من أدب المقاومة العراقية

يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة المقاومة تخرجني من شرنقة العنوسة

﴿ الحلقة السادسة

 
 
 

شبكة المنصور

كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية ـ بغداد المحتلة / العانس

احتسي شاي العصر أمام التلفاز. أداعبٌ أزرار (الكنترول) بيدي، أقلب القنوات، قناة إثر قناة، أتوقفُ برهة على قناة تبث أغنية لناظم الغزالي فتطربني (عيرتني بالشيب وهو وقار)، تنتهي الأغنية وأنا مازلت أحركٌ السكر داخل القدح، يأخذني ناظم بعيدا بصوته الحنون ويوقظ حنيني للحب، للحياة.

 

(الحياة بلا حب كشجرة بلا ثمر، شتاء بلا مطر) كلمات كنت أقراها في دفاتر شقيقي عمر عندما كان طالباً شقياً يغازل البنات وهو طالب في المرحلة المتوسطة. كل صفحة في دفتر الرياضيات أو الإحياء أو الكيمياء كانت تحوي حكماً في الحب والحياة. وخشية من سطوة أبي كان عمر يكتب رسائله الغرامية بين السطور؛ فاكتشفها حين تستعير نجمة ابنة الجيران دفاتر عمر وتنقل منها حلولاً وملاحظات يدونها نقلاً عن المدرس.

 

أثبتُ الكنترول على شريط خبري، واقتنص أخبار اليوم قبل أن تشتاط دنيا مدللة البيت ودلوعة أمها غضباً، وتزجرني لأدير على قنوات تعرض أفلام كارتون بينما يعلو صوت الحاجة نسمة والداتي وهي تطالبني بالتوقف عند قناة دينية تعرض قارئ يرتلّ القرآن بصوت شجي.

 

بحزن تسحب الشمس أذيالها الذهبية عن الأرض، يخيمُ الصمت وتهبط الكآبة من فوق سبع سموات، ولأن العانس كائن بلا أمل، بلا رتوش، بلا طموح، ترى كل ما حولها مظلما، معتما، تتعامل مع الأشياء بسوداوية، يقبل الغروب بثقل أشد وطأة من إحساس كائن أنه يعيش بلا أمل. الغروب وقت ممتع وجميل، العانس فقط ترى أن الغروب وقت قاتل لا يزيد إلا من عنوستها.

 

حديقة البيت تبدو هي الأخرى كئيبة، مظلمة على الرغم من وجود العديد من مصابيح الإضاءة القوية، هناك (بلاجكتورات) اثنان على الأقل تنيران باحة الدار وخارجها. أجلسُ في أرجوحة الحديقة وأهزها مثل ثلة من الأطفال الأشقياء يقلبون بيت الجد (عاليه سافله) حين يأتون إليه ضيوفاً يومي الخميس والجمعة. أغمض عيني فتنسل الخواطر إلى رأسي من كل حدب وصوب، مشهد يطغى على مشهد، يفور دمي مثل بركان هائج، والمشاهد تتوالى إلى رأسي، تلك الدبابة الأميركية التي تنحدر برعب من جسر الجمهورية هي التي جعلتني أشعر ليس بالعنوسة فقط، وإنما حولتني من أنثى جميلة فاتنة، مرحة إلى كائن جامد لا يشعر تارة، وحساس وعاطفي تارة أخرى، أبكي لأتفه الأشياء أحياناً وأحيانا أخرى أبدو مثل الصنم هُبل أو اللات أو العزى، لا يهزني موت الآلاف من حولي، حذرة تارة، أخال أني أشبه تلك العجوز الشمطاء الساحرة التي تتحذر من الفئران في كارتون سندباد، ولا أبالي تارة أخرى.

 

أسمع وقع خطوات أقدام وصوت سيارة تقف أمام الباب يتبعه طرقات خفيفة بأصابع مرتعشة، أدنو من الباب بحذر، وقبل أن أصل تنفتح ويدلف شاب ملثم ويناولني قرص (سيدي) وينسحب على عجل، وقبل أن تنتظم دقات قلبي وأستعيد أنفاسي ينسحب وتنطلق السيارة بأعلى سرعتها.

 

أشعر برجفة في يدي التي تمسك القرص، أقلبه على الوجهتين، وأنا أتساءل ما عساه أن يحوي، ولماذا يلقى إلى البيوت؟ هل ألقى إلى بيتي بالتحديد أم أنه ألقي إلى بيوت مجاورة؟ أشعر بخوف كبير، أخشى أن يراني أحد وأنا أمسك بقرص في يدي. يأخذني الوجوم وأترقب أطرافي، أضم القرص في جيب القميص وأحاول أن أخفيه عن أنظار عاصي المتشدد.

 

تأخذني الظنون، أتصوره قرصا يحوي مشاهد خلاعية مثل تلك التي نسمع عنها هذه الأيام من أفواه الشباب ولاسيما أن (الموبايلات) انتشرت مثل انتشار الأمراض في أبدان العراقيين، وبنحو ملفت للنظر وبكاميرات رصينة وربما تم نقلها من شبكة الإنترنت التي اقتحمت أغلب البيوت، ونشرت فساداً ودمرت أخلاق الشباب وقيمهم.

 

ثم تتوالى ظنون أخرى إلى رأسي: ربما يكون القرص حاوياً لفيلم ذبح، مشهد ذبَّاح بيده سكين ينحرُ شخصاً من أجل المال، مشاهد رصدت كثيراً بعد الاحتلال، حيث كثر (العلاسةّ) وعصابات الخطف والنهب.

 

أتردد كثيراً قبل أن أقرر تشغيل القرص على الحاسبة أو رميه في سلة القمامة. وساوس تنشط وأخرى تموت. يستقر رأيي على فتح القرص بعد منتصف الليل حين يكون البيت هادئاً، وآوى الجميع إلى الفراش، أقرر أن أشاهده بمفردي وأتكدر وحدي قبل أن أشغل الآخرين به.

 

خففت من إنارة البيت، أبقيتُ على مصباح واحد مشتعل في الصالة بينما أطفأت مصابيح الغرف غير المنشغلة، والدتي تطفئ مصباح غرفتها عندما تأوي إلى النوم، لكن غرفة دنيا تبقى مضيئة وأبقي على مصابيح الصالة مشتعلة أيضاً تحسباً لطوارئ الليل ولاسيما مداهمات جنود الاحتلال الفجائية، وأتاكد من وجود مصباح ذي شحن قرب رأسي لاستخدمه عند الضرورة.

 

وضعت القرص في الحاسبة وأنا أقرأ المعوذات، كان الخوف قد استولى على قلبي منذ أن تسلمته من الشاب الملثم، لكن إحساساً بالطمأنينة كان قد انتابني فليس من المعقول أن يحوي القرص مشاهد مثيرة مثل تلك التي راودتني قبيل الليل.

 

حين شرعت الحاسبة بالاستعداد لتشغيل القرص، كانت المفاجأة قد عقدت لساني، واستغربت كيف فاتني أن أتخيل أن يكون القرص حاوياً لعملية من عمليات المقاومة ضد القوات الأميركية، مشاهد كنت أترقبها على قنوات التلفاز، عبوة ناسفة تنفجر على رتل أميركي فتصيب آلية. آليتين من الرتل ومشهد آخر يصور شبابا ملثمين يعبئون هاون منصوبا بالقذائف ثم يطلقونها باتجاه قاعدة أميركية تتصاعد منها اللسنة الدخان واللهب.

 

كأن هالة من النور أضاءت قلبي المعتم وشعلة من الأمل قلب توازن الزمن بالكامل، عدت صغيرة عشرين عاما، طفلة مرحة تلهو فتقلب بيت الجد (عاليه سافله)، انتابني شعور أن أخرج من شرنقة العنوسة التي حبست أنفاسي طيلة سبع سنوات من الاحتلال. لم تعد روحي صدئة تنخرها العنوسة واليأس.

 

كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية ـ بغداد المحتلة / العانس
٣ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠٠٩

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاثنين / ٢١ ذو القعدة ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٠٩ / تشرين الثاني / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور