القذافي وحسني وجهان لعملة ليست واحدة
بين جرأة المواجهة في الأمم المتحدة وذلّ التملّق في اليونسكو !

 
 

شبكة المنصور

نبيل أبو جعفر

سَجّل العرب مطلع الأسبوع الماضي موقفين متناقضين بالكامل على المسرح الدولي، أولهما لصالحهم على خشبة الأمم المتحدة، وثانيهما ضدهم في قاعة منظمة "اليونسكو"، وكلا الإثنين يستحقّان التوقّف أمامهما لنعرف أين نحن من هذا العالم المتلاطم المصالح والسياسات، وكيف علينا التصرّف أمام الحقّ بكبرياء دون تكبّر، وبتواضع دون تذلّل، حتى لو كنّا محطّ استهداف الغرب والشرق معا.ً

 

سجل الجرائم في عهد الأمم المتحدة

 

للمرة الأولى منذ تأسيسها قبل 64 عاماً، تشهد الجمعية العامة للأمم المتحدة قائد دولة يتكلم بجرأة وقلب مفتوح عن كل مشاعر ومشاكل العالم المظلوم، المُهان، والملاحق من قبل القوى الكبرى، ويورد أمثلة محدّدة للجرائم التي ارتُكبت فيه تحت سمع وبصر مجلس الأمن الذي أصبح مصدراً للإرهاب حسبما قال العقيد معمّر القذافي أمام قادة العالم.

 

لقد عَوَّدّنا القذافي طوال حياته تقريباً على المفاجآت الغريبة، سواء بالممارسات أم الحركات وبعض التعابير. عَوَّدّنا على خيمته وطريقة لبسه وجيش مرافقاته، كما عوّدنا على استنكافه عن المشاركة في بعض المؤتمرات وتأخره عن الحضور في بعضها الآخر، غير تململه المقصود في الكلام والتفنن باستحضار الكاميرات للتركيز عليه.

 

عوّدنا أيضاً على افتعاله صدامات ومواجهات، وشنّ معارك على مجرّد كلمة أو إشارة، مثلما عوّدنا على "إهمال" الحضور بشكل مقصود في بعض الأحايين، وإدارة الظهر لهم ونفث دخان سيجارة "أميركية" لم يَعْتَد تدخينها في وجوههم ، بطريقة استعراضية مقصودة أيضا.ً

 

عَوَّدنا العقيد على ما لم نعتد أن نراه أو نسمعه في المؤتمرات والاحتفالات، وكم كتبنا نحن معشر الصحافيين عن هذه "الظاهرة" نقداً قاسيا في الكثير من الأحيان، لكن ما فاجأنا به القذافي هذه المرّة تحديدا ، عبر كل جملة قالها أمام زعماء العالم يختلف عن كل مفاجآته الأخرى نوعاً ولهجة وجرأة موضوعية، رغم الإنفعال المشروع الذي انتابه دون شرود في الذهن ولا خروج عن الموضوع الأساس.

 

فلأول مرّة في تاريخ المنظمة الدولية ومجلس أمنها يخرج زعيم دولة ليُذكّرها – وهو يحمل رزمة من الأوراق الأرشيفية – بسجّل الجرائم التي ارتُكبت في عهدها، ويسألها أين كانت أمام كل الحروب التي وقعت منذ تأسيسها، ولماذا لم تُحاسِب أو تتقصى الحقيقة، وأين ميثاقها الذي انتُهك ولم يعد صالحاً لهذا الزمان، بعد أن أصبحت كل المنظمة ومؤسساتها أداة طيّعة بيد الكبار وحدهم، تتّم تحت اسمها ولافتتها جرائم الحروب والإحتلالات والإبادة الجماعية للشعوب.

 

لأول مرّة في تاريخ المنظمة يسألها زعيم دولة وسط دهشة الحاضرين وتصفيقهم: لماذا لم تُحاسِب قاتل أمينها العالم داغ همرشولد، والرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي الذي أصّر على تفتيش مفاعل ديمونا النووي الإسرائيلي – حسبما قال-، وأخيراً الرئيس الشهيد صدام حسين، ثم يستعرض أمامها قائمة قادة النضال الفلسطيني الذين استشهدوا اغتيالاً بيد الكيان الصهيوني داخل دول تتمتع بالاستقلال وتنضوي تحت لواء الأمم المتحدة دون أن يُحاسَب أو يُسأل مرتكب هذه الجرائم، ويذكّر العالم بأسماء أبو جهاد وكمال ناصر وأبو يوسف النّجار ، وبالطبع تسميم ياسر عرفات وكل الكوكبة التي سبقتنا على طريق الشهادة.

 

لأول مرة في تاريخ المنظمة والرسمية العربية بكامل رموزها يُكرّر العقيد القذافي الكلام بحرقة حول كيفية احتلال العراق وتقسيمه واعدام رئيسه الشرعي من قبل الدول الإستعمارية التي احتلته، ويتساءل عن هوّية هؤلاء الملثّمين الذين قاموا بتنفيذ الجريمة، ويحذّر القادة الحاضرين من نفس المصير إذا ما استمرت وحوش الغابة الدولية سائبة تتصرف دون حساب.

 

ولأول مرة أيضاً طرح زعيم دولة من على المنبر الدولي ما يؤرق بال أي صغير أو كبير في هذا العالم المظلوم، وجاء طرحه صريحاً وموفّقاً وغير فوضوي .ً حتى في تمزيقه – بتهذيب – ميثاق المنظمة أمام الحاضرين، ومطالبته بتشكيل منظمة أخرى أكثر عدلاً، لا تقيس بمكيالين ولا تقف إلى جانب المجرم ضد الضحيّة لم يكن إعتباطيا ولا استعراضيا هذه المرة.

 

لهذا خسرت مصر معركة اليونسكو

 

ومن قاعة الأمم المتحدة إلى قاعة اليونسكو اختلفت صورة العرب، واختلف أسلوب طرحهم وطريقة تعاطيهم مع الآخرين، حيث استُبدل الكبرياء بالتملّق، واستُكملت مسيرة التذلل التي بدأها وزير الثقافة المصري فاروق حسني مدفوعاً من قبل قمة الحكم في بلده، سعياً وراء الفوز بمنصب المدير العام لهذه المنظمة الدولية، فواصل عملية إرضاء الصهاينة وطلب ودّهم المفقود، بعد أن زلّ لسانه ذات مرة عندما نرفز أثناء حوار برلماني، فتوعّد بحرق الكتب الاسرائيلية إذا ما وُجدت في مكتبة وزارته، ثم عاد واعتذر مرارا وطلب الصفح حين قامت قيامة "اسرائيل" عليه ولم تقعد حتى بعد أن تمكّنت ومعها اميركا وكامل عصابة الدول الغربية من اسقاطه وانتخاب الوزيرة البلغارية السابقة إيرينا بوكوفا في جولة الإقتراع الخامسة، وفي الوقت الذي لم تكن فيه أصلا من منافساته الأوائل ، إلا بعد أن نقلتها قدرة قادرين لتبقى وحدها في مواجهته، وفي الدقائق الخمس الأخيرة من الشوط!

 

الملاحظات التي يمكن أن تُسجَّل على هزيمة حسني ودوره ودور دولته والآخرين، فضلاً عن تركيبة شخصيته وما يُسجَّل عليه ، ثم ما صدر عنه قبل الانتخابات وبعدها، كل ذلك يحتاج إلى مجلّد لاستعراضه تفصيلاً. لكن الملفت هنا طغيان تناقض صورة الإنسان العربي مع الصورة التي رسمها خطاب القذافي، حيث النفاق وعدم الجرأة وحتى التذلّل كانت هي السمات التي طبعت تصرّفات الوزير المصري طوال المعركة الانتخابية، تلاها بعد فشله على الفور التصريح بكلام مناقض بالكامل لما كان يقوله أو يعبّر عنه قبل ساعات من أجل الحصول على المقعد المأمول! بالإضافة الى فتحه النار على "اليهود الذين مارسوا تهديدات لمنعي من الفوز" – كما قال -، وحديثه عن "الطبخة" التي جرى إعدادها مع الأميركان في نيويورك لإسقاطه!

 

العودة المتأخرة لنسب العروبة والإسلام!

 

رغم عدم استبعاد صحة هذا الكلام، بل ترجيحه وتوقع الأكثر منه، إلاّ أن وزير الثقافة المصري لم يتحدّث عن دوره هُوَ، ولا عن تقلُّب مواقفه ومزاجه ودور بلده في اسقاطه قبل أن يترشح، نظراً لعدم اختيارها الرجل الأكثر ملاءمة لهذا الموقع، وكيف أن أغلبية مثقفي بلده لم يؤيدوا ترشيحه. كما لم يتحدث عن الصورة المأخوذة عن بلده، وماذا فعل هو كمثقف ليبرالي ـ كما يُشاع عنه ـ  للدافع عن حرية الرأي، ووقف سيف الرقابة، والحدّ من محاصرة المثقفين وملاحقتهم في لقمة عيشهم .

 

والأغرب من كل ما سبق، قوله لصحيفة "أخبار اليوم" في أول لقاء يجري معه بعد عودته من معركة اليونسكو: "إن التكتل كان شديداً ضد المرشح العربي المسلم". وتعود الغرابة في ذلك إلى استعماله لأول مرة منذ بدء ترشحه وحتى نهاية المعركة الانتخابية تعبير "المرشح العربي المسلم"، في الوقت الذي كان يُشدّد فيه أمام الجميع في قاعة ودهاليز اليونسكو على أنه مرشح مصر، وقد قاد حملته بنَفَس مصري خالص، ولم يجر حسب معلوماتنا ومشاهداتنا أثناء معركة الإنتخاب أي تحضير جماعي مسبق (مصري ـ عربي ـ إسلامي)! 

 

ثم، إذا أخذنا بكلامه عن التكتل ضد العربي المسلم ، وهو ما لا نستبعده بوجه عام ، فلا بدّ أن نتساءل جدلا : إذا كان فاروق حسني أرمنيا أو شركسيا أو مسيحياً هل كان من الممكن أن يحصل على بركة الغرب وأصواته؟ لن نكرر هنا ما ذكّره به البعض حول نجاح البرادعي المسلم ـ وإن تعرّض لاحقا لحملات البعض ـ وسقوط بطرس بطرس غالي المسيحي في دورة التجديد له عندما خرج بضع سنتيمترات فقط عما يريده الغرب؟ ولكننا نسأله إذا  ما زالت لديه القدرة على التركيز والتمييز : ألم تتوجه دبابات الاحتلال الأميركي فور احتلالها بغداد نحو جرف ضريح مؤسس البعث ميشيل عفلق ، في الوقت الذي لم تمسّ فيه أحداً من أصحاب العمائم البيضاء والسوداء . هل كان الغرب "حبيباً" لجورج حبش ووديع حداد وكمال بطرس ناصر ومؤسس الحزب القومي السوري أنطوان سعادة ، ولا داعي للتعداد أكثر، وهل ميّز بينهم وبين أبوجاد وأبوإياد وكمال جنبلاط وكمال عدوان .. وطبعا ياسر عرفات ؟

 

قضية حسني" تتعلق بشخصه وبنظام بلده وبركضهما وراء السراب الصهيوني دون أي طائل، ولا فرق هنا سواء كان مسلماً أم مسيحياً أم غير ذلك، وصدق المثل القائل "من يُهن يسهل الهوان عليه"!

 

تحية إستثنائية للقذافي الذي سنبقى ننتقده كلما استوجب الأمر ذلك، ولن نتوانى عن ذكر "مآثره" كلما تطلب الأمر ذلك أيضا.ً

 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت / ١٤ شـوال ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٠٣ / تشرين الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور