ملائكة اليورانيوم الحزينة !

 

 

 

شبكة المنصور

ذكرى محمد نادر

غبار الحرب لم يهدا بعد والصورة لم تتضح على حجم مأساتها.. وفي صخب الموت اليومي وليس بسبب القتل وحسب، وانما بسبب الفقر احيانا وضياع الاحلام، وغياب معنى الحياة، والبحث اللاهث عن لقمة لوأد جوع الصغار، وهموم تتراكم بحياة صارت اكثر من مستحيلة، لم يعد من الممكن ان يراقب المرء في وادي الرافدين الكئيب ما سببته، وما تركته الحرب الفجيعة الممتدة من عام 2003، وحتى اللحظة، فالجميع منخطف القلب يحاول بيأس ان يبحث عن ملاذ ما، جحر ربما.. ليبكي خلفه.. او ليحصي خسائره.. او ثمة ليستعد لتعب نهار آخر، او بمعنى ادق لمحنة نهار اخر، غير معروف ما يدخره من ضنى.


وحين تكون المصائب كبيرة يلهى الناس بها. وهذا طبيعي جدا. ولكن هلا  تساءلنا عما يحدث  لاطفالنا، ولست اتحدث عن صغار المدارس ومدارسهم المنهكة ولا عن سعال رشح الخنازير، ولا عن ارتعاب الاناشيد في حناجرهم خوف القتل والتهجير ومناظر الدم اليومية، وانما عن صغار اخرين لم يتعرفوا بعد طعم الحليب، او شكل الابتسامة، او رائحة احضان الامهات!


اطفال المهود التي تقفر منهم قبل انعتاق البسمة على وجوه ذويهم، فلعلكم لا تعرفونهم بعد!


 فالتقارير الصحية الصادرة عن منظمة الصحة الدولية  تتحدث أنباؤها عن كارثة مستقبلية محدقة باجيالنا القادمة، اجيال ارتفعت بها نسبة التشوهات الى حد غير مسبوق عالميا حتى انها تفوقت باعدادها ونوعيات التشوهات فيها، الولادات التي تلت جريمة القاء  القنبلة على مدينة هيروشيما!


هل يبدو غريبا ما اقول؟ ام انه صار امرا اعتياديا ان نتحدث عن الموت؟ هل يؤشر الى ميزان الخطر الذي يرتفع وهو يمضغ بطريقه الاجيال التي ستأتي ما بعد الحرب؟ والحرب لم تنته بعد واثارها ستبقى إلى عشرات الاجيال حسب اكثر المختصيين تفاؤلا،  فاذن، اجيال الحرب مستمرة.. لانها سيأتي إلى الحياة وتمضي قبل الوصول اليها، فان ما  هو مخطط  لهذه الأجيال هو انقراضها المؤكد؟ هل يدق الناقوس معلنا ان اجيالنا التي حددت مواعيد اغتيالها، بدم شديد البرودة وباعتناء مدروس بدقة متناهية، هل ينبهنا هذا الى فظاعة ما سيحدث وخطورته؟

 
وبلمحة بسيطة لا اكثر ساعرض ما نقلته شاشة تلفزيون  في المملكة المتحدة قناة "سكاي تي في" في برنامجين وثائقيين عرضا تباعا في عرضيين متتاليين الاول في شهر حزيران والثاني في شهر ايلول من عام 2009 تناولت فيه نسبة  الارتفاع المهول في اعداد الولادات المشوهة خلقيا، وقد اخذ  الفلم الوثائقي اطفال الفلوجة انموذجا حصريا لتبيان مقدار الضرر المروع  والارتفاع غير المسبوق عراقيا او عالميا في عدد الوفيات بين الاطفال الرضع.


وقد اختيرت مستشفى الفلوجة تحديدا للتجربة الخاصة التي عاشتها في الحرب التي قادتها القوات الامريكية الغازية وقد استعملت بها  اسلحة محرمة دوليا ولانها كانت ضمن دائرة حلقة الابادة الجماعية الانية والمستقبلية! وبحصر نسبة الوفيات والولادات، اتضح بان من بين 170 حالة ولادة كان هناك 24% منهم قد ماتوا خلال الاسبوع الاول للولادة، وان 75% منهم  خلقوا مشوهين  بتشوهات مريعة لا تمت إلى الجنس البشري بصلة، وقياسا على احصائيات سابقة لسجلات المستشفى المذكور نفسه وجد ان سجلات شهر اب من سنة 2002 والتي تحقق بها 530 ولادة مات 6  من هؤلاء الاطفال في الاسبوع الاول للولادة بينما كانت هناك حالة تشوه واحدة.!


وقد نقل البرنامج المذكور صورا مروعة لاطفال برأسين، او بقلوب تنبض خارج القفص الصدري او من دون اذرع ومن دون اقدام وعيون متدلية وجلود صدفية، واشكال احياء، مخروطية او هلامية، اشكال ملائكة حزينة لا تتقن الشكوى ولا البكاء، وليس لها علاقة بالتكوين البشري بتاتا.


وللتوثيق الدقيق، صورت الكاميرا  ارض المقابر، حيث  المثاوي  الصغيرة لا تحفل سوى بتاريخ قصير لعمر مواليد ارض السلام الجدد الذين لم ينعموا بنعمة السلام على ارضها!


واقع ماساوي مرير، دفع الطبيب المختص بمثل هذه الحالات "د.كرس بيرنز كوكس" إلى أن يطالب الحكومة البريطانية ويسأل سياسيي الحرب فيها: "ما الذي فعلتموه بأطفال العراق؟".


ومفاتحا البرلمان البريطاني بشأن  مسؤوليته الاخلاقية المباشرة، في تحمل تبعات ما يحدث لاطفال بلد، كانو هم اول من صادق على ذبحه بالاتفاق مع قوات الاحتلال الامريكية.


وقد اثبت الدكتور كرس، أن الاسلحة الفتاكة والمحرمة دوليا والمستخدمة تحديدا في الفلوجة  كاليورانيوم المنضب والفسفورالابيض، هي سبب مباشر وفعال في قتل هؤلاء الملائكة قبل انخلاقهم، قبل انعتاق  لثغتهم الاولى، و قبل مثول صورة وجه الام في عيونهم، وانهم عرفوا طعم الموت  قبل معرفة، طعم نكهة الحليب ولكنهم ربما حفظوا في ذواكرهم نهنهات امهاتهم، وهن ينظرن بعيون هلعة موت  ثمرات القلوب، ويتفجعن بقبر الوجوه الحبيبة قبل القبلة الاولى!


هل توقف الناقوس الذي يعلن نذير الموت عند هذا الحد؟
لا اظن فأن في العراق اجيالا لابد لها ان تباد بمشيئة ساسة الحرب واجندات الخطيئة.


ففي الفلوجة وغيرها من مدن العراق، التي تعيش تحت حمأة اثار الفسفور الابيض والاسود والرمادي ومتعدد الجنسيات والالوان، وقذائف الموت  وابتسامات اليورانيوم المنضب، المكشرة والمحمولة ببسطال الجندي الامريكي ما زال هناك موت اخر بانتظار اطفال يتخلقون بلمسة حب، لن تجد طرقها لحياة محتملة!


فليست الفلوجة الا انموذجا صغيرا عما يحدث لاجيال العراق، وهذه البصرة لها شأن آخر شان ترتفع فيه نسبة الايذان بالموت للاجيال العراق القادمة، ففيها وحدها سجلت 3000 الاف عملية ولادة لاطفال مشوهين، وبسبب مباشر من استعمال قذائف "دي في" التي استعملتها القوات البريطانية خلال غزوها للعراق وهم يعرفون تماما مخاطر هذا السلاح على البيئة وتاثيره على الاجنة في احشاء الامهات لان الغبار النووي يصل إلى الجنين في بطن امه من خلال المشيمة.


هل توقفت الحرب ام ان لها شأناً اخر بمستقبل العراق واجياله القادمة؟ وهل هناك من سينتبه إلى أجيال تنقرض قبل مثولها أمام الحياة؟ انهم في تقاريرهم يتحدثون عن بيئة ملوثة ستظل تنتج الموت لمئات السنين ولكنها لن تؤثر حتما وقطعا على انتاج البترول، هل سننتبه ام ان غبار الحرب المستمر مازال يعمي عيوننا؟

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت / ٠٥ ذو القعدة ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٢٤ / تشرين الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور