بابل وآشور واسطورة الهيكل الثالث

 
 

شبكة المنصور

أ.د. عبد الكاظم العبودي

[اليهود في فلسطين عنصر طارئ، حديث السكن. انحدروا الى فلسطين من عائلة "يعقوب" التي لم تتجاوز 70 شخصا، والتي انحدرت عن النبي ابراهيم عليه السلام، قبل بضعة عقود هاجرت الى مصر عام 1650 ق.م. من غير ان تترك اثرا ذا اهمية في منطقة سكناها فلسطين. وبقوا هناك عدة قرون حيث غادروها بقيادة النبي موسى حوالي عام 1230 ق.م.، وقد صار تعدادهم حوالي نصف مليون نسمة وفي اسفار العهد القديم قدر عدد رجالهم فقط بحوالي 600 الف نسمة.


والمسلم به ان الخارجين من مصر عاشوا في صحراء سيناء أزيد من جيل من الزمن في عزلة عن العالم والمدنية. وكانوا يرتدون جلودا حيوانية بعد ان تقادمت ثيابهم. وقرابة عقدين حكمهم قضاة كان آخرهم صموئيل الذي رأى ان نصب عليهم ملكا فتم اختيار "شاؤول بن تيس" . وبمشورة صموئيل عقد شاؤول عقدا وصلحا مع الأموريين لاجل التفرغ لمقاتلة الفلسطينيين. غير ان هزيمته في معركة الجلبوع التي قتل فيها ابناؤه حملته على الانتحار. ليخلفه داود عام 1010 ق.م. اين مكث في عاصمته حبرون الخليل الحالية طيلة 15 سنة بهدف التوفيق بين زعماء القبائل اليهودية وخاصة بين قبيلتي يهوذا التي تضطلع بأعباء القيادة السياسية كون الملك احد افرادها وقبيلة بنيامين المعارضة والتي حظيت بتعاطف اغلب القبائل الاخرى. وتمت المصالحة بينهما عام 997 ق.م . حينها تفرغ داود لبناء دولته. مستفيدا من ضعف الفلسطينيين الذين تصارعوا وانحياز الكنعانيون الى التجارة. والذين اسند تاليهم الدولة اليهودية مهمة تامين مستلزمات بناء الدولة. وانشغال الاشوريين بتولي سلسلة من الملوك الضعفاء والفاشلين حتى داء الملك (ادد نيراري الثاني عام 911 ق.م.) حينها قطع الكيان اليهودي شوطا بعيدا في القوة ثم انقسم الى دولتين بينهما شحناء. وسع داود حدود مملكته فاحتل الهضبة التي بنى عليها الموابيون دولتهم ثم اتجه جنوبا ليبتلع ارض العمونيين ثم جاء دور الكنعانيين فاختار من مدنهم عاصمته حبرون فاحتلها.


وبعد ان تفحص داود اسوار اورشليم تمكن من احتلالها بالتصادم مع حاميتها ثم حاصرها لفترة طويلة بعد ان اكتشف اليهود اسرار الانفاق داخل حصن اليبوسيين. وما ان حل عام 941 ق.م حتى كانت مملكة داود قد احتلت مساحات شاسعة من ارض الشام ومنها مدن دمشق وحماة فعل فيها من الجرائم والابادة ما جعل اليهود يسبون فيها المدن.


بعد موت داود خلفه ابنه سليمان الذي بدا عصره دمويا فثارت دمشق وتحررت الامارات والممالك الارامية وتحررت من السيطرة اليهودية]


التآمر اليهودي على بابل ظل حبيس بلاد الشام، الا ما ندر من حالات تسجيل لمراسلات تبادلها اليهود مع الخائن (مردوخ-ابلا- ادينا) و (نبوبولاصر). وكل العوامل جعلت الدولتين العظيمتين المتعاقبتين في بلاد الرافدين، أي الاشورية والبابلية متهيأتان لوأد أي تآمر يهودي يظهر مهده في فلسطين التي شكلت دائما قلب بلاد الشام، والتي ظلت بدورها المركز الحصين لكل المؤآمرات اليهودية ضد الدولتين الآشورية والبابلية ونقطة إنطلاقهما. وعندما غطت الدولة الاشورية في فترة نوم عميق زحف الاراميون من الشرق واستقروا في ضواحي بابل فلم يعترض الملك الاشوري (أشور بيل كالا 1074-1057 ق.م.) بل صاهرهم معترفا بزعيمهم (ادد-ابال-ايد ينام 1067-1046 ق.م.) ملكا على بابل.


وتلك الفترة التي عرفت بعصر الفوضى وخاصة ما بين (1200-1000 ق.م.) ظهر اليهود في ارض كنعان لاول مرة يقودهم خلفاء موسى على شكل قبائل متنقلة، وانعكست الفوضى على المجتمع الآشوري، من خلال انكماش التجارة وقلة عائدات الحروب والغنائم.


عقب الوفاة الغامضة لموسى ودخول بني اسرائيل ارض كنعان فقد كانت اول مواجهة لهم مع الفلسطينيين وفشل يوشع خليفة موسى وكذلك يهوذا الذي تزعم قومه فيما بعد في تحقيق أي نجاح ضد اؤلئك المقاتلين الفلسطينيين الشرسين.
ويصف مؤلفو اسفار العهد القديم واحدة من المعارك التي دارت بين الطرفين بأنها خيبة ومرارة حيث هزم اليهود خلال المعركة مخلفين 30 ألف جثة تفترش ارض المعركة، ومن بين القتلى الكاهنان الكبيران " فنحاس " و " حبقي" وصار تابوت العهد غنيمة بيد الفلسطينيين ضمن كميات كبيرة من الاسلاب والغنائم. وكان وقع ذلك شديدا على قائدهم المدعو " عالي" والذي كان يقود من الخلف حيث تسببت الهزيمة في موته المفاجئ.


ان ذلك الخوف عند اليهود من الفلسطينيين دفعهم الى المطالبة بتنصيب ملك عليهم يقودهم كما يفعل الملوك ويخطط لمعاركهم فتم تنصيب شاؤول أول ملك عليهم، ولكنه سرعان ما انتحر عقب فشله في ادارة احدى المعارك التي قتل فيها ثلاثة من اولاده فانهزم جيشه امام الفلسطينيين. وقد حظر الفلسطينيون على اليهود نقل تقانة انتاج الحديد وتعلم صناعة الاسلحة وفرضوا عليهم الضرائب؛ حتى ان اليهود كانوا يلجأون الى الحدادين الفلسطينين لشحذ سكاكين مطابخهم، وكانت تلك السكاكين ضمن تجهيزات معدنية اخرى قليلة سمح لليهود بحيازتها استمرارا لاعمال الزراعة عندهم وليضمنوا استمرار تدفق الضرائب حتى ان البعض من المؤرخين سجل ان الملك شاؤول وابنه يوناثان كانا الوحيدان اللذان يملكان اسلحة. اما بقية جيشهم فلم ير فيه من تسلح بسيف او رمح.


وكان لطبيعة ارض المسرح الشامي اثر كبير على سير العمليات الحربية العراقية ابتداءا من نهر الفرات وانتهاء بالعريش. ورغم ان الولاءات والتحالفات وسط الفسيفساء الاجتماعي الشامي متغيرة وغير مستقرة، وكان التآمر والدس السياسي الذي تزعمه اليهود الطارئون على بلاد الشام، يجد وسطا ملائما للانتشار برغم الكراهية العميقة التي يضمرها السكان الاصليون لهؤلاء الطارئين. هذا التآمر الانتقامي لا يصب في مصلحة الجيوش الاشورية والبابلية عندما كانت تحاول السيطرة على الشام، كحاجز يمكن الدفاع عنه بوجه الطموحات المصرية" مع ضعف احتمالها" وكعمق سوقي للجيوش الاشورية والبابلية في طريقها للوصول الى غابات الارز والى مياه البحر المتوسط.


كان هذا الاهتمام الاشوري من اجل تحقيق الامن والاستقرار في المسرح الشامي قبل بروز الكيان السياسي اليهودي، كما ان بابل في زمن الكلدانيين كانت وريثة المجد الحضاري العراقي حتى اضحت زمن نبوخذ نصر(604-663 ق.م.) واضحت حضارة تجارية في جوهرها كانت تنقل منها واليها غلات نصف العالم القديم. ففي غفلة من الزمن، وفي حقبة ضعف آشورية وتواطؤ آرامي- كنعاني مشوب بالخوف يظهر داود قائدا لجنوده في انحاء متفرقة من بلاد الشام ولو لفترة مؤقتة. وكان بوخذ نصر شديدا وعنيفا مع المغامرين الذين يتحرشون بتجار بابل والتجار الفينيقيين الذين يخدمون نهضة بابل ولم يتساهل مع الحكام الذين يفرضون اتاوات او ضرائب ترانزيت على قوافل هؤلاء التجار. وكان تجار صور وصيدا و ارواد مخولين بالانتفاع من الحماية البابلية وكانت جهودهم التجارية تخدم الاقتصاد البابلي وكانوا يدفعون الضرائب ثمنا لتلك الواجبات. وبسبب مخاطر التجارة البابلية مع الهند خلال المرور عبر ايران فقد فكر التجار عن طريق آخر لاستمرار نقل بضائع لهند عبر البحر بعبور بحر العرب نحو اليمن وحضرموت ومن خلال سواحل البحر الاحمر الى العقبة فسوريا والعراق.


هذا الاهتمام البحري لطريق التجارة حمل الفينيقيين بشتى الطرق لحصر التجارة الفينيقية للمرور عبر فلسطين، فكان تخطيط داود يهدف ايضا الى احتكار التجارة وطرقها من خلال الخطوط البحرية عبر العقبة للقضاء على كل امل تجاري لبلاد الرافدين، لذا كان داود يأمل مساعدة الفينيقيين لتحقيق اهدافه؛ كما يقول لودفيغ، "، لأن اليهود كانوا يجهلون الملاحة، وهم لم يصيروا قط امة بحرية، كما لم يصر حفدتهم في الثلاث الاف سنة التي اتت بعدئذ." كما ان سرجون الاكدي وحمورابي الذي جاء بعده بقرون ادركا مبكرا ما للسيطرة على الطرق وفرض النفوذ على كيانات بعيدة وضمان ولاءاتها لهم من اهمية لبناء امبراطوريتهم. وفي زمن الدولة الاشورية صار الاهتمام العسكري واللوجستي بعمق المسرح الشامي مهما وبدت مخاطر ظهور داود واستيلائه على عاصمة اليبوسيين "اور سليم" وتنسيقه مع الفينيقيين ليكون متحكما ومراقبا لخطوط التجارة عبر فلسطين وبمحاولته انشاء ميناء واسطول تجاري في رأس خليج العقبة انما بات ذلك بمثابة نذر حصار على الاشوريين ونفوذهم.


شكل قادة اليهود حالة متميزة في الاذعان لمصر وللفراعنة وظلوا يكنون احتراما طوعيا كبيرا واخلاصا ملموسا معززا بالادلة خلاف ما كانوا يضمرون من مشاعر لملوك آشور وبابل. فقد عبر داود عن اعجابه بالتنظيم الاداري المصري وطبقه على تسيير مملكته وتزوج سليمان من مصرية (ادعى اليهود انها اميرة فرعونية بينما يسشاع عنها انها مواطنة عادية من عامة الشعب.) ولم يظهروا تحالفا مع ملوك اشور وبابل خاصة عندما اجتاحت جيوش اسرحدون حواضر مصر ونصب هناك حكاما وملوكا وكذلك فعل ابنه اشور بانيبال، بينما قرع نبوخذ نصر ابواب مصر بعنف مرتين . وصل التخطيط التآمري بين اليهود والفراعنة المصريين شوطا بعيدا منها دعم الفراعنة (ساركو الثاني 860-732 ق.م) تحالف ملكي السامرة ودمشق ضد الدولة الاشورية وكانت النتيجة قيام شلمنصر الثالث بمهاجمتهم في معركة القرقار(835 ق.م) والحاق الهزيمة بهم.


وتكررت الهزيمة ايضا حينما تآمر "هوشع" ملك السامرة مع سباكو فرعون مصر بخروج هوشع عن طاعة الاشوريين فهاجمه شلمنصر الخامس والقى القبض عليه ورحل سكان عاصمته السامرة عقب حصار استمر لثلاث سنوات لم يجد الفرعون في نفسه الجرأة خلالها على تقديم عون لحليفه واكتفى بالدعاء لليهود بالنصر او الفرج. وسواء تم فتح السامرة في زمن شلمنصر او زمن خليفته سرجون فقد كان الهدف الاشوري الذي خطط لهخ شلمنصر هو انهاء ذلك الكيان اليهودي المتآمر الذي كان يحكمه ملك نصبه الاشوريون لكنه عاد فتآمر عليهم. وقد تحققت عملية اعادة الحاق ذلك الكيان اليهودي وصارت مملكة السامرة مقاطعة تابعة تحكم من قبل لاالعاصمة الاشورية مباشرة بعد ان جرى ترحيل العناصر التآمرية المثيرة للشغب الى انحاء أخرى من الامبراطورية والاتيان بعناصر بديلة من اقوام مختلفة للحلول محلهم.


كانت الحكومة المركزية الاشورية على علم واطلاع تام بما يجري في اورشليم عام 709 ق.م. فعندما ارسل سنحاريب قواته لتطويقها ومحاصرتها كان الرابشاقي(منصب كبير صاحبه كبير سقاة الملك) الذي يتكلم العبرية يستطيع ان يستثمر تلك المعلومات التي غالبا ما يدققها الاشوريون. وقد وثق الاشوريون غزواتهم الى بلاد الشام وحملاتهم لتأديب المتمردين او المتآمرين على نفوذهم. وكانت اقسى الاجراءات التي قام بها الاشوريون بحق خصومهم هي التهجير واعمال الترحيل لذا كان السكان يتمردون على زعماهم خوفا من انتقام الاشوريين منهم بالترحيل القسري.
لقد تمت عمليات ترحيل واسعة وخاصة في زمن سرجون حيث ترك وثيقة تقول: (... لقد جلبت 27290 من اهالي السامرة ومعهم حمولتهم واملاكهم كغنائم وشكلت 50 عربة للحرس الملكي).


وعندما عقد الفرعون حلفا مع حزقيا ملك يهودا (716-687 ق.م.) وتورط حزقيا باستقبال وفدا في العام 712 ق.م. يحمل رسالة من الخائن البابلي (مردوخ- بلا -ادينا) ثم انساق وراء رغبات اللوبي اليهودي لمصر ومنهم شيبنا حاجبه الارامي داخل بلاطه ضد سنحاريب، دفع ذلك التآمر بالملك الاشوري الذي ادر كان التآمر وصل حدا في التنسيق من داخل حدود دولته ومن عقر دار الملك الاشوري فقرر الهجوم على يهوذا وحاصر الرابشاقي اورشليم عام 701 ق.م. وعاب على الملك اليهودي تحالفه مع الفرعون الذي لم يحرك ساكنا من اجل نجدة حليفه. ولم يفرط سنحاريب بوقته رغم مخاطر اعدائه على الجبهتين الشمالية والشرقية. ان محاولات حزقيا توسيع دائرة تحالفاته في الشام وتجريد الاشوريين من حلفائهم وصلت مرحلة لا يمكن للاشوريين السكوت عنها حيث مارس حزقيا الارهاب واحتجاز من يشك بوقوفهم مع الاشوريين ومنهم الحليف المخلص الملك بادي الذي كان مودوعا في سجن حزقيا في اورشليم حتى جاء سنحاريب وحرره من سجن حزقيا.


ناصب اليهود الاشوريين العداء لان النهوض الاشوري الاقوى كان مزامنا لبداية تشكيل الكيان السياسي في فلسطين في مطلع الالف الاول قبل الميلاد. وقد حجم الاشوريون تطلعات اليهود وحدوا من قدرتهم على التوسع والانفلات الاقليمي وعموما ظل الكيان اليهودي في الشام قزما، وولد ضعيفا ولم يتمكن من التمدد على حساب الفراعنة او الاشوريين وظل رهينة النفوذ المصري وكحاجز سياسي اريد له صد اخطار الاشوريين والبابليين من الوصول الى مصر الفراعنة.


وقد رأى المصريون في مملكة يهوذا الدمية الطيعة لازعاج الاشوريين يحركونهم بين الفينة والاخرى مما حدا بسنحاريب ان يفرض حصارا قاتلا على تلك الدولة اليهودية هادفا الى اقتلاعها نهائيا، لكنه اكتفى وقنع اخيرا بتذلل ملكهم وخضوعه وقديمه الجزية تضمن في حالات منها ارسال بنات الملك اليهودي وبنات وزرائه ليصبحن محضيات في غرف نوم الملك الاشوري.


واخيرا حاول يهوياكيم ملك يهوذا التقرب الى الفرعون "نيخو" الذي قتل اباه وأسر اخاه دونما مبرر لذلك التقرب، وتمرد على بابل تزلفا للفرعون فهاجمه نبوخذ نصر وقتله ونصب مكانه صدقيا في وقت كان فيه الفرعون في عاصمته مشغولا بوضع خطط دفاعية ضد هجوم نبوخذ نصر المرتقب.


انجرف " صدقيا" الذي من عليه نبوخذ نصر وعينه ملكا على يهوذا (597-586 ق.م. ) وراء دعوات اللولب اليهودي لمصر وضغوطه للتحالف مع مصر فكان ذلك سببا في تقويض نبوخذ نصر للكيان اليهودي وقتل ملكه وتنفيذ الاسر البابلي.


وهكذا نجد في كثير من محاولات مصر في بلاد الشام تجنيد العملاء من اليهود المنتشرين في ممالك اخرى ارامية وفينيقية يدفعون نحو التمرد والعصيان ضد بابل. حتى ان اميل مردوخ خليفة نبوخذ نصر عندما حاول مد جسور التفاهم مع الفراعنة فانه اطلق سراح يهوياكيم الملك اليهودي من الاسر في بابل منذ ايام حكم ابيه وعامله وكأنه من رعايا فرعون مصر.

 
 
المراجع والاحالات:
حسن عبيد عيسى، التآمر اليهودي على بلاد الرافدين حتى سقوط بابل عام 539 ق.م.، بيت الحكمة، بغداد، 2002.
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الخميس  / ١٣ رمضان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٣ / أيلول / ٢٠٠٩ م