ولأن العاصفة ... وَعَدَتنا

 
 
 
شبكة المنصور
د. جواد عون الله
ما كان من ليل القدس أن يَطول هكذا، وأن يُنتَزَع منها صبحها المُنتَظَر ويُمسَح عنها أَلَقَ قبابِ يومها الجميل، لو ان العرب كانوا يقظين ومُرابطين عند قبلة صَلاتِهم الأُولى يظللهم قوس قزح، يُباركهم به الإله في ليلة قدر مباركة في خشوع المئآذن والشبابيك المقدسية العتيقة. كيف يمتد إنتظارنا قرابة قرن من زمن الغفلة العربية، يخطفنا الوهم في متاهة ثقب أسود، يتَمَركَّزُ في عُمق ذاكرة الإحتلالات والغزوات والانقسامات واللا مصير وجدواه، حتى صار حالنا عنوانَ قتامةٍ للمظالم الانسانية، تجتازنا الشمس بذهابها ورواحها، وتمر فوقنا أقدام الغزاة، حيثما شاءت العقب الحديدية، وجرم الاباطرة والطغاة، حتى بتنا رواسب ميتة في بحرنا الميت المستكين فوق طين قيعان الملح الأسود ونفايات الامم ورميمها.


فلسطين ولدت هناك من ضيم الأرض، ومن جرح وأرق العيون التي ما فتئت تنظر الى رب السماء، إستغاثة برحمته، هل من صورة أبشع من رؤية أنقاض صليب وهلال متكسرة على أرصفة التاريخ. لكن هذه الأرض ما لبثت أن صارت قدرا لمجرة من جحيم الحروب، لم تخجل الارض المسبية من طعم الدم وألوان صباحات وشفق المجازر.


من هنا، مرت دعوات الامهات الطيبات، وأسمعن زغاريدهن بعرس مُنتَظَر عند عودة جثامين العائدين مع الفجر للصلاة بقرب المقدس. عند ابواب مقدسهم تلازمت حدقات العيون لم تبرح جفنة الأعين لترى وداع أضرحة الأولياء وأبراج الحمائم وذهب جدائل السنابل وأغصان زيتون تنادت لتصير سيوفا ورماحا وبنادق عند إعلان التكبيرة الاولى.


تكبيرة كالطلق المقدس ترددت أصدائها، ومرت كموج السديم الاول، وتحت عناوينه تقاربت وتباعدت مدى وسيوف وخناجرغادرة باختلاسها الثورة ومغدورة في وهم الفضائل الثورية، لكن الصبر واحد في مقاتلة الذات والجلد الصادق عند زمجرة الصحوة لتكتب السواعد من جديد اسطورة كنعان التي لم تحتضر في أي عصر وزمن.


فلسطين نخلة عربية طوت بسعف عاصفتها كل فيافي القفارالعربية وصارت بجدارة وحدها بيارة العرب، وكرمة المشتهى وكأس نبيذ العشق الأزلي، نهر ينتظر الطهر بدم الولادات الواهبة للأرض مهج الأنبياء.


مرت فلسطين، من هنا،ظالمة أو مظلومة، مرت رغم عقم بارود عواصم العرب وعسسها. فلسطين مرت من هنا وقالوا أيضا من هناك، لتمسي كل خطوة لها قافلة جهاد، وجندها من أبناء الله وورثة الأنبياء، وما خبئت الارض من دم شقائق النعمان، في ثناياها مناديل العشق ترطب شهدا من دمع، وابتسامة بطرز أنامل الامهات في ليالي الولادات العسيرة لتمنح فلسطين الثرى على دروب الأرض ازهار بساتين، ، والثُريا في عليائها، قناديل أقمار.


في ليلة الميلاد كانت زنازين السجن الفلسطيني تُكَّذب الرواة والوشاة وتوحي مجيئ طوفان او عاصفة؛ حلما كان أم كابوسا كلاهما هو الحل. لكن الارض الفلسطينية الولودة سمت حلمها " فتحا"، وصاغت مسار كلماتها ليعنون في القدس بابا اسمه "حركة التحرير الوطني الفلسطيني"، وصار قدرا له عنوان الثورات التي لا تتيه في دوامة العصف لتصير فقاعة للمغامرة وطلاب السلطة والجاه.


في تلك الليلة كان الزهر يجمع نداه من عرق الجراح وهمس الحجر ويمسح الشكوى من الأنين ليصير انتفاضة وعودة ترسم من حروف التقاطع ذروة مهر العاصفة فصارت الثورة " حتفا" وكابوسا لليالي السجان. صار مسارها نشيدا يتغنى بالتراب وببيت شعر يشهد أن المسافة بين دمع الزيتون وشلالات النور طلعة نحو الحرية، اين تنبت الزنابق على جرح فدائي، لتصير براعم عبير، وبيارة برتقال، ومسك وفل، وطعم زعتر.. وأحلام وحنة سوسنة ونداء قرنقل وياسمين يوزع أريجه على الأماسي في بلاط الشهادة وأنفاس العائدين الى وطن باتت معالمه، اسواراً وجدراناً ليهود العرب ولعرب اليهود في طبقات تحاضنت كرأس البصل طبقة فوق وتحت أُخرى.


كيف يكمن ثقب الأرض الأسود ليبتلع فجر الصلوات التي أُريد له ان تكون فلسطين الأرض فيه غيثا، ونبيذا وأنخابا جديدة، هو الموعد عندنا كل رأس سنة، وهذا السياج من قشور السلطات يحتشد بقوائم دفع المرتبات للبنادق التي نزعت زنادها وباعت بقية رصاصاتها، اين يكبر جرح في غزة والضفاف، ويتوارى جبين غضب يوما على سكوت البنادق، وترتفع هامة حاكم ومحكوم بأمر توزيع الصدقات والألقاب الثورية وبقايا الكراسي على الاتباع. الليلة تكسف المعترضات مسار نور مشكاة الله في ليلة الميلاد، قمر مثلوم، وقوس هلال جائع ليلة الاحتفال في نهاية السنة الميلادية.


لماذا صار الوعد سواحلاً لبحار من سراب. سراب مالح الوهج من خطى أتعبتها زنازين المراوحة بانتظار سلم مطلوب قدومه من دون شجاعة تتجاوز مبارزة عزل الخنادق الى غزل الفنادق والغرف المغلقة برتاج الضياع. وما أن تصل الحالة الى منفى جديد او إقامة بخمس نجوم من دون جواز سفر فلسطيني، فهناك إستراحة لغير المحاربين حتى تجتاز العاصفة عنوان بيت المقدس، تلك هي دوامات العواصف الضالة الطارئة في المسار الياسري، إمنعوها من أن تهرب بها المرافئ من جديد نحو مرارات الحنظل لكي لا تعصف بعصافير الكرمل والجليل الى اقاصي الحدود والمنافي البعيدة.


كيف تُغتال خُطانا في دوامات من الحقد الذاتي، فيُعَري الحقد شجر الزيتون وينزع من الارض أوتاد المنائر لإجهاض ما تبقى من آمالنا. كيف تُفَتِتُ العواصف المُضَلَّلَة تباشير الوان قوس قزحنا من سماء غزة الى حاضرة القدس وما بينهما من منائر وكنائس وصواعق ثورة؟. هل صرنا عواصف رمل يتناثرها إعصار ودوامات الملهاة بالأنا الضائعة، يبرق فوقها الفوسفور الأبيض والاصفر ليرسم أقواس من الموت والرعب والعصف بالعاصفة نفسها. عاصفتنا التي كانت ولازالت حتفا وصارت بجهادنا فتحا ولا مجال للتلاعب بترتيب أحرفها من جديد لتصير تحفا او تفحا او حفتاً.


كانت لنا عاصفة فتح واحدة، وحدها كانت تطوي فيافي الأرض، فتعود لسليمان بالخبر اليقين من اقاصي المعمورة، تعود كالهدهد الذي كان يعرف ما يحل بعرش بلقيس قبل أن يرتد طرف الرسول. كانت فتح تبذر الارض طيوفاً من أمان وألحان من أغان العاصفة، وهي التي (كنست صوت العصافير البليدة... والغصون المستعارة... عن جذوع الشجرات الواقفة). كيف عرفت ذلك يا أيها الدرويش الكبير ؟ عذراً لك ومنك لأنك لم تخبرنا ما عرفت منك جهينة بقية من الخبر اليقين. لِمَ صارت العاصفة عواصفا تاهت بها رياح التحرير ولو الى حين؟؟.


هناك من قال لنا قبل الدرويش الكبير محذرًا (من يزرع الريح سيحصد العاصفة)، لكننا بكتائب الاقصى زرعنا العاصفة من جديد لنحصد بريحها العاتية حتف الاقدار التي دارت بنا ولا نقبل لها ان تصير تُحفَ ثوار في المتحف الثوري قرب اسورة المقاطعات في غزة ورام الله التي رمتنا اليها الفرقة في غفلة خلف أسوار القدس واخواتها.

 


هامش

اكثر من 43 عاما مرت على إصدار الشاعر الكبير الراحل محمود درويش ديوانه" آخر الليل". بدأه بالاهداء" الى مدينة القدس وأخواتها"، غداة سقوط القدس تحت الاحتلال الصهيوني 1967.

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الجمعة / ١٥ مـحـرم ١٤٣١ هـ

***

 الموافق  ٠١ / كانون الثاني / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور