العراق الامريكي وفوضى المالكي الخلاقة

 
 
 

شبكة المنصور

د.مثنى عبد الله - باحث سياسي عراقي

لازالت قوانين التاريخ وعلم السياسة عاملا حاسما في الحكم على الانظمة السياسية وتقرير مدى شرعيتها , وبهما توزن أفعال الحكومات لاأقوالها لبيان مدى الاقتراب أو الابتعاد من قانون التطور الاجتماعي , الذي لابد أن يكون فيه دور الانسان فاعلا وجوهريا , ضمن منطق أن لاعودة للماضي , ولاأرتداد الى عصور خلت . لكن التطور الاجتماعي رافقه أيضا تطورا في الاساليب والوسائل التي أعتمدتها القوى الاستعمارية , لاستمرار سيطرتها وتسلطها على الغير من خلال أنظمة مصطنعه فاقدة الصلاحية , يجري التطبيل لها ونفخ روح الشرعية فيها عبثا بهدف ضمان مصالح أكبر وبخسائر أقل , غير أن الصور المقززة والافعال المشينة التي تنتجها هذه الانظمة ضد الشعوب وهي تمارس سلطاتها المزورة , أنما تفشي حجم التزوير الذي جرى لصنع تارخ جديد لها , حتى عادت كالبضاعة الفاسدة رائحتها تفضح نفاد صلاحيتها وتكبل بالعار مصدريها والمروجين لها . واذا كان التاريخ يحدثنا عن نماذج كثيرة من هذه الفصيلة فان العبقرية الامريكية في الالفية الثالثة , أنتجت لنا نموذجا يكاد يكون فريدا في مواصفاته ليتربع على عرش العراق , هذا البلد الحضاري الزاخر بالامكانات , فالاحتكام الى منطق العقل ووضع جميع الذي جرى في العراق منذ التاسع من نيسان العام 2003 وحتى اليوم على محكه , أنما يكشف لنا عن المسببات المنطقية التي أدت اليه , وهي أولا أن العراق دولة محتلة حتى هذه الساعة برغم ماسمي ( الانتخابات ) التي تحكم المحتل بنسبها والمشاركين فيها وضروفها غير القانونية , وبرغم تعدد (أيام السيادة ) التي تم الاحتفال بها , وثانيا أن السياسة التي تمارسها الادارة العراقية الحالية , ماهي سوى صدى لصوت المحتل الذي مازال مدويا وحاسما في كل الشؤون العراقية , وأنعدام الارادة الوطنية الضامنة لمصالح الشعب والوطن , وبالتالي فأن الاحداث الدامية التي أصطبغت بها نهارات وليالي العراق , والتي مازال منها المزيد كما يصرح بذلك قادة الاحتلال الامريكي يوميا , وعلى رأسهم الرئيس الامريكي أوباما الذي أكد بان ( أمام العراق أياما صعبة وشاقة ) , أنما يكشف بوضوح تام بان الازمة ليست مشكلة أمنية , وهم الذين جربوا كل الخطط الامنية , وأوفدوا مئات الاف من عناصر الامن والشرطة والمخابرات الى أعرق الاكاديميات الامنية العالمية لاعدادهم , وقسموا مدن العراق الى مستعمرات تحيط بها الاسيجة الكونكريتية , وقتلوا وأعتقلوا بشبهة وبدون شبهة الكثير, ودسوا مخبريهم وأعوانهم في كل زوايا المجتمع , بل هي أبعد من ذلك بكثير , أنه صراع تاريخي على أرض دولة محتلة بين أرادتين أحداهما المحتل وأعوانه الذين يسعون لتطبيق منهجهم الشامل المتمثل بالعملية السياسية المعروفة الاهداف والنوايا , والاخرى كل القوى الحية في المجتمع الرافضة لهذا المشروع والممثلين بالتيارات الوطنية والقومية واليسارية والاسلامية والنخب الاجتماعية والاكاديمية وكل من أمن بحقه في الحياة الحرة الكريمة في عراق حر مستقل .


أن دخول العامل الدولي الممثل بالاحتلال , الى الساحة العراقية بما يمثله من أطماع ستراتيجية وفتحه الباب أمام الكثير من القوى الحليفة له , للعبث بالامن الوطني العراقي كل حسب أجندته الخاصة , وتغلغل دول أقليمية أخرى بحكم أرتباط الكثير من رموز ماكانت تسمى (المعارضة) بتلك الدول والتصارع بينها بسبب تقاطع المصالح , ومحاولة المحتل الانتقام من المقاومة بالصاق تهم العنف التي يمارسها ضدها , لافقادها حاضنتها الشعبية , ودفعه من أمتطاهم عند الغزو لتسنم المناصب السياسية بغية نشر الفساد المالي والاداري والاخلاقي , كلها عوامل فاعلة اليوم في المشهد العراقي , وتفاعلاتها الغير طبيعية سوف تستمر بتحويل المعادن النفيسة الى معادن رخيصه , ولو الى بعد حين , وسيبقى الدم العراقي يسيل كل يوم على أرض الوطن .


واذا كان جهابذة السياسة الامريكية وواضعي ستراتيجياتها قد ضمنوا مصالحهم الاستعمارية في العراق بأنفلاونزا العصر , نظرية ( الفوضى الخلاقة ) التي جعلت الماسي العراقية باعداد مليونية من أيتام وأرامل ومعاقين ومرضى وشهداء ومهجرين وجياع ومعتقلين ومفقودين , وأعادة البلاد الى عصر ماقبل الثورة الصناعية , وجعله يحتل بجدارة المراكز الاولى في كل الازمات التي تعاني منها المجتمعات في العالم حسب الاحصاءات الرسمية الدولية , فان المالكي هو الاخر أراد أن تكون له فوضى خلاقة تحسب له , ويضمن من خلالها مصلحته الستراتيجية بأعادة توليه منصب رئاسة الوزراء , حتى لو كان ذلك على حساب الهوية الوطنية , ومعاناة المواطن وحقه في العيش بكرامة , ففي ظل المأساة الانسانية , وأفتقار البلد الى أبسط الخدمات الاساسية , التي يفترض في أية حكومة تملك الحد الادنى من الشعور بالمسؤولية الاسراع في أنجازها , نجده توجه وبكل أمكانيات المسؤول الاول في السلطة التنفيذية , للسيطرة على أدوات القوة في الدولة (الجيش , الامن , المخابرات , الشرطة ) محاولا أنتزاعها لتجيير فعلها لنفسه , وعندما فشل في تحقيق جزء من ذلك بسبب عدم موافقة الامريكان , ذهب لبناء أجهزة رديفة تؤدي نفس وظائف تلك , لكنها ترتبط به مباشرة لضمان ولائها له , وها هو اليوم يستخدمها للقيام باعتقالات بالجملة , دون أن يعلم أحد ماهي تهم المعتقلين أو أماكن أعتقالهم , مما نبه القوى الاخرى المشاركة في السلطة على بناء قوى ذاتية لها من خلال تعزيز وجود مليشياتها في الجيش والشرطة . كما أن حملاته العسكرية التي روج لها على أنها ضد المليشيات , ثبت أنها قد أسست لميليشيات أخرى هي مجالس الاسناد التي أدت ( الى أن يكون شيخ العشيرة رجلا حزبيا يتخذ من أبناء عشيرته كادرا مسلحا لتنفيذ أوامر صادرة من جهة حزبية تحكم البلاد , وأن شيوخ العشائر يتقاضون رواتب ويتم التعامل معهم أحيانا على أنهم مصادر معلومات ) حسبما أكده أمين عام عشائر الجنوب , مما يلقي ضلالا من الشك على تبجحه المتكرر بالمسلك الديمقراطي الذي يدعي تبنيه , حيث لاتوافق بين الديمقراطية والبنى الاجتماعية القديمة , لان النظام الديمقراطي نظام حضاري متمدن . كما أن دعواته لتعديل الدستور ورفض المحاصصة وقيام مصالحة وطنية قد ذهبت جميعها أدراج الرياح , بعد أن تبين بأنها تصب في نفس المسلك الانتهازي الذي تعامل به مع القضايا الاخرى ,والتي كان يبغي منها تشكيل قوى دافعه له يضمن من خلالها الاستمرار في السلطة , وتوسيع قواعد حزبه الصغير .


أن فوضى المالكي نجدها خلاقة اليوم في سياسته الخارجية , التي تتحول فيها العلاقات مع الدول الشقيقة من تعاون ستراتيجي الى عداء ستراتيجي خلال يومين فقط , ولايمكن حل أشكالاته الا بالتدويل كما حصل مع سوريا , والهرولة خلف الدول الاخرى والتوسل بها كي تفتح سفارت لها في بغداد , ظنا منه بان هذا الفعل يزيد من شرعية نظامه , بينما يصبح الدبلوماسيين أسرى في المنطقة الخضراء , وبذلك يتعطل الهدف الاساس من وجودهم الفاعل في تنمية العلاقات , والجولات المكوكية على الدول الاوربية وحضور مؤتمرات الاستثمار التي لم يلمس المواطن لغاية الان فعلها الموعود , وعجزه الواضح في أجبار الدول المجاورة على الرضوخ لمطالب العراق بما يخص حقه في المياه , وحقول النفط المشتركه , والحدود والاسرى والمفقودين , التي تضمنها المعاهدات والمواثيق الدولية


أما على الصعيد الداخلي فلا زالت فوضاه خلاقة في ترعرع الفساد المالي والاداري , بسبب معارضته أستجواب المفسدين ومحاسبتهم , وأستمرار النكوص عن الوعود التي أطلقها بالنهوض بالخدمات الاجتماعية ورفع المستوى المعيشي للمواطن , والقضاء على البطالة, وأعادة المهجرين الى منازلهم وتعويضهم عن الاضرار التي لحقت بهم .


أن المسؤولية الملقاة على عاتق من يتولى خدمة عامة , تتطلب أن تكون حركته ضامنه للتماسك الاجتماعي , وفاسحة المجال لكل القوى الخلاقة القادرة على البناء الفوقي للمؤسسات الشرعية , كي نضمن مجتمعا قويا تتحق فيه العدالة الاجتماعية , وأن المجتمع العراقي اليوم لم يعد فيه أي فسحة أمل لكل الذين ساهموا في تقسيمه وتشتيت قواه وحاولوا صنع بطولات فارغه , لم تسمن من جوع ولم تشفي من مرض .

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الجمعة / ٢٥ ذو القعدة ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ١٣ / تشرين الثاني / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور