في سبيل البعث : مقتطفات من ( دور معركة الجزائر في نضالنا )

 
 

شبكة المنصور

زيد احمد الربيعي

مشكلة فرنسا مع الجزائر أعمق مشكلة تعرضت لها فرنسا، وفضحت فيها، وعرف فيها ضعفها وأسباب ضعفها، لان مشكلة الجزائر جاءت بعد انتهاء مشكلة الهند الصينية، فلو كان كيان فرنسا ما يزال يملك المقومات الايجابية لكان ينبغي ان تكون اقدر على حل مشكلة الجزائر، بعد ان ارتاحت من عبء الهند الصينية واستعمارها المرهق. ان مشكلة فرنسا مع الجزائر أضخم من مشكلتها مع الهند الصينية، وهي تثير أزمة أعمق وأوسع. ان فرنسا تنظر إلى ارض الجزائر خاصة، والى ارض المغرب العربي عامة، على انها امتداد حيوي قريب لأرضها، وان حرمانها من هذا الامتداد يهدد حياتها، اقتصاديا وعسكريا الخ.

 
ورغم ذلك نرى أكثرية الشعب الفرنسي تقف ضد سياسة الحكومات في تشبثها العنيد المصطنع باستعمار المغرب والجزائر، ومعنى هذا انه أصبح هناك تناقض واضح جدا بين مصلحتها القومية التي يمثلها الشعب ويعبر عنها، وبين وضعها الاجتماعي الذي تدافع عنه الحكومات لمصلحة فئات مستثمرة ليس للجزائر فحسب، بل للفرنسيين أنفسهم أيضا. نستطيع أن نقول إن فرنسا منذ زمان، والآن خاصة، في حالة تفسخ، وقد يؤدي هذا الى ولادة شيء جديد، وقد لا يؤدي إلى شيء من ذلك.

 
وقد ظهر هذا التفسخ في الحرب الأخيرة، وظهرت في مقابله بقايا الايجابية والحيوية في فرنسا، تمثلت في مقاومة الألمان. وقد أدركت العناصر الموجهة في حركة المقاومة عمق المشكلة التي تعانيها فرنسا، أدركت إنها مشكلة أساسية تتناول النظام الاجتماعي كله، وحاولت أن تكون هذه المقاومة مناسبة لنهضة فرنسا على أسس جديدة. ولم تكن هذه العناصر كافية، كما إن العناصر الأخرى غير الثورية دخلت معها، وحدّت من عمق حركتها وشمولها فاقتصرت هذه الحركة آخر الأمر على تحرير فرنسا من الاحتلال، وبقيت المشكلة الاساسية معلقة.

 
ومرة أخرى انتصرت فرنسا انتصارا كاذبا قائما على الغش (لقد كان انتصارها عام 1918 كاذبا، وكان عام 1944 أكذب، فقد قام على مساعدات أجنبية وعلى تغطية للمشاكل الأساسية). وطبيعي ان لا يحول هذا الانتصار المغشوش دون ازدياد المشاكل الداخلية والخارجية.

 
ان مصالح الشعوب لا تتصادم، فمصلحة الشعب العربي في الجزائر والمغرب تتمشى مع مصلحة الشعب الفرنسي في التحرر من أوضاعه الجائرة. وفي هذا ضمانة لانتصار العرب في المغرب، لان كل إمعان من قبل فرنسا في السياسة الاستعمارية، ان كان يوقع ضررا في عرب الجزائر، فهو يوقع في مصالح الشعب الفرنسي إضعاف هذا الضرر مما يؤدي الى ثورة الشعب الفرنسي. 


وينبغي أن نشير إلى فروق أساسية بين المعركة التي يخوضها العرب في شتى أقطارهم في هذه المرحلة التاريخية، وبين العدوان الاستعماري وما يخفي وراءه وما يعبر عنه. فمعركة العرب معركة ايجابية بكل معنى الكلمة لأنفسهم وللعالم، فبمقدار ما يتحررون يحررون العالم، وهي معركة صادقة تنبثق شعاراتها من صميم واقعها، وهي لذلك قوية بالنسبة الى العرب وبالنسبة الى الرأي العام العالمي لأنه ليس فيها تزييف ونفاق، وهي معركة رابحة لانها تقوم على الشعب كله وتسير في اتجاه مصلحة الشعوب، شعوب العالم.

 
وهي إذن معركة إنسانية، هي معركة الحضارة والقيم الإنسانية والمستقبل، أما معركة الاستعمار فهي نقيض ذلك كله. ومعركة العرب معركة موحدة، توحد العرب أنفسهم وتوحدهم مع التاريخ والعصر والشعوب، أما معركة الاستعمار فهي معركة مجزئة، تقسم البلد الاستعماري على نفسه، وتخلق أعمق الأزمات بين فئات الشعب الواحد وتفضح تناقضات الوضع المؤدي الى الاستعمار وتعزل الدول الاستعمارية عن شعوب العالم واتجاه الحضارة. وهي كذلك معركة سلبية رغم هجومها الظاهر، فهي تهاجم لتدافع عن بقايا مصالح لم تعد تأتلف مع اتجاه العصر... وهي معركة قاضية، فشعوب الدول الاستعمارية تصبح يوما بعد يوم اقل تحمسا لهذا الحروب الاستعمارية، وهي تنسحب منها انسحابا متزايدا لتقتصر المعركة أخيرا على أصحابها الحقيقيين بدون قناع: الرأسماليين والمغامرين والمرتزقة الذين يستفيدون من الحروب، وعندما تصل الى هذا الحد، تكون قد وصلت الى نهايتها، لأن الحروب الاستعمارية لا تقوم على الاستعماريين وحدهم بل على قدرتهم على خداع شعوبهم، وعلى زجها في تلك الحروب.

 
لقد كنا قبل عشرات السنين لا نطمع في اكثر من رفع القيود عن أنفسنا وعن وطننا معتبرين هذه المرحلة مرحلة سلبية، على هامش حياتنا وتاريخنا على هامش الحياة والتاريخ، منتظرين يوم التحرر الكامل ليدخلنا إلى التاريخ.

 
واليوم ندرك إننا دخلنا التاريخ منذ بدأنا النضال، وان كل قيد حطمناه سواء من قيود الاستعمار أو قيود أوضاعنا، البالية المساعدة للاستعمار، كان في الوقت نفسه قيدا من قيود الإنسانية يتحطم وحجرا من أحجار المستقبل يرتفع. وان رسالتنا لم تعد ذلك الشيء البعيد الأجل الذي يبتدئ بعد الاستقلال وبعد الوحدة وبعد الثورة الداخلية، بل إننا أخذنا نحيا هذه الرسالة ونؤديها منذ اللحظة التي وعينا فيها انه يجب ان تكون لنا رسالة.

 
نحن اليوم في قلب التاريخ الإنساني، نؤثر فيه أكثر مما نتأثر به، فبقدر ما نهدم من أوضاعنا الاستعمارية والاستثمارية، ونساهم في تحرير الشعوب المستعمرة لنا بقدر ما يكون نضالنا ضد الاستعمار صادقا وشاملا ومعبرا عن تجربتنا القومية التي هي تجربة الإنسانية.

 
كانت عقيدتنا حافزا ومحركا، واليوم حان الوقت لتصبح منهاجا عمليا نعبئ أقصى إمكانياتنا لتحقيقه في وعي تام لأهداف نضالنا القومي البناء، فهل قدّرنا الموضع الخطير لمعركة الجزائر من هذا النضال؟

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الخميس / ١٢ شـوال ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٠١ / تشرين الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور