كيف انتصر العراق ومتى يتوج نصره

 
 
 

شبكة المنصور

حديد العربي

للأهداف أولويات، فمنها ما هو مهم ومنها ما هو أهم، ومنها ما يتقدّم على كل الأولويات والأهميات وإن كان يبدو وكأنه متناقض معهما او يوحي بحالة تخبط سياسي وفكري، لكنه في الحقيقة ليس كذلك في أغلب الأحيان، فهو عادة ما يكون عبارة عن ضرورات ملحة تحظى باهتمام ورعاية واضعي الستراتيجيات وصانعي القرارات، وقد لا يكون كل المنفذين لتلك القرارات أو المتتبعين لها على قدر واحد من الدراية والفهم والاستيعاب لطبيعة هكذا تناقض وكيفية فك رموزه وتبيان غوامضه.

 

وعلى هذا يمكننا ايجاد الارضية التي يجب الوقوف عليها عند محاولة فهم تناقضات الفكر مع الفعل السياسي في العديد من الممارسات والعلاقات الدولية الراهنة، وذلك هو المفتاح السحري لفك رموز حقائق العداء والتحالف في آن معا بين القوى الامبريالية والصهيونية العالمية من جهة وبين الفرس بكل وجوههم والبؤر التي أوجدوها على أرض العرب من جهة ثانية.

 

ففي مسار الأهداف الكبرى لمشاريع تفتيت الوطن العربي وشرذمته وتقزيم كياناته، والتي انضجتها ظروف الهيمنة والتفوق العسكري والاعلامي، التي احتكرتها القوى الكبرى المملوكة والمدفوعة بإرادة وقرار صنّاع الفكر الصهيوني اليهودي والصليبي، والتي كانت أيضا مرحلة متقدمة من مراحل التهيئة والاعداد منذ أزمنة بعيدة، وتحديدا بعد أن توحد العرب بالاسلام فأشعروا كل قوى الظلام والقهر والعبودية بأن خطراً داهماً يتهددهم ويعصف بوجودهم، ويحاصرهم في زوايا ضيقة ومظلمة.

 

ولن يكون جديداً قولنا أن القوى التي أفقدها الاسلام على أيدي العرب سطوتها وامتيازاتها، والتي كانت قد استحوذت عليها وفقا لشريعة الغاب والتسلط، وفي مقدمتهم الفرس الحالمين باستعادة أمجاد امبراطوريتهم، قد وجدت نفسها تأتلف وتتوحد وتنسجم مع هذه القوى منذ عام 14هـ وحتى يومنا هذا دونما حساب للضرر الذي يلحق بهم أو الخسائر التي يتكبدونها نتيجة لهذا التورط، فالهدف الأسمى بالنسبة لهم يتمثل باستعادة امبراطوريتهم القومية التي كانت تهيمن على المنطقة ولا تخشى من العرب تهديدا جديا قبل ذلك بزمن بعيد، وقد استحوذت على تفكير الفرس هواجس ضياعهم بضياعها،  وراودتهم احلام وأمال باستعادتها لو أمكن تجريد العرب من أهم أسباب توحدهم وسر قوتهم، ذلك هو الإسلام.

 

ومن هنا كان مشروع الشرق الأوسط الكبير، والذي لم يكن غزو العراق واحتلاله عام 2003م إلا إيذانا بتنفيذ أخطر صفحاته وأهمها وأصعبها والعقدة الحاكمة فيها، بنجاحها يكون أمر تحقيق المشروع ممكنا، وبفشلها تُقبر الأحلام دهورا أخرى، أما التمهيد فقد امتدت مساحته على مسار مراحل التاريخ وحقبه مرورا بأحداث القرن العشرين، من تقسيم وتفتيت لكيان الأمة العربية وزرع الكيان الصهيوني في قلبها، والهيمنة المباشرة على مواردها ومقدراتها ومصادر قرارها وإلحاق أجزاء مهمة وحيوية منها بمن جاورها، وتطويقها من محيطها الخارجي بظروف شائكة ومعقدة.

 

وقد كان الفرس بمثابة خنجر الغدر الذي يهوي طاعنا بظهر العرب كلما كان ذلك مفيدا لمخططات الغرب الصليبي والصهيونية العالمية، ففي عام 1508 كان اسماعيل الصفوي بمثابة خنجر الغدر الذي طعن امة الاسلام والعرب تحقيقا لهدفين في آن معا: تخفيف ضغط الجيوش العثمانية على اوروبا، وتحقيقا لمآربه في استعادة امبراطوريتهم الفارسية العنصرية، وفي هذا يبدو تناقض صارخ، فالامبراطورية الفارسية كانت على مدى عدة قرون المنافس الأول للامبراطورية الرومانية، وخاضت ضدها حروبا طاحنة، فكيف يمكن للغرب تسهيل مهمة كهذه؟ الجواب يكمن في فهم واستيعاب ان أحد أهم الأهداف المركزية التي تبنتها القوى الصليبية والصهيونية، إن لم يكن المتقدم على كل الأهداف والأولويات، هو تدمير الأمة العربية - التي حملت راية الاسلام وانطلقت بها كالاعصار، تهاوت أمامها كل القلاع والامبراطوريات بزمن قياسي وانجاز فريد - بشتى الوسائل والسبل، سياسية والاجتماعية واقتصادية وثقافية وعسكرية، والعمل في ذات الوقت على مسخ قيم الاسلام وعقيدته، عن طريق خلق المتناقضات وزرعها داخل كيانه، بعد أن مهدت بمكائد عديدة أرضية الخلاف والتطرف والتفريط في وقت واحد ليحدث الصدام داخل كيان الأمة، وقد حصل ويحصل اليوم ويُرى بكل وضوح.

 

ولهذا كانت لدولة الفرس حصة من غنائم الحرب العالمية الأولى مع إنها لم تكن من بين الثيران المتناطحة، فالحرب العالمية الأولى لم تكن إلا نزالا بين فرقاء الرابح فيهم يغنم أرض العرب كهدف أكبر، لكن تآزر الفرس مع الصليبيين واليهود على نحر رقبة الدولة العثمانية، وكثمن للأدوار التي لعبها الفرس في تمزيق شمل العرب وتشتيت رأيهم وإنضاج ثمار دسائسهم على الاسلام غلوا وتفريطا، فكان للفرس اقليم الأحواز العراقي العربي ببحيرات نفطه الواسعة، على قدم المساوات مع المتناطحين الفائزين فرنسا وبريطانيا.

 

وتجدر الاشارة هنا إلى حقيقة تاريخية، أن شيعة العراق العرب ممن لم تتلوث عقولهم بالفكر الفارسي الصفوي أو ممن لم يقعوا في شراك الفرس ودسائس خبثهم، كانوا في مقدمة المتصدين للغزو البريطاني بين عامي 1914 و 1917م، وبخاصة في معارك الكوت والمدائن التي تكبد فيها الغزاة أعدادا كبيرة من القتلى والجرحى والأسرى والمعدات الحربية والذخائر، في حين كان شيعة الفرس يمهدون السبل لحملات الغزو حتى سقطت بغداد في قبضة الانكليز، فكان الثمن اقليم الأحواز عام 1925م.

 

(خريطة 1 )

 

ولعل هذا الخزين من التجارب الغنية لمسار التحالف الصليبي الصهيوني مع الفرس، أو لنقل خبرات تلاقي المصالح الكبرى بين الفريقين، هو الذي أنجب البؤر الفارسية التي حفرت بعناية فائقة على أرض العرب، ففي لبنان كان جبل عامل الذي تخرج من مكائد الفرس واليهود فيه منذ أن كانوا تلاميذ في مدرسة اسماعيل شاه الصفوي وحتى الخوميني فأنجب بؤرتي منظمة أمل وحزب الله وحسن نصرالله، عززت وجودها الصهيونية العالمية بدماء العرب وحتى اليهود انفسهم فيما سمي بتحرير جنوب لبنان، لأهداف أكبر بكثير من دماء بضعة يهود صهاينة، فوجود بؤرة إيرانية على أرض لبنان ستحمي الكيان الصهيوني من الفعل الفلسطيني المقاوم، وقد تحقق ذلك بمذابح صبرا وشاتلا وبرج البراجنة، فصار جنوب لبنان سياجا شائكا أمام شعب فلسطين تحرسه صدور من باع عقله للفرس وفكرهم الصفوي ودولارات النفط الذي اغتصبوه من أرض العرب، وعلى كل عربي يحترم عقله أن لا يمسح من ذاكرته صدى صيحات عصابات أمل - والتي صارت فيما بعد حزب الله - في شوارع بيروت بعد ذبح الشعب الفلسطيني " لا إله إلا الله العرب أعداء الله" ولو تجرأ أحد العرب حينها وسأل أصحاب الهتاف: من هم إذن أحباب الله؟ لأتاه الجواب واضحا جليا، بصوت هادر وغير هياب: الفرس وكسرى وزرادشت واسملعيل وعباس الصفوي والخميني هم أحباب الله، وحينها كان حقا على السائل أن يصرخ بصوت مزمجر: يالخيبة العرب وهوانهم، وما كان يمكنه ذلك فالنظام النصيري السوري بالمرصاد دفاعا عن الفرس ويؤرهم.

 

وكذا حال البؤر التي زُرِعت بعناية فائقة في دويلات العهر، إمارات الخليج العربي، بذلوا لنفوسهم المريضة أرقى أنواع العبودية والإفتراش تحت قذاراتهم حتى تمكنوا من رقابهم فأصبحوا اليوم دولاً فارسية داخل دويلاتهم، أنسوهم فلسطين والعراق والسودان وكل أرض العرب وسمروا عقولهم بقوائم كراسيهم.

 

أما الغايات من وجود هذه البؤر او الدويلات الصفوية داخل كيان الأمة العربية فهي ضرورات ملحة للصليبيين والصهاينة اليهود كما للفرس أيضا، الضرورة الأولى: منع توحد الأمة بكياناتها المصطنعة وفقا لسايكس بيكو وما بعدها، فحكام الكويت سعوا بأقدامهم وبإرادة أسيادهم حلفاء الفرس بعد أن خذلهم الخميني وأخطر العراق مخططاتهم، ليكونوا أمام نار الغضب العراقي، فقد تطوع الفرس ليشغلوا العراق وثورته عن واجبها القومي تجاه أرض فلسطين وأهلها والسعي لتحقيق وحدة الأمة من جانب ولإضعاف العراق تسهيلا لإبتلاعه فيما بعد من جانب أخر، ومعلوم أن التآمر الفارسي لم يلد رداً على استلام حزب البعث والشهيد صدام حسين للسلطة في العراق، بل كان قديما قدم العراق، أما كيف أخطر العراق مخططات الأعداء بمواجهة الفرس خلال معارك القادسية الثانية، فذلك لأن قيادة العراق كانت قد فتحت الطريق أمام العرب جميعا ليعبروا عن مشاعرهم تجاه وحدتهم المصيرية من خلال المشاركة في جبهات القتال ضد الفرس، فعزز العراق لأول مرة في نفوس كل أبناء الأمة حاجتهم للوحدة والتكاتف.

 

ولنا في حقيقة وجود البؤر الفارسية على أرض العرب مثالا صارخا في حال العراق منذ عام 1991م، فقد كانت البؤرة الفارسية المتشظية بين ابناء العراق اليد التي استخدمها الغزاة في عدوانهم الثلاثيني على العراق لتدمر كل ما عجزت غربان وصواريح الغزاة عن تدميره، فانطلقت هذه المجاميع المجرمة حال وقف اطلاق النار من قبل المعتدين نهاية شهر شباط 1991م لتفتك بأهل العراق تدعمها وتقودها المخابرات الفارسية وتدمر ممتلكات المواطنين أوتنهبها، تمهيدا لإلحاق البلد بولاية الفقيه الفارسي، لكن الله تعالى خيّب أمالهم وأحبط نواياهم، ثم مارسوا ذات الأدوار التخريبية خلال فترة الحصار الذي دام ثلاثة عشر عاما، ما كانت أقوى الأمم لتطيق شهورا منه، حتى الغزو عام 2003م الذي كانت إيران الفرس وبؤرها أقداماً للغزاة عبرت بهم على جثث الشهداء من أبناء العراق النشامي إلى حيث بغداد التي أدمعت أعينهم وديانا على مجد ساسان.

 

وهنا أيضا كانت للفرس آمال بحصة كبيرة في الغنيمة، فقد كان مشروع الشرق الأوسط الكبير لا يفرض الكيان الصهيوني كواقع حال ثابت على أرض العرب وعلى حساب أمتهم، بل يسعى لتأمين وجوده وحمايته من كل الأخطار المحتملة، ومعها ضمان الهيمنه على مقدرات العرب وثرواتهم، من خلال شرذمتهم إلى كيانات جديدة مختلفة كل الإختلاف هذه المرة عن تقسيمات سايكس بيكو، فالتقسيم هذه المرة مبني على أسس طائفية وعرقية ويستهدف أيضا سلب العرب كل مصادر خيراتهم وإلحاقها بقوى إقليمية من خارج الوطن العربي، تكون للفرس فيها حصة الأسد تبعا لما قدموه من دلائل وإثباتات على شراكتهم وصدق توليهم، كما يعتمد المشروع فصل الجزء المتبقي من مشرق الوطن العربي عن المتبقي من مغربه بخطة مماثلة، وبذلك يكون الصليبيين والصهاينة قد مزقوا أرض العرب في الوقت الذي يكون الفرس قد أنجزوا مهمة تمزيق الإسلام وتشويهه، كي لا يتوحد العرب به مجددا.

 

هذا المشروع كان مؤملا له باحتلال العراق أن يحول خارطة الجناح الشرقي لأمة العرب ودريئتها من الشكل الحالي إلى مهب الريح في الشكل الذي يليه، كما نشرته مجلة القوات السلحة الأمريكية بعددها الصادر في حزيران عام 2006م.

 

(خريطة2)

 

(خريطة3)

 

حيث تضمنت اقتطاع نصف العراق الجنوبي والساحل الغربي للخليج العربي من منطقة نجد بما فيها الجزء الشرقي من السعودية ودول الكويت والبحرين وقطر وصولا إلى دولة الإمارات العربية المتحدة ودمجها بإقليم الأحواز العربي المحتل من قبل إيران منذ عام 1925م ومن ثم إلحاقها بإيران مقابل تخليها عن جزء بسيط من جنوبها الشرقي لتكوين دولة البلوش جنوب أفغانستان، والملاحظ أن المناطق العربية التي كانت هدفا للمشروع الشرق أوسطي تتضمن كل احتياطي العرب النفطي.

 

لكن بعد الفشل الذريع والخيبة الكبرى التي مني بها الغزاة على أسوار بغداد بصولات الشجعان المؤمنين أبناء العروبة والعراق، فرسان التحرير، منذ الساعات الأولى لغزو العراق وحتى مطلع عام 2006 عندما أيقن الغزاة بالانهيار الحقيقي والهزيمة الكبرى لجيوشهم وسياساتهم وخططهم الكبرى على حد سواء، عدلوا عن مشروعهم الكبير ذاك وراحوا يبحثون فيما هو الأولويات القصوى، فما كان أمامهم إلا تمزيق العراق الذي منعهم من تمزيق الأمة كاملة بتضحيات أبنائه البررة، فتحولوا إلى صفحة الدويلات الطائفية معتقدين بإمكانية تحقيقها كما زعمت لهم إيران وحكامها الموبوئين بالعقدة الاميراطورية الفارسية عن طريق إشعال الفتن الطائفية، التي نفذتها أدواتهم مجتمعة خلف أقنعة هذا المذهب أو ذاك، وكما موضح في الشكل التالي، والذي يعد نقطة الإنطلاق الحقيقية والجوهرية لتحقيق شرق أوسط جديد.

 

(خريطة4)

 

ولكنهم خابوا وخسئوا، وبقي العراق موحدا متلاحما تعززت أواصر وحدته الوطنية الصلبة، وتفوقت على المكر والخبث الذي أراد لها لتتحول أحقادا وكراهية، وأفشلوا حتى فكرة ترسيخ تسمية الشرق الأوسط  والتي أُطلقت منذ بداية سبعينات القرن الماضي بهدف المحو التدريجي لهوية الأمة العربية أو المنطقة العربية بعد أن صار الكيان الصهيوني متربعا في قلبها ويتحكم بصماماتها.

 

فعن أي انتصار بعد هذا يتحدث عتاة السياسة والعهر؟ وعن أي هزيمة وانزلاق إلى منحدر السقوط النهائي لإمبراطورية الشر الصليبي وحلفائها وأذيالها يتحدثون.

 

فوالله لقد تحقق الانتصار الكبير بعونه ومدده، ولم يتبق إلا التتويج، وتحطمت موجات العلوج على أسوار الحبيبة بغداد، رمز العراق والعروبة وقلعة الاسلام الحنيف، كما أراد معزها ومعيد أمجادها رحمه الله، فحيا على التتويج أيها الباذلون المجاهدون الصابرون المنتصرون يا أسود العراق وليوثه المستنفرة، وأنتم يا من خُدعتم أزماناً طويلة بمكر الفرس ها قد تكشفت لكم كل حقيقتهم القبيحة الحاقدة عليكم وعلى عروبتكم ودينكم وتاريخكم، أما آن لكم لِحاق الركب المظفر والتبرك بعطر العرق المتصبب من جباه المجاهدين المنتصرين الذين أحبوا الحسين بن علي فكانوا أصدق المقتدين بمن هو ريحانة له في الجنة، فما هي إلا صولة واحدة حتى تتهاوى الأصنام والطواغيت وستهرب ومعها الفئران والجرذان مرة أخرى إلى جحورها حيث جيف زرادشت وماذي واسماعيل شاه وخوميني.

 
 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الثلاثاء  / ٠٦ شعبــان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٢٨ / تمــوز / ٢٠٠٩ م