفل باب الزنزانة .


مضى يومان على حضور السيد لي كي يعلمني التوبة من حب الوطن وإن الاحتلال تحرير ، وإن الطائفة (...) هي الإسلام الحقيقي الذي يجب ان أتبعه ، لكن قرار الإعدام لم ينفذ بي لحد الآن . إنتصف الليل فسمعت أصوات السجانين تثير الضجيج داخل السجن وهم يوقضون السجناء فتصورت بان لحطة إعدامي قد حانت حيث جرت العادة بان يكون الإعدام أمام السجناء الاخرين خاصة عندما يتم التنفيذ بطريقة مبتكرة كالتي رأيناها سابقا ، لكن سبب الضجيج كان أمرا آخرا حيث تم إخراجنا للقيام بتنظيف السجن إستعدادا للزيارة الدورية التي تقوم بها القوات الامريكية ، والذين حضروا عند الفجر تقريبا . إقترب الضابط الخفر حيدر من زنزانتي برفقة عنصر أمريكي ومترجم ، حيث كان الضابط حيدر يتحدث مع الأمريكي عني قائلا بأنني إرهابي أحرض طلابي في الجامعة ضد القوات الامريكية . بصق الأمريكي في وجهي وطلب من الضابط حيدر إخراجي من الزنزانة ثم طلب مني ان أمثل دور الحمار ثم ركب على ظهري كي اجول به في ممرات السجن ، وأعود به الى باب الزنزانة ثم تبول على ظهري قبل ان يغادر وهو غارق في الضحك مع الضابط والمترجم .


مضت الأيام ببطء قاتل حتى أبلغني سجاني ذات ليلة بأن تنفيذ الإعدام بي سيتم يوم غد صباحا ، مر الليل سريعا سمعت فتح اقفال ابواب عدد من الزنازين وصوت سجان ينادي على بعض السجناء ، فتيقنت بأني لست الوحيد الذي سيلاقي مصيره اليوم . فتح علي باب زنزانتي وقادني بضعة خطوات الى نهاية الممر فوجدت ستة رجال وأمراة واحدة ، حيث تم تقسيمنا الى مجموعتين كل مجموعة من أربعة أشخاص ، وربطت أيدينا مع بعض . كانت الوجوه صفراء قاحلة من اي حياة ، والشفاه متدلية بيضاء ، كانت تعلو الجباه رهبة الموت . هبطت المرأة بقامتها فجأة الى الأرض لعدم قدرتها على الوقوف ، فهبطنا معها كون ايدينا مربوطة بيدها ، فهرع الينا احد الحراس شاتما لنا وهو يحاول استنهاض المراة من الأرض . تم فتح باب السيارة ذات الزجاج المظلل ، وقبل سوقنا الى داخلها تم عصب أعيننا واحدا بعد الاخر. إنطلقت السيارة بنا مسرعة الى المجهول تحمل أجسادنا الميتة سريريا ويجلس معنا أثنان من الحراس المسلحين بالبنادق الرشاشة بينما كانت تطلق صفيرها كي يتم فسح المجال لهم للمرور. كان الطريق طويلا بعض الشيء حيث أستمر المسير بما يقارب الساعة ثم انحدرت الى طريق ترابي عندما احسست بان السيارة تسير على طريق غير مستو . توقفت وفتحت الباب الخلفية لها ثم تم انزالنا منها وتم نزع العصبة عن أعيننا ، وفتحت أقفال معاصم أيدينا فوجدت بأن سيارة اخرى كانت قد رافقتنا حيث نزل منها ستة أشخاص مدججين بالأسلحة. كانت رائحة نتنة قد أخترقت رئتي حتى جعلتني راغبا في الاستفراغ لولا فراغ معدتي من الأكل . جلت ببصري فوجدت حائط بستان نخل قديم تهدم بعضه ومجموعة كلاب تنبح حول بعض الاشياء . تم اقتيادنا الى قرب حائط البستان فوجدنا بقايا هيكل عظمي لإنسان ، وعظام أخرى مرمية هنا وهناك ، وجثة تبدو حديثة القتل حيث لازال الشعر يغطي بعض اطراف الجمجمة وفردة حذاء باحدى القدمين بينما كانت الكلاب متجمعة على منطقة البطن مما يؤكد بان هذه المنطقة هي المذبحة التي يتم تغييب الكثير من السجناء فيها . تم أيقافنا وظهورنا تجاه الحائط وكان الفرق بين كل واحد والآخر بحدود ثلاثة امتار بينما جثت المرأة السجينة على ركبتيها , لعدم قدرتها على الوقوف واتجه الرماة واقفين أمامنا وهم يصوبون اسلحتهم تجاهننا . لحظات ولعلع صوت الرصاص وفجأة توقف لكن الروح لم تزل في جسدي بينما السجين المجاور لي راح يتلوى قرب قدمي والدماء تسيل منه لكنني مازلت واقفا على الرغم من انني شعرت ببعض الدماء تتناثر على وجهي . لم أعرف مالذي جرى هل الرامي اخطأ تصويبي ؟ ام أنني اصبت اصابات غير قاتلة؟ ومامصدر الدماء التي تناثرت على وجهي؟ ترى هل هي دماءي أم دماء الشخص الذي قتل بجانبي؟ هل أنا في الوعي أم اللاوعي؟ تلفت قليلا فوجدت ثلاثة سجناء آخرين مازالو على قيد الحياة مثلي . قطع أسئلتي التي كنت اسائل بها نفسي صوت أحدهم وهو يتجه نحوي ويقول لي هيا يا ابن(......) اصعد الى السيارة بعد ان أمسك بي من كتفي بينما تركت الجثث على حالها قرب الحائط . غادرت بنا السيارة مسرعة بعد ان ربطت أيدينا نحن الأربعة الباقين ببعض وعصبت أعيننا . أدخلني سجاني الى الزنزانة وانا لااعرف ما الأمر لكنه قبل ان يغادر قال لي اليوم رأيت الموت بعينك لكنك سوف تذوقه غدا فاعترف هذا اقصر طريق لك وغادر . لكنني لم افهم لماذا تم قتل أولاءك وتركنا نحن؟ هل هو جزء من الإرهاب النفسي للضغط علينا كي نعترف ؟ وهل الذين تم قتلهم اليوم لم يعد لهم اي مبرر للوجود بالنسبة لهولاء القتلة؟ بقيت تلك الصورة في ذهني وأمام عيني عندما كان السجان يقلب السجناء الذين تم قتلهم صباح اليوم بحذائه كي يتاكد من موتهم, بل انه تمادى في ذلك عندما كان يضغط بحذاءه بقوة على صدورهم ثم يرمي اطلاقة من مسدسه على راس كل واحد منهم. لاادري لماذا تمنيت ان تكون تلك السيدة السجينة هي الأخرى لم تقتل وتعود معنا لعل أمرا ما يبقيها على قيد الحياة وتعود الى اولادها وبيتها في يوم ما لكن الامر انتهى وهي الآن وجبة اخرى الى تلك الكلاب الضالة مع القتلى الاخرين .


لم يمر سوى يومين حتى جلست مرة اخرى أمام محقق آخر حيث بدأ كلامه متوعدا لي ومهددا إياي بأن الإعتراف أسهل وسيلة للنجاة من التعذيب عارضا علي مؤهلاته في التحقيق مع الأسرى العراقيين في ايران وكيف انه حصل على اعترافاتهم بأقصر الأوقات وكيف هشم جماجم بعضهم وقلع عيون اخرين منهم ثم سالني هل ستعترف قلت نعم قال عن ماذا قلت عن كل ماتريد ياسيدي . رفع عن عيني العصابة وابتسم ابتسامة المنتصر ووضع أمامي بضعة اوراق وقال اجب عن هذه الاسئلة . من الذي يمولكم ؟ من هم المجموعة التي تعمل معها؟ اين قادة البعث الكافر؟ من هو المسؤول عن بغداد من القاعدة؟ اين تلتقي بهم؟ اين هي اوكارهم؟ اين.....اين.....من هو ....من هو ....؟؟؟ فقلت له ياسيدي انا استاذ محاضر بعقد مؤقت مع الجامعة ولا أعرف أيا من هؤلاء لكني على استعداد كي اكتب ماتريد ، فاشتاط غضبا وبصق بوجهي ثم نادى على السجان وقال له اصلخ جلده أمامي ، فتكالب علي ثلاثة اشخاص لم أع ِ بعدها شيئا سوى أنني مرمي على الأرض والدماء تسيل من كل مكان في جسدي ، وعندما فتحت عيني قال لي سوف أجلب كل أهلك اليوم وأعمل بهم كل الذي تعرفه ثم صرفني الى الزنزانة مع سجاني . حمدت الله لأنني قلت لزوجتي وأولادي بأن يغادروا البيت فورا عندما تم اقتحام بيتي لأنني كنت اتوقع بأن يساومونني على زوجتي او اولادي لكن صدمتي كانت كبيرة جدا عندما أستدعيت للتحقيق في اليوم التالي فوجدت والدتي تلك المرأة االسبعينية من العمر وقد تم اعتقالها بعد ان عجزوا عن العثور على زوجتي واولادي ، فنظرت في وجهي وتطافرت الدموع من عينيها ولم تستطع النطق بحرف واحد عندما دفعها السجان الى خارج غرفة التحقيق . ابتسم المحقق وهو يقول ألم اقل لك بأني قادر على جلب كل أهلك ان لم تعترف . اليوم جلبت أمك وغدا زوجتك واختك ، قلت انا مستعد للإعتراف بما تريدون . استمرت جلسات التحقيق معي وكانت كل فصول التعذيب بحضور والدتي التي كان يغمى عليها كلما شرعوا في استخدام أساليبهم التعذيبية معي . ها قد مر اسبوعان والتحقيق مستمر معي ووالدتي في السجن وهي التي لاتعرف حتى كيف تخرج من بيتها على مر سنين طوال فقد زهدت الدنيا منذ أمد بعيد ولم يعد لها فيها سوى مسبحة تستغفر بها الله وسجادة تتعبد عليها . نعم كان وجود والدتي نهاية اكبر ضغط نفسي مارسوه ضدي ، وبداية انهيار تام لمعنوياتي حيث قررت ان اطلق العنان لخيالي واكتب لهم كل مايريدون من افعال لم افعلها وجرائم لم أرتكبها كي ينهوا حياتي لعل فيها نهاية لمأساة والدتي في هذا السجن الحقير وان تعود الى بيتها لكن يبدو أن مكانتها عند الناس كبيرة وعند الله اكبر فلقد تشبث بعض جيرانها من الطائفة الأخرى وليس من طائفتها ، ببعض المتنفذين من رجال دين السلطة الذين يحكمون عراق اليوم لإطلاق سراحها . قادني سجاني الى غرفة لم أرها سابقا لاحظت شخصا كث اللحية يتحدث العربية بصعوبة مع آخر ضخم الهامة ذا لحية طويلة وتعلو رأسه عمامة كبيرة يجلس أمامه ، علمت فيما بعد بأنه شخصية دينية معروفة في بغداد . التفت الرجل المعمم الي بينما نادى الآخر السجان كي يجلب والدتي . لحظات وكانت والدتي معي في نفس الغرفة . نهض الرجل المعمم مرحبا بوالدتي ومعتذرا عما حصل لها وأخبرها بأن جيرانها قد اتصلوا به متوسلين توسطه في اطلاق سراحها وانه جاء كي يأخذها بنفسه الى بيتها ، بينما مال علي جانبا مخبرا إياي بأني سوف اخرج ايضا بعد انتهاء بعض الاجراءات.


غادر الرجل برفقة والدتي بينما بقيت أنا رهينة في السجن كي يبدأ فصل جديد من المساومات معي . "إن كنت ترغب في الخروج من السجن فعليك دفع مبلغ مقداره خمسون ألف دولار أمريكي ،" هكذا قال لي الضابط حيدر الذي زارني في زنزانتي عصر ذلك اليوم ، وان سرعة خروجك تعتمد على سرعة دفع المبلغ . إذن فالموضوع ليس أكثر من مساومات مادية مقابل حياة آلاف من الأبرياء الذين تأكل أجسادهم الكلاب قرب جدار البستان الآن ، وليس أكثر من حقد وضغينة طغت على الأبصار والبصائر ، وإن العراق كبلد ووجود وهوية لاعلاقة له بكل مايجري بل أنه أبعد مايكون في اجندات هؤلاء القوم ولكي تتم الصفقة كاملة قبل ان أخرج ولعدم مقدرتي على دفع المبلغ المطلوب لعدم توفره لدي ، فقد أجبرت على كتابة وكالة عامة مطلقة تم بموجبها تحويل ملكية داري السكنية الى شخص لا أعرفه حيث وضع إسمه من قبلهم في الوكالة العامة ، وتم خروجي من السجن بعد ان تمت جميع إجراءات تحويل الملكية .

 
 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الثلاثاء  / ١٣ شعبــان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٤ / أب / ٢٠٠٩ م