عزف منفرد  - رحلة نهرية

﴿ الحلقة الثانية ﴾

 
 
 

شبكة المنصور

سلام الشماع - عن البلاد البحرينية

... وكنت كلما التقيت الدكتور عماد عبد السلام رؤوف أخرج منه بمجموعة من الأخبار المثيرة أو المواضيع التاريخية المهمة، فميزته عن الآخرين أن له في كل يوم أشياء وأشياء جديدة، وقد أخبرني مرة أن منطقة الغزالية في بغداد كانت مكاناً لأديرة وكنائس في العصر العباسي وأن أبا نؤاس الشاعر العباسي المعروف كان يخرج من بغداد ممتطياً بغلته متوجهاً إلى هذه المنطقة كلما دعاه شوقه إلى الخمرة ليحتسي شيئاً منها هناك، وذلك قبل أن ينزلها بنو غزال، من أفخاذ بني عامر، فنسبت إليهم..


وسقط مرة جدار المقبرة الملاصقة للجامع التاريخي براثا الذي أمر بانشائه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد أوبته من معركة النهروان التي قاتل فيها الخوارج سنة 37 هـ وقيل سنة 38 هـ، فكشف سقوط الجدار عن شق في أرض المقبرة قرر بموجبه الدكتور عماد أن هذا الشق إنما هو جزء من نهر المسعودي العباسي ليحل بذلك لغزاً تاريخياً ويفسر للعراقيين معنى الاغنية التي يرددونها من دون أن يعرفوا كلمة (المسعودي) الواردة فيها:


واقف على المسعودي           واقف يدق بالعودي

 

والدكتور عماد بعد هذا مهتم بعلم الأحجار الكريمة وتراثه عند العرب، وقد حقق (الجواهر وصفاتها وفي أي بلد هي وصفة الغواصين والتجار) ليوحنا بن ماسويه، صدر هذا الكتاب عن دار الكتب المصرية سنة 1976 ثم أعيد إصداره عن المجمع الثقافي في أبو ظبي أخيراً، كما أصدر سنة 2005 كتاباً ضم مجموعة دراساته في هذا المجال بعنوان (دراسات في علم الإحجار الكريمة عند العرب)، وكلف من المجمع الثقافي بتحقيق المجلد 22 من موسوعة (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) وهو الخاص بعلم الأحجار، وقد فعل، وصدر المجلد ضمن هذه الموسوعة.


اقترحت على الدكتور عماد عبد السلام رؤوف، مرة، أن نستأجر زورقاً وننحدر به في نهر دجلة من الأعظمية إلى الباب الشرقي لتكون على يميننا بغداد الغربية حيث بنى أبو جعفر المنصور مدينته المدورة وعلى يسارنا بغداد الشرقية حيث انتقلت بغداد إلى الرصافة، والرصافة هي الأعظمية الحالية ثم ما لبث الاسم أن طغى على الجانب الشرقي من بغداد كله، وحتى الكرخ كانت قرية كبيرة ايام تأسيس بغداد سنة 145هـ /762م وادخل المنصور الخليفة العباسي هذه القرية ضمن بغداد، ثم ما لبث اسم الكرخ أن أطلق على الجانب الغربي من بغداد.


كان الدكتور عماد يكشف لي عن منشآت بغداد العباسية ما هو قائم منها وما اندرس، وقد تعلمت من تلك الرحلة النهرية الكثير وعددتها بمنزلة الدرس العملي لي بعد دروس نظرية كثيرة تلقيتها على يد هذا الرجل العالم، وقد أجابت تلك الرحلة عن الكثير من تساؤلاتي وحلت الكثير مما كنت اعده ألغازاً في حياة مدينتي، وقد أثبتت لي الأحداث بعد وقت قصير من هذه الرحلة مدى دقة هذا الرجل وسعة علمه.


عندما وصلنا بالزورق إلى منطقة العطيفية أشار الدكتور عماد محدداً موقع المدينة المدورة التي بناها أبو جعفر المنصور وكتب على بوابتها (ادخلوها بسلام آمنين)، فسميت مدينة السلام، وقد ظننت أن الرجل يخمن موقع تلك المدينة، فهي قد اندرست آثارها بمجرد أن هجرها العباسيون إلى الرصافة، وجرت محاولات لتحديد موقعها باءت كلها بما يشبه الفشل، لكنه قال لي إن نصف تلك المدينة أكلها نهر دجلة فالنهر يأكل من الكرخ ما يهبه للرصافة، وإن الجسر الذي يربط منطقة العطيفية بكورنيش الأعظمية يقع في منتصف المدينة المفقودة، ولكي يدلل لي على ذلك قال لي إن قبور 13 خليفة عباسياً كانت فيما مضى تقع على النهر وإن موقعها الآن على الطريق العام الذي يربط الاعظمية بباب المعظم (باب السلطان)، كما كان يسمى في العصر العباسي، بينما موقع هذه القبور يبعد الآن كثيراً عن نهر دجلة الذي بنيت قربه المقبرة الملكية للعائلة المالكة في العراق التي انتهى حكمها في 14 تموز 1958.


وحدد لي موقع مشرعة الروايا، حيث كان السقاؤون يأخذون مياههم لينقلوها إلى داخل مدينة المنصور، وفيها أنشأ هذا الخليفة أول مشروع هندسي لرفع المياه وإسالتها إلى داخل مدينته.

 

وفي جانب الكرخ كانت تستلفت نظري منارة لمسجد قديم هي الوحيدة في شكلها الساذج في العالم فهي غليظة من الأسفل رفيعة من الأعلى، وقد بين لي أنها أقدم منارة لأقدم مسجد في بغداد مازال قائما إلى الآن، بناه المستنصر بالله العباسي سنة 626هـ/1228م، كما حدد لي مواقع المدارس العلمية في بغداد ابتداءً من المدرسة النظامية والمستنصرية وإلى وزارة الدفاع، وهذه المنطقة المهمة في تاريخ بغداد كان يقع فيها سوق الوراقين في العصر العباسي ويقوم بوظيفته في الموقع نفسه اليوم سوق السراي وشارع المتنبي، وأيضاً هذه المنطقة نفسها بما تحتها من آثار ومنشآت بغدادية عباسية مازالت قائمة إلى اليوم أشاع الأمريكان يوم احتلالهم بغداد أنهم سيقيمون عليها عمارات سكنية، فعدّ المثقفون ذلك محواً لجزء كبير من ذاكرة بغداد فوقفوا في وجهه وقاوموه.


وتحدث لي الدكتور عماد في تلك الرحلة الممتعة عن موقع سور بغداد الشرقية محددا لي أبوابه المحكمة: باب السلطان والباب الوسطاني وباب الطلسم وباب كلواذى الذي سمي بعد ذلك الباب الشرقي، وقال إن ابراجاً كانت تقوم إلى جانب هذه الأبواب أضعفها كان برج العجمي الذي استطاع الغزاة النفاذ منه إلى بغداد في العام 656 هـ ـ 1258 م ليحتلوا المدينة ويطيحوا بالدولة العباسية ولتشهد بغداد بعد ذلك احتلالات متوالية آخرها كان الاحتلال الأميركي في العام 2003 م.


وحدد لي موقع دار الخلافة في بغداد الشرقية الذي يحتلها الآن شارع النهر الشهير في بغداد، مبيناً أن الأزقة والشوارع الفرعية الموجودة الآن هي نفسها التي كانت موجودة في العصر العباسي، وحدد لي موقع القصر الذي شهد آخر لقاء له مع هولاكو، وسمي قصر المثمنة، والذي تقوم فوقه اليوم بناية غرفة تجارة بغداد.


والأهم من ذلك كله أن الدكتور عماد فسر لي اسم منطقة السنك في بغداد التي لم أفهم معناه، فبين لي أن هذه المنطقة كانت مزرعة يزرع فيها البصل في العصر العباسي ولذا سموها البصلية واستمرت كذلك ومع الاهمال توطن فيها الذباب، ولما احتل العثمانيون بغداد سموها السنك ويعني هذا الاسم في لغتهم الذباب (الذبان).


وبعد أسابيع من هذه الرحلة التي جرت في العام 2000 حدث في بغداد حدث كبير اكتشفت من خلاله المدينة المدورة وعثر على ختم الخليفة أبو جعفر المنصور في أحد القصور المندرسة، وهذا ما سنكمل الحديث عنه في القسم الآخر من هذه المقالة.

 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الثلاثاء / ٠٧ ذو الحجة ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٢٤ / تشرين الثاني / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور