التاريخ يكتب نفسه

 
 

شبكة المنصور

د. جمال علي حسن – مصر العربية
التاريخ كالنهر.. يشق طريقه منهمرا أحيانا.. ومنحسرا أحيان أخرى.. ينحني عبر واديه يسرة ويمنة.. كادحا لوصول مصبه.. طبقا لتضاريس سطحه.. وعزم جهده واستجابته للقوى المؤثرة فيه الطبيعية والبشرية.. من شلالات ومساقط.. ومن جبال وموانع.. ومن سدود وقناطر.. وتفريعات وقنوات...


وهو أيضا كالأنهار.. توهنه المستنقعات والأحراش.. كما تعافيه الروافد والينابيع وتشد عزمه.. ومثلها أيضا يعتريه الفيضانات الغامرة.. ودورات الجفاف القاحلة...


وكذلك.. يتأثر بحالة الأرض ودوراتها.. بل بالكون كله وتقلبات قواه.. وكما أن هذه التأثيرات على الأنهار تختلف من مكان لآخر طبقا لقربها أو بعدها عن مركز هذه التأثيرات فكذلك تاريخ الأمم...

 
وتتحدد المواقف من كل دور في التاريخ.. طبقا لتأثيرها.. إيجابا وسلبا.. على مجراه وصولا إلى مصبه الذي يظل يتحراه مع تطلعات شعبه تحقيقا لأمانيهم.. وتعظيما لدورته.. ومداواة لعلله ومشاكله...

 
ولا يستطيع أحدنا أن يدعي العدل في الحكم على التاريخ إن غرق في اللحظة زمانا ومكانا... كما هو الخطأ إن قصر رؤيته للنهر على جزء منه.. ولم تلامس نظرته أبعاده.. و امتداد خرائطه وعمق زمانه وسعة مكانه وتنوع شعبه...

 
وكما أننا لا نستطيع تغيير مجاري الأنهار وصفاتها إلا بإنحرافات قليلة سرعان ما تعود إلى سابق عهدها، ولا نستطيع خلع جلدنا وارتداء غيره لجنس آخر بمناخ ومكان وزمان آخرين فكذلك لا نستطيع أن نغير مجرى تاريخنا أو مصبه على غير رغبة الجماعة البشرية وفق جغرافية موقعها، دون وجهتها وإرادتها...

 
والتاريخ.. ومساره الحق كما هو تعبير عن موقعه الجغرافي.. فهو منسجم مع جماعته البشرية.. يحقق آمالهم ويصنع أحلامهم ويدق أوتار مشاعرهم.. ويصبغ حياتهم كما يصبغ المناخ –-مكانا وزمانا- جلودهم ولون أبشارهم وصلابة اعوادهم...

 
نعم.. إن الروايات يمكن أن تزيف.. ولكن التاريخ عصي على التزوير والتزييف مهما امتدا.. إلا بإدعاءات الواهمين.. التي سرعان ما يكشف انهمار حقائق مجراه عن سقوطهم وجهلهم وقصور رؤاهم...

 
نعم إن هناك القوى المتناقضة أو المناهضة لهذا المسار التي تستطيع أن تحرفه عن مبتغاه.. ولكن ذلك لا  يكون إلا بزائد جهد.. سرعان ما تتراكم مياهه خلف موانعهم وتنتهي إلى مقاومتها وهزيمتها وإن طال الزمان...

 
ومجرى تاريخنا العربي يقع في القلب من مراكز التأثيرات الأرضية والكونية.. كما أن تاريخنا تتقاذفه تضاريس محلية تؤثر في مجراه وتنحني به.. وتعطل جريانه أحيانا وتعترض مصبه أحيانا.. ولكنها لا تستطيع أن تنزعه من منبعه ومن أرضه ومن رجاءه.. خاصة وأن منابع تاريخنا غزيرة وقوية ولا تنضب أبدا.. وستظل متدفقة منهمرة.. وعلينا أن نجعلها كذلك...

 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الخميس / ١٢ شـوال ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٠١ / تشرين الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور