ألتحديات المعاصرة وغياب ألعمل ألعربي ألمشترك

 
 
 

شبكة المنصور

د. غازي فيصل حسين / أكاديمية الدراسات العليا                                                    
طرابلس الغرب  

إن محاولة تشخيص وتحليل ملامح الأزمة ألمعاصرة في الوضع ألعربي الراهن تؤكد على وجود مجموعة من التحديات الإقليمية والدولية ، يمكننا تأشيرها عبر مجموعة من التساؤلات التي تستهدف الكشف عن أسباب عجز النظام الرسمي العربي في عصرنا ألراهن بفعل تعرض الواقع العربي لمرحلة انحطاط حضاري تؤدي لعدم قدرتهم ولعجزهم عن إثبات وجودهم بعد فشلهم في إقامة دولة الوحدة في عصر القوميات الذي حل محله في عصرنا الراهن عصر العولمة الاقتصادية والسياسية والعسكرية المبني على المصالح والمنافع المادية.


إن الانحطاط الحضاري العربي اليوم الذي يعكس حالة العجز والتشرذم ، يتجسد في المستوى غير الأخلاقي الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية في المجالين العربي والدولي ، بعد سلسلة من مراحل التفريط بالحقوق ألثابتة عبر المفاوضات التي أصبحت وقودا لنار الانشقاق العربي والفلسطيني. كما يبدو اليوم عجز العرب مخجلا لعدم القدرة على معالجة الأزمات المختلفة في الحياة العربية واستمرار حالة الصمت العربي أمام غزو الولايات المتحدة الأمريكية واحتلال العراق وتدمير البنية الاقتصادية والتحتية وقتل مليون عراقي ، وتشريد 5 ملايين في ظل انعدام الحريات والديمقراطية وظهور نموذج للاستبداد الطائفي والعنصرية العرقية.


إن التساؤلات والانتقادات ومكاشفة مجتمعاتنا العربية بحقائق الواقع المعاصر ، تعد أدوات منهجية هامة لمعالجة تحديات الواقع العربي الذي يمر بمرحلة انحطاط حضاري مازالت تشكل عقبة حقيقية أمام المشروع النهضوي في العالم العربي للانتقال بالأنظمة ألسياسية والمجتمعية من التقليدية إلى الحداثة. وفي هذا الإطار يفترض البحث عن الأسباب والعوامل التي أنتجت أو ولدت التنافر في العلاقات العربية -- العربية في المجالات السياسية والاقتصادية إلى جانب العلمية والتكنولوجية وعدم وجود مظاهر لتنسيق العمل المشترك لمواجهة التحديات البيئية والطاقوية ، أو تحديات الأمن الغذائي وقضايا البطالة والهجرة. لذا سنحاول استكشاف عددا من جوانب الأزمة العربية المعاصرة عبر البحث في جذورها وطبيعة عناصرها وتحليل نتائجها.


فبعد أن أعلنت الأمم المتحدة عام 1948 قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين ألمحتلة من البريطانيين ، كان الحلم ألعربي تحرير فلسطين وشعبها من الاحتلال والعبودية والتشرد ، وكانت أنظمة الحكم العربية الملكية والجمهورية قد شاركت بريطانيا وشركائها من الدول الأوربية المحتلة لبلداننا العربية ، بإنتاج منظمة جامعة ألدول ألعربية، بديلا عن مشروع ألوحدة العربية ، الذي شكل المطلب الجوهري للأمة ولحركة ألقومية العربية وقواها الفاعلة في الكفاح ضد سياسة القواعد والأحلاف العسكرية الاستعمارية ورفض سياسة ألتبعية الاقتصادية للدول الأوربية وللولايات المتحدة الأمريكية.


كان الحلم العربي : تحرير فلسطين، وجاءت ثورة 23 يوليو عام 1951 في مصر العربية لتجذر الآمال العربية في الوحدة والتحرر والاستقلال وضمان السيادة القومية ، واستطاع التحالف بين القادة الثلاثة الكبار نهرو وعبد الناصر وتيتو ، ألتعبير عن طموحات الأمم والشعوب في البلدان النامية عبر الأفكار والقيم الكبرى قي مؤتمر باندونغ عام 1955 ، ولتظهر حركة عدم الانحياز قوة دولية هامة لتحقيق التوازن الدولي بين ألشرق والغرب وللدفاع عن حق ألشعوب في تقرير ألمصير ، وشهد عام 1958 ولادة الجمهورية ألعربية ألمتحدة، لتحول الحلم العربي إلى واقع مادي ولتضع إسرائيل بين فكي كماشة.


ولمواجهة مشروع الوحدة والتحرر والنهضة العربية ، ولد حلف بغداد العسكري بين بريطانيا والعراق وتركيا وإيران لضمان المصالح النفطية الأوربية والأمريكية ولإعطاء شرعية لنشر القواعد الأجنبية في منطقة الشرق الأوسط لضمان أمن إسرائيل. هكذا انقسمت ألدول العربية إلى نظم تقليدية تؤمن بالإبقاء على الوضع الراهن المتخلف وأخرى تحديثية ترى ألحل في تغيير الواقع ألعربي عبر التنمية والعدالة الاجتماعية وتحقيق الوحدة العربية. ونجحت النظم التقليدية والاستبدادية في العراق (خلال حكم عبد الكريم قاسم) والسعودية وعبر التحالف مع حزب الأخوان المسلمين في سوريا من إجهاض أول تجربة للوحدة ألعربية ، ثم جر جمهورية مصر العربية إلى حرب استنزاف لقدراتها العسكرية والاقتصادية في حرب اليمن بين الجمهوريين والملكيين المدعومين من السعودية.


ولاستكمال المشهد التاريخي العربي ، الذي عكس حالة من الصراع بدل التعاون والتضامن ، جاءت هزيمة الخامس من حزيران عام 1967 لتضع العقل والوعي العربي أمام صدمة كبرى ، وبدلا من تحرير فلسطين توسع الاحتلال الإسرائيلي ليضم ألقدس وسيناء والضفة الغربية والجولان. لقد عكست هزيمة حزيران هشاشة العمل العربي المشترك ، ونجاح بريطانيا في بناء جامعة للدول العربية عاجزة عن معالجة الصراعات من خلال وضع إطار إستراتيجي يفتح الفرص الحقيقية ، بين الدول العربية ، على اختلاف أنظمتها السياسة لبناء تعاون اقتصادي وسياسي وامني فعال لمواجهة تحديات التنمية والتحرر.


بعد هزيمة حزيران عام 1967 كانت مبادئ مؤتمر القمة العربية في الخرطوم تتمثل في رفض الاحتلال والتفاوض والاعتراف بإسرائيل ، حقيقة تؤكد إيمان الأمة العربية في الكفاح من أجل التحرر وضمان الاستقلال الاقتصادي والسياسي ألناجز ، وظهرت ألمقاومة ألفلسطينية ألمسلحة لتشكل انتقاله نوعية في العمل العربي المشترك لمواجهة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي ، وظهرت الحقبة السعودية وفق تعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل ، لتشكل معادلة خطيرة في الحياة العربية وعقبة كبرى أمام تبني إستراتيجية عربية حقيقية للتحرر والاستقلال مما شكل اختراقا لمشروع الأمن العربي ومنع من ظهور أي سياسة للتضامن والتعاون بين الدول العربية تخرج عن شروط حماية ألمصالح الإستراتيجية الإسرائيلية والأمريكية في ألشرق الأوسط.


كانت مصر تحاول استعادة قدرتها في المبادرة الإستراتيجية لكي تستعيد دورها المحوري في الحياة السياسية العربية ، ونجحت في خلق مناخ جديد من التضامن والتعاون بين العرب ، لكن تطور الأحداث بعد رحيل جمال عبد الناصر ، دفع نحو حرب أكتوبر عام 1973 م وما رافقها من ملابسات خطيرة ( ثغرة الدفرسوار ، إيقاف العمليات العسكرية ، ألتفاوض) ، والتي سمحت بظهور الولايات المتحدة فاعلا محوريا في الصراع العربي -- الإسرائيلي وفي رسم الإستراتيجيات المستقبلية في الشرق الأوسط.


وبالمقابل نجح العراق وليبيا والجزائر في تحرير الثروة النفطية عبر قرارات تأميم شركات النفط الأمريكية والأوربية ، كخطوة على طريق الاستقلال الاقتصادي والسياسي ، ولإحداث التوازن المطلوب في معادلة علاقات القوة الاقتصادية مع الدول الصناعية ، كما حقق تأميم المصالح النفطية قفزة نوعية نحو التنمية الشاملة ولخلق فرص جديدة أمام العمل العربي المشترك. وجاءت الصدمة النفطية الأولى بعد حرب أكتوبر لتساهم في تعظيم موارد النفط العربي ، ألذي انقسم هو الآخر إلى نفط خليجي يعزز التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية ، ونفط محرر يحاول أن يمنح البلدان العربية قوة تفاوضية لضمان قدر من التوازن في علاقات العرب الدولية.


ولامتصاص الفائض من الأموال النفطية العربية ، انفتحت الأسواق العربية لشراء المفاعلات النووية للأغراض السلمية ، والأسلحة الحربية على اختلاف صنوفها ، إلى جانب برامج ومشاريع لتطوير البنية التحتية في الصحة والتربية والتعليم والطرق والجسور ومحاولة التكييف مع التكنولوجيا الغربية والمتطورة ، وحصل كل ذلك عبر مناهج وسياسات مختلفة ومتباينة ولم تلعب جامعة الدول العربية أي دور فاعل للتنسيق بين البلدان العربية للاتفاق على تطبيق إستراتيجية متجانسة للانتقال بمجتمعاتنا نحو الحداثة والتكنولوجية المتطورة ، هكذا ذهب العرب لبناء أنظمة دفاعية مجزئة ، وأنظمة لاستيعاب العلوم والتكنولوجية غير متشابهة لا من حيث المنشأ ولا من حيث الطرق والمناهج التطبيقية ، فبدلا من تحول ألتكنولوجيا والحداثة والنهضة إلى أداة للوحدة تحولت إلى أداة جديدة للتجزئة وربما الصراع بين البلدان العربية.


في خضم التنافر العربي -- العربي ، زار الرئيس أنور السادات مدينة ألقدس المحتلة وألقى خطابه في الكنيست الإسرائيلي ، ليدشن عصرا جديدا من التمزق والاحتراب ألسياسي والثقافي العربي ظهرت أبرز تجلياتها بعد التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد للسلام ، وانقسمت الدول العربية إلى ثلاثة أصناف : دول الصمود والتصدي ، دول جبهة الاعتدال ، دول التخاذل والاستسلام. عندها ظهر متغير جديد في المنطقة تمثل في نجاح القوى الديمقراطية والوطنية عبر التحالف مع رجال الدين في إعلان قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979 ، ولتضع المنطقة أمام صراع ديني طائفي من طراز فريد ، ولتعكس عمق الخطيئة الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة نحو توازنات أو صراعات وحروب دينية وطائفية امتدت من أفغانستان ، ودعم واشنطن للمجاهدين الإسلاميين عبر التنسيق مع دول الخليج لمواجهة الاحتلال السوفيتي وفق نظرية قوس الأزمات لزبيغنو بيرجينسكي : أي وضع الإسلام في مواجهة إمبراطورية الشر السوفيتي ، هكذا حولت واشنطن الحركات الإسلامية المتطرفة إلى أدوات لضمان المصالح الأمريكية من أفغانستان مرورا بإيران والعراق حتى لبنان التي اندلعت فيها الحروب الدينية والمذهبية بأبشع صورها التي تعكس الواقع العربي الهش والممزق.


وبعد اغتيال الرئيس أنور السادات ، ذهبت الحكومة المصرية لتطبيق سيناريوهات السلام والتطبيع مع إسرائيل التي ارتفع علمها في وسط أكبر وأهم العواصم ألعربية ، وسط إعلان طهران عن قيام دولة ولاية الفقيه ، التي تستهدف الإطاحة بجميع الأنظمة العربية والإسلامية الفاسدة والخارجة عن الإسلام الشيعي ، ثم الانتقال لتحرير العالم الثالث عبر مواجهة قوى الاستكبار الصغرى والكبرى. هكذا تحولت نظرية ولاية الفقيه التي وضع أسسها الإمام روح ألله خميني بوصفه وكيل الإمام الغائب المهدي ، إلى أداة لمنحه سلطة أو ولاية عامة على جميع ألمسلمين في العالم وحمل نفسه مسؤولية تحريرهم من الظلم وقوى الاستكبار العالمي. لكن طريق تحرير القدس والأمة الإسلامية في نظرية ولاية الفقيه يجب أن يمر عبر تحرير بغداد أولا. هكذا تحولت ألثورة الإيرانية ألتي أطاحت بالاستبداد ألشاهنشاهي إلى أداة للتدخل السياسي والعسكري والأيديولوجي في المنطقة تحت غطاء الدين الإسلامي والتعصب المذهبي مما دفع لإحياء الحركات والتيارات التعصبية والمذهبية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفي العديد من البلدان الآسيوية والإفريقية وتحولت مصادر الثروة النفطية لإشعال صراعات وحروب دموية.


وللذهاب بالمخططات الإستراتيجية الأمريكية نحو أهدافها الخطيرة في تفتيت وتمزيق الشرق الأوسط اندلعت الحرب العراقية الإيرانية ، تحت ذريعة وجود خلافات حدودية وسياسية بين ألبلدين ، لكن جوهر الصراع والحرب بين العراق وإيران يتمثل بالتناقض بين أيديولوجية القومية العربية ألتي تستهدف بناء المجتمع العربي الديمقراطي الاشتراكي وبين نظرية ولاية الفقيه الإيرانية. بمعنى آخر : الصراع بين الأجندة الإيرانية التي تؤمن ببناء نظام ثيوقراطي مذهبي إسلامي وبين أجندة حركة القومية العربية في بناء الدولة وفق المواصفات العصرية وفك الاشتباك أو التداخل والتقاطع بين الدين وقيمه الروحية العظيمة وبين السلطة السياسية ذات ألمرامي والأهداف ألدنيوية.


" أن تنتهي هذه الحرب بلا غالب أو مغلوب "هكذا وضع هنري كيسنجر معادلة خطيرة للحرب العراقية الإيرانية تحولت الإستراتيجية الأمريكية بضوئها إلى أداة لمنع ظهور طرف منتصر عبر تقديم الدعم العسكري واللوجيستي للطرف الذي تتقهقر قواته وأنظمة دفاعاته العسكرية لإبقاء التوازن الهش بين الطرفين ، مما استنزف ثروات البلدين الهائلة ، فبعد أن دخل العراق الحرب بفائض مالي يصل إلى حوالي 42 مليار دولار من المبيعات النفطية ، خرج منه بمديونية تصل إلى 76 مليار دولار ، بعد أن انهارت القوات الإيرانية على مختلف الجبهات واستطاع الجيش العراقي تحرير الفاو والأراضي العراقية التي احتلتها القوات الإيرانية ، ثم توقف هذه الحرب دون التوصل إلى عقد اتفاقية لإحلال السلام بين البلدين بعد أن وصل ضحايا ألحرب إلى أكثر من مليون إنسان وتعريض اقتصاديات البلدين لمشكلات المديونية وضعف فرص النمو الاقتصادي ، كما أن الحرب العراقية الإيرانية ساهمت بصورة خطيرة في تفتيت وحدة العمل العربي وانقسمت الدول العربية بين مؤيد أو معارض أو محايد.


كانت الحرب العراقية الإيرانية وما رافقها من ملابسات خطيرة فرصة هامة للولايات المتحدة الأمريكية لتدشين حقبة من العلاقات المتبادلة بعد قطع العلاقات الدبلوماسية منذ نكسة حزيران عام 1967 م ، ولعبت السعودية ودول الخليج دورا في تطبيع العلاقات الأمريكية -- العراقية. لكن المشكلة تكمن في طبيعة المشروع الإستراتيجية الأمريكية ، التي تبلورت بعد سقوط جدار برلين * فبعد توقف العمليات الحربية المسلحة بين العراق وإيران في 8/8/1988 ، زار العراق وفد من الكونغرس الأمريكي ، برئاسة السيناتور بوب دول ، ألذي حمل رسالة من الرئيس جورج بوش للرئيس الراحل صدام حسين ، تضمنت مجموعة من الشروط الأمريكية على العراق يمكن تلخيصها بثلاث نقاط : الاعتراف بإسرائيل، خفض عديد الجيش العراقي للربع، والاستحواذ على ثروة النفط العراقية، وعندما لم يستجيب الرئيس صدام حسين للقبول بالشروط الأمريكية ، سارت العلاقات العراقية -- الأمريكية نحو التأزم ، وتطورت الأحداث نحو اجتياح القوات المسلحة العراقية للكويت ، التي انتهت بتدويل الأزمة عبر قرارات مجلس الأمن ألدولي ولم تستطع جامعة الدول العربية مواجهة ومعالجة واحدة من أخطر الأزمات والنزاعات ألعربية التي عصفت بما كان متبقيا من النظام الإقليمي العربي الهش ولتدخل معادلة الحق باستخدام القوة العسكرية في العلاقات العربية -- العربية.


هكذا أصبحت الولايات المتحدة أمام فرصة تاريخية لاجتياح المنطقة في إطار سلسلة قرارات أصدرها مجلس الأمن الدولي لمعالجة احتلال العراق للكويت عبر الطرق الدبلوماسية أو العسكرية بعد صدور قرار مجلس الأمن 687 الذي أجاز استخدام جميع الوسائل لتحرير الكويت ، لكن الواقع أثبت عدم جدية الولايات المتحدة في اللجوء للوسائل الدبلوماسية لمعالجة الأزمة تحت ذريعة مشهورة : "عدم مكافئة المعتدي"، لهذه الأسباب تلقى الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران اتصالا من الرئيس الأمريكي جورج بوش ، يهدده بسحب السفير الأمريكي من باريس في حال مغادرة المستشار أدغار بيزاني إلى بغداد لاستكمال التفاوض حول المبادرة الدبلوماسية الفرنسية ولإيجاد مخرج سياسي للأزمة يضمن حقوق الأطراف ألمتنازعة. وفي نفس السياق عرض يفغيني بريماكوف في كتابه : "حرب كان تجنبها ممكننا"، تفاصيل مبادرته الدبلوماسية التي ناقشها مع مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية ، والتي تضمنت استعداد العراق للانسحاب من الكويت ، في حال حصوله على ضمانات بعدم التعرض للجيش العراقي ، لكن مارغريت تاتشر أكدت على وجوب"تدمير الجيش العراقي«والقدرات الصناعية والاقتصادية للعراق وعدم القبول بالحلول السياسية للأزمة لأنها قد تفسر كمكافئة للمعتدي على عدوانه.


وبالفعل تحولت حرب تحرير الكويت ، التي أجازتها قرارات الأمم المتحدة ومفاهيم النظام الدولي الجديد ، وإحياء مبادئ الأمن الجماعي ، إلى أدوات جديدة لتضليل الرأي العام الدولية ودفع العالم نحو حروب عدمية بدلا من البحث عن فرص حقيقية للسلام وللتعايش بين الشعوب. وعندما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية وقف العمليات العسكرية في الحرب على العراق عام 1991 ، كانت وسائل الإعلام الأمريكية تؤكد بأن : " أمريكا قد دفنت عار فيتنام ، إلى الأبد ، في ألصحراء العربية "، لكن الإدارة الأمريكية ارتكبت خطيئة فادحة في تاريخنا المعاصر ، عندما حولت" حرب تحرير ألكويت "، إلى حرب لتدمير القدرات العسكرية والصناعية للعراق عبر توسيع نطاق ألعمليات ألعسكرية.


لقد أكد البيان الأول للقيادة ألعسكرية الأمريكية ، بعد انتهاء العمليات العسكرية أن كلفة ألحرب وصلت إلى 75 مليار دولار ، دفعت واشنطن منها 15 مليار دولار فقط ، وتحمل حلفائها ألباقي ، كما ضخمت البيانات الصادرة عن وزارة الدفاع الأمريكية خسائر ألعراق ، عندما أعلنت عن تدمير القوات ألبحرية والجوية العراقية ، إضافة لتدمير 3000 دبابة و 1800 ناقلة جنود ، و 1480 مدفع ، إلى جانب تدمير 29 عسكرية فرقة ، كما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أن ضحايا الحرب ، بين قتيل وجريح من جنود ألجيش ألعراقي يتراوح بين 85000 -100000 مقاتل.


كما بينت وسائل الإعلام الأمريكية ، أن قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، نفذت 90000 طلعة جوية ، ألقيت خلالها مازنته مليون طن من القنابل على ألعراق ، مما عرض 2614070 وحدة مدنية للأضرار أو للدمار الكامل ، تشتمل على : جسور ، طرق ، مطارات ، مستشفيات ، جامعات ومعاهد ومدارس ، جوامع وكنائس ، مصانع ، محطات توليد الكهرباء ، منشآت ومصافي النفط ، منظومات الاتصال السلكية واللاسلكية ، سدود ، ملاجئ ، إدارات ومؤسسات الدولة ، ، والتي استطاعت القدرات الهندسية والفنية العراقية إعادة بناء 55 ٪ منها حتى نهاية عام 1993.


الإستراتيجية الأمريكية في الحرب الاقتصادية والعسكرية ثم في احتلال العراق في 9 أبريل 2003 م ، استهدفت بناء الشرق الأوسط الكبير ، لتحقيق السلام وفق المنظور الأمريكي -- الإسرائيلي ، أي : ضمان أمن إسرائيل وتدفق بترول الشرق الأوسط ، ذي الاحتياطيات الكامنة والممتدة حتى عام 2200 م. لكن المأزق الكبير الذي تواجهه السياسة الأمريكية ، في العراق يتمثل باتساع النفوذ الإيراني الخطير في العراق من خلال المليشيات الشيعية ، إلى جانب النفوذ الأخطر للمخابرات الإسرائيلية في العراق ومشاركة قوات إسرائيلية في قمع الحريات وانتهاك حقوق الإنسان ، تحت جملة من الادعاءات لبناء العراق الديمقراطي الجديد ، والتي تحولت واقعيا لبناء عراق دموي ، ينتشر فيه القتل والتهجير الديني والعرقي والطائفي ، باختصار شديد : إن الإستراتيجية الأمريكية وقعت في أخطاء فادحة ، بإثارة تناقضات دينية ، طائفية وعرقية وتدمير مؤسسات الدولة العراقية ، بحثا عن تكوين بيئة سياسية يطلق عليها مفكرو اليمين المحافظ ''نظرية الفوضى الخلاقة''، أو''حرب الجميع ضد الجميع«وفق تعبير توماس هوبس ، التي قادت إلى دفع المجتمع العراقي للعنف ، عبر السياسات المتطرفة والأكثر دموية للأحزاب الدينية الإسلامية التي تحالفت مع قوات الاحتلال الأمريكية ، تحت ذرائع وتأويلات خاطئة في قراءتها للتاريخ الإسلامي ولتطور الحياة السياسية المعاصرة في العراق ، والتي تؤسس اليوم لنظام فاشي دموي ، يستند على دستور الخطيئة ، دستور الطائفية والتمييز العرقي ، دستور تكريس التخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.


ومما لاشك فيه أن ''نظرية الفوضى الخلاقة'' ، تشكل تهديدا كبيرا على الأمن في الشرق الأوسط ، فالحرب الأهلية الطائفية الدموية في العراق ، واحتمال اندلاع العنف الأهلي في لبنان وعدم التوصل للتوافق على انتخاب رئيس للجمهورية واحتدام الصراع بين جناحي السلطة الفلسطينية ، والاعتداءات الاستفزازية على السيادة السورية سواء من قبل الإدارة الأمريكية عبر فرض عقوبات اقتصادية أو شن هجمات وضربات جوية إسرائيلية في داخل العمق السوري تحت ذريعة وجود برنامج عسكري نووي يهدد الأمن الإسرائيلي ، إلى جانب مخططات التقسيم والعرقنة في السعودية والخليج العربي والتهديد بإثارة النزاعات المذهبية ، كما تلوح الإدارة الأمريكية إلى احتمال اللجوء للخيار العسكري وشن عمليات عسكرية جراحية أو إستراتيجية ضد إيران في حال فشل الجهود الدبلوماسية لمعالجة الملف النووي الإيراني.


إن جميع ما تقدم من احتمالات يمثل سياسات واستراتيجيات إقليمية ودولية خطيرة ، تهدد بل تدمر فرص الاستقرار والازدهار الاقتصادي ، وتبقي منطقة الشرق الأوسط رهنا للسيطرة الإسرائيلية * من المؤكد إن مخطط العنف الطائفي الدموي في العراق والشرق الأوسط ، صمم من قبل الموساد الإسرائيلي والمخابرات الأمريكية والاستخبارات البريطانية ، في إطار إستراتيجية شاملة تستهدف تدمير المجتمع الإسلامي عبر حروب عدمية ، ولتبرير صحة نظرية »صدام الحضارات« وتطبيقاتها العملية في إعلان الحرب على الإرهاب التي كلفت الاقتصاد الأمريكي 3 تريليون دولار وتقود العالم اليوم نحو واحدة من أخطر الأزمات الاقتصادية في التاريخ.


لقد احتفلت إسرائيل بعد أن شاركت باحتلال العراق ، كما عبر شيمون بيريز رئيس الدولة العبرية عن سعادته بإعدام الرئيس الراحل صدام حسين معتبرا : «إن إعدام صدام حسين ضرورة تاريخية'' ، بمعنى آخر ، إن الموضوع الجوهري لأهداف الإستراتيجية الأمريكية الكونية ، والشرق أوسطية تستهدف ضمان أمن إسرائيل والسيطرة على منابع النفط ، مما عطل جميع الجهود الدبلوماسية الدولية والإقليمية لفتح آفاق حقيقية أمام فرص السلام ، وبدون سلام حقيقي وعادل وشامل لجميع مشكلات وأزمات الشرق الأوسط فلن تكون هناك تنمية حقيقية ولن يتحقق الازدهار والتقدم .

 
 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الخميس / ٢٧ رمضان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ١٧ / أيلول / ٢٠٠٩ م