العدوان الثلاثي على العقول العراقية

 
 

شبكة المنصور

د. مثنى عبد الله - باحث سياسي عراقي

لعل من أهم المقاييس التي يقاس بها التقدم الحضاري للدول , هو مقدار أمتلاكها لناصية العلم وأستخدام التكنولوجيا , وقدرتها على وضع هذه الوسائل في خدمة التطور البشري , والارتقاء بالانسان الى مراتب أنسانية متقدمة , يستطيع من خلالها أن يحقق ذاته من اجل خدمة الجماعة ويطوع عناصر الطبيعة التي حباها الله له من أجل مستقبل أفضل . لكن الحلم الاستعماري الذي راود أذهان الدول الكبرى جعلها تفكر في أحتكار التطور العلمي , ومحاربة كل الدول الاخرى التي تسعى في هذا المجال , رغبة منها في الهيمنة على أرادات الشعوب وتطلعاتها الوطنية والابقاء عليها مجرد أسواق أستهلاكية لما تنتجهه الشركات العالمية . ولم تتوانى تلك القوى في أحتلال دول وأسقاط أنظمة وأضطهاد شعوب من اجل ذلك للحد من سيرها في طريق التطور العلمي والتكنولوجي , بل أن أجهزتها الاستخبارية صرفت الكثير من الجهد والوقت في سبيل محاربة وأيقاف هذه المشاريع الوطنية , وأستخدمت أقذر الوسائل في تنفيذ ذلك أبتداءا بالتجسس التكنولوجي على تلك الدول , والتهديد والترغيب , واخيرا الاغتيال لعدد كبير من العلماء والخبراء ذوي الاختصاصات النادرة .


ولقد سعت عدد من الدول العربية ذات التوجهات القومية , لتطوير قدراتها العلمية الذاتية في سبيل خلق مجتمع متطور أولا ,ولمواجهة التهديدات العدوانية الصهيونية ثانيا , وكان العراق أحدى هذه الدول , حيث عمل على مدى عقود طويلة من الزمن في هذه الاتجاه , ووضع أموالا طائلة لخدمة هذا التوجه , حيث أرسل العديد من البعثات العلمية للجامعات العالمية , كما قام بتطوير جامعاته وتوسيع الاختصاصات العلمية فيها , وأستقدم العديد من الخبراء العرب والاجانب للتدريس فيها , كما قام بالتوقيع على أتفاقيات لاستخدام الطاقة النووية للاغراض السلمية مع فرنسا وروسيا وايطاليا . وقد أخذ التطور العلمي العراقي حيزا واسعا من أهتمام الدولة الصهيونية وحليفتها أمريكا , حتى بلغ التنسيق الاستخباري بينهما في هذا الجانب ذروته عندما أقدمت المخابرات الاسرائيلية على عرقلة شحن بعض الاجهزة والمعدات الفرنسية الى العراق , وأغتيال عدد من الخبراء الذين كانوا يعملون في البرنامج النووي العراقي , ثم توج هذا التوجه بقصف موقع التويثة للابحاث النووية العراقية بداية الثمانينات من القرن الماضي .


واذا كان التوجه الامريكي – الصهيوني واضحا في هذا المجال , ولم يكن مفاجئا للقائمين على المشروع النهضوي العلمي العراقي , في ضوء وضوح أهداف وغايات الحلف الامريكي-الصهيوني , فان عنصر المفاجاة كان هو دخول الاهتمام الايراني على الخط , وبروز سعي السلطات الايرانية في عرقلة التقدم العلمي العراقي خاصة بعد العام 1991 , حيث نشطت الاجهزة الاستخبارية الايرانية في جمع المعلومات عن هذا الموضوع , ودفعت بالكثير من عملائها الى العراق , لمحاولة تهريب العديد من الاجهزة والمعدات عالية الكفاءة , مستغلة أخلاء العديد من المصانع الى المزارع والبساتين , خشية تعرضها للتدمير من قبل الطائرات المعادية التي كانت تقصف كل شيء في العراق , حيث أكتسحت الوسط العراقي مجاميع ممن يسمون تجار قادمين من شمال العراق , والذين كانوا يبحثون عن كل ماغلى ثمنه وخف حمله من الاجهزة الدقيقة ذات التكنولوجيا العالية , وخاصة مادة تسمى(الزئبق الاحمر) حيث كانوا يعرضون مبالغ مالية طائلة من أجل ذلك , ثم توج هذا التوجه بالقرصنة الايرانية الواسعة النطاق بعد الغزو والاحتلال الامريكي , الذي وفر فرصة ذهبية للسلطات الايرانية في سرقة المئات من المعامل والمصانع العراقية ,والتي تشير الكثير من التقارير وشهادات الشهود الى أنها في نطاق الخدمة الفعلية حاليا في أيران , بل أن بعض الجهات أشارت الى أن أجزاء مهمة من البرنامج النووي الايراني الحالي, يعتمد على أجهزة ومعدات سرقت من العراق , كان لعناصر بعض الاحزاب الطائفية القادمة مع الاحتلال , وضباط المخابرات الايرانية الذين أكتسحوا العراق , دور كبير في أخراجها الى أيران .


أن الاستهداف العدواني للعقول والخبرات العراقية, كان قد دفع الجامعات العراقية للتفكير بايفاد الطلبة العراقيين الى جامعات غير معروفة عالميا خاصة في دول جنوب شرق أسيا وبعض الدول الاسيوية الاخرى , على أعتبار أنها خارج اهتمامات المخابرات المعادية , مما يؤمن ملاذا أمنا للطلبة العراقيين لاكمال دراستهم في بعض الاختصاصات العلمية النادرة , وكان غالبتهم على أبواب التخرج عندما حصل الغزو والاحتلال , مما أضطرهم للبقاء والاقامة في تلك الدول , خاصة أنها تدين بالدين الاسلامي وعاداتهم وتقاليدهم قريبة للمجتمع العربي , غير أن الانباء الواردة من هؤلاء الطلبة , تشير الى تحرك ضباط الاجهزة الاستخبارية الايرانية العاملين بغطاء دبلوماسي عليهم , بعد أن حصلوا على ملفاتهم من السفارات العراقية في تلك الدول , بواسطة عملائهم من أبناء واقرباء السلطة العراقية الحالية العاملين في تلك السفارات حيث يتعرضون اليوم للترغيب بالعمل في المشاريع النووية والعسكرية الايرانية تارة , والترهيب بالوشاية بهم الى المخابرات الاسرائيلية في حالة رفضهم العرض الايراني تارة أخرى , كما أن الملحقيات الثقافية في السفارات الايرانية بدأت تستغل علاقاتها بالمسؤولين في وزارات التعليم العالي والجامعات في تلك الدول , للضعط عليهم لانهاء عقود عمل الخريجين العراقيين أو الوشاية بهم من خلال تلفيق بعض التهم عليهم , لتسريع أرتمائهم في الاحضان الايرانية بعد أن شنت عليهم حملة محاربتهم في أرزاقهم .


أن النهب المنظم للمصانع والمعامل العراقية , والاختطاف والسجن والقتل للمئات من اساتذة الجامعات والخبراء والعلماء العراقيين , واليوم التهديد والترغيب ضد الخريجيين العراقيين في بعض الدول , هو القاسم المشترك الاعظم بين مخابرات أمريكا وأسرائيل وأيران , وهو دليل أخر على أن الطموحات والاهداف لهؤلاء جميعا أنما هو الطمع بالعراق أرضا وشعبا .


أن المسؤولية القومية والانسانية والاخلاقية تحتم على الدول العربية خاصة المتمكنة ماديا , أحتضان هؤلاء والاستفادة من خبراتهم في التنمية العربية , باعتبارهم ثروة قومية يجب عدم التفريط بها , وتفويت الفرصة على كل الاعداء لاستغلالهم لاغراض ومشاريع معادية للامة .

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاحد / ٠٨ شـوال ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٢٧ / أيلول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية |دليل كتاب شبكة المنصور