تصفية العلماء العراقيين وملاحقتهم .. إستمرار نزيف الدم والمعرفة لتدمير وتركيع العراق

 
 
 

شبكة المنصور

كامل المحمود

أينما تذهب حول العالم ترى عالما عراقيا متميزا أو أستاذا مُبدعا أو خبيرا مجتهدا..

في وكالة الفضاء الأمريكية ناسا في هيوستن وفلوريدا ..وفي مراكز الأبحاث الزراعية في نيوزيلندا وإستراليا ..في مصانع اليابان وفي جامعات بريطانيا وكندا وفرنسا ..في كوستاريكا وتشيلي والبرازيل وجنوب أفريقيا وروسيا وألمانيا وسوريا ومصر واليمن والأردن والسودان.. وفي كل مكان وربما في كل مدينة كبيرة في العالم!..

 

كفاءات وقدرات مبدعة وخبرات نظرية وتطبيقية متراكمة وشهادات عليا غاية في الدقة غربتها حملات الإنتقام والثأر والعقوبات الجماعية والجهل وشردتها الحاجة والبحث عن الأمان والرغبة الصادقة في العطاء والتواصل والإبداع والتطور ..عراقيون يعيشون في بلدان  أعطتهم أكثر مما أعطاهم الوطن الذي تنكر حكامه لحقوقهم ويلاحقونهم في الرزق والحياة للإقتصاص منهم !..

 

لقد كشفت منظمة )ذا بروكسل تربيونال كوميتي( مؤخرا أن حوالي 418 أستاذاً وعالماً عراقياً تمت تصفيتهم وإغتيالهم مُنذ إحتلال العراق قبل ست سنوات..

 

كما يُعتقد أن عدد الذين تم إغتيالهم ولم تسجل أسماؤهم يتجاوز الألفين!..

وأيٌ منهم لم يلق حتفه عشوائيا في إحدى الغارات أو العمليات الإرهابية كسائر أفراد الشعب العراقي الجريح.. ولكنهم قد أصيبوا بطلقة رصاص في الرأس أو في القلب  أثناء مغادرة الجامعة أو المنزل في عمليات تصفية تتصف بالمهنية العالية والإحترافية !..

 

وغيرهم قد تم إعتقالهم أو إختطافهم بعمليات متقنة قبل العثور على جثثهم مقطعة ومرمية في الشوارع .. وآخرين تعرضوا للخطف من أمام بوابة الكلية أو من أمام منازلهم قبل سنوات ولم يتم العثور عليهم لحد الآن .. وأخرين أحالوا أنفسهم للتقاعد أو نجوا بها بعد أن غادروا العراق أو إختفوا وهؤلاء يتجاوز عددهم 5000 من العلماء العراقيين.

 

وقال الدكتور نور الدين الربيعي الأمين العام لاتحاد المجالس النوعية للأبحاث العلمية :

( لقد فقد العراق 5500 عالم منذ الغزو الأنجلوأميركي في أبريل/نيسان 2003، معظمهم هاجروا إلى شرق آسيا وشرق أوروبا والباقي تم إغتياله. وأن نسبة 80 بالمائة من عمليات الإغتيال إستهدفت العاملين في الجامعات ويحمل أكثر من نصف القتلى لقب أستاذ وأستاذ مساعد وأكثر من نصف الإغتيالات وقعت في جامعة بغداد تلتها البصرة ثم الموصل والجامعة المستنصرية وأن 62 بالمائة من العلماء المغتالين يحملون شهادات الدكتوراه وثلثهم مختص بالعلوم والطب). 

 

ويوضح الدكتور الربيعي حقيقة خطيرة جدا قائلا:

(إن التقدم التقني والعلمي في العراق كان في مقدمة أسباب غزوه من قبل الولايات المتحدة وشركائها بدفع وتوجيه صهيوني ويكفي في ذلك تصريح «مادلين اولبرايت» وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة والتي قالت فيه بالحرف الواحد: ماذا نستطيع ان نفعل مع العراق غير تدمير عقوله التي لا تستطيع القنابل الذرية أن تدمرها فتدمير العقول العراقية أهم من ضرب القنابل)!..

 

وذكر الكاتب البريطاني روبرت فيسك مرات عدة إن مايقارب خمسة عشر جهاز إستخباراتي لعدة دول يعمل في العراق بهدف إجهاض العراق والقضاء على ثروته العلمية المتمثلة بعقول أبنائه.

 

وقالت تقارير صادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية:

(إن 74 بالمائة من العلماء والأكاديميين تعرضوا للتصفية الجسدية بينما بقي حوالي 26 بالمائة تحت وطأة التهديد المستمر )..

 

ومن المعروف أنه ووفق دراسة عراقية سابقة كشفت أن الاحتلال الأمريكي تعامل مع علماء العراق ومفكريه بطريقة تضمن إحتواء العلماء وإعادة توظيفهم أو تجميدهم خدمة للمصلحة الأمريكية ..وجرى ويجري ذلك بموجب آلية تعتمد على ثلاثة خيارات:

 

الخيار الأول هو الإستهداف المباشر وغير المباشر  حيث ذكر خبير الشؤون الإسرائيلية في مؤسسة الأهرام الدكتور عماد جاد إن الولايات المتحدة نقلت من العراق جوا أكثر من  70 من العلماء العراقيين إلى خارج العراق ووضعتهم في مناطق نائية خشية أن يسربوا ما لديهم من معلومات أو يحولوا تلك المعلومات إلى منظمات أو دول معادية للأمريكان.

 

أما الخيار الثاني والذي عرف بالخيار السلفادوري..والذي يقوم على تصفية العقول التي ترفض الإغراءات الأمريكية الإسرائيلية  بهدف تجفيف منابع العراق العلمية والفكرية وحرمان شعبه من خبراته وكفاءاته وعقوله ورجال البحث العلمي .

 

والخيار الثالث هو الذي يعرف بالخيار الألماني ويتمثل  بإفشاء المعلومات من قبل العلماء العراقيين إلى الجهات الغربية وبالتحديد الأمريكية. وبدأت هذه المحاولات بمشروع السيناتور جوزيف بايدن الذي صادق عليه مجلس الشيوخ الأمريكي في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، وقضى بمنح العلماء العراقيين الذين يوافقون على إفشاء معلومات مهمة عن برامج بلادهم التسليحية بطاقة الهجرة الأمريكية الخضراء مستغلا بذلك الحصار المفروض آنذاك على العراق!.

 

وفي عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش كشفت الخارجية الأمريكية عن تقرير أن المخابرات الأجنبية تركز على اغتيال علماء العراق المتخصصين في المجال النووي والمعارف العلمية المختلفة.

 

وقال التقرير إن وحدات أجنبية خاصة تعمل في الأراضي العراقية لقتل العلماء النوويين العراقيين وتصفيتهم بعد أن فشلت الجهود الكبيرة منذ بداية الغزو في استمالة عدد منهم للتعاون والعمل خارج العراق. وأكد التقرير أنه علي الرغم من أن البعض منهم أجبر علي العمل في مراكز أبحاث حكومية أجنبية إلا أن الغالبية الكبري من هؤلاء العلماء رفضوا في بعض التجارب وأن جزءا كبيرا منهم هرب من تلك البلدان إلي بلدان أخرى.وأشار التقرير إلي أن العلماء العراقيين الذين قرروا التمسك بالبقاء في الأراضي العراقية خضعوا لمراحل طويلة من الاستجواب والتحقيقات والتي ترتب عليها اخضاعهم للتعذيب في حين كان وجود هؤلاء العلماء أحياء يمثل خطرا علي أمن الدول التي ناصبها العراق العداء في المستقبل. وتستهدف هذه العمليات وفقا للتقرير الأمريكي أكثر من 1000 عالم عراقي وأن أحد أسباب انتشار الانفجارات في بعض شوارع المدن العراقية يكون المستهدف منه قتل العلماء.

 

ويحاول الكثير التغاضي عن تلك الإحصاءات والأرقام فيما تبادر جهات مسؤولة إلى تكذيب تلك الإحصاءات الصادرة عن جهات متخصصة.

 

وقد شكّلت عمليات ملاحقة ومتابعة ومضايقة علماء العراق والتضييق عليهم وتهجيرهم واعتقالهم وقتلهم  جزءاً أساسيا من عملية تدمير وهدم وتشتيت مدروسة ومنظمة لقدرات ولإمكانات العراق المادية والبشرية بدأت بتهجيرهم في مرحلة الحصار واستكملت بوسائل أخرى مع بداية احتلال العراق ومازالت مستمرة .

 

إن عملية الملاحقة والتهجير والمحاربة والتدمير التي تعرض لها العلماء العراقيين ماهي إلا حلقة من حلقات تدمير كل الخبرة العلمية العراقية المتراكمة عبر سنين طويلة والتي بدت ظاهرة وواضحة خلال فترة الغزو والإحتلال الأمريكي في عمليات التخريب والتدمير والسرقة التي تمت بعد الحرب والتي شملت جميع مراكز البحث العلمي والمؤسسات والجامعات والمصانع والدوائر ومنشآت التصنيع العسكري والتعليم العالي والكليات العسكرية بما فيها من عقول وإبداعات وأدوات وأجهزة وأبحاث ودراسات والتي إنتشر عطاء منتسبيها  وإبداعاتهم من بحث وتطوير وتصنيع وإبتكار وإختراع ..هذه المؤسسات التي كان الشعب يفخر بها ويتغنى بإنجازاتها.

 

ففي مجال الصناعة والإبداع العسكري كان الهدف هو منع العراق من إعادة بناء قدراته العسكرية ومنع وصول علمائه ومهندسيه ومبدعيه إلى أي بلد عربي وإسلامي وملاحقتهم ومتابعتهم وتضييق سبل العيش عليهم بغية استقطابهم للعمل في مراكز ومعاهد محددة تعمل بإدارتهم  ووضع خطة وقائية لمنع الطلاب العرب الدارسين في الغرب من التحصيل العلمي في مجال الأبحاث القريبة من التخصصات العسكرية.

 

وفي مجال تدمير المؤسسات الأكاديمية.. فقد أكَّد تقرير نشرته اليونسكو في العام 2006 أنه تم إثبات نهب حوالي 84% من المؤسسات العلمية والبحثية والأكاديمية العراقية ..وتعرضت المكتبات الوطنية والجامعية إلى نهب 80% من الكتب الموجودة فيها إضافة إلى كل المخطوطات وبدون أية حماية من القوات الأميركية الغازية ولأغلب الجامعات.

لقد لفت العراق أنظار العالم لما شهده من طفرة علمية وتصنيعية هائلة في بدايات الثمانينات وما كان لهذه الثورة العلمية أن تمر بهذه السهولة حيث جرى الإعداد بشكل دقيق لمخطط تدمير وإغتيال الموروث والمستودع العلمي والقدرات العراقية ..وقد مثّل الحصار الشامل الذي أحاط بالعراق بإطباق شديد عام 1990 ودام ثلاثة عشر عام بداية تنفيذ هذا المخطط والذي بدأ بقطع أي صلة للعراق بالعالم الخارجي ومنع العلماء العراقيين من مواصلة برامجهم العلمية والبحثية والتطويرية التي يتوجب لها التواصل مع عموم حركة التطور في العالم..

 

ومنذ عام 1991 بدات الولايات المتحدة بتنفيذ سلسلة من التوصيات القديمة وتشريع القوانين وحث الدول والمنظمات الدولية على تسهيل هجرة العقول العراقية والضغط عليها لمغادرة العراق وإستخدمت أساليب متعددة في الترغيب والتسهيلات والترهيب والإجبار وتشير الدراسات إلى أن الفترة ما بين عامي 1991 و 1998 شهدت مغادرة أكثر من 7350 عالماً عراقيا تلقفتهم دول أوربية وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها  ومنهم 67% أساتذة جامعة و 23 % يعملون في مراكز أبحاث علمية ومن هذا العدد الضخم 83% درسوا في جامعات أوربية وأمريكية.

 

وبعد الغزو والإحتلال الأمريكي تعرضت الكفاءات العراقية من علماء وأساتذة جامعات لحملة منظمة للإذلال والتحقير والإهانة لتطويعهم وكسر شوكتهم ..كما تعرضوا لحملة مخطط لها بإتقان للإغتيال وبمهنية عالية وبطرق إحترافية ولحملة مطاردة وإعتقالات ومراحل تحقيق وإستجواب وتعذيب طويلة لعلماء عراقيين..حيث كان القتل داخل المعتقلات مصيرا حتميا لغير المتعاونين منهم.

 

كما تعرضت الكفاءءات العراقية لحملة مخطط لها بعناية للإختطاف هم وأبناءهم وعوائلهم وطاب فدية كبيرة مقابل إطلاق سراحهم ..مما حدى بالكثير من العلماء الذين بقوا في العراق الى الإنصياع لحملة التهجير القسرية ..وحملة الهجرة المنظمة للدول الأوربية وتشير الدراسات الرسمية بان الأرقام المعلنة حتى أواسط العام 2006 إلى أن حوالي 17 ألف من العلماء والأساتذة أجبروا على الرحيل منذ بدء الاحتلال.

 

إن إستمرار نزيف الدم للكفاءات والعقول العراقية التي تمثل تراثا وكنزا ثمينا للأجيال يبعث للتساؤل عن الجهة المستفيدة من عمليات الإغتيال ومن الذي  يقوم باغتيالهم وملاحقتهم وتهجيرهم؟ ..

 

من هو القائم على تصفية المشاركين في برامج التسلح؟

ولماذا تتم ملاحقة ومتابعة وتصفية من لا علاقة تربطه بهذه البرامج ولكنه يقوم بتدريس المواد العلمية التي لها علاقة بهذه البرامج  لطلبته في الجامعة ؟

من له المصلحة في تصفيتهم ومن يقف وراء ملاحقتهم وتضييق سبل العيش وقطع الأرزاق عنهم؟..

ومن هو المستفيد من نزيف العقول العراقية؟

ولماذا تُستهدف هذه الكفاءات مع أن ميزتها الوحيدة هي الإبداع المهني والإختراع والتفوق العلمي والنبوغ المعرفي والانتماء الوطني؟

وما هي التداعيات المستقبلية التي سيواجهها العراق من جراء الإستهداف المتصاعد واعمال التصفية الجسدية التي تطال العلماء ؟

ولعل تحليل بسيط واحد عرضه أحد الكتاب الأميركيين يمثل جانب اساسي للإجابة على كل هذه التساؤلات بقوله:

 

( إنه مهما كانت تلك الجهة التي تقوم بعمليات الاغتيال للأساتذة والعلماء العراقيين فهي جهة تمتلك كفاءة استخبارية متقدمة جداً مما يجعلها تمتلك الدقة في البحث عن أهدافٍ محدودة وسط عدد هائل من السكان )!..

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الثلاثاء  / ٢٨ رجــــب ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٢١ / تمــوز / ٢٠٠٩ م