مواكب الإثنين وحيادية الأجهزة الرسمية

 
 
 
شبكة المنصور
د. صديق تاور كافي
أستاذ جامعي ومحلل سياسي
للمرة الثانية على التوالي تستخدم السلطات الامنية بولاية الخرطوم القوة والعنف في تفريق الموكب السلمي لقوى إعلان جوبا يوم الإثنين 2009/12/14م، استنادا على عدم قانونية الموكب الذي اكتفى منظموه بإخطار الشرطة به دون ان يحصلوا على اذن كتابي بالموافقة. فقد نُسب الى اللواء عطا عبد المجيد مدير دائرة الجنايات، قوله ان فئة محدودة من المواطنين تحركت امس بتجمعات غير مشروعة دون اخذ الموافقة من السلطات المختصة، واثارت الشغب واخلت بالسلامة العامة، مما حدا بالشرطة الى التصدي لها وفتح بلاغات جنائية في مواجهتها. «الصحافة 15/12/2009م العدد 5899». وتتمسك هذه السلطات بالمادة «127» من قانون الاجراءات الجنائية لسنة 1991م المعدلة بالقانون رقم «8» لسنة 2002م، التي تنص على منح الوالي او المعتمد الحق في حظر او تقييد اي اجتماع او تجمهر او موكب في الطرق والاماكن العامة، مما يُحتمل أن يؤدي الى الاخلال بالسلام العام. وفي المقابل تستند قوى الاجماع الوطني الى الدستور وإلى قانون الاحزاب في ممارسة اي نشاط ذي طبيعة سلمية، فالمادة «39» من الدستور الانتقالي تكفل حرية التعبير، كما تكفل المادة «40» حق الجميع في التجمع السلمي كأداة للتعبير، وتؤكد المادة «26» من قانون الأحزاب السياسية على ذات الحريات في اطار الممارسة الديمقراطية. وهذا ما ذهب اليه بروفيسور عبد الله أحمد عبد الله نائب رئيس المفوضية القومية للانتخابات، بتأكيده على اهمية أن تتساوى حقوق الاحزاب والمرشحين واتاحة الفرص المتساوية لهم في اجهزة الاعلام الرسمية، واحترام حرية التعبير والتجمع وفق ما كفله قانون الانتخابات. «الايام 2009/12/15م العدد 9581». وما ذكرته أيضا بدرية سليمان رئيس لجنة التشريع والعدل بالمجلس الوطني، بأن الخروج في مسيرات سلمية حق مكفول لجميع الاحزاب بموجب قانون الاحزاب ومنشورات وزارة الداخلية «الأحداث ـ 2009/12/7 ـ العدد 761».

 

إذن هناك اختياران للسلطات المختصة بين الموافقة او الاعتراض على موكبي الإثنين حسب تقدير الموقف، خاصة أن الامر ليس امر مغالطات نصوصية بقدر ما هو تقدير لموقف معين في ظروف سياسية محددة تمر بها البلاد. وهناك جملة من النقاط والحيثيات الضرورية لقراءة الموقف قراءة صحيحة: أولاً: إن الأجهزة الرسمية امنيا واعلاميا وقانونيا هي اجهزة دولة وليست اجهزة حزبية تتحدد مواقفها واجراءاتها حسب رغبات هذا الحزب او ذاك في السلطة او في المعارضة. فهي أجهزة مهنية لديها مهام وواجبات محددة لا يمكن تأديتها الا وفق طبيعتها المهنية. لسبب بسيط هو ان السلطة حالة غير مستقرة، ويمكن أن تتبدل وفقا لتبدلات الظروف، بينما المؤسسات الرسمية واجهزة الدولة تترسخ وتقوى بمرور الزمن.

 

فهي للكل ولا تتبع لاية جهة والا انتفت جدواها. ولكيما تنجح هذه الأجهزة والمؤسسات في أداء دورها بنجاح، فهي تحتاج إلى أن تكسب احترام هذا الكل وثقته، وهذا لا يتأتى دون اقناع الجميع بالحيادية وعدم المحاباة او الانحياز. ثانيا: الوضع السياسي القائم الآن يختلف كلية عن القائم في عام 2002م او عام 1991م، فقد فرضت الاوضاع بعد 2005م و2006م اطرافا ضمن منظومة السلطة لها وضعيتها الدستورية والتنفيذية في كل مؤسسات الدولة المختلفة، ابتداء برئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء والمجلس الوطني وحكومات الولايات والمجالس التشريعية ولجان الأمن والمفوضيات و... الخ.. الخ.. وبالتالي فإن اللونية السياسية الواحدة التي كانت تطبع كل هذه الهياكل والمؤسسات منذ 1989م وحتى 2005م لم تعد موجودة الآن، بل توجد لونيات أخرى لها استحقاقاتها وفقا لاتفاقيات رسمية معتمدة، ووفقا للدستور والقوانين المنبثقة عنه. فالحكومة الآن ليست هي منسوبو حزب المؤتمر الوطني فقط، ولا لهم أفضلية خاصة على من التحقوا بالحكومة وفق اتفاقيات نيفاشا وابوجا والشرق والقاهرة. وبالتالي فالحصانات والاعتبارات الأخرى لا تتصنف وفق التصنيف السياسي لهذا الشخص أو ذاك من أعضاء الحكومة.

 

بمعنى آخر فالمساواة في التعامل شرط أساسي وحق لهؤلاء على كل مؤسسات الدولة الرسمية. لذلك يصعب فهم وتفسير ضرب موكب سلمي تشارك في الدعوة له وتنظيمه شخصيات في الحكومة، مثل الفريق سلفا كير الذي هو رئيس للحزب الشريك الاكبر في الحكومة ونائب لرئيس الجمهورية، والسيد مني أركو مناوي كبير مساعدي رئيس الجمهورية وأعضاء آخرون في المجلس الوطني وفي الحكومة، لهم وضعهم الذي يجعلهم شركاء حقيقيين في المسؤولية والحرص على استقرار الأمن واحترام القانون. ثالثا: إن الحركة السياسية السودانية حركة ناضجة ذات تاريخ مشرف، وذات وعي وتقدير للأمور يتجلى في كل المحكات الحرجة التي تمر بها البلاد. وهي صانعة لتاريخ طويل يؤهلها لأن تتصرف بقدر عالٍ من المسؤولية.

 

لذلك عندما تدعو إلى انتهاج وسائل سلمية للتعبير عن موقف بعينه أو مواقف، فهي تعي حدود مسؤولياتها وتنطلق دائما من وعيها بدورها وبواجباتها نحو وطنها وشعبها. والموكب الذي قررت تسييره هو في حد ذاته جزء من هذا الوعي. وبالتالي بدلا من تحويل الأمر الى سجال نصوص حول القانونية والدستورية، وبدلا من الإصرار على استخدام القوة والعنف، كان الافضل تجنب التصعيد والتهديد، والتفاهم بصورة ودية حول كيفية أن يتم تسيير هذا الموكب حسب المسار المحدد له والفترة الزمنية، وكيفية التعاون على أن يؤدي هدفه بتسليم المذكرة والتفرق بهدوء، فمثل هذه الخطوة كانت ممكنة وكفيلة بتجنيب البلد حالة التوتر والاحتقان التي نتجت جراء لغة التحدي والتخويف. رابعا: باجراء جرد حساب بين المؤتمر الوطني وبقية الاطراف السياسية، يمكن ان نرصد فرقا واضحا بين سلاسة الاجراءات والمعاملات الاجرائية المتعلقة بتنظيم الانشطة المختلفة «موكب أو تظاهرة سلمية، ندوة، مؤتمر صحفي، الخ».

 

وهذا سبب كافٍ لأن يرتاب الآخرون غير المؤتمر الوطني من اية اجراءات متعلقة بأي نشاط عام، ولهم في ذلك حكايات وقصص. وعلى سبيل المثال هل خضعت المسيرات التي خرجت احتجاجا على قرار المحكمة الجنائية التي نظمها المؤتمر الوطني، هل خضعت لذات التعقيدات التي وُوجه بها موكب الإثنين مثلا؟! اذا حدث ذلك فنحن امام احد امرين: اما ان تلك المسيرة لم تكن عفوية كما صورتها الأجهزة الاعلامية الرسمية، لانها لكي تكون عفوية فهي لا تحتاج الى اذن مسبق مدته ثلاثة ايام. واذا حصلت على مثل هذا الإذن فهي اذن ليست عفوية ويكون اعلامنا الرسمي قد كذب على الناس والعالم. وفي كل الاحوال ليس ضروريا ان تحصل تلك المسيرات على إذن، لأنها حق طبيعي وتعبير عفوي من وجهة نظرنا، ولكن ذات الأمر يجب أن ينطبق على ما عداها حتى لا تُشتم اية رائحة تمييز بين الاطراف السياسية المختلفة.

 

خامسا: بالنظر الى تقدير المؤتمر الوطني على لسان بعض قادته فإن هناك استخفافا بها، حيث قال مندور المهدي «المسيرة لا ترقى لأن يطلق عليها مسيرة، موضحا ان من خرجوا فيها لا يتجاوزون الاربعين شخصا». الصحافة 2009/12/15م العدد 5899. بينما قال نافع علي نافع «مسيرة الإثنين المقبل لن تجد لها مؤيدا من السودانيين او العاصمة الا ان يستوردوا ليها ناس». السوداني 2009/12/13م العدد 1457. ولكن بحسب صحيفة أجراس الحرية 2009/12/15م العدد 551، فإن السلطات تقدم اليوم «الثلاثاء» تهمة ازعاج السلطات لـ «48» مواطنا من جملة «105» احتجزتهم الشرطة امس «الإثنين» الذين شاركوا في المسيرة السلمية. سادسا: بالنظر لما حدث ميدانيا وما عرضته بعض القنوات الفضائية، فإن التشديد والتضييق الأمني وحالة الاستنفار العالية لم تمنع المواطنين من الذهاب الى موقع الموكب والإصرار على التعبير عن موقفهم.

 

وبتقديرنا أن النتيجة كانت سلبية على الحكومة، حيث ادرك الداني والقاصي ان هناك أزمة سياسية، وانه لا توجد حريات بدليل القمع العنيف لمواطنين ارادوا ان يقدموا مذكرة بمطالب سياسية محددة في موكب سلمي. بقي أن نقول إن التحول الديمقراطي هو مناخ لممارسة ديمقراطية تحترم حق الجميع في التعبير السلمي دون حجر او اقصاء. وواجب السلطات الأمنية هو مساعدة جميع الأطراف في التعبير عن نفسها بما لا يخل بالنظام والقانون. وهذا يتطلب التعاون والتفاهم ولا يجدي معه لي الذراع.

 

ومن حق هذه السلطات على الذين ينظمون أنشطتهم، احترام القانون والمحافظة على النظام والنأي عن التخريب والفوضى واحترام قوات الشرطة، مثلما من حق المواطنين على هذه السلطات أن تساعدهم بحماية انشطتهم، ومعاملتهم وفق القانون والدستور، واحترام انسانيتهم وعدم اهانتهم او اذلالهم.

 

وبهذا فقط نستطيع أن نتحدث عن تحول ديمقراطي حقيقي يحقق استقرارا للبلد وإنسانها.

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت / ٠٢ مـحـرم ١٤٣١ هـ

***

 الموافق  ١٩ / كانون الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور