خفة عراقية لاتطاق

 
 
 

شبكة المنصور

فيصل جلول

قبل انفجارات بغداد الدامية أواسط آب ـ أغسطس المنصرم تعرض مصرف "الرافدين" في وسط العاصمة العراقية لعملية سطو مسلح  مختلفة عن أعمال السطو اليومية بكون احد منفذيها ـ على الأقل ـ  ينتمي إلى مجموعة الحراسة المكلفة بالسهر على أمن نائب الرئيس العراقي عادل عبد المهدي الذي اعترف بذلك بعد أن لجأ اللصوص إلى مقر صحيفة موالية له وبحوزتهم مليارات الدنانير المسروقة.

 

بعد التفجيرات البغدادية علا صوت وزير الخارجية هوشيار زيباري هذه المرة مؤكدا أنه لا يستبعد أن تكون أجهزة المخابرات العراقية على علم او متواطئة مع الجهة التي ارتكبت تلك الجريمة. بيد أن تطورا سريعا جاء لينزع "التحفظ" الكامن في تصريح زيباري فقد استقال أو أقيل السيد محمد عبد الله الشهواني مدير "جهاز المخابرات الوطني" الذي عمل طويلاً مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قبل سقوط بغداد وتم تعيينه في منصبه بقرار من بول بريمير فضلا عن هرب عدد من مساعديه إلى الدول المجاورة للعراق.


وفي موقف يزيد القضية غموضاً علق السيد علي الدباغ الناطق الرسمي باسم الحكومة على استقالة الشهواني بالقول أنهُ أحيل على التقاعد في شهر تموزـ يوليو الماضي وكأنه يصب الماء في طاحونة زيباري عبر الإيحاء بأن الجريمة تمت كرد فعل على الإقالة أو الاستقالة أو الإحالة على التقاعد لا فرق.


ولم تقتصر تداعيات ما صار يعرف ب" الأربعاء الدامي " على الشهواني فقد أقيل أو وضع قيد الحفظ  اللواء عبد الكريم خلف مدير العمليات في وزارة الداخلية والناطق الرسمي باسم الوزارة وسط احتجاج الوزير نفسه الأمر الذي يعكس تفككا ليس فقط في الوزارة العراقية الأهم  بل في مفاصل الأجهزة التي تسند حكومة الوزير الأول نوري المالكي.


والواضح أن هذا الاضطراب في وظائف الحكم العراقي ـ المتهاوي أصلاً ـ ما كان له أن يظهر بهذه السرعة ( بعد مضي أسابيع قليلة على انسحاب القوات الأمريكية من المدن العراقية ) لولا التنافس العشوائي المفتوح بين الشخصيات العراقية النافذة التي تدين بمناصبها للمحتل الأمريكي.


فقد اعتمد المالكي خطاً سياسياً عابراً لمراكز القوى ومراهنا على التغطية الأمريكية وحدها فكان أن أثار مخاوف الأكراد جراء نزعته " المركزية" دون أن يحظى بعطف جنوبيي العراق أما أهالي الوسط فهم ينقسمون حوله بين مناهض ومقاتل, شأن كل أطراف المقاومة العراقية ومتضرر شأن المنتمين إلى " الصحوات" الذين يشكون من تأخر رواتبهم أو انقطاعها أو من إهمالهم الأمر الذي حملهم على الرجوع إلى منازلهم  وفي هذه الحالة تصبح محافظة الانبار مهيأة أكثر لعودة "القاعدة" إلى سابق عهدها.


لقد اختار المالكي هذا التوقيت بالذات ليتهم المخابرات السورية بالضلوع في "تفجيرات بغداد" وليطالب بتحقيق دولي وبمحكمة دولية على غرار محكمة رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري وفي ظنه أن الضغط الدولي على دمشق ربما يدفعها إلى تسليمه المعارضين العراقيين المقيمين على أراضيها تماماً كما أدى الضغط الدولي إلى الانسحاب العسكري السوري من لبنان والى تراجع دمشق عن التدخل المباشر في الشؤون اللبنانية.


والملفت في هذا الصدد أن  سوزان رايس مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي تمسك بيد المالكي وتدعم طلبه غير عابئة بمسؤولية بلادها عن تدمير العراق وقتل مئات الآلاف من أبنائه وكأنها تقول أن ضحايا واشنطن العراقيين غير جديرين ب "العدالة الدولية".. الصالحة فقط لمائة ضحية في ذلك الأربعاء الدامي!!


يتسم رهان المالكي على "العدالة الدولية" لإسناد حكومته المتداعية ب "خفة لا تطاق" على حد وصف ميلان كونديرا في روايته الشهيرة, ليس فقط لأنه كان يبحث في دمشق قبيل الانفجارات عن تعاون استراتيجي, ويمتدح القيادة السورية, وإنما أيضاً لاعتقاده المذهل أن المحكمة الدولية اللبنانية مازالت قادرة على مكافحة النفوذ السوري في لبنان وان ما يشبهها في العراق يمكن أن يضع حداً للنفوذ السوري في بلاد الرافدين.


من غير المستبعد أن يرفض مجلس الأمن جراء ضغوط روسية وصينية وربما فرنسية قرار تشكيل محكمة دولية خاصة بـ "الأربعاء الدامي" في العراق لاعتقاد هذه الدول أن جوهر القضية يكمن في مكان آخر حيث يراد من سوريا تجيير العراقيين المقيمين على أراضيها ومنهم جماعة كبيرة من الكوادر والشخصيات المهمة في النظام السابق لخدمة السيد نوري المالكي.


قصارى القول أن المالكي لا يدرك وربما الأصح لا يدرك المُحتل أو الوصي الأمريكي على العراق أن "العدالة الدولية" تخسر مشروعيتها ابتداء من اللحظة التي تستخدم فيها كسلاح لتثبيت أقدام حكومة معزولة وللتغطية على جريمة إبادة جماعية عبر مقاضاة جريمة ثانوية وان مصيرها في هذه الحالة لن يكون أفضل من مصير المحكمة العراقية الخاصة التي حكمت بإعدام الرئيس السابق صدام حسين في قضية الدجيل, فيما العراق كله كان أثناء جلسات المحاكمة قد أصبح دجيلاً دامياً ... وبعد ذلك يقولون لك عدالة دولية دون أن ترف جفونهم.

 
 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الأربعاء / ٢٦ رمضان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١٦ / أيلول / ٢٠٠٩ م