إن لم تناضل فتنحى أو '' مت قاعدا ''

 
 

شبكة المنصور

أ.د. عبد الكاظم العبودي

عرف الادب والاعلام الجزائري الساخر ان يرسم موقفه الساخط على الواقع السياسي والاجتماعي باختصارات لغوية اصطلاحية دقيقة وذكية يصل بها الى مستوى وفكرة الكاريكاتير اللغوي الناقد، على قاعدة التلاعب باللفظة العربية أوالأجنبية، ونحت الكلمات منها بمدلول آخر، وتحديد القصد المطلوب من النقد بها. وهكذا صيغت الكثير من الاسماء والعناوين السياسية والحزبية الجزائرية كالقول مثلا، عن حزب جبهة التحرير الوطني العتيد والمعروف من مختصره الفرنسي FLN ، ونعته لفظيا باللغة العربية "الآفة الآن"، وكذلك حزب "الجبهة الوطنية الجزائرية" ومختصرها FNA ونعتها " الفانة"، وكذلك تسمية حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، المسمى فرنسيا، اختصارا RCD ونعته بـ "أير سيدي" ... وهكذا تجمعت الكثير من المصطلحات والمسميات والنعوت السياسية ذات الدلالات الموحية والمعبرة بشكل ساخر حتى بات يتداولها الناس عند الغمز بها.


وهي توحي بنقد لاذع لأصحابها، و لها حضور واسع في الدعابة الشعبية، والقبول لها بمدلول ومعنى يقصد به الغمز منها وبها. برعت وأسست الى ذلك الاسلوب مجموعة من الكتاب الجزائريين، بصدور عنوان صحفي اسبوعي ساخر صدر نهاية عام 1990 باسم" الصح آفة" برئاسة تحرير الكاتب والاعلامي الجزائري المعروف الاستاذ حبيب راشدين، وبرزت فيها كتابات نقدية سياسية ساخرة متميزة للدكتور الكاتب الصحفي المعروف عمار يزلي صاحب العمود الشهير "سيرك عمار". حوربت هذه التجربة الاعلامية المتميزة في الجزائر والوطن العربي بعد سنة من صدورها، رغم ظرف التعددية الاعلامية في الجزائر، قيل عنها انها تجاوزت خطوطا حمراء في النقد والتداول. وانتهت الاسبوعية الى الغلق المتكرر والنهائي وباصرار واضح من أعلى السلطات، ولم يعاد صدورها حتى اليوم. وعندما أغلقت اسبوعية " الصح آفة"، حينها أصدر الفريق الساخر نفسه اسبوعية أخرى سموها " النح لا" ، أي " النحلة"، ولكن تركيب العنوان من كلمة "النح" في الدارجة الجزائرية " الصمت" ولا تعني الرفض. وعندما يقال عن البعض بأن " فلان ضرب النح" أي التزم السكوت، وصمت وتوارى عن الانظار. أُغلقت" النح لا" الثانية بعد عددين من صدورها، وتوزع كتابها في حالة أشبه بالتشرد الاعلامي للكتابة في صحف أخرى وتوقف فريق منهم صامتا الى الابد. من تجربة " الصح آفة" تعلمت الكثير، ومن مدرستها أجد نفسي أصيغ عنوان مقالتي، مطبقا ذلك على الحالة السياسية والاعلامية العراقية.


الإعلام العراقي المعارض في المنفى بقضه وقضيضه، وعبر مواقع الانترنيت تنفس الصعداء بعد ظهور وانتشارالانترنيت، فانقشعت من فوق رقاب وأقلام كتابه سيوف وغيوم رقابة الحزب الواحد. وفي المنافي توفرت لأغلب الكتاب العراقيين فرصة النشر، سواء ما كان منه بأجر مدفوع، أو بالمجان ومن دون مقابل وحقوق. واصل المناضلون منهم الكتابة، حيثما توفرت الفرص؛ رغم الصعوبات التي واجههوها لترجمة آمال وآلام شعبنا وإيصالها الى العالم. وهكذا ظهرت أسماء محدودة، كما اختفت الكثير من الاسماء الهامة؛ نظرا لمعايير سياسات النشر في الصحافة العربية التي غالبا ما تمولها مؤسسات البلدان النفطية، وخاصة الخليجية.


وما ان ظهر النشر الالكتروني على نطاق واسع حتى شجع الكثيرين للعودة للكتابة لحاجة الناشرين لملئ أعمدة صحفهم الالكترونية من موضوعات، ولحاجة الكتاب أيضا للموقع لنشر أفكارهم، وتثبيت حضورهم الحيوي ككتاب وعقول حرة عراقية وأصحاب قضية. إجتهد البعض وأبدع وأضاف،واشتهر بعض آخر من دون مصاعب. كما إعتاش بعض من سيالة أقلامهم وقايض آخر بالموقف لأجل مرتب تدفعه صحيفة أوجهة اعلامية تحتاج لخدماته وقلمه ومعلوماته.


واليوم إزدادت أعداد كتاب المنفى العراقيين في الخارج، ويضاف لهم المنفيين في وطنهم يكتبون من الداخل بأسماء عدة، حقيقية منها او مستعارة، وأضحت شبكة ومواقع الانترنيت مفتوحة للجميع، فلا فيتو أوحضر على كتابة قلم أحد؛ حتى في تلك المواقع المؤدلجة أو المحسوبة لجهات محددة الإتجاه، أو التي يختلف الكاتب معها احيانا.


ويكفي للكاتب ان يضرب أزرار حاسوبه ليجد مقالته منشورة بعد ثوان على العديد من المواقع، من يمينها الى يسارها، ومن ديمقراطيها الى متزمتها، ولم نعد نرى في بعض المواقع ملامح موقع شيوعي أحمر، وآخر له وصاية الاخوان المسلمين، أو نفوذ الاحزاب والتنظيمات العقائدية في الوطن العربي.


ان سهولة النشر الالكتروني، إضافة الى الكثير من ايجابياتها، أفرزت ظاهرة مرضية لم تكن في الحسبان، وهي ميل العديد من الأسماء الى حالة باتت مزمنة وممرضة لديهم، وهي الكتابة دون إنقطاع وبشكل يومي، من أجل الكتابة لا غير؛ وبغض النظر عن مكانة ذلك الكاتب وتخصصه، وما ينتظره الناس منه ليقول في مواقف تتجدد على مدار الساعة بتجدد الاحداث وديمومة الحياة. هذا الهاجس المرضي لدى البعض من كتابنا العراقيين والعرب بات ملموسا؛ خصوصا عند بعض الشخصيات المتفرغة للكتابة فقط، ويبدو انها باتت متفرغة من دون ان تقوم بعمل آخر كما يبدو، تعكس ذلك كثافة ما ينشر لهم يوميا هنا وهناك.


من هنا وبسهولة نجد مثل تلك الاسماء والأقلام، مع احترامنا الكبير للعديد، منها تعمل وفق قاعدة النط على رؤوس الآخرين كمعلمين لازالت عصاهم فوق رؤوس التلاميذ، رغم أن الاحداث تجاوزت الكثير من تحليلاتهم، لكنهم يصرون الظهور في كل المواقع، ويكتبون في كل موضوع مستحدث أومتناول من قبل آخرين.


ان هذا التلون الكتابي المتشعب أضاع على القارئ تحديد بوصلة واتجاه الكاتب نفسه، وحتى من فرز الموقع الالكتروني وتوجهاته وأهدافه ، وضيع الوضوح والموقف من القضية المعالجة. ويتمنى المتصفحون للمواقع الالكترونية ان يجدوا الموقع المتخصص والمعبر عن وجهة نظر فكرية وعقائدية لكي يصلوا الى فهم مواقف أصحابه وكتابه واتجاهاتهم وتجربتهم. لكن هذا الخلط الاعلامي أضاع تحديد كثير من الاتجاهات والرؤى الفكرية التي يجب أن تتبلور لتشكل مدارس سياسية وفكرية وثقافية وابداعية متجددة في المجال الذي تدعو اليه المواقع أوالكتاب ايضا.


وما دمنا نعتقد ان الفترة الصعبة التي يمر بها شعبنا تستلزم توحيد الصفوف والرؤى والافكار، من اجل تكريس ثقافة المقاومة، فان الواجب الذي يجب الالتزام به قبل كل شئ هو صياغة البرامج وتقديم الأفكار التي تؤدي في النهاية الى دعم المقاومة وتجذيرها وانتصارها. هذه البرامج والافكار لا ينتجها الا كتاب ومناضلون، مقاومون وملتزمون أيضا، لا يجدون في الكتابة الإعلامية هدفا من أجل الكتابة وكفى ولا يمارسون الكتابة كترف فكري او تسلية لتمرير الوقت شأنها شأن ملئ مربعات الكلمات المتقاطعة لقتل الوقت لا غير. فالنضال والاسهام به ميدانيا يحتاج الى كثير من الانضباط العالي والالتزام به عند الكتابة تحديدا، ويفرض الحد من التسيب الفكري والمهاترات التي وصلت في كثير من مواضعها الى النقد بلا هدف ولا قيمة، وفهمها البعض أنها حقوقا لهم من دون استحقاق. وصلت بهم محاسبة ألغير، وتتبع حركاته وسكناته من دون التزام بواجبات تفرضها عليهم مسؤولية الكتابة وفي الإنضمام الى جبهة المقاومة الثقافية ولو سلوكيا. لست داعيا للكل ان يكونوا مقاومين في مواقعهم وأقلامهم، ولست ليبراليا الى الحد الذي لا أرى فيه سوى الحرية الفردية كحق مقدس للفرد، ولكني أدعو بعض من الاقلام ان توفر الوقت لها ولنا لكي نقرأ لها ما يمكن وصفه بكتابات جادة ومفضية الى وحدة شعبنا وحشد الطاقات ضد الاحتلال، طالما ان اقدار بلدنا السياسية قادتنا الى المربع الصفري وإلى بدايات عشرينيات القرن الماضي ليتكرر الاحتلال الاجنبي لوطننا. عدنا نصطف بوعي اوطواعية أو اضطرارا الى حركة تحرر وطني عراقية وعربية تسعى الى نيل الاستقلال الحقيقي للعراق وطرد المحتل واذنابه من خلال كل أشكال المقاومة والسعي الى تصور مستقبل ديمقراطي للعراق يتفادى التجارب السياسية المرة التي قادتنا وبلدنا الى الهاوية والسقوط. ان النبش في ثارات الماضي والتبجح ببطولات الوهم للبعض باتت نزوات لبعض الاقلام في خلوات الشبكة الالكترونية.


كما ان وضع شعبنا من المرارة والضيم لا يتحمل عبثا كتابيا أكثر مما نراه ونقرأه، ليس الهم من اجل الكتابة فقط التي صارت نزوة بعض الكتاب يوميا، نحن بحاجة الى الافكار والبرامج والصيغ والخطوات العملية لكي نشكل جبهة مقاومة حقيقية على مستوى الممارسة الفكرية والابداعية. ولهذا نطالب المواقع الالكترونية المهتمة بقضية كفاح شعبنا من اجل التحرر ان تفرز الغث من السمين، كما نطالب كتابنا الخروج من قواقع التكرار واجترار ثارات الماضي المؤلمة من تجربة شعبنا السياسية المرة، والتوجه نحو الابداع الحقيقي في مجالات كتاباتهم وتخصصاتهم؛ وحتى كتابة مذكراتهم وتجاربهم بما يخدم وحدة الهدف والمستقبل لكل العراقيين. وليس من الضروري ان نكون ضيوفا شبه يوميين على كل المواقع الالكترونية، العربية ومنها العراقية، التي تنشر لنا ولغيرنا من اجل ملئ الصفحات وديمومة بقاء المواقع.


كما ان الاطروحات المستهلكة التي تتغذى على الصراعات الجانبية وعلى الانقسام التاريخي التي مرت بها فصائل وحركات شعبنا السياسية الوطنية يجب دفنها الى الأبد. إن من السهل النقد في كل مجال يختاره الكاتب؛ لكن من الصعب ان نجد التقويم والتأثير والتفاعل الصائب لذلك النقد. نقرأ ونسمع ونرى كل الاقلام ناقدة، ولم يسلم أحد من النقد سوى كاتب النص نفسه، وهناك من يتسلل من خلال النقد الى هدم ما يتم بنائه في الوجدان الوطني ثوان. انه العبث لاغير؟ . من هنا اكرر عنوان مقالتي من دون أن أستهدف أحدا بعينه:
إن لم تناضل فتنحى أو " مت قاعدا".

 
 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الأحد  / ١٦ رمضان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٦ / أيلول / ٢٠٠٩ م