القومية المؤمنة

﴿ الحلقة الرابعة ﴾

 
 

شبكة المنصور

زامـــل عــبــــد

تناولنا في الحلقات الثلاث مفهوم الحزب للقومية والمكان الذي تحتله القومية العربية وبالأحرى النظرية القومية التي طرحها الحزب على الساحة العالمية والتي  اختلفت جذريا عن الفهم القومي السائد في الغرب أو الإقليم لان الصراع الإنساني الذي عاشه العرب الذين يتعرضون للعدوان والاستغلال لم يكن فيه أبناء ألامه أداة تجاوز على حقوق الآخرين بل متطلعين لبناء العلاقات المتحررة من عقد الكراهية والبغضاء التي كانت ســــــــائدة ومازالت لحد ألان تحكم الفئات الحاكمة في إيران وتركيا ، وفهم الإيمان والدور الإسلام في العقيدة العربية الثورية التي جسدها فكرا" وسلوكا حزب البعث العربي الاشتراكي ، والميزة التي اتسم بها الفكر القومي الثوري عن الإيديولوجيات القومية التي ظهرت في أوربا وما مثلته القومية التركية الوريث الشرعي للإمبراطورية العثمانية ، والأحزاب أو التيارات السياسية التي ظهرت في خضم هذه المتغيرات  والخصال الفريدة التي تميز ت بها القومية العربية التي طرح أفكارها  البعث العربي

 

حزب البعث منذ أن ولد من رحم الأمة ومارس دوره على ساحة النضال العربي وضع هدفاً له وقانونا يسترشد به هو أن يعبر عن ضمير الأمة العربية الخالدة المجيدة وان يجسد أكثر ما يستطيع روحها وتراثها وأصالتها ، وان يحس بقلبها ويفكر بعقلها ويرى بعينيها ، وأن يتلمس المستقبل على ضوء مصلحتها وحاجتها المُلحّة إلى التحرر والتقدم والانبعاث أي التماثل  الحي والصميم مع تراث الأمة وانعكاس ذلك بالفكر الواعد والرؤية الصادقة  والمعالجة الايجابية وذلك كان رهانه مع التاريخ وهو مطمئن إلى حكم التاريخ والأجيال القادمة  على مستوى الأمة والإنسانية ، فالعروبة الحديثة باستيعابها لروح الإسلام قد وضعت نفسها مقابل المفاهيم الجامدة وفي مواجهة النظرة الشعوبية المقلبة بالدين والمعادية للعرب كما إنها باستلهامها لروح الأمة ولروح العصر قد وضعت نفسها أيضا" مقابل المفاهيم التقدمية الزائفة ، لان العروبة الحديثة التي انضج البعث منطلقاتها الأساسية قد تجاوزت بمفهومها القومي الإنساني والقومي الاشتراكي المفهوم الغربي للقومية مفهوم التعصب العنصري والتوسع العدواني ، وكذلك المفهوم الاممي للاشتراكية، الذي كان يقيم نوعا من التناقض بين الاشتراكية والقومية فالقومية العربية أصبحت تعني وحدة الأهداف القومية وتلازمها وتعني الثقة بآلامه والنظرة الايجابية إلى الإنسان العربي ودوافعه الخيرة ، والارتفاع بالسياسة إلى مستوى الرسالة كما إنها تعني الانقلابية التي وضعت أمام البعث مهمة إحداث تغيير شامل وعميق في المجتمع العربي  وصولا إلى تحقيق المجتمع العربي الديمقراطي الاشتراكي الموحد ، وحددت نظرته إلى الشعب العربي ، هذه النظرة التي تعتبر إن معيار التقدمية الأساسي هو الإيمان بالشعب وبجوهره الثوري وحسه الحضاري وبأن عصرنا هو عصر الجماهير المناضلة التي عانت من الاستعمار والتخلف وان الغرب المستعمر الذي يتقهقر حضاريا لعدوانيته  يفسح المجال أمام صعود حضارة جديدة تصنعها جماهير العـالم الثالث الناهضة ، وفي مقدمتها جماهير امتنا العربية التي تتحفز لممارسة دورها الحضاري ألانبعاثي في بناء عالم جديد غير منحاز تسوده عروبة الإسلام لا تتعارض مع إنسانيته وعالميته ومصدره السماوي ، بل تسمو بهذه الحقائق وتشرف وتزداد قوة ونعتقد إن أية امة من الأمم معرضة لان تجنح إلى الإلحاد ما عدا الأمة العربية التي يدخل الإسلام في نسيج شـــــــــــــــــخصيتها وتاريخها ، لان الإسلام بالنسـبة للأمة العربية هو دين وقومية وحضارة ، وهل يستطيع شعب أن يهرب من شخصيته ويتمرد على قوميته ويتنكر لحضارته ؟  ، وان وجدت شعوب تنشد الحرية بالانعتاق من الدين كما حصل في أوربا ، فالأمة العربية تجد حريتها في الفهم المتجدد للإســـــــلام ، والمعاناة الحية المتعمقة ، لكي تطل على صلة بجذوره وينابيعه ، وهي جذور وينابيع عربية، ولكي تبقى جديرة بحمل هذا الإرث القومي الذي جعل منها امة عظيمة ذات أبعاد إنسانية ، هكذا تم شق طريق النهضة العربية المستلهمة للتراث والمنفتحة على العصر طريق العروبة الحديثة التي تميزت بشكل حاسم عن الصورة المتخلفة للثورة وللدين وللنظرة إلى الإنسان والإنسانية من جهة وللمفاهيم المزيفة والســطحية المغطاة برداء التقدمية ، من جهة أخرى

 

كان الحزب يشعر منذ خطواته التبشيرية الأولى أن قدره وقدر الأمة متشابهان ومتوافقان متلازمان ويمكن القول متماثلان لان البعث هو الأمة بعينها وبما إن الأمة كانت هدف أعداء شرسين كثيرين تجمعهم عقد وكراهية الماضي و صراعهم معها صراعا" حضاريا ، يتآمرون عليها ويفترون على تاريخها ويحاولون طمس شخصيتها وتقطيع أوصالها وتزوير إرادتها بل تمكن قسما" منهم كتابة التأريخ العربي وفق  توجهاتهم ونواياهم مما أدى إلى التشويه والتزوير والافتراء وصولا إلى  النيل من الرموز العربية وإبطال ألامه وإظهار المجتمع العربي  بالشكل الذي يوحي إلى انه مجتمع الغزو والنهب والعداوات و التعصب القبلي المقيت  كانت هناك محاولاتهم في ضرب الحزب والتآمر عليه وتشويه فكرته وتزوير هويته لأنه قوة الانبعاث والاقتدار المستقبلي في الأمة العربية والزخم الإنساني الرسالي الذي يمكن ألامه من النهوض والاقتدار ، ولكن الإيمان بالأمـة الذي ينبع من الإيمان بالحق كان يمدّ الحزب دوماً بقوة الصبر والمقاومة وينتهي به إلى الانتصار في كل معاركه وتصديه للأشرار وجلاء الحقيقة التاريخية الأصيلة  لصالح الأمة  وقضاياها المصيرية   يقول  الرفيق القائد المؤسس رحمة الله عليه  (( وإذا كان حزبكم ، قد استطاع أن يشق طريقه وسط المحاربة الشرسة التي واجهها من كل جانب ، وان يصمد ويسـتمر طوال أربعة عقود من السـنين  وان يناضل ، وان يحقق الكثير لجماهير الشـــــعب وقضية الأمة ، فإنما ذلك ، لأنه حافظ على الصلة بهذا المنبع الذي نهل منه منذ بداية طريقه ، منبع الألم الذي هو منبع الحب ، حب الأرض والتاريخ والشعب وتحويل الألم بواسطة النضال إلى ثورة عميقة مبدعة والى حياة صاعدة لكل العرب وسيبقى وتر الألم عنصراً أساسيا في نشيد ثورة البعث ، وستبقى نبرة الألم واضحة متميزة في صوتنا حتى عندما نكون في أوج فرحنا وانتصارنا لأننا لا ننسى ولا يجوز أن ننسى مشقة الطريق التي قطعناها على امتداد أربعة عقود في أكثر من قطر عربي ، والآلام المادية والمعنوية التي عرفها المناضلون والتضحيات التي قدمها الشهداء سيبقى الألم ماثلا في أعيادنا وأفراحنا وانتـصاراتنا ، لأننا لا ننـسى ولا ينبغي لنا أن ننــسى ما تعانيه الجماهير العربية ))

 

إن جانبا من هذه القوة الروحية الإيمانية ذات البعد الحضاري الإنساني التفاعلي التي امتلكها حزب البعث العربي الاشتراكي كانت نتيجة لاستلهام التراث والدين الإسلامي كثورة اجتماعية كبرى نهض بأعباء إيصالها للبشرية جمعاء العرب فالتأثر بالدوافع العميقة للإسلام ، والفكر العلمي المنفتح على تيارات الفكر المعاصر، مما كون عاملين أساسيين في بلورة المفهوم الحديث للعروبة بمفهوم متوازن متكامل دقيق وعميق ، وعند قراءة السفر الخالد للبعث نجده يبدأ في غمرة الإحداث  والتهاب المشاعر  الوطنية لدى أبناء ألامه وعلى ساحة الوطن العربي فقد نمت البذور الأولى للبعث في عهد الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي الممثل في ذلك الحين للغطرسة الغربية وللتعصب العنصري والديني ضد العروبة والإسلام على صعيد بلاد الشام والمغرب العربي ومصر والغليان الجماهيري المتقد بفعل ثورة العشرين في العراق والتململ الشعبي في شبة الجزيرة العربية والخليج العربي بمواقف جماهيرية  نسبية ضد الاحتلال البريطاني  والاستغلال الذي تمارسه أدواته  إن كانت أنظمة متسلطة أو الإقطاع وأذنابهم  وحلت نكبة فلسطين بوعد بالفور المشئوم وإعلان  الكيان الاستيطاني الصهيوني عام 1948 وبان واضحا ً أن الأمـة العربية أصبحت مهددة في وجودها إذا لم تجدد مجتمعها وتحرر جماهيرها الشعبية وتطلق قدراتها وتبني إنسانها الجديد الذي هو غايتها ووسيلتها بالوصول إلى الأهداف ومن  الأهداف المركزية التي لابد العمل بكل الإمكانات والقدرات من اجل الوصول إليها وتحقيقها  إنهاء الظلم الذي حل بالأمة العربية  بتجزئتها إلى دول تحمل في ذاتها روح الانقسام واغتصاب أجز حيوية فيها  ( فلسطين الاحواز و الاسكندرونه وأريتريا ومدن مغربية ) ، بعقله الحديث المتحرر المبدع ، وتوحد أجزاء وطنها في نضال واحد  و تحقيق مشروع حضاري كبير للبناء والتحرير، وقد عبر عن ذلك الرفيق القائد المؤسس قائلا ((  ولقد سعى الحزب دوما إلى أن يكون عمله مبدئيا وواقعيا في آن واحد ، أن يعطي الحاضر ما يســتحق من جهد واهتمام  ولكن أن يخص المســـــــتقبل باهتمام اكبر وبجهد أكثر )) ، وكانت حركة القومية العربية الناشئة قد قطعت أول شوط في يقظتها إذ ميزت نفسها وهويتها عن الدولة العثمانية التي حكمت العرب باسم الدين فكان صراعها مع الاستعمار الغربي من نوع آخر يقول الرفيق القائد المؤسس (( صراع حضارة وتاريخ وتراث، وعقيدة. وقدر للبعث أن يمثل هذا الطور الجديد من تكامل مفهوم العروبة الحديثة ، فكان رجوعه إلى الإسلام في مواجهة الطغيان الغربي الحضاري رجوعا طبيعيا وعفويا لم يحتج إلا إلى الحــــــــــــــس الصادق. وتلك بداية الطريق التي أعطت الحزب أصالته الراســـخة، وزودته بالقدرة الخلاقة ، فلقد وجد الحزب في معين الإســـلام الذي لا ينضب ، أول ما وجد ، عروبة الإســلام ، العروبة كهوية ، وطبيعة ، وارض ولغة  وتاريخ والعروبة كشــــــــــــعب ومجتمع في حالة مخاض وتحفز ، والعروبة كثورة ، فجرها الإسلام فأصبحت ثورة إنســـــــانية عالمية ، وأعظم ثورة في التاريخ البشري ، والعروبة كرسالة خالدة ، لأن الإسلام هو دين هداية للآخرين كان العرب أول من حمل مسؤولية نشره وسيظلون مسؤولين قبل غيرهم عن حمايته ورفع لوائه وتجسيد قيمه في نهضتهم الحديثة ))

 

فالبعث والمناضلون البعثيون وجدوا في مرحلة تاريخية تستوجب بمنطق العمل التاريخي ، استكشاف الإيمان بكل معانيه ، بالمعاناة الشاملة ، ومن خلال مواجهة أوضاع الأمة العربية في هذا العصر وأمام العالم ومجتمعاته الناهضة والمتقدمة ، وفي مواجهة التاريخ الضخم للأمة العربية ، والتراث والرسالة لذلك قلنا بأنه "لا يفهمنا إلا الصادقون المؤمنون المحتسبون لله العزيز القدير الذين يرون الحياة  بجهادها وعطائها وليس بالقلوب الخائرة اللاهثة وراء الدنيا بمفاتنها وأهوائها لا يفهمنا إلا المتألمون المضطهدون المستغلون لا يفهمنا إلا المؤمنون، المؤمنون بالله. وهذا الإيمان لم نرثه إرثا ولا استلمناه تقليدا" ولكن وصلنا إليه بالمشقة والألم. "و لسوف يجيء يوم يجد فيه القوميون أنفسهم المدافعين الوحيدين عن الإسلام، ويضطرون لان يبعثوا فيه معانيه الخاصة إذا أرادوا أن يبقى للأمة العربية سبب وجيه للبقاء وها نحن اليوم نخوض أشرف معركة مع الباطل بكفره وعدوانيته وشروره

 

له تابع بالحلقة الأخيرة

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاحد / ٢٢ شـوال ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ١١ / تشرين الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور