في سبيل البعث : مقتطفات من '' الوحدة ثورة تاريخية ''

 
 

شبكة المنصور

زيد احمد الربيعي
لقد كان ظهور حركة البعث ثورة في تاريخ الأمة العربية بمعنى إن حركة البعث لم تكن استمراراً لما قبلها بل كانت عبارة عن انقطاع أو بتر إرادي واع وارتفاعاً إلى مستوى جديد من التفكير والأخلاق، والجو الروحي، رغم ما انتابها من ضعف ونقص، وما دخلها من شوائب. منذ البداية، لم تكن خالية من الضعف والنقص، ولم تكن منـزهة من الخطأ ولم يخل سيرها من التعثر، ولكن أية حركة تاريخية لا تجيء كاملة سليمة، كل الكمال والسلامة.

 

والمهم هو الحكم الإجمالي على الحركة، هل تجاوبت مع مرحلتنا وأحست بعمق ما يجب أن يعمل، وعملت؟ هذا هو المهم. هل ملأت فراغاً في حقبة من التاريخ وملأته ملأ ايجابياً، ملأ فيه إبداع وبناء ورغم كل النواقص والأخطاء كما قلت؟ هل يعني ظهورها بدءاً لتاريخ؟ إذا كان الأمر كذلك فهي إذن حركة تاريخية. هذه الحركة التي بدأت بدءاً متواضعاً جدا فكان سر قوتها في هذه البداية المتواضعة، لأنها انطلقت قوة أصيلة لا زيف فيها، لم تعتمد على شيء من القوى الراهنة التي هي كلها قوى زائفة، هذه الحركة في الواقع كانت ترجمة لاستعدادات وإمكانيات قائمة غير إنها مغطاة عن أعين الأكثرية. فهذه الحركة استطاعت أن تنظر نظرة صافية وبريئة لم تعكرها المصالح والمفاهيم الموروثة او الأهواء والأنانيات، فعرفت القوة حيث كان أكثر الناس لا يرون إلا الضعف والانحلال، واعتمدت على هذه القوة لأنها كانت مؤمنة بان هذه القوة قوة حقيقية. راهنت على المستقبل، وكانت نظرتها منذ البداية بعيدة بكل معاني الكلمة، بعيدة في العمق، بعيدة في المكان وبعيدة في الزمن، فهي نظرت إلى أعماق الأمة العربية المغلفة بواقع مريض ومشوه. ونظرت وهي التي ولدت في قطر صغير من أقطار الوطن العربي الشاسع، نظرت إلى جميع أجزاء الوطن، لم تغفل أحدا منها، نظرت نظرة بعيدة في الزمن، أي إنها توجهت إلى الشباب، إلى تلك السن التي تحتاج إلى زمن غير قليل لكي تصبح قوة بالمعنى المتعارف عليه، بمعنى السياسة الراهنة والمصالح الراهنة، توجهت إلى الشباب العربي في جميع أقطاره. ومن هذا تبينون ميزة من ميزاتها. أنها في روحها وفي نزعتها العميقة كانت دوماً تتطلب الصعب، تتطلب الشيء العميق، الشيء الأصيل الذي لا يبلغ بسهولة وتترفع وتعف عن كل ما هو قريب وسهل. فاليوم تبدو لنا المسألة بسيطة وسهلة للغاية، أن يظهر حزب او حركة، وتتوجه من جهة إلى الشباب الحديث السن، ومن جهة أخرى إلى هذا الشباب في أقطار غير القطر الذي توجد فيه الحركة. والشباب كما قلت في تلك السن لا يكونون وزنا سياسيا يمكن أن يفيد فائدة سياسية عاجلة وبالأحرى عندما يكون بعيدا عن القطر فليس له وزن قط.


هذه الأشياء التي تبدو اليوم بسيطة وطبيعية كان لا بد من روح ثورية وإيمان غير عادي لكي نقدم عليها ولكي نخالف كل المألوف ونتحدى سخرية الناس ونتحدى مقاومة أصحاب المصالح والعقلية البالية وأصحاب النظرة السطحية. ولا يشترط في أصحاب النظرة البالية والسطحية أن يكونوا من الجيل القديم دوما ومن غير المتعلمين بل قد يكونون من أكثر الناس ثقافة ومن الشباب أيضا.

 

فالنـزعة الأولى كما ترون نزعة روحية أخلاقية اقترنت بوعي ثوري، وقلما يجوز التفريق بين الوعي والخلق لان بينهما تفاعلا وتأثيرا متبادلا، فالروح الأخلاقية السليمة الصافية التي تترفع عن السهل وعن الشيء الشخصي، والشيء الزائل، هي التي تساهم إلى حد كبير بإيجاد الوعي الثوري، وهي من أهم عناصر التفكير الثوري لان التفكير الثوري هي رؤية الحقيقة المغلفة المستترة، رؤية الحقيقة العميقة. فإذا كانت ثمة أهواء وأنانيات ومصالح خاصة، فإنها تحجب عن التفكير هذه الحقيقة وتشوش التفكير، وتمنعه من أن يصل إلى الأعماق، وبالعكس عندما يتوفر التفكير الجذري الثوري يستطيع أيضا إلى حد ما أن يؤثر في الجو النفسي، في الخلق وفي الروح، ان يحررها الى حد ما من كثير من الأشياء. أقول كل هذا ولا اعتقد بأنه خروج عن الموضوع أو حشو كان يمكن الاستغناء عنه لكثرة ما كررت هذه الأقوال خلال سنين عديدة في الحزب، ولكن بودي ان أثبت في أذهانكم بأن بعض الشروط الأساسية في حياة الإنسان والشعوب إذا ما أغفلت أو انتقص من قيمتها فان المقاييس تختل وان حياة شعب بكامله ستتعرض لأفدح الأخطار والانتكاسات إذا لم تحترم هذه الحقائق الأساسية.

 
الطرح الانقلابي للقضية القومية يمكن ان يلخص ببضع نقاط :


1- وضع قضية ومصير الأمة العربية ضمن قضايا العالم ومصير الإنسانية بعد أن كانت الحركات الوطنية تنكمش على نفسها وتتجاهل ما يجري في العالم. حركة البعث حينما بدأت كانت قد كونت فكرة إجمالية تقوم على دراسة إجمالية لمشاكل وقضايا العالم الاجتماعية والفكرية، عن المذاهب الكبرى التي تحرك البشر في هذا العصر. بدأنا ونحن نعرف هذه المعرفة الإجمالية من الناحيتين الفكرية والعملية، نعرف هذه القضايا والمذاهب في خطواتها الأساسية وفي أسلوبها وخططها ونتائجها وآثارها العملية في العالم، ولم يكن من ذلك بد لان العالم، إذا نحن تجاهلناه فانه لا يتجاهلنا، فهو كان غازياً لنا ومحتلاً ديارنا، لذلك كان لا بد من أن نعرف ونربط بين مصيرنا ومصير العالم.

 
2- نقطة أخرى يمكن أن تستنتج من الأولى أولها علاقة بها هي الفكرة القومية أو إذا جاز أن نقول النظرية القومية. كانت المذاهب والفلسفات التي احتلت المكان الفعال في هذا العصر تنكر القومية بشكل او بآخر، بعضهم كان ينكرها من شدة المغالاة بها، المغالاة السلبية المريضة، وبعضهم كان ينكرها ويعتبرها شيئا عارضا ومرحلة، فوضعت حركة البعث بذور النظرية القومية بصورة عامة لا للعرب وحدهم وإنما ألحت على حقيقة الأمة في حياة البشر، فما يصح على العرب لا بد أن يصح على غيرهم . وصوبت نظرها على النواحي الخبيئة الثمينة الايجابية في القومية لأنه لم يكن يظهر من القومية إلا النواحي السلبية، وأوجدت صيغة، أو محاولة لصيغة، تربط القومية بالإنسانية ربطاً حياً لا اصطناعياً، فاعتبرت القومية خالدة والإنسانية خالدة وليست إحداهما بسباقة على الأخرى لا في الزمن ولا في القيمة، وإنما هما مظهران لشيء واحد، وان الإنسانية هي ثمرة لنضج القومية، هي المجال الطبيعي السليم الوحيد لتحقيق القيم الإنسانية تحقيقا حيا لا اصطناع فيه ولا تضليل. ثم نظرت حركتنا إلى امتنا فأعلنت وحدتها رغم جميع المظاهر التي كانت تتحدى هذه الوحدة في كل لحظة وفي كل عمل، وأعلنت في نفس الوقت ان رسالتها . . رسالة إنسانية رغم إن جميع المظاهر كانت تتحدى هذا الإعلان وهذا الادعاء، رغم كون الأمة العربية في حالة سلبية فاقدة لأي إبداع تعيش عالة على العالم، فأكدت حركة البعث رسالة الأمة العربية. كل هذه الأشياء تنبع من نظرة واحدة كما تلاحظون، من نظرة ثورية، النظرة المتجددة البعيدة المدى الطويلة النفس التي تنظر للمستقبل نظرة ليست حالمة كنظرة الشعراء، ليست نظرة التمنيات، وإنما نظرة في منتهى القسوة والواقعية والجدية. من خلال الواقع الفاسد المشوه كانت ملامح المستقبل تتراءى، أو لأن الواقع كان بلغ هذا الحد من الفساد والمرض لم يكن صعباً على أصحاب النظر الصافي أن يروا الكنوز المخبأة في ضمير المستقبل المشرق الذي ينتظرنا.

 
 
ولكن استطيع أن أقول بأن مشكلة الوحدة، قضية الوحدة، كان لها مكان بارز في فكرة البعث ونضال البعث لأنها كانت معرضة لان تظلم حتى من الذين ليس لهم مصلحة في أن يظلموها لأنها كانت خافية في حقيقتها على الكثيرين، فطرحت حركتنا قضية الوحدة طرحا ثوريا لقي الكثير من المقاومة والمغالطة وسوء الفهم، ولكنه تجاوب مع حالات الشعب، وحس الشعب، ووعي الشعب أخيرا، وكتب له أن يظفر.

 
إن ما تحقق للعرب في هذا الظرف هو نتيجة ثورة وبداية ثورة، هو لا شك ثمرة لهذا النضال الطويل الذي بدأ قبل حركتنا بزمن، ولكن حركتنا بدأت مستوى جديداً في الفكر والعمل، هذا النضال هو مستوى ثوري يختلف عما سبقه. هذه الوحدة التي هي ثمرة لنضال الماضي ستكون بذورها بذرة قوية ومحركاً قوياً لثورات متعاقبة، أو قد يختلف نوعها أو مظهرها عن السابق حسب درجة النمو الذي بلغته الحركة العربية الثورية. فعلينا أن نقدر هذه الخطوة حق قدرها، وان نعرف السهل والصعب فيها، وأن نأخذ مكاناً في قلب المعركة لان المعركة لم تنته بعد. إن أهمية هذه الخطوة بالدرجة الأولى هي إنها قضت على نوع من التفكير، نوع من العقلية، نوع من النفسية المتخاذلة أو في أحسن الاحتمالات النفسية التي لم تبلغ حد الامتلاء ، وبالتالي لم تصل إلى حد الإيمان بأن الوحدة ممكنة. فتحقيق هذه الخطوة سيبدل النفسية العربية في كل مكان وحتى في اشد الأمكنة والأوساط إنكارا وجحوداً، وسيكون لها آثار ونتائج سياسية واجتماعية ضخمة عاجلة وآجلة. ولكن المهم أن نعرف بأن البداية هي دوما صعبة، ودوما محفوفة بالأخطار، وان علينا واجباً مقدساً بأن نحمي هذه الخطوة التاريخية وان نغذيها بكل طاقاتنا، وان لا نرى فيها مبرراً للراحة والانسحاب من العمل أو المطالبة بثمن الأتعاب الماضية. فهذه الخطوة ما تزال معرضة لأخطار كثيرة، والأخطار المكشوفة هي اخف هذه الأخطار لأنها مكشوفة، والأخطار المخفية هي التي لا تظهر كثيرا بوضوح تام، وأهمها ان يستمر شيء من عقلية التجزئة ومصالح التجزئة وان تنسج الوحدة بخيوط التجزئة فتتناقض وتفشل .

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت / ٢١ شـوال ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ١٠ / تشرين الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور