الشهيد الدكتور سعدون حمادي في المعتقل : قامة عراقية عروبية مسلمة باسقة

 
 
 

شبكة المنصور

أ.د. كاظم عبد الحسين عباس / أكاديمي عراقي

غني عن التعريف .. ابن كربلاء ولادة وحياة وانتماءا وارتباط, قائد من قادة الولادة البعثية التاريخية في العراق, مفكر وحدوي من طراز خاص, واحد من بين العمالقة رجال العهد الوطني الذي اغتاله الاحتلال الغاشم, استلم على مدى 35 عاما، أخطر وأهم وأكثر المراكز حيوية وحساسية, فهو وزير للنفط تارة ووزيرا للزراعة تارة اخرى ووزيرا للخارجية سنوات ورئيسا للوزراء في حقبة اخرى ومن ثم رئيسا للبرلمان لدورات عديدة وحتى يوم الغزو الاسود. اقتصادي متمرس ومناضل بعثي لم تزده المسيرة الطويلة الا مراسا وتواضعا جما وخلقا دمثا وانسانية رفيعة. نزيه النفس, ابيض اليدين, يحركه حياء رجولي لا يدانى وتتحرك خطاه وكأنه منذور لتراب العراق والامة العربية.

 

اليوم .. الخميس 18_9 _ 2009 قادتني الصدفة لاستمع الى برنامج فضائي يتحدث فيه الاسير العراقي المحرر السيد علي القيسي الذي ينشط الآن بصفته رئيسا للجنة الدفاع عن الاسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال وعملاءه والذي عرفه العالم كله في صورة كوضع الصليب التقطت له اثناء تعذيبه في معتقل ابو غريب. لم استمع للسيد علي القيسي من قبل, حتى جاءت صدفة اليوم لتقدم لنا رجلا مثقفا ببساطة وعفوية يغبط عليها, بذاكرة حية تختزن كل ألوان الوجع الشخصي وما شهده من فضائع يندى لها جبين البشرية في ابو غريب من اغتصاب للرجال وللنساء وموت تحت ادوات النتل الكهربائي والتسقيط بالاعتداء الاخلاقي وغيرها مما يحتاج الى وقفة خاصة من كل كتّاب الامة الاحرار عراقيين وعرب, رجل بعفة العراق وصدقه ونزاهته، وليتني أجيد غير ما انا مالك من الفاظ وعبارات الاحترام والثناء والتقدير له ولكل عراقي أشَم واجه غطرسة الاحتلال بالحجارة في معسكرات الاسر وبالاعتصام وبالاضراب عن الطعام وبكل اشكال التحدي البطولي الاسطوري.

 

قد تكون بعض اطراف حكاية الدكتور سعدون حمادي في الاسر قد جاءت على لسان الرجل علي القيسي صدفة غير انها في تقديري قد فرضت حضورها الجليل على البرنامج وعلى غير ما اراده حميد عبد الله الذي بمجرد ما ذكر اسم الدكتور سعدون حمادي بادر الى السؤال: هل اعتذر .. هل اعترف بالاخطاء؟ فجاءت حكاية الاسير عن الاسير هكذا:

 

كان الدكتور سعدون في الخيمة هادئا متزنا ويرفض الحديث في قضيتي الدين والسياسة ونحن نقول ان هذه هي خصاله الطبيعية التي عرفناه وعرفه العالم بها رحمه الله .. هادئ ومتزن ويختار كلماته بعناية لا مثيل لها.

 

اقتربنا منه, يقول السيد القيسي, وحاولنا ان نجذبه الى انشطتنا التي نحاول من خلالها غلبة زمن القهر والعذاب واوقاته العصيبة .. قلنا له اننا لا نتفق معك بدءا كونك خريج الجامعه الامريكية في بيروت ..غير ان ردوده علينا وشروحاته قد جعلتني اختار تلك الجامعة كأول موقع اعرض فيها نشاطي عن الاسرى والمعتقلات والتقيت هناك مع العديد من الاساتذة وحدثتهم عن الشروحات التي قدمها لنا احد خريجي الجامعة وهو الدكتور سعدون حمادي في المعتقل فكان ان اظهروا الكثير من التقدير والاحترام لشخص الدكتور سعدون واثنوا على حديثه الطيب عن الجامعة وطلابها واساتذتها العرب ....

 

طلبت منه ان يحدثنا عن شعوب الدول التي زارها وعاداتها وتقاليدها وآدابها العامة، فاستجاب للطلب وعملنا له منبرا صغيرا من كيسي رمل ودعوت الاسرى والمعتقلين للحضور .. اتسعت الحلقة يوما بعد آخر حتى صارت ظاهرة اقلقت الامريكان. استفدنا كثيرا من الاحاديث والمعلومات الرائعة التي قدمها الدكتور سعدون خصوصا وانه كان على درجة عالية من الثقافة ووضوح الفكر والهدوء والرزانة ...

 

كان الدكتور سعدون شخصية متماسكه, وكان يصلي معنا وكان شجاعا في كل تصرفاته. وبدأنا نستعين به في نقل مطالبنا الى الامريكان حيث كان جريئا وواضحا وصادقا في نقل ما نريد, تساعده لغة انجليزية طليقة، بل عرفنا انه يعرف اكثر من لغة.

 

في احد الايام .. كان الدكتور سعدون يحاول خياطة فانيلتة الداخلية التي تمزقت ليحولها الى جواريب يستعين بها, كما كنا نفعل جميعنا, على ارض معتقل ابو غريب الموحلة بطبيعتها ... غير ان ضعف بصره قد جعله يخيط القطعة الخرقة فوق بدلته فلاحظ ذلك الجندي الامريكي الحارس، فذهب وجلب زوج جوارب جديدة وقدمها للدكتور سعدون .. كانت هذه احدى وسائل التسقيط التي يستخدمها الامريكان في المعتقل:

 

رفض الدكتور سعدون استلام الجوارب وقال للامريكي: قدم جوارب لجميع الاسرى فهذا حقهم وليس منة منكم والاّ فارجع جواربك فلا حاجة لي بها.

 

ويضيف السيد علي القيسي في اشارته العرضية للشهيد الدكتور سعدون حمادي انه قد قبلَ تكليف وطلب رفاقه الاسرى بالتحدث الى فريق من الصليب الاحمر سمح الاحتلال بزيارتهم. وحين بدأ الدكتور سعدون رحمه الله حديثه الى الفريق الدولي استخدم معهم اكثر من لغة فاقترب احد اعضاء الوفد من الدكتور بمسافة اكثر مما يسمح بها الامريكان الذين افهموا الفريق الدولي بان هؤلاء المعتقلين هم من عتاة المجرمين والقتلة والارهابيين, حتى وصل قريبا منه وسأله: ألست الدكتور سعدون وزير خارجية العراق؟ فأجابه الدكتور بالايجاب، فرّد عليه عضو الصليب الاحمر بانه كان وزيرا في دولة اوربية و انه يعرف الدكتور حمادي رجل دولة حاذق واقترب اكثر حتى صافح الدكتور.

 

خاطب الدكتور سعدون الفريق قائلا: هؤلاء علماء في الفيزياء والعلوم ورجال دين أشراف وكادر دولة وعراقيون نجباء وليسوا مجرمين كما يفهمكم الامريكان .

 

يقول السيد علي: قرر الفريق الدولي على اثر ذاك الحديث الدخول الى خيمتنا وسجل اسماءنا وتفاصيل وضعنا ورفض الوزير الاوربي السابق ان يجلس على المنصة ويترك الدكتور سعدون على الارض. وكان ذاك اللقاء بداية الضغط الدولي للافراج عن تلك المجموعة البطلة من العراقيين المجاهدين الشرفاء.

 

هؤلاء هم رجال دولة العراق, دولة حزب البعث العربي الاشتراكي, هؤلاء هم قادتها ومفكريها واعمدتها ... تنحني لهم قامات الدول قبل قامات رجال الدول. ولا يقف في طريق تكريمهم واجلالهم حتى ظروف وجودهم في غياهب السجون ولا تقف في طريق انسانيتهم ووطنيتهم وقوميتهم واسلامهم وفعلهم الرجولي حتى وهم يعيشون أتعس الظروف تحت الاعتقال والتعذيب الوحشي وظروف قهر الاحتلال المجرم. فلا قرّت أعين العملاء والخونة حكام الاحتلال واذنابه.

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاحد  / ٢٦ جمادي الثاني١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٢١ / حزيران / ٢٠٠٩ م