البعث في ميزان الشريعة  - ( شرعية تأسيس الحزب )

﴿ الجزء الاول

 
 
 

شبكة المنصور

الرفيق رأفت علي - بغداد الجهاد

 بسم الله الرحمن الرحيم

( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور ٍ)

صدق الله العظيم

 

 

المقدمة :

واجه حزبنا حزب البعث العربي الاشتراكي في سنوات مسيرته الجهادية الممتدة على سبعة عقود من الزمان الكثير من المؤامرات ؛ منها ما استهدف قيادته ، ومنها ما استهدف رجاله المناضلين ، ومنها ما استهدف الحزب بوحدته التنظيمية . الإ ان اهمها واخطرها هي تلك المؤامرات التي حاولت اجتثاث فكر البعث المؤمن المجاهد وشيطنته .

 

فحزبنا حزب البعث حزب معطاء ابن هذه الامة المعطاءة المجيدة ابن الامة العربية التي انجبت الرسل والانبياء عليهم السلام اجمعين وخاتمهم رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم . وابن هذا الشعب العظيم المعطاء شعب العراق الكريم السبّاق في بناء اولى الحضارات التي عرفتها الانسانية على سطح المعمورة وانجب العديد من القادة العظام والمفكرين المبدعين وكانت ارضه مسرحا لاحادث عظام جميعت بين تبليغ الرسالات السماوية وبين بزوغ فجر الحضارة والتطور . فلو سقط للبعث شهيدا لأضاء الدرب لعشرات الشباب.

 

اما لو استطاع اعداء البعث ، اعداء العروبة والاسلام اجتثاث فكره (لاسامح الله) فلن يبقى لحزبنا أي وجود . فمالاحزاب سوى فكر يلتف حوله الناس اعضاءا وانصار. وحتى على مستوى الافراد فهل يمكن للمرء ان يعيش بدون فكر . واذا ما استطاع .. فهل هو ذاك انسان من يحيى بدونه ؟!

 

ولهذا فقد دأب العدو الصليبي والصهيوني والصفوي على شيطنة فكر البعث وتشويه صورته وقلب الحقائق لتضليل الاخرين . محاولات الاجتثاث والشيطنة يمكن إن نقسمها إلى ثلاثة انواع بناءا على مصدرها . فالاولى كانت من قبل نظام الدجل والشعوذة في ايران والثانية كانت من قبل الولايات المتحدة والكيان الصهيونية المسخ والثالثة وهي الاهم والاخر كونها جاءت من قبل بعض ابناء جلدتنا للاسف الشديد . حيث اتخذت مسار وادوات اهم بكثير من سابقاتها فلم تكن مجرد تشويه وشيطنة لفكر البعث انما شيطنة وتشويه للفكر القومي العروبي عموما . معتمدين على فتاوى تفصل العروبة عن الاسلام . هذا النوع من محاولات اجتثاث وشيطنة الفكر القومي العروبي عامة والبعثي خاصة لم تسيئ للبعث والعروبيين فحسب بل اساءت ايضا للعروبة والاسلام .

 

فتاوى تكفير البعث استندت إلى ثلاثة ركائز مهمة . الاولى تناولت مفهوم الحزب والحزبية والتحزب ، والثانية تناولت فكر البعث ونظرته للاسلام و القومية والاشتراكية واما الثالثة فقد تناولت حكم البعث.

 

اولا : مفهوم الحزب والحزبية والتحزب :

 

أ‌-       مفهوم الحزب عند البعض :

كثيرا ما تحدث اصحاب الفتاوى التكفيرية على إن وجود الاحزاب بحد ذاته هي مخالفة لما جاء في كتاب الله القران الكريم وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . فبنظرهم فان قيام الحياة الحزبية في الامة سيؤدي إلى تفرق الامة وفتنتها وابتعادها عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . كما بينوا إن قيام الاحزاب ستؤدي إلى التحزب الخاص والعمل على مصلحة الحزب فقط دون مصلحة الامة . وان حكمت تلك الاحزاب فستحكم بهوى ومصالح مؤسسوها ومفكروها وقادتها واعضاءها . وبذلك يكون حكمها بغير ما انزل الله عزوجل .

 

كما استند اصحاب الفتاوى التكفيرية بعدم جواز قيام المسلمين بالاحزاب بان للامة حزب واحد لاغير وهو حزب الله عزوجل وانهم هم الغالبون ، والمراد بحزب الله هنا هم انصار الله عزوجل المؤمنين به قولا وعملا . قال تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) المائدة 56.

 

وحقيقة فان هذه الحجج ، حجج صحيحة وواقعية ولكن وبنفس الوقت قد تنطبق على كثير من الاحزاب إلا انها ابعد من إن تنطبق على حزب البعث العربيي الاشتراكي .. ومن اجل التعرف على سبب استثنائنا لحزب البعث يتوجب علينا فهم الاسباب التي ادت إلى ظهور الاحزاب عموما وحزب البعث خصوصا .

 

ب‌- الحزب بين الواقع والحاجة :

ان تعقد الحياة وتنوع اشكالها وتراكم مشاكلها كانت السبب وراء ظهور الاحزاب .. فحينما تواجه الامم محنة كبيرة تأخذ طابعا زمنيا مستمرا  كالاستعمار او التخلف او الظلم او الفقر ...الخ ؛ سرعان ما تظهر لنا طليعة من الامة تأخذ على عاتقها مواجهة تلك المحنة ؛ فتبدء بدراسة الواقع واساس المشكلة. فأن كان معرفة السؤال نصف الجواب فهنا تمثل معرفة المشكلة وابعادها واساسها ونتائجها الاولية والعرضية .. نصف الحل ..  فكل جماعة من طليعة الامة او الشعب ستكون لها رأيا خاصا بها حسب قناعات اعضاءها وواقعهم الخاص . وهكذا سنجد مشكلة واحدة ولكن وبالوقت نفسه سنجد عدة حلول وافكار غالبا ما تؤدي إلى نشوء العديد من الاحزاب ولكل واحد منهم طريقته الخاصة في التعامل مع تلك المشكلة . ولذا فان الاحزاب في جوهرها ما هي إلا فكر يلتف حوله الناس اعضاءا وانصار ثم يكون له تنظيما خاصا به وقيادة وبرنامج عمل وقانون داخلي . إلا انه وفي الوقت نفسه الذي تعاني منه الامة من واقعها العسير وظرفها المرير ستزيدها بعض هذه الاحزاب مشاكل ومرارة . حيث ستتجار بعض تلك الاحزاب بقضايا شعوبها وامتها فتحول الوسيلة الى غاية، ناكرة بذلك كل شعاراتها البراقة ومتملصة من وعدها السخية.

 

ورب سائلا يسال فيقول : وإن كانت الاحزاب نتاج الواقع الانساني ونتاج حاجة الانسان للتغلب على مشاكله ، إلا إن ذك لايعطي ولا يظفي على الاحزاب أي صبغة شرعية اسلامية ؟ فاين هي شرعية حزب البعث ؟

 

ت‌- شرعية الاحزب:

إن شرعية قيام الاحزاب هي إن  تعمل وفق القواعد والشرائع التي انزلها الله عزوجل لعباده . وعقيدة الولاء والبراء في جوهرها إن يكون العمل لله عزوجل ولرسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ومن اجل نصرة دينه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  ( أوثق عرى الإيمان هو المولاة في الله
والمعادة في الله والحب في الله والبغض في الله ) صحيح البخاري .

 

وبالتالي فما المانع في قيام الاحزاب لو جاءت متوافقة مع كتاب الله وسنة نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم . ما المانع من قيام حزب البعث . إن كان يوالي الله سبحانه وتعالى ويوالي رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فكرا وموقفا ونهجا ؟!!

 

ولهذا فان البعث يستمد شرعيته من لب وجوهر رسالة العرب الكبرى ومن لب وجوهر وفحوى ومضمون ديننا الاسلامي الحنيف.

 

ث‌- شرعية حزب البعث :

لقد نشأ حزب البعث في ثلاثينيات واربعينيات القرن المنصرم حين كان واقع الامة العربية الاسلامية في غاية الضعف والوهن والتخلف تتجه فيه امتنا يوما بعد اخر إلى مزيد من المشاكل والابتلاءات حتى عم الكفر والاشراك والتخلف والفساد والجور والظلم والعدوان والاستغلال شتى ارجاءها .

 

فمنذو غزو هولاكو لبغداد الرشيد عاصمة الخلافة الاسلامية سنة 1258م لم يحظى العرب والمسلمون بدولة ذات سيادة وحصانة وتحضر وازدهار وعدل. ورغم طيلة تلك الفترة لم تقام دولة شاملة لكافة ارجاء امتنا العربية الاسلامية  او حتى لجزء كبير منها بل جاءت متقطعة هنا وهناك . فلم تستطيع الدولة العثمانية من ملئ فراغ العرب المسلمين . بل إنها لم تستطيع الحفاظ على منجزات الدولة العربية الاسلامية بل كانت السبب وراء سقوط اجزاء واسعة من امتنا الاسلامية العربية تحت نير الاحتلال البرطاني والفرنسي والايطالي فحمل البعض  الاسلام ما ليس له ، واعتبره السبب وراء تخلف العرب وتمزق امتهم .. !!!

 

هكذا اصبح حال امتنا رهن بايدي اعداءها من صليبيين وصهاينة وصفويين فتداعت عليها الامم كما كما تتداعي الأكلة إلى قصعتها. وكانت النتيجة إن تخلت الامة عن حمل رسالتها الخالدة الخاتمة رسالة العرب الكبرى رسالة الاسلام الحنيف فعم العالم باسره الكفر بدل الايمان وعم الظلم والجور بدل العدل والحق والانصاف .

 

ففي الظروف التي كانت فيها ثقة الأمة بأفرادها وقادتها قد تزعزعت وأوشكت ان تنهار، فالقيادة القديمة التي أولاها الشعب ثقته في بدء مرحلة النضال السلبي عجزت عن مجاراة الشعب في نضاله وأخذت تساوم الأجنبي على إنهاء هذا النضال وافتتحت عهد السياسة الإيجابية قبل الأوان واستطاعت ان تقيم الدليل بأقصر مدة ممكنة على نفعيتها وانتهازيتها وضعف كفاءتها.1 . ظهر البعث العربي ليعلاج مشاكل الامة وليحقق لها نهضتها .

 

ج‌-   فكر حزب البعث العربي الاشتراكي :

حزب البعث العربي انفرد من بين كل احزاب الامة العربية والاسلامية برؤيته الفكرية وبتطلعاته واماله وخططه وبرامجه . فعلى العكس من الكثير من الاحزاب والقوى والشخصيات القومية و الاسلامية نهل البعث من الاسلام منهل كبير فكان الوحيد الذي جمع بين العروبة والاسلامية بهذا القدر وبهذه المسؤولية وبهذا الوعي والشمولية . حتى فاق في استناده للاسلام الحنيف وفي رؤيته لسبل نهوض الامة تلك الاحزاب التي كانت تدعي وتسمي نفسها اسلامية. فحزب البعث العربي الاشتراكي هو حزب رسالة العرب الكبرى.. حزب الرسالة الخالدة الخاتمة ، رسالة الاسلام الحنيف . ففضلا عن تمسك البعث واستناد فكره إلى الاسلام والى الايمان فقد بنى البعث نظرته للقومية العربية وللاشتراكية ولبقية جوانب الحياة على هذا الاساس ايضا على اساس الاسلام الحنيف .

 

1- البعث والاسلام الحنيف :

حزب البعث العربي الاشتراكي كان الحزب الوحيد الذي انفرد بربط فكره القومي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي بالاسلام الحنيف وبنظرة حديثة مفعمة بالحياة والتجدد ومفعمة بروح التحدي والثورة على واقع الامة المرير ليحقق لها نهضتها التاريخية فتستعيد دورها الحضاري والمحوري في العالم . ولتتحمل مسؤوليتها وتقوم بامانتها التي اتمنها الله عزوجل عليها على اكمل وجه فتحمل من جديد  لواء الاسلام رسالته  الحضارية العظيمة إلى سائر بقاع المعمورة .

 

ولهذا فقد اعتبر مؤسس البعث احمد ميشيل عفلق رحمه الله واسكنه فسيح جناته سر ديمومة البعث نابعة من الاسلام الحنيف  ، فيقول رحمه الله في كلمة القاها أثناء حفل تقلده وسام المؤرخ العربي من قبل اتحاد المؤرخين العرب في 23/ 8 / 1987 بهذا الصدد مايلي  :

 

(( تعرفون بان حزبكم , هذه الحركة القومية ، حركة البعث العربي الاشتراكي انطلقت من مصدر أساسي من نبع أساسي من نبع روحي هو الإسلام العظيم ، الذي أضاء لنا الطريق ، ولقد حمل هذا الحزب منذ بدايته البسيطة المتواضعة هذا القبس الروحي ، هذه النفحة التي ميزته وطبعته إلى زمن طويل ومستقبل بعيد, وهذا هو سر تجدد حيوية هذا الحزب ، وحزب البعث لا يمكن أن يفهم ألا أذا أدركت هذه الناحية , وإلا إذا اعتبرت أساسية ، بل الأساس الأول لانطلاقته ولتصوره للقضية القومية وتاريخها ودورها ومستقبلها ، وفي البعث اقترنت العروبة بالإسلام اقترانا مصيريا..))2

 

في معرض اجابته على اسئلة صحيفة الجمهورية في 27/4/1980، يقول مؤسس البعث رحمه الله :

(( س / ونظرة الحزب إلى الإسلام، كيف كانت منذ البداية؟

ج / نظرة الحزب إلى الإسلام هي هذه: انه حي في هذا العصر أكثر من أي شيء آخر، عصري، ومستقبلي أيضا، لأنه خالد يعبر عن حقائق أساسية خالدة، لكن المهم هو الاتصال بهذه الحقائق لكي تؤثر وتكون فاعلة ومبدعة. فكان رأي الحزب نتيجة التفكير ونتيجة المعاناة معا، ان هذا الاتصال لا يكون بالنقل الحرفي، ولا بالتقليد وإنما بان تكتشف هذه الحقائق من جديد، من خلال ثقافة العصر ومن خلال الثورة والنضال .. )) . 3

 

2- نظرة البعث إلى الالحاد :

((س /  إذن الحزب لم يكن مع الإلحاد؟

ج / أبدا.. هذه كتاباتنا، على قلتها، ومنذ "ذكرى الرسول العربي" عام 1943 وقبل ذلك، أقول في ذكرى الرسول العربي -واعتقد في الصفحة الثانية- "يجب أن تتحد الصلاة مع العقل النير مع الساعد المفتول، لتؤدي كلها إلى العمل العفوي الطلق الغني القوى المحكم الصائب"، فهذه قناعاتي الفكرية العميقة، بان الفكر النير وحده لا يكفي بل لابد أن يتحد مع الصلاة ومع الساعد المفتول (تعبير عن الشجاعة، عن حيوية الإنسان وإرادته). قبل ذلك، ماذا أقول في ذكرى الرسول العربي.. قلت "نحن أمام حقيقة راهنة هي الانقطاع بل التناقض بين ماضينا المجيد وحاضرنا المعيب. كانت الشخصية العربية كلا موحدا، لا فرق بين روحها وفكرها، بين عملها وقولها، بين أخلاقها الخاصة وأخلاقها العامة، وكانت الحياة العربية تامة، ريانة، مترعة يتضافر فيها الفكر والروح والعمل وكل الغرائز القوية، أما نحن، فلا نعرف غير الشخصية المنقسمة المجزأة، ولا نعرف إلا حياة فقيرة جزئية، إذا أهلها العقل فان الروح تجفوها، وان داخلتها العاطفة فالفكر ينبو عنها: إما فكرية جديبة، أو عملية هوجاء، فهي أبدا محرومة من بعض القوى الجوهرية، وقد آن لنا أن نزيل هذا التناقض فنعيد للشخصية العربية وحدتها، وللحياة العربية تمامها.. )) . 4

 

ويقول مؤسس البعث رحمه الله في حديث اخر في آذار 1956:

(( ... ونحن لا نرضى عن الالحاد، ولا نشجع الالحاد، ونعتبره موقفا زائفا في الحياة، موقفا باطلا وضارا وكاذبا. اذ ان الحياة معناها الايمان، والملحد كاذب: انه يقول شيئا ويعتقد شيئا آخر... انه مؤمن بشيء... مؤمن ببعض القيم. ولكننا ننظر للالحاد كظاهرة مرضية يجب ان تعرف أسبابها لتداوى، ولا ننظر اليه كشر يجب ان يعاقب لان ذلك لا يخفف الالحاد بل يزيده، فعندما نبحث عن الاسباب، نستطيع ان نزيل الالحاد .. )) . 5

 

3- البعث والرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم :

يقول مؤسس البعث رحمه الله في خطاب القاه على مدرج الجامعة السورية في 5 نيسان عام 1943:-

(( ان حياة الرسول وهي ممثلة للنفس العربية في حقيقتها  المطلقة لا يمكن ان تعرف بالذهن، بل بالتجربة الحية لذلك لا يمكن ان تكون هذه المعرفة بدءا بل هي نتيجة. فالعرب منذ ضمور الحيوية فيهم، اي منذ مئات السنين يقرأون السيرة ويترنمون بها ولكنهم لا يفهمونها لان فهمها يتطلب درجة من غليان النفس قصوى، وحدا من عمق الشعور وصدقه لم يتوفر لهم بعد، وموقفا وجوديا  يضع الانسان امام قدره وجهاً لوجه، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك. )).

 

ويردف قائلا رحمه الله :

(( حتى الآن كان ينظر الى حياة الرسول من الخارج  كصورة رائعة وجدت لنعجب بها ونقدسها، فعلينا ان نبدأ بالنظر اليها من الداخل، لنحياها. كل عربي في الوقت الحاضر يستطيع ان يحيا حياة الرسول العربي، ولو بنسبة الحصاة الى الجبل والقطرة الى البحر. طبيعي ان يعجز اي رجل مهما بلغت عظمته ان يعمل ما عمل محمد. ولكن من الطبيعي ايضاً ان يستطيع اي رجل مهما ضاقت قدرته ان يكون مصغراً ضئيلا لمحمد، ما دام ينتمي الى الأمة التي حشدت كل قواها فأنجبت محمدا، او بالاحرى ما دام هذا الرجل فردا من افراد الامة التي حشد محمد كل قواه فأنجبها. في وقت مضى تلخصت في رجل واحد حياة امته كلها، واليوم يجب ان تصبح كل حياة هذه الامة في نهضتها الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم. كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمدا.)) .6

 

4- البعث والمسلمون الاوائل :

يقول مؤسس البعث رحمه الله في آذار 1956 بهذا الصدد مايلي :

(( إنكم بلا شك تعرفون بعض الأشياء الأولية عن الإسلام، وارجوا ان تكونوا عارفين لكل الأشياء. أول ما تعرفونه عن الإسلام ان هذه الحركة التي نادى بها فرد واحد في البدء، وآمن بدعوته افراد قلائل، واحدا بعد الآخر، وافراد أكثرهم ضعفاء بالنسبة إلى مجتمعهم، وانهم جاهروا بهذه الدعوة وتحملوا الأذى والضغط وتحملوا الشيء الكثير مدة لا تقل عن ثلاث عشرة سنة في مكة حتى الهجرة، وبعد الهجرة ينتقل الإسلام إلى دور من القوة النسبية: إذ لم يعد المسلمون تلك الفئة المحصورة في بحر من الأعداء، بل كونوا لأنفسهم جماعة كلها مؤمنة.

 

فهل يحق لمن لم يعرف الاضطهاد، ولمن لم يرض ان يكون من الفئة القليلة المجاهرة بالحق في وجه الفئة الكبيرة الضالة.. هل يحق له ان يتكلم باسم الإسلام وان يعتبر الإسلام ملكه الخاص ؟... وانه هو المدافع عنه ؟ ..

 

انا لا اعتقد ذلك، لا اعتقد ان ذاك الحق يمكن ان يعطى فعلا الا للمضطهدين.. الا لذوي المبدأ والشجاعة الذين يجاهرون بعقيدة يؤمنون بها ويرون فيها الخير للمجموع، وان كان اكثرية الناس حولهم وجملة الاوضاع المحيطة بهم هي ضدهم، تؤذيهم، وتضغط عليهم، وتكافحهم. هؤلاء لهم الحق لان المبادئ والدعوات سواء أكانت دينية او اجتماعية او قومية او فكرية.. المبادئ والدعوات معيارها العمل وليس معيارها الكلام، فالكلام لا يكلف شيئا. الكلام سهل سواء أكان شفهيا او مكتوبا، لا يكلف اكثر من الجهد اللازم لكي نتفوه بهذا الكلام او نكتبه على الورق.

 

ولكن قيمة المبادئ هي عندما تمتحن بالعمل. فاذا قبلنا بهذا المقياس تنقشع من على اعيننا غشاوات كثيرة، ونكتشف زيفا كثيرا وتضليلا كثيرا او جهلا وغرورا عند الذين يتوهمون ويدعون بانهم انصار المبادئ ودعاة المبادئ، ولكنهم لم يختاروا الطريق الصعب بل اختاروا السهولة والسير مع التيار الناجح، وان يكونوا مؤيدين ومدعومين بكل ما في المجتمع من وسائل الراحة والحماية، وان لا تهدد راحتهم او مصالحهم او كبرياؤهم بأي أذى.. نكتشف بان هؤلاء ليسوا هم اجدر من يدعي الدفاع عن المبادئ او الانتصار لها .)) .7

 

7- البعث وثورة الاسلام العظيمة :

يصف مؤسس البعث رحمه الله واسكنه فسيح جناته في 5 نيسان عام 194 ، ظهور الاسلام الحنيف بانه ثورة على الواقع الفاسد :

 

(( هل يفكر الشباب ان الإسلام عند ظهوره هو حركة ثورية، ثائرة على أشياء كانت موجودة: معتقدات وتقاليد.. ومصالح؟.. وبالتالي هل يفكرون بأنه لا يفهم الإسلام حق الفهم الا الثوريون؟. وهذا شيء طبيعي لان حالة الثورة هي حالة واحدة لا تتجزأ، وهي حالة خالدة لا تتبدل، فالثورة قبل ألف سنة وقبل ألفي سنة وقبل خمسة آلاف سنة، والآن وبعد ألوف السنين: الثورة واحدة، لها نفس الشروط النفسية، ولها نفس الشروط الموضوعية أيضا إلى حد كبير. فمن الغريب العجيب، وهذا ما يجدر بكم ان تفكروا فيه وتتأملوه، ان المدافعين الظاهرين عن الإسلام الذين يتظاهرون بالغيرة أكثر من غيرهم وبالدفاع عن الإسلام، هم ابعد العناصر عن الثورة في مرحلتنا الحاضرة، لذلك لا يعقل ان يكونوا فهموا الإسلام. ولذلك من الطبيعي جدا ان يكون اقرب الناس إلى الإسلام فهما وتحسسا وتجاوبا هو الجيل الثوري، الجيل الثائر على القديم الفاسد طبعا. وهذا ما لا نراه، أي ان الجيل الثائر ليس كله ولا اكثره معترفا بهذه الصلة بينه وبين الإسلام، في حين ان الذين يدعون هذه الصلة ويتشبثون بها هم أعداء الثورة، هم ممثلو الاوضاع القديمة التي يجب ان تزول لكي تنهض الامة العربية.)).8

 

7- البعث لايدعي الكمال :

يقول مؤسس البعث رحمه الله واسكنه فسيح جناته في حديثه مع وفد البعث من لبنان عند زيارته لمقر الحزب في دمشق، نيسان 1955بهذا الصدد مايلي :

 

(( اياكم والنظرة الجامدة التي لا تفهم سر الحياة وكنه الحياة، فليس من عمل جدي يؤثر في الواقع ويخلق منه واقعا جديدا الا ويكون هذا العمل عملا فيه ما في البحر الواسع المتحرك من شوائب، فاذا اردتم عمل حزبكم تاريخيا فليكن كالبحر لا كالساقية الصافية، فمن السهل أن تكون حركتنا ساقية صافية ولكنها لن تروي أمة ولن تصنع تاريخا. ففي الحزب كثير من النقص، وبين ما تحقق وبين ما نرجو أن يتحقق فارق  كبير، ولكننا نستطيع أن نقترب من مثالنا اذا نحن تابعنا السير، اذا ضاعفنا الهمة، لا اذا وقفنا وحولنا حيويتنا الى نقد جامد وتفكير نظري، فالحياة لا تعرف التوقف وتيار الحياة تيار مبارك طاهر مهما تكن الشوائب التي تعلق به . )) .9

 

8- السياسة عند البعث امتحانا للايمان :

((  نحن حزب سياسي، لا جدال في ذلك، ولكن السياسة وسيلة، وقد أردنا أن نقول منذ البدء لشعبنا وللجيل العربي الجديد اذ عرّفنا حركتنا بأنها حزب سياسي أردنا أن نقول لهم هذا هو الواقع فلا تتلهوا بالخيال ولا تنسحبوا من مواجهة الحقائق القاسية، فالسياسة هي أكثر الأمور جدية في المرحلة الحاضرة. ولكننا اذا قصدنا ان نلح على واقعية نظرتنا في مواجهة الواقع في كل معناه ومواجهة المسؤوليات العملية بكل قسوتها، فليس معنى هذا ان السياسة غايتنا. السياسة هي امتحان لمثاليتنا: هل هي مثالية العاجزين الذين يرصفون الاوهام، أم هي المثالية الحية العملية لمن يريد أن يخلق وان يعمل. لذلك جعلنا السياسة امتحانا للايمان والمثالية، ولكنها لم تكن غاية في حال من الاحوال. حركتنا هي حركة بعث بأوسع ما في هذه الكلمة من معنى -بعث في الروح والفكر والاخلاق والانتاج والبناء وفي كل هذه المؤهلات والكفاءات العملية. )). 10

 

ملاحظة : يتبع بأذن الله تعالى ، الجزء الثاني عن شرعية الفكري القومي للبعث .

 

 

الهوامش :

1- مبرر نشوء البَعث  ، كلمة القائد المؤسس في حفلة البعث الانتخابية 20 /حزيران/ 1947 ، نشرت في جريدة البعث العدد 200 و201. 

2- نفهم الماضي من خلال تحملنا لمسؤولية الحاضر ، كلمة القائد المؤسس أثناء حفل تقلده وسام المؤرخ العربي من قبل اتحاد المؤرخين العرب في 23/ 8 / 1987. 

3- حوار حول الدين والتراث ، أجرته جريدة الجمهورية، ونشر على صفحاتها في 27/4/1980. 

4- المصدر نفسه . 

5- نظرتنا إلى الدين ، آذار 1956. 

6- ذكرى الرسول العربي ،خطاب القائد المؤسس الذي القاه على مدرج الجامعة السورية في 5 نيسان عام 1943. 

7- نظرتنا إلى الدين ، آذار 1956. 

8- ذكرى الرسول العربي ،خطاب القائد المؤسس الذي القاه على مدرج الجامعة السورية في 5 نيسان عام 1943.

9- نظرتنا الحية للحزب، حديث مؤسس البعث مع وفد البعث من لبنان عند زيارته لمقر الحزب في دمشق، نيسان 1955. 

10- المصدر نفسه .

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت / ١٨ ذو الحجة ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٠٥ / كانون الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور