سنافير دولة الكارتون

 
 
 

شبكة المنصور

د. عبد الكاظم العبودي

كثرت المسميات والعناوين السياسية الفرعية في عراق اليوم، لكن العنوان الرئيسي في المشهد العراقي لا يُخفى على أحدٍ، فهو لا يتعدى عنوان مقر واحد، هو قيادة قوات الاحتلال الامريكية في المنطقة الخضراء، ومقر المندوب السامي الأمريكي، بشخص وإدارة السفارة الامريكية وملاحقها ببغداد.


ولعل أفضل ما أنتجه الأحتلال في خطابه النيوكولونيالي، هو التصريح رسميا بتسمية الأتباع، من خدم الاحتلال، وممن إرتضوا بيع الوطن الذي لا ينتسبون اليه يوما، بإسم "الكيانات السياسية العراقية" لتمييزهم عن إصول ومقتنيات وبيادق المؤسسة الامريكية الإحتلالية، التي تضم إضافة الى قيادة القوات الامريكية وموظفي سفارتها الأمريكية في كرادة مريم، ملحقات أُخرى من شركات الحمايات الخاصة، المشكلة من أعتى مُرتزقة ومُحترفي الجريمة في العالم، لتأمين وجود شركات النهب لكل ثروات العراق، بدء من البترول إلى الآثار، الى تهريب وتصفية العقول والادمغة العراقية وثروات العراق الأُخرى.


ان ما يلفت النظر، في هذا السياق، ان الأغلبية من العرب الرافضين للتطبيع مع العدو، والرافضين للإحتلال الإسرائيلي لفلسطين لازالوا يصرون على تسمية " إسرائيل" بالكيان الصهيوني، كونه يُشكل مجتمعا نخبويا من يهود العالم القادمين الى فلسطين، كيان إستيطاني تشكل إستثنائيا، وهو مؤسس على وجود قوة إحتلالية عسكرية صهيونية مُدعمة بقوة وإمكانيات وتكنولوجيات الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وقواتها العسكرية عبر القارات، وسياسياً مدعم بلوبي يهودي عالمي له أطماع بثروات وموقعي المشرق العربي ومغربه.
وفي يقيني أن الكيان الصهيوني هذا، يُراد له أن يكون في العراق شبيها من أشباهه عن طريق تخليق كيانات سياسية وإجتماعية مصطنعة في العراق، وفق مقاسات إستعمارية مطلوبة، تنتسب كلها الى ذهنية وآلية واحدة: هي إحلال شتات من يهود العالم بدل الشعب الفلسطيني في أرضه، وجمع شتات من معارضي النظام السياسي العراقي السابق، وإحلالهم بالقوة الإحتلالية المسلحة والغزو ووضعهم في مواقع الدولة والمجتمع العراقي بحماية قوات الاحتلال، على حساب أبناء العراق وشعبه ومجتمعه الاصلي ودولته الوطنية.


وما تفردت به ذهنية هذين الاحتلالين لفلسطين والعراق تتجسم في صورة متماثلة تصل الى حد التطابق في العمل أحيانا، وفي وهمها ببقاء تلك الكيانات المصطنعة مستقبلاً، بشكل يتناسب ويتطور مع آليات الاحتلال ومطامحه القريبة والبعيدة للأراضي العربية في العراق وفلسطين والمنطقة.


والمفارقة هنا أيضا أن لفظة "الكيانات السياسية" في العراق، دخلت لغة الخطاب السياسي الدائر اليوم، وباتت مفردة دستورية، يجترها أصحابها بعد احتلال العراق، وهي تطبيق لشكل مرسوم مسبقا دخل العراق لتنفيذ مخططات المحتلين، بالسعي بدفع هذه "الكيانات" الموصوفة تمويهاً بـ " السياسية" الى التموقع الطائفي والإثني، وتقديمها إلى العالم كأقليات وطنية متحدة ومتوافقة في بلد مُحتل إسمه العراق، وهي تسعى ،متوافقة، الى تشكيل دويلات تحت باب وعنوان محمي بالقوة الاستعمارية اسمه "العراق الديمقراطي الاتحادي".


هذا العنوان يحمل في طياته تضليلا، مُقارنة لما يَجري فعلاً على الأرض، يتجلى من خلال توزيع واسع للقواعد العسكرية الأمريكية على كل أطراف العراق، شُرعت لبقائها إتفاقية أمنية مشبوهة، مُخِلةٌ بسيادة ومستقبل وحرية العراق، صادقت عليها كل هذه المجموعات المتهالكة على صندوق الانتخاب، وهي المتمترسة اليوم في مسميات " الكيانات السياسية" في العراق ، بعد أن ضمنت لنفسها، واهمةً، ديمومة بقائها في العراق مقابل صفقات منح الامتيازات النفطية لشركات دول الغزو بالتكافل والتراضي وبالتنسيق مع إيران ودول الجوار.


تمتد جذور هذه التشكيلات العراقية إلى مجموعة من "الدكاكين السياسية" التي تشكلت في الخارج منذ بدايات السبعينيات من القرن الماضي، فهي تجتمع تارة، وتتصارع تارة أخرى،وتتنابز بالألقاب، وتنشق عن بعضها البعض، لكنها تبقى تحت عنوان فضفاض عريض كان اسمه "المعارضة العراقية لنظام البعث في العراق"، وهي قوى ومجموعات تشكلت من أشخاص باتت توجهاتهم معروفة للداخل والخارج، وظلت أسمائها وعناوينها السياسية مجرد سجل تجاري للبزنزة السياسية لكي تكفل لنفسها البقاء، وتحتكر التمثيل لها في الخارج بأسماء وعناوين وطنية عراقية.


ولم يعد خافيا على أحد ، ومنها مخابرات الدول التي إستضافتها لعقود، أن تلك المجموعات بدأت ترتزق بإسم العمل السياسي وتتصدر بالحضور كاما دعت لوجودهم الحاجة في المؤتمرات والأنشطة المُتاحة وهم مجرد مجموعات وأفراد وعوائل تسلطت على عنوان المعارضة يوماً وهي ذاتها التي وصلت الى السلطة وتصدرتها في ظل حكومات الاحتلال الاربعة المتتابعة.


بالأمس تاجرت من دون خجل باسم العمل المعارض، وجنت لنفسها من الأرباح والاموال التي أخذتها من دول معروفة، ما ساعدها أن تعتاشَ وتبقى في بعض العواصم العربية والأجنبية رافعةً إسم المعارضة على حساب معاناة قواعد جماهيرية وتنظيمات وعناوين كانت لها يوما داخل العراق، وعن تنظيمات إنقطعت بها السبل عن قياداتها، وتفرقت أيدي سبأ، في ظل ظروف عراقية قاهرة، من مركزية مفرطة للحكم تفرد بصنع القرار السياسي، وقوة وقمع غير رحيمة، وإستمرارالنظام الحاكم والاختراقات الأمنية، التي تعرضت لها أغلب التنظيمات في الداخل، لأكثر من عقود ثلاث، مما أدى الى إنفراط تنظيمات الداخل وازدياد إنشقاقات وتكتلات الخارج، ومن عناصر تلك التنظيمات ما أُجبرتها الظروف على الدخول والانخراط في صفوف الحزب الحاكم نفسه، أو عملت بعض عناصرها في صفوف مخابرات أجنبية.


هذه القوى الاجتماعية عانت كثيرا في ظل الانقلابات السياسية، وما عاشته من ظروف صعبة في بعض الأحيان، فما بين انقطاعها عن قيادات أحزاب الأمس التاريخية في الخارج، وما بين دخولها وإنخراطها في تنظيمات ونقابات ومؤسسات البعث الحاكم نفسه، طواعية او بسبب اليأس من الانتظار بعودة قياداتها السابقة الى العراق أو الى الحكم.


والكارثة والغرابة هنا أيضا، إن كثيرا من تلك القوى الاجتماعية يُسلط عليها اليوم سيف إجتثاث البعث وبأمر من بعض قياداتها السابقة من تلك العائدة مع قوات الاحتلال.


لا أعتقد ان إطلاق مسمى" الدكاكين السياسية" منذ ثلاث عقود لتوصيف تلك المجموعات السياسية والطائفية والاثنية اللاجئة الى الخارج كان خاطئا، فقد لمسنا حالها وأوضاعها في أكثر من ساحة من ساحات المنفى، عن قرب وعن بعد، والعارفين والمتابعين للشأن السياسي العراقي جيدا تلمسوا منذ فترة بعيدة: أن العديد من قيادات قوى المعارضة العراقية في الخارج، لم تَعد تُعارض النظام الا في الخارج وفي المناسبات المطلوب منها، لأجل إستمرار تأمين لقمة خبزها، و بقاء إمتيازاتها، وتوفير إقاماتها، وضمان الملاذ الآمن لمن إلتحق بها من كوادرها وقبل الوصاية عليه من تلك القيادات.


ممثليات المعارضة العراقية عاشت فعلاً وضعا سياسياً مقلوبا ومزريا، فتجمعاتها في الخارج تفترض أن تكون هي ممثلةً لجماهير أو قواعد أو تنظيمات الداخل، لكنها أمست، بفعل طول الفترة في الخارج، مجرد أقلية سياسية من تنظيم، ليس لها أدنى تمثيل أو حضور ملموس في الداخل، ولكنها ركبت رأسها، وغالطت منطق التاريخ والحقيقة والواقع العراقي، عندما إستمرت في إدعاءاتها السياسية، وتاجرت بعنوانها السياسي السابق، ومعظمها إدعت أن وجودها التنظيمي والجماهيري لازال قويا وملموسا في الداخل؛ بل منها ما كانت مشغولة بتدبيج البيانات واصدارها بإسم تنظيمات الداخل الوهمية.


وما عدا الوضع الكردي، وخصوصية المنطقة الجغرافية والإثنية لشمال الوطن، فإن أغلب، إن لم تكن جميع التنظيمات السياسية العراقية في الخارج قد فقدت مُعظم علاقاتها وصلاتها التنظيمية والسياسية، وحتى الاجتماعية السابقة، مع إمتداداتها داخل البلاد.


وعندما تفاوضت هذه التشكيلات في الخارج، في مرات عديدة على مشاريع قيام جبهات سياسية قوية وموحدة لمعارضة النظام، فشلت في كل المرات، لعدم توفر حتى العدد الكافي من الافراد لتمثيلها، وعدم وجود من هم مستعدين للنشاط في صفوفها في الداخل، لقلتهم من ناحية، وعدم الاعتراف بقيادة من لجأ الى الخارج وعمل بإسمائهم وتنعم بالامتيازات، وترك الجحيم والسجن والتشرد لرفاقه في الداخل.


ان معارضةً مثل هذه، بقيت على تلك الاحوال قرابة أربعة عقود في الخارج، وظلت من دون تواصل وصلات سليمة مع مناضليها في الداخل فقدت تدريجيا الأحساس بما تُفكر به جماهير الداخل، ونسيت هموم وتطلعات الناس حول المستقبل، وخاصة عندما أجهزت آليات الحصار الدولي على العراق بعد 1990، وبتأثير تراكمات نتائج الحروب السابقة، على كل بصيص من أمل في عودة العمل السياسي داخل العراق وصدق تمثيله في الخارج.


من هنا عامل العراقيون، اؤلئك الداخلين لهم فجأة بأسماء الكيانات يلهثون وراء الدبابات الامريكية معاملة الغرباء والغزاة، ولم يجد من تبجح بتمثيل المعارضة في الخارج أياً من قواعد وتنظيمات الامس وسادت حالات الجفاء والعزلة وحتى الازدراء، فهؤلاء الغرباء المتجمعون في مجلس الحكم جاؤوا من أجل ضمان الاستيطان السياسي لهم في محميات المنطقة الخضراء وشمال الوطن .


وهم ينشطون اليوم، باسم هذا " الكيان السياسي" الطائفي أو الإثني أو ذاك، بانتظار فرصة أخرى هي تقسيم العراق مستقبلا، وتحويله إلى كيانات وكانتونات إستيطانية سياسية وطائفية لهم ولعوائلهم تحت عناوين باتت الآن واضحة خلال التكتل أوالتجمع، حتى وإن إنفرطت وتجزأت إعلاميا، فهي لاتخرج عن كونها مناورات سياسية في السيرك الديمقراطي الامريكي، وباتت أفعالهم وسلوكياتهم ساذجة وبلهاء؛ تتجلى في مناقشات بلاط البرلمان الاحتلالي وقرارات حكومات الاحتلال المتتابعة، ولأنها، في كل الظروف، ظلت تحتمي ببعضها البعض، وتحمي إمتيازات الفاسدين والسُراق ومليشيات الجريمة المنظمة، وتتعاون بتنسيق تام سياسيا وأمنيا مع المحتل فلم يبق من أسمائها المعلنة أي دليل ذي إرتباط وطني.


ولأنها غير قادرة، وهي منفردة التكتلات على مواجهة السخط الشعبي والمقاومة الوطنية المتصاعدة ضدها وضد الاحتلال، وطالما أنها كشفت سابقا، وتكشف حالياً عن توجهاتها غير الوطنية، وإنها إندفعت في خدمة مخططات الإحتلال، وهي ألمسؤولة عن تغطية جرائمه وتزكية بقائه، وتشبثها بعملية سياسية ليس لها من وجود شعبي حقيقي على أرض العراق فسوف تسقط حتما ولا يرحمها أحد.


ومهما تجمعت هذه التكتلات او ألكيانات اليوم في حمى الحملة الانتخابية بعناوين وطنية جديدة لكنها ظلت تحتمي برعاية إيرانية وأمريكية، وستبقى في واقع الحال، هي تحصيل حاصل وتجميع لسنافير سياسية هزيلة، مقطوعة الجذور والصلة مع شعبها.


إن الاصطفافات السياسية الجارية لهذه السنافير مفروضة عليها بقرارات دولية، وبتناسق مع تطلعات وأماني المحتل الامريكي، الذي خسر الحرب ومواجهة المقاومة الوطنية، فبات يراهن أخلاقيا على وهم إقامة نظام ديمقراطي تعددي في العراق باستخدام أدوات وأحصنة طروادة الامس، والتي لم يعد الرهان عليها مجديا.


ومن المحتمل أن يكون خلف الواجهة، ما في الكواليس من السنافير الجدد في دولة باتت بلا أمن ولا قانون ولا ارتباط بوهم الكيان المستوطن الجديد بقوة الاحتلال.


وإن غدا لناظره قريب

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت / ١٩ ذو القعدة ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٠٧ / تشرين الثاني / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور