البعث في ميزان الشريعة ( شرعية الفكر القومي للبعث )

﴿ الجزء الثاني ﴾
 
 
 
شبكة المنصور
الرفيق رأفت علي - بغداد الجهاد

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) الحج38

صدق الله العظيم .

 

 

المقدمة :

تحدثت في الجزء الاول عن شرعية تأسيس الحزب . وخلصت إلى إن شرعية الحزب محكومة بمدى تمسكه وتوافقه بما جاء به ديننا الاسلامي الحنيف. فشرط الشرعية هنا محدد بالاستناد إلى كتاب الله وسنة نبيه المطهرة . غير إن البعض يضع شرطا أخر وهو إن يكون أعضاء الحزب مسلمين . وفي الحقيقة فان قول البعض بوجود شرط أخر هو شرط الإخوة الإسلامية لأعضاء الحزب هو قول مردود على صاحبه ولا يستند إلى الحجة والدليل الشرعي .

 

فالحزب وكما سبق وأوضحت ، هو فكر يلتف حوله الناس اعضاءاً وأنصار ثم يكون له تنظيماً خاصا به وقيادة وبرنامج عمل وقانون داخلي . أي انه وسيلة لتحقيق هدف. وبهذا المعنى فان الحزب شأنه شان  الجيش من حيث كونهما وسيلة لتحقيق هدف محدد . ولو تأملنا وتدبرنا سيرة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فسنجد إن جيش المسلمين الذي قاده رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ومن ثم توالى على قيادته صحابته الأطهار رضي الله عنهم أجمعين لم يقتصر على المسلمين ؛ إنما شارك فيه ممن كان يقاتل حمّية . فلم يمنع رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أهل الحميّة من القتال معه .

 

ومن الجدير بالذكر هنا ، إن الله عزوجل لم يشترط على المسلمين عدم مصاحبة غير المسلمين بل على العكس فقد أوصى الله عزوجل عبادة المسلمين بالعدل والإحسان معهم ، وقصة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم مع جاره اليهودي خير دليل على ذلك .


إن شرط الإخوة الإسلامية سيمنع المسلمين من الاستفادة من خبرة و جهود غير المسلمين. خاصة وان هؤلاء الأعضاء ( أعضاء الحزب من غير المسلمين ) لن يكون دورهم فقهي أو ديني ولن يتولى مثلا تفسير القران الكريم غير المسلم ، مثلما لن يتولى غير المسلم صياغة قوانين الدولة ذات الصلة بالشؤون الإسلامية والتشريعية والفقيهة حينما يتولى ذلك الحزب حكم دولة ما .


 

وبالتالي فان شرط شرعية تأسيس الحزب محددة وكما سبق وذكرت بالاستناد إلى كتاب الله وسنة نبيه المطهرة وليس إلى شئ أخر . اما في هذا الجزء ، فسأتناول بأذن الله تعالى الركيزة الثانية التي استند إليها البعض في فتاويه التكفيرية للبعث والتي تتمحور حول  الفكر القومي للبعث .

 

ثانيا : مفهوم القومية:-

واجهت القومية العربية ومنذ مئات السنين الكثير من المؤامرات. وفي الحقيقة فان تلك المؤامرات لم تستهدف العرب كقومية فحسب بل واستهدفت أيضا الإسلام الحنيف كونه رسالة العرب للعالم برمته ، وكونه ( إي الإسلام ) الأمانة التي أتمنها الله عزوجل العرب عليها لنشرها لأمم وشعوب الأرض كافة . قال تعالى ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) البقرة 143 .. وهكذا فان عداء البعض للعرب وللعروبة بأسم الإسلام والإسلام منهم براء لم يكن وليد أيامنا هذه إنما يعود لقرون عديدة قد خلت ، وما الشعوبية إلا احدى تلك المؤامرات. ولكن الجديد والمهم والخطير في الأمر بأيامنا هذه إن يعادي بعض العرب عروبتهم وان يجعلوها نداً للإسلام.

 

كما أثار البعض قضية العصبية القبلية مسبباً الكثير من الخلافات بين أبناء الأمة. فقد وقع الكثيرين منهم في خطئ كبير حينما اعتبروا القومية في وقتنا الراهن امتداداً للعصبية القبلية في زمن رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم .. بينما وقع آخرون في خطئ كبير آخر حينما اعتبروا القبلية المجردة مصدر فخر واعتزاز لهم بأنسابهم وقبائلهم . لذا يتوجب على كل من يبحث عن حقيقة موقف الإسلام من القومية والعروبة إن يبحث أيضا عن حقيقة موقف الإسلام من العصبية القبلية.

 

أ – الإسلام والعصبية القبلية :-

أشار القرأن الكريم في عدة آيات إلى مبدأ المساواة بين البشر وهو على نقيض من العصبية القبلية او بالاحرى من التعصب القبلي، قال تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات 13. وبنفس الصدد جاء حديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حينما قال (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى)  1 ، أي إن أساس التفضيل عند الله عزوجل هي التقوى فليس للعربي أي تميز وتفضيل عند الله عزوجل لكونه عربي ، وبمعنى اوضح فالعربي إن كان كافراً أو مشركاً أو عاصياً فليس له أي تفضيل على غيره من الأقوام والأمم والشعوب ونفس  الحال مع غير العرب .

 

اما في قوله تعالى ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) المجادلة 22. فقد قال أهل العلم في سبب نزول هذه الآية  إنها نزلت في أبي عبيدة حين قتل أباه يوم أحد ، وفي أبي بكر حين دعا ابنه للمبارزة يوم بدر ، وفي عمر حيث قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر ، وفي علي وحمزة حين قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر 2. أي إن الله عزوجل يحث عباده المؤمنين بان يتخذوا من رابطة الإسلام والعقيدة هي الرابطة الأسمى والأعلى والأولى والافرض بالإتباع وليست رابطة القرابة والأسرة والعشيرة . ولهذا فقد حذرنا رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم من الدعوة للعصبية القبلية أو القتال في سبيلها أو الموت عليها ، حيث قال صلى الله عليه وسلم ( ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية )  3. وبهذا نخلص إلى أمرين هامين هما :-

 

1- أساس التفضيل بين بني البشر عند الله عزوجل هي التقوى وليس شيئاً أخر.

2- رابطة الإسلام والعقيدة هي الرابطة الأسمى والأعلى والأولى والافرض بالإتباع.

 

كما إن السبب الذي جعل رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ينهانا ويحذرنا عن العصبية القبلية إن كانت هذه العصبية تصب في مصلحة أعداء الإسلام والمسلمين . ولأدراك هذه الحقيقة لابد لنا إن نشير إلى احدى أهم القصص التي وقعت في عهد رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، والتي تبين احدى أساليب اليهود في تأمرهم على الإسلام والمسلمين . فقد مر شأس بن قيس - وكان يهوديا شديد الطعن على المسلمين - على نفر من الأوس والخزرج بعد إن الإسلام ما بينهم من أحقاد وضغائن فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم فجلس إليهم ، واخذ ينشدهم شيئاً فشيئاً إلى إحداث الماضي المشحون بالعداوة والخصومة ، واخذ ينشد بعض ما قيّل في حروبهم من الشعر فحرك من وجدانهم وهاج عصبيتهم ، ومازال بهم حتى تنادوا فيما بينهم : السلاح ، السلاح ، وكاد يقع الصدام بينهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم مخاطباً إياهم : أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به ... واستنقذكم من الكفر وألف بين قلوبكم ، فعرف القوم عندئذ أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو المسلمين شأس بن قيس 4، وفي هذه الحادثة نزل الوحي الإلهي :

 

قال تعالى ( قل يااهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من امن تبغونها عوجا وانتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون . ياايها الذين امنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وانتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ) إل عمران 99-101.

 

اما إن كانت العصبية القبلية تصب في مصلحة الإسلام والمسلمين فلا إشكال فيها . فمن خلال تدبرنا لحديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ( من قتل تحت راية عمية ، ينصر العصبية ، و يغضب للعصبية ، فقتلته جاهلية ) 5. يتبين لنا إن سبب النهي عن العصبية القبلية إن كانت هذه العصبية مجردة بحد ذاتها . اما إن كانت العصبية القبلية تصب في مصلحة الإسلام والمسلمين فبها خيراً  ، كما جاء في حديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حينما قال ( أن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم ، فأنا خيركم نفسا وخيركم نسبا ) 6. فهنا يبين لنا رسولنا الكريم نسبه الطاهر ليحاجج به مشركي قريش وغيرها من قبائل العرب التي كانت تتفاخر فيما بينهم بالأنساب .

 

وبذلك فان الانتماء القبلي  ليس مذموماً، ولكن المذموم إن أتى ذلك الانتماء على حساب الإسلام والمسلمين . بل إن حث الإسلام على ترك العصبية القبلية يحسب للعرب لا عليهم ، فمن خلال  هذه الدعوة أصبحت القبائل العربية المتفرقة امة عظيمة بما للكلمة من معنى . أي إن نهي الإسلام عن العصبية القبلية مكن العرب من إن يكونوا امة عظيمة لها واجبها الإنساني العالمي وهو حمل رسالة الإسلام الخالدة الخاتمة لسائر أمم وشعوب الأرض .

 

ب - مفهوم القومية عند البعض:-

كثيراً ما تحدث أصحاب الفتاوى التكفيرية عن القومية بصورة عامة والقومية العربية بصورة خاصة. فاعتبروا العروبة نداً للإسلام . وكفروا القوميين العرب وأحزابهم عامة ً وكفروا حزب البعث العربي الاشتراكي خاصة ً . وكالوا له وللقومية العربية شتى أنواع التهم والسبّ والشتّم متذرعين بإنسانية الإسلام وعالميته . ولهذا يتوجب علينا وقبل إن نرد على فتاويهم إن نطلع على حججهم .

 

لقد اعتمد اؤلئك في فتاويهم لتكفير القوميين العرب عامة والبعثيين خاصة وفي نفيهم لوجود ترابط بين العروبة والإسلام ؛ على مبدأ المساواة بين أمم وشعوب الأرض كأحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام الحنيف. والذي أشار إليه القرأن الكريم بقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات 13.  كما أشار إليه رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حينما قال (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى) 7. كما اعتمد أصحاب الفتاوى التكفيرية على إنسانية الإسلام وعالميته وهي الصفة التي ميزت ديننا الإسلامي الحنيف عن سائر الأديان السماوية . قال تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) الأنبياء 107. وقال تعالى ( وما هو إلا ذكر للعالمين ) القلم 52. وقال تعالى ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) سبأ 28.

 

وحقيقة فان هذه الحجج ، حجج صحيحة وقد تنطبق على كثير من الأحزاب إلا أنها ابعد من إن تنطبق على حزب البعث العربي الاشتراكي . فهي كلمة حق يرّاد بها باطل. فقد يكون بعض القوميين العرب قد دعوا إلى عكس ما جاء به ديننا الإسلامي الحنيف فأهملوا إنسانية الإسلام وعالميته بعد إن بنوا أفكارهم بعيداً عن الإسلام الحنيف . إلا إن مؤسس البعث لم يكن من بين اؤلئك أبداً . بل على العكس فأحمد ميشيل عفلق رحمه الله واسكنه فسيح جناته وكما سبق وأوضحت في الجزء الاول قد استند إلى الإسلام الحنيف في بلورة  أفكار البعث العربي الاشتراكي ، وبالتالي فلم تكن القومية العربية عند البعث قومية متعصبة منغلقة على ذاتها إنما هي قومية تؤمن بالمساواة بين أمم وشعوب الأرض وتدعوا العرب إلى معاودة دورهم الحضاري البنّاء في العالم والى التفاعل والتعاون مع بقية الامم والشعوب .

 

ج – عروبة الإسلام وعالميته :-

إن عروبة الإسلام لاتتعارض أبداً مع عالميته ، كما إن عالمية الإسلام لاتتعارض هي الأخرى مع عروبته . فالإسلام لا ينفرد عن بقية الأديان السماوية فحسب بل وينفرد عن كثير مما في حياة البشر ، فالإسلام قومي وعالمي بأن واحد .. وفيما يلي حقائق وأدلة دامغة تؤكد لنا ذلك :-

 

1- عالمية الإسلام :-

إن إنسانية الإسلام وعالميته هي الصفة التي ميزّته عن سائر الأديان السماوية . حيث لم يقتصر الإسلام على امة أو شعب معين ، إنما هو دين للإنسانية جمعاء . وقد أشار القرأن الكريم إلى عالمية الإسلام بقوله تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) الأنبياء 107. وبقوله تعالى ( وما هو إلا ذكر للعالمين ) القلم 52. وبقوله تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لايعلمون ) سبأ 28.  وأن كان الإسلام الحنيف لكل مكان فهو أيضا لكل زمان ، فحرامه حرام إلى يوم القيامة وحلاله حلال إلى يوم القيامة . وبهذا فان الإسلام دين عالمي صالح لكل مكان ولكل زمان.  وقد اثبت الإسلام هذه الحقيقة بكل جدارة حينما كان العرب المسلمون يحكمون إرجاء واسعة من المعمورة . فلهم الفضل كل الفضل في تطور البشر وحضاراتهم فلم يكن العرب المسلمين مجرد جسر ربط حاضر الإنسانية بماضيها فحسب إنما قد أضافوا لها الكثير . ففي وقت كانت فيه كثير من أمم وشعوب الأرض غائرة في ظلام الكفر والإشراك والظلم والتخلف والفساد كانت الأمة العربية والإسلامية والشعوب التي فتحها العرب المسلمون في أوج تألقها وتطورها وفي أبهى صور العدل والمساواة ، والتاريخ مليء بالحوادث والوقائع التي تؤكد ذلك ؛ منها على سبيل المثال ما وصلت إليه الأندلس من رقي حضاري أنساني ومادي فقد كانت الحضارة العربية الإسلامية حضارة إنسانية قبل إن تكون مادية ، فقد انعم العرب المسلمون على الشعوب التي فتحوها للإسلام بالعدل والإحسان وبناء الإنسان الجديد ومنها أيضا ما كانت انجازاً علمياً كالساعة التي أهداها هارون الرشيد إلى ملك الروم فضلا عن مئات الانجازات العلمية في الرياضيات والهندسة والجبر  والفيزياء والكيمياء والفلك ومئات الانجازات الأدبية في الاجتماع والنفس والتاريخ والأدب والشعر..الخ .

 

2- عروبة الإسلام :-

إن عروبة الاسلام حقيقة ماثلة للعيان لاينكرها إلا شعوبي حاقد او جاهل لايتدبر ما جاء به ديننا الاسلامي الحنيف . فرسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم عربي و إل بيته وصحابته رضي الله عنهم أجمعين عرب ، والمسلمين الأوائل جلهم عرب ، والأرض التي شهدت ظهور الإسلام هي ارض العرب ، وحملة الرسالة الخالدة الخاتمة رسالة الإسلام الحنيف لسائر أمم وشعوب الأرض هم العرب ، واللغة التي انزل الله عزوجل كتابه الكريم بها هي لغة العرب ، ومعجزة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وهي القرأن الكريم لا يمكن إن تُفهم وتُدرك إلا بفهم العرب وبفهم لغتهم ، وتحدّي الله عزوجل للمشركين ولكافة الجن والإنس بأن يأتوا بمثل القرأن الكريم والذي نزل بلغة العرب ، قال تعالى ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) البقرة 23-24. و قال وقوله الحق ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ الإسراء 88. ووعـَـد الله سبحانه وتعالى بالحفاظ على القرأن الكريم ، قال تعالى ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر 9 ؛ ينطوي على حقيقة مهمة جداً إلا وهي مدى نضج وتكامل وثراء لغة العرب حتى تحدى الله عزوجل بها المشركين وكافة الإنس والجن . واللغة العربية ما كانت لتكون ثرية هي الأخرى لولا الثراء الذي تميزت به حياة العرب .

 

فاللغة هي صدى الحياة الاجتماعية وروح الأمة ووعاء الحضارة والثقافة وهي نتاج الامم والشعوب وفيها تدوّن انجازاتهم وإحداثهم الجسّام ومن خلال فهم لغة القوم والتعرف عليها يتسنى للمرء فهم حياة ذلك القوم كما يتسنى له التعرّف على تاريخهم. فمن خلال دراسة الشعر العربي مثلا يتسنى لنا الاطلاع والتعرّف على العرب وعلى حياتهم وعلى انجازاتهم وإحداثهم وصفاتهم حتى قيّل إن الشعر ديوان العرب أو سجل العرب. وفي هذا الصدد يقول ابن خلدون ( إن القرأن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه ) 8. اما ابن تيمية فقد وضح لنا ترابط العروبة ولغتها بالإسلام حيث قال رحمه الله ( إن الله سبحانه وتعالى  لما انزل كتابه باللسان العربي وجعل رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم مبلغا عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به ، لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان وصارت معرفته من الدين) 9.

 

كما وردت في القرأن الكريم آيات كثيرة تؤكد على عروبة القرأن . قال تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) يوسف 2 ، وقال تعالى ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) الزمر 28 ، وقال تعالى (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) فصلت 3 ، وقال تعالى ( وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ) الرعد37 ، وقال تعالى ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) النحل 103 ، وقال تعالى ( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ) الاحقاف 12 ،  وقال تعالى ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) سورة الشعراء الآيات 199.198.195.194.193

 

وعن أهمية لغة العرب ومكانتها في الإسلام وبين الامم يقول ابن كثير رحمه الله (بهذا فان لُغَة الْعَرَب هي أَفْصَح اللُّغَات وَأَبْيَنهَا وَأَوْسَعهَا وَأَكْثَرهَا تَأْدِيَة لِلْمَعَانِي الَّتِي تَقُوم بِالنُّفُوسِ فَلِهَذَا أَنْزَلَ أَشْرَفَ الْكُتُب بأشراف اللُّغَات عَلَى أَشْرَف الرُّسُل بِسِفَارَةِ أَشْرَف الْمَلَائِكَة وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَشْرَف بِقَاعِ الْأَرْض وَابْتُدِئَ إِنْزَاله فِي أَشْرَف شُهُور السَّنَة وَهُوَ رَمَضَان فَكَمُلَ مِنْ كُلّ الْوُجُوه ) .10

 

ومن خلال تدبرنا لحديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) نستشف الكثير عن فضائل العرب قبل الإسلام ، تلك الفترة التي ينبغي على كل مسلم وخاصة العربي إن يقف عندها جيدا حتى لا يقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون من أبناء امتنا حيث ظنوا أنهم كلما ابرزوا سلبيات العرب قبل الإسلام برزت ايجابيات الإسلام وفضائله .

 

فحديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يبين لنا جملة حقائق هامة عن الإسلام الحنيف وعن العرب . فقد اقترّن الإسلام بمكارم الأخلاق وهي حقيقة سنجدها في كل العبادات التي أمر بها الله عزوجل عباده المؤمنين . فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ومن فضائل الصيام إن يشعر الغني بحال الفقراء والمساكين من الذين لا يملكوا ثمن رغيف الخبز، والزكاة في جوهرها إن يعين المسلمين بعضهم بعضا ً ، والحج يدّل من بين مايدّل على خلق روح المودة والألفة بين المسلمين بهذا التجمع العظيم ، والقرأن الكريم في كثير من آياته يبين لنا ترابط العبادة بالخلق القويم حتى إن الله عزوجل يُعلّم عباده المؤمنين كيفية دخول البيوت وأدب المخاطبة فيما بينهم والكيل بالميزان بالعدل ، فضلا عن العديد من الأحاديث النبوية التي تحث وتأمر المسلمين بحسن الخلق والتعامل حتى مع غير المسلمين. وسيرة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم سيرة غنيّة بالقصص والعبّر والدروّس على كيفية التعامل مع المسلمين وغير المسلمين . بل إن عقيدة التوحيد نفسها تنطوي من بين ما تنطوي على الأمر بحُسن الخلق ، فإقرار المرء بوحدانية الله عزوجل إنما هو حُسن خلق العبّد مع ربّه ؛ فمثلما يتوجب على المرء إن يثني على من يُحسن إليه ويشيد بمواقفه ، فمن باب أولى إن يُحسن المرء خُلقه مع بارئه الذي انعم عليه بنعم لا عدّ لها ولا حصّر. ومن صور حُسن خَلق العبد مع ربه إن يقرّ بوحدانية الله عزوجل .

 

اما لو تدبرنا معنى إن يتمّم رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق فان معنى الإتمّام الكمال ، فيقال إن فلان أتمَّ عمله أي أنجز عمله انجازاً كاملاً تاماً حتى فرغ منه . فإتمام الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يعني إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنجز وأتمَّ وأكمل الأخلاق بل وليس الأخلاق فحسب بل محاسنها ومكارمها . والرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم عربي ووّلد وترعرّع في وسط العرب بل في العرب الاقحاح في البادية وفي قريش وهي من أهم قبائل العرب وأكثرها مكانة وبالتالي فان أخلاق الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم هي أخلاق عربية بل هي أفضل أخلاق العرب قاطبة باعتراف مشركي العرب أنفسهم . وحينما يقوم رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بإتمامّ مكارم أخلاق البشر فهو صلى الله عليه وسلم إنما يقوم بإتمام مكارم أخلاق العرب لان أخلاق العرب قبل الإسلام كانت تمثل ذروة سنام أخلاق بني البشر قاطبة . لان معنى إن يتم المرء شيئا ما ، هو إن يكون لهذا الشئ وجود أصلا ، ولكنه لم يبلغ مرحلة الإتمام والكمال .

 

وفعلا نجد في الإسلام الحنيف مايؤكد هذه الحقيقة فقد اقرّ رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم العديد مما كان العرب قد اعتادوا عليه قبل الإسلام فأصبح جزءاً مهما وأساسياً من أخلاقهم وصفاتهم كصيام عاشوراء والأشهر الحُرم وحُرمة الأماكن المُقدسة والاختتان والاغتسال من الجنابة وتغّسيل الموتى وفي التوريث حيث كان العرب يورثون الذكر مثل حظ الأنثيين 11.

 

وكان العرب يحجون إلى مكة في موسم ثابت من السنة فيفيض الحجاج عند طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة من المُزدلفة إلى مُنى لرمي الحجرات ونحر الأضحية . كما كان العرب قبل الإسلام يَعتمرون في شهر رجب12 . كما كان بعض العرب قبل الإسلام يحرمّون على أنفسهم الخمّر وكان بعضهم يرجم من وقع في الزنا كما اعتقدوا بان الظلم والربي والمال الحرام تعود على المرء بالعقاب .كما اقر بعضهم قطع يد السارق ودفع الدية عن المقتول ، بينما كان التحالف بين القبائل على اثر الزواج والمصاهرة من الأمور المشاعة بينهم 13.

 

والمتابع والمتدبر لبداية ظهور الإسلام بين العرب سيجد إن هناك ثمة عبّر ومواقف  تستحق منا الاهتمام ، منها على سبيل المثال امتناع مشركي قريش وغيرها من القبائل التي كانت تسكن في مكة عن قتال المسلمين حينما أتوا للحج مسالمين بدون سلاح .

 

كما كان للعباس عم النبي مواقف طيبة من ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو لم يدخل في الإسلام بعد كحضوره في بيعة العقبة الثانية ليستوثق العهد ويؤكده لرسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم .. اما الحمزة عم النبي فقد ضرب أبا الحكم عمرو بن هشام ويكنى احيانا بأبى جهل لأنه شتم ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم وسبّ دينه 14. كما وقف بعض بني تميم موقفاً جيداً من أبو بكر الصديق رضي الله عنه ( لكونه من بني تميم ) حيث توعدوا بقتل عتبة ابن ابي ربيعة اذا ما مات ابي بكر على اثر الضرّب الذي تعرض له من عتبة . كما كان بعض العرب أحنافا يدنون بدين الحنفية نسبة إلى ابراهيم عليه السلام 15.

 

وهنالك بعض الوصايا عن العرب تدّل على عمق التجربة والمرونة والأخلاق الحميدة والطبائع الحضارية البعيدة عن الغلظة والخشونة والفظاظة . ففي الأغاني نطالع وصية ذي الإصبع العدواني لابنه ، حيث قال له ( ألن جانبك لقومك يحبونك وتواضع لهم يرفعوك وابسط لهم وجهك يطيعوك ، ولاتستاثر عليهم بشئ يسودوك ، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم ويكبر على مودتك صغارهم ، واسمح بمالك واحم حريمك واعزز جارك ، واعن من استعان بك ، وأكرم ضيفك وأسرع النهضة في الصريخ فان لك إجلالا يعدوك ، وصن وجهك عن مسالة احد شيئا فبذلك يتم سؤددك ) 16.

 

اما وأد البنات فلم يكن معروفاً عند كل قبائل العرب فقد كان بعض العرب يعطفون على بناتهم ويعاملونهن بحنان ودلال حتى يكنى الرجل بأسماء بناته فوالد زهير الشاعر يكنى بابي سلمى . كما كان بعض العرب يكنون بأسماء أمهاتهم بما في ذلك ملوك العرب كالمنذر ابن ماء السماء ملك الحيرة في العراق . كما كان للمراءة حق التملك والتجارة كسيدتنا خديجة رضي الله عنها 17.

 

 

د – ترابط عروبة الإسلام بعالميته:-

كما سبق وأشرت فالإسلام لا ينفرد عن بقية الأديان السماوية فحسب بل وينفرد عن كثير مما في حياة البشر ، فالإسلام قومي وعالمي بان واحد . وهنا ربَّ سائلا يسال فيقول وكيف يمكن الجميع بين متناقضين .. بين القومية من جهة والأممية من جهة أخرى ؟!

 

فأقول بادئ ذي بدء بأن الإسلام ليس أي دين وبأن العروبة ليست أي قومية . فترابط عروبة الإسلام بعالميته هو ترابط وثيق إلى الدرجة التي يصعب على المرء التميّز بين ماهو عربي وبين ماهو عالمي في الإسلام ، فالإسلام والعروبة كلاهما ذو نزعة إنسانية عالمية . وقد سبق وان وضحت عالمية الإسلام وإنسانيته ، اما العروبة فهي وعلى الرغم من كونها قوميّة إلا أنها ذات طبيعة إنسانية بعيدة كل البُعد عن  العنصرية والتعالي والغرور والتكبر. فلم يعرف تاريخ العرب سواء قبل الإسلام نزوعهم للسيطرة واحتلال البلدان ونهب ثرواتهم ، اما بعد ظهور الإسلام العظيم  فقد فتح العرب المسلمون البلدان والأمصار بدماء أبنائهم الزكية ليخرجوا تلك الامم من ظلمات الكفر والإشراك إلى نور التوحيد و الهداية وليقدموا للإنسانية برمتها ثورة علمية وأدبية وأخلاقية فأقاموا حضارتهم العظيمة لتنهل من خيرها كل أمم وشعوب الأرض ..

 

إن خير دليل على إنسانية العروبة هو حينما اصطفاها الله عزوجل لحمل رسالته الخالدة الخاتمة لبقية أمم وشعوب الأرض ، قال تعالى (الله اعلم حيث يجعل رسالته) الإنعام 124.فمن غير المعقول واللامنطقي إن يودع الله جلا في علاه أمانته بأيدي غير أمينة وبأمة عنصرية متعالية على أمم وشعوب الأرض .. امة لأتعرف معنى الإنسانية .. امة غير قادرة على فهم وإدراك قيم ومبادئ إنسانية .. امة اعجز ما إن تكون قادرة على حمل رسالة الإسلام الحنيف الدين العالمي الإنساني .

 

كما إن نزول القرأن الكريم وهو معجزة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الخالدة بلغة العرب ، فرض على كل مسلم صادق تعلـّم العربية والثقافة العربية والإلمّام بحياة العرب وصفاتهم وشمائلهم قبّل وبعّد ظهور الإسلام العظيم ؛ ليتمكن من تدبّر القرأن الكريم وسيرة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته وال بيته رضي الله عنهم أجمعين . وقد سبّق وأوضحت مدى أهمية ومكانة لغة العرب في الإسلام ، وعن تحديد من هو العربي ومعنى العروبة يقول رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ( يا ايها الناس إن الرب واحد والأب واحد وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم ، وإنما هي اللسان ، فمن تكلم العربية فهو عربي )18. وبهذا يكون كل مسلم عربي مادام يقرأ القرأن الكريم وهو عربي اللغة ويصلي الأوقات الخمسة ويتلوى فيها الآيات القرآنية عربية اللغة ومادام يسعى إلى تدبّر ما جاء به ديننا الإسلامي الحنيف .

 

وبهذا المعنى ينبغي على كل مسلم عامةً وعلى العربي خاصةً إن يفهم حديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حينما قال (حب العرب إيمان وبغضهم نفاق) 19. لأن مَن حبَّ العرب حبَّ لغتهم وثقافتهم ومن حبَّ لغة العرب أدرك وتدبر معاني القرأن الكريم وما جاء به ديننا الإسلامي الحنيف ، وبالتالي سيبلغ الإيمان عقله وقلبه. اما مَن ابغّض العرب فقد ابغّض لغتهم وهي لغة القرأن الكريم ، وقد ابغّض نبيهم وهو عربي . وبذلك فهو ابعد ما إن يكون مؤمناً برسول الله صلى الله عليه وسلم وابعد ما إن يكون متدبراً للقرأن الكريم . وهذه الحقيقة يؤكدها لنا الفاروق عمر الخطاب رضي الله عنه حينما قال (العرب مادة الإسلام) ، أي إن العرب هم المكوّن الأساسي والوحيّد للإسلام الحنيف .

 

ومن خلال تدبر قول الفاروق عمر الخطاب رضى الله عنه ( أهل العراق كنز الرجال و جمجمه العرب و رمح الله في أرضه و أبشروا فان رمح الله لا ينكسر ) ، نستطيع القول بان للعرب مكانتهم الخاصة في الإسلام وإلا فلماذا تعمد عمر الخطاب رضي الله عنه ذكر العرب وتشبيهه لأهل العراق كجمجمة للعرب . فواجب الجمجمة وكما هو معلوم للجميع الحفاظ على الدماغ سالماً من أي صدمات أو كدمات قد يتعرض لها الإنسان فتصيب دماغه بالضرر ، أي إن أهل العراق هم حُمّاة العرب والعروبة واللغة العربية فاستحقوا إن يكونوا رمّح الله عزوجل في الأرض .. وفعلا قد اثبت التاريخ  إن في أهل العراق خير للعرب لطالما كانوا كجمجمة تحمي الدماغ ، كان العراق حامي العرب والعروبة ؛ وكان بحق البوابة الشرقية للأمة العربية بل وخط الدفاع الأول للأمة الإسلامية كلها من شرور المجوس والصفوية الحاقدة  .

 

كما يثبت لنا التاريخ وبما لايقبل الشك انه في الوقت الذي كانت فيه بعض أمم وشعوب الأرض غارقة في ظلمات الكفر والإشراك والتخلف كانت الأمة الإسلامية التي بناها العرب المسلمون تنير للإنسانية برمتها درب العلم والمعرفة والتطور والازدهار والعدالة والخير والصلاح . وما إن تلاشت تلك الدولة المعطاء حتى ضاعت الإنسانية كلها في بحور الظلام والظلم والكفر والإشراك والتخلف . فلم تتمكن إي امة غير امة العرب من النهوض بالإسلام والمسلمين باستثناءات محددة في عهد الدولة العثمانية التي لم تستطيع ضم كافة المسلمين تحت رايتها ولم تتمكن مما تمكنت منه الدولة الإسلامية حينما كان العرب المسلمون يتولون شؤون إدارتها .

 

وبعد هذا العرض الموجز عن عروبة الإسلام وعالميته وكيفية الترابط بينهما وموقف الإسلام من العرب والعروبة ولغتها ومن العصبية القبلية نستطيع الان إن نبيّن موقف البعث من القومية العربية ومدى تطابق نظرته إلى العروبة مع نظرة الإسلام.

 

 

هـ - البعث و العروبة :-

انفرد حزب البعث عن سائر أحزاب امتنا العربية والإسلامية بنظرته الخاصة عن العروبة وترابطها المتين بالإسلام الحنيف .  فقد اعتبر مؤسس البعث احمد ميشيل عفلق رحمه الله واسكنه فسيح جناته سر ديمومة البعث نابعة من الإسلام الحنيف  ، فيقول رحمه الله في هذا الصدد:-

 

(( .. تعرفون بان حزبكم , هذه الحركة القومية ، حركة البعث العربي الاشتراكي انطلقت من مصدر أساسي من نبع أساسي من نبع روحي هو الإسلام العظيم ، الذي أضاء لنا الطريق ، ولقد حمل هذا الحزب منذ بدايته البسيطة المتواضعة هذا القبس الروحي ، هذه النفحة التي ميزته وطبعته إلى زمن طويل ومستقبل بعيد, وهذا هو سر تجدد حيوية هذا الحزب ، وحزب البعث لا يمكن أن يفهم ألا أذا أدركت هذه الناحية , وإلا إذا اعتبرت أساسية ، بل الأساس الأول لانطلاقته ولتصوره للقضية القومية وتاريخها ودورها ومستقبلها ، وفي البعث اقترنت العروبة بالإسلام اقترانا مصيريا..))20.

 

ويوضح  لنا مؤسس البعث احمد ميشيل عفلق رحمه الله واسكنه فسيح جناته عن مدى ترابط العروبة بالإسلام حيث يقول ( ان العروبة جسد روحها الإسلام) ، وبالتالي فان لا قيمة للجسد بدون الروح لان الجسد بدون روح لا يعني لنا أكثر من مجرد جثة هامدة لا حياة فيها . كما إن الروح بلا جسد هي الأخرى لن تعد أبداً على أنها دليل للحياة فعندما تغادر الروح الجسد فان ذلك لايعني بقاء الجسد كجثة هامدة فحسب بل ويعني أيضا إن الروح قد فارقت الحياة فلم تعد قادرة على التأثير في عالمنا .. وهذا هو حال الترابط بين العروبة والإسلام فالعروبة بلا الإسلام جثة هامدة لاحياه فيها والإسلام بدون العروبة لن يقوى على التأثير في عالمنا . إن نظرة مؤسس البعث لهذا الترابط العميق والأزلي بين العروبة والإسلام ينم عن فهم وإدراك حقيقي لحقيقة العروبة ولجوهر الإسلام الحنيف . فهو مطابق لما جاء في  قول سيدنا عمر الخطاب رضي الله عنه حينما قال ( العرب مادة الإسلام ) .

 

كما أشارت المادة العاشرة من دستور حزب البعث العربي الاشتراكي والتي اقرها المؤتمر التأسيس للحزب في عام 1947 إلى إن العربي هو من كانت لغته عربية ، وعاش في الأرض العربية أو تطلع للعيش فيها ، وامن بانتسابه إلى الأمة العربية . أي إن العربي في نظر البعث هو من تتوفر فيه الشروط الآتية :-

 

1- لغته عربية .

2- يعيش في الأرض العربية أو يتطلع للحياة فيها .

3- يؤمن بانتسابه للأمة العربية .

 

وبالتالي فان البعث بهذا الحال قد طابق مع ما جاء في حديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حينما قال ( يا ايها الناس إن الرب واحد والأب واحد وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم ، وإنما هي اللسان ، فمن تكلم العربية فهو عربي )21.

 

ومن الجدير بالذكر هنا إن نبين بعضا مما جاء في كتابات مؤسس البعث احمد ميشيل عفلق رحمه الله واسكنه فسيح جناته عن العروبة وعن ترابطها بالإسلام ، ففي عام 1940 يقول مؤسس البعث عن القومية العربية :-

 

(( .. القومية التي ننادي بها هي حب كل شيء. هي نفس العاطفة التي تربط الفرد بأهل بيته، لان الوطن بيت كبير والأمة أسرة واسعة. والقومية ككل حب، فتعم القلب فرحاً وتشيع الأمل في جوانب النفس، ويود من يشعر بها لو إن الناس يشاركونه في الغبطة التي تسمو فوق أنانيته الضيقة وتقربه من أفق الخير والكمال، وهي لذلك غريبة عن إرادة الشر وأبعد ما تكون عن البغضاء. إذ إن الذي يشعر بقدسيتها ينقاد في الوقت نفسه إلى تقديسها عند سائر الشعوب فتكون هكذا خير طريق إلى الإنسانية الصحيحة... وكما إن الحب لا يوجد إلا مقرونا بالتضحية فكذلك القومية، والتضحية في سبيلها تقود إلى البطولة. إذ إن الذي يضحي من اجل أمته دفاعا عن مجدها الغابر وسعادة مستقبلها، لأرفع نفساً وأخصب حياة من الذي يحصر تضحيته في شخص واحد..)) 22.

 

وبهذا المعنى فالقومية عند البعث لها معنى أنساني قائم على المحبة وعلى الانتماء الطبيعي للمحيط بدون أي اختلاق أو ابتداع ، فمحبة البعثي للعرب هنا كمحبة الإنسان لأهل بيته وأسرته .

 

ويقول مؤسس البعث في حديث أخر عن القومية عام 1982:-

(( عندما أقول. عروبة، تعرفون بأنني أقول .. الإسلام أيضا،لا، بل الإسلام أولا.. العروبة وجدت قبل الإسلام، ولكنه هو الذي أنضج عروبتنا، وهو الذي أوصلها إلى الكمال، وهو الذي أوصلها إلى العظمة ، وإلى الخلود..هو الذي جعل من القبائل العربية أمة عربية عظيمة، أمة عربية حضارية- فالإسلام كان، وهو الآن، وسيبقى، روح العروبة، وسيبقى هو قيمها الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية. هذا هو الإخلاص للشعب، هذا هو حب الشعب، هذه هي الحقيقة )) 23.

 

ومما تم ذكره أنفا يبين لنا مؤسس البعث حقيقة لألبس فيها أبدا ، فالإسلام هو من جعل من قبائل العرب المتفرقة امة عظيمة لها رسالتها الإنسانية الخالدة وهي رسالة الإسلام الحنيف لسائر أمم وشعوب الأرض وهي رسالة حضارية ..

 

اما في ما يقوله مؤسس البعث عن سبب حبه للعرب وللإسلام ففيه خير تعبير عن مدى وعي وإدراك هذا القائد العظيم للإسلام الحنيف ولجوهره وفحواه :-

(( بدافع من الحب للأمة العربية، أحببنا الإسلام، منذ السن اليافعة. وبعد أن اقتربنا أكثر من فهم الإسلام، أضحى حبنا لأمتنا يتلخص في حبنا للإسلام، وفى كون الأمة العربية هي أمة الإسلام )) .

 

إن أي منصف للحق وللحقيقة لابد عليه إن يثني على هذا القائد والمفكر العظيم ولابد له إن يفتخر بهذا المسلم الذي لم يولد وهو مسلم ولكنه فاق كثير ممن ولدوا وهم مسلمون في حبه ووعيّه وإدراكه للإسلام الحنيف ، فحباه الله عزوجل بان يتوفاه وهو مسلم مؤمن قد أدى مسؤوليته بكل وفاء وشجاعة وحكمة وذكاء ، وان جعل فكره بعد عقود طوال من الزمن - والذي نحن اليوم بصدده - محط اهتمام واحترام لكل من يبحث عن حقيقة الاسلام وعن حقيقة العروبة وعن سبل نهضة العرب برسالتهم الخالدة الخاتمة رسالة الاسلام العظيم .

 

اما عن انجازات الإسلام الحنيف لأمة العرب وعن معنى حياة العرب والتي يصفها مؤسس البعث بأنها أي حياة العرب جهاد قبل كل شئ فيقول رحمه الله :-

 

(( لقد ولد الإسلام في أرض العروبة، وضمن تاريخها وأهلها، لكنه أصبح هو أباها، لأنها ابتداء من الإسلام ولدت ولادة جديدة، وأضحت أمة عظيمة تاريخية، لها دور أساسي في تاريخ الإنسانية، وفى صنع مستقبل الإنسانية. الإسلام أعطى للأمة العربية مسئولية الدور الإنساني العظيم، وأعطى العرب مذاق الخلود وطعم الحياة الحقيقية، التي هي جهاد قبل كل شئ، وفكرة ومبدأ وعقيدة، ولا خوف على العروبة مادامت مقترنة بالإسلام، لأنه كفيل بأن يجددها ويوقظ فيها هذه النزعة إلى السماء.. إلى الخلود.. إلى الأفق الكوني.. إلى البطولة وحمل الرسالة )) .

 

وعن المسالة التي طالما تحجج بها أعداء البعث وأعداء العروبة ، يقول رحمه الله :-

(( .. لنسم الأشياء بأسمائها وصفاتها المميزة، فنستبدل بالقومية (العروبة) وبالدين (الإسلام) تظهر لنا المسألة تحت ضوء جديد، فالإسلام في حقيقته الصافية نشأ في قلب العروبة وأفصح عن عبقريتها أحسن إفصاح وساير تاريخها وامتزج به في أمجد أدواره، فلا يمكن أن يكون ثمة اصطدام.

 

كثيرا ما نسمع أأنتم أفضل من هذه الأمة أو تلك؟! أنها مرت على هذه المراحل ونجحت بهذه الأساليب؟!

 

لسنا ندعي إننا أفضل من غيرنا، لكننا مختلفون عنهم: وهذا الاختلاف هو الذي يجعلنا عربا ويجعلهم غير عرب. ولسنا نقول بضرر الاطلاع على النظريات الرائجة عندهم بل نعتقد إن فائدة هذا الاطلاع يجب أن تبقى سلبية، أي إن نعرف بواسطته كل الأشياء التي ليست لنا، فإن ذلك يقربنا من فهم حقيقتنا وحاجتنا.. ))24.

 

فهنا يبين لنا مؤسس البعث رحمه الله إن اعتزاز البعث بالعروبة كونها امتزجت بالإسلام من غير إن أي تعالي عن بقية الامم . بل على العكس فهو يرى بضرورة اطلاع العرب على نظريات وتجارب غيرهم من شعوب الأرض ليتسنى لهم معرفة ما لا يمتكله العرب .

 

وعن دور الدين في حياة الإنسان وفي حياة العرب والعربي ، يقول مؤسس البعث عام 1956 :-

(( .. إن الحزب لا يرى هذا بل يرى أن الدين تعبير صادق عن إنسانية الإنسان، وانه يمكن إن يتطور ويتبدل في أشكاله، وان يتقدم أو يتأخر ولكنه لا يمكن أن يزول..إذن فالدين في صميم القضية العربية والمواطن العربي الذي نعمل لتكوينه لم نرض له إن يتكون تكوينا ناقصاً أو زائفاً، وأن نكتم عنه جانباً من الحقيقة أو نصف الحقيقة فنعطيه فكرة تخدمه وقتاً من الزمن ثم لا تعود صالحة،

 

فالمناضل البعثي يجب أن تتوافر فيه شروط صعبة جدا وتكاد تكون متناقضة، فهو حرب على كل تدجيل باسم الدين والتستر وراءه لمنع التطور والتحرر والإبقاء على الأوضاع الفاسدة والتأخر الاجتماعي، ولكنه في الوقت نفسه يعرف حقيقة الدين وحقيقة النفس الإنسانية التي هي ايجابية قائمة على الإيمان لا تطيق الإنكار والجحود، وان جمهور الشعب ليس هو العدو بل هو الصديق الذي يجب أن نكسب ثقته. صحيح انه مضلل مخدوع ولكننا نحن لا نستطيع أن نكشف له انخداعه إلا إذا فهمناه وتجاوبنا معه وشاركناه في حياته وعواطفه ومفاهيمه، فنحن في كل خطوة تخطوها نحوه نستطيع إن نطمع بخطوة من جانبه يأتي بها إلينا، لذلك يكون المناضل البعثي مهددا دوما بالخطر: فهو إن سلك هذا السلوك مهدد بأن يتزمت وان ترجع إليه عقليته الرجعية التي ثار عليها، وهو إن سلك سلوكا آخر معاكسا.. )) 25.

 

ان هذه الكلمات تستحق من كل عربي ومن كل مسلم الوقوف عندها مليّاً ، والتبصّر فيها ووعي وإدراك فحوّاها . فمؤسس البعث يشدّد بكلامه هذا على ضرورة وأهمية دور الدين في حياة البشر ؛ وبنفس الوقت على ضرورة تخليص الدين من كل ما لحق به من بدع وتدجيل بأسمه . ويعتبر الإيمان هو الحالة الطبيعية التي خلق الله سبحانه وتعالى عباده عليها ،  محذراً جميع مناضلي البعث منذ ذلك الحين أي قبل اكثر من ستة عقود من الزمن بأن ينتبهوا لهذه الحقيقة فلا يجعلوا من المواطن المخدوع والمُضّلل بشعارات الرجعية عدواً لهم بل على العكس فالمواطن هو صديق البعث وينبغي كسب ثقته وتقريبه ألينا .

 

اما ما جاء في خطاب مؤسس البعث في الجامعة السورية عام 1943 فهو خير دلالة على مدى فهم ووعي مؤسس البعث لحياة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فحينما يقول مؤسس البعث رحمه الله :-

(( لقد كان محمدا كل العرب فليكن اليوم كل العرب محمدا ))26.

 

فهو يذكر حقيقة مهمة جدا ينبغي على كل مسلم وعربي إن يعيها جيدا ويدركها تمام الإدراك . فمؤسس البعث يرى بأن رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قد سخّر كل إمكانياته لخدمة العرب فأنقذهم من ظلمات الكفر والإشراك والظلم والتفرّق إلى نور التوحيد والعبادة والعدل والتوحّد فجعل من قبائل عربية متنازعة متفرقة امة عظيمة . فمن واجب كل عربي اليوم إن يرد الجميل للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقوم كل عربي بما قام به محمد صلى الله عليه وسلم فيعمل على وحدّة العرب وعلى نهضتهم وعلى تأدية دورهم التاريخي الحضاري بحمل رسالة العرب الكبرى رسالة الإسلام الخالدة الخاتمة .

 

وعن سبب اختيار الله عزوجل للعرب بحمل رسالته الخالدة الخاتمة يقول مؤسس البعث رحمه الله :-

(( إن الله  قادر إن ينزل القرآن على نبيه في يوم واحد، ولكن ذلك اقتضى أكثر من عشرين عاما، وهو قادر إن ينصر دينه ويهدي إليه كل الناس في يوم واحد، ولكن ذلك لم يتم في اقل من عشرين عام، وهو قادر إن يظهر الإسلام قبل ظهوره بعشرات القرون وفي أية أمة من خلقه، ولكنه أظهره في وقت معين وفي حينه، واختار لذلك الأمة العربية وبطلها الرسول العربي. وفي كل ذلك حكمة، فالحقيقة الباهرة التي لاينكرها إلا مكابر، هي إذن، إن اختيار العرب لتبليغ رسالة الإسلام كان بسبب مزايا وفضائل أساسية فيهم، وان اختيار العصر الذي ظهر فيه الإسلام كان لان العرب قد نضجوا وتكاملوا لقبول مثل هذه الرسالة وحملها إلى البشر، وأن تأجيل ظفرالاسلام طوال تلك السنين، كان بقصد إن يصل العرب إلى الحقيقة بجهدهم الخاص وبنتيجة اختبارهم لأنفسهم وللعالم  وبعد مشاق وآلام، ويأس وأمل، وفشل وظفر. اي إن يخرج الإيمان وينبعث من أعماق نفوسهم، فيكون الإيمان الحقيقي الممتزج مع التجربة، المتصل بصميم الحياة. )) .27

 

بهذا الحديث يبين لنا مؤسس البعث بان اختيار الله عزوجل للعرب في ذلك الزمان وبتلك الحال التي كان يمروا بها كان بعد إن بلغ العرب المبلغ المطلوب فنضجوا ونضجت معهم تجربتهم فأصبحوا الأقدر على فهم ووعي وإدراك قيم ومبادئ الإسلام الحنيف وثورته العظيمة المعطاءة . قال تعالى ( الله اعلم حيث يجعل رسالته) الإنعام 124.

 

وعن عالمية الإسلام وإنسانيته وترابط العروبة به يقول مؤسس البعث رحمه الله :-

( .. ولكن هل يعني هذا إن الإسلام وجد ليكون مقصوراً على العرب؟. اذا قلنا ذلك ابتعدنا عن الحق وخالفنا الواقع. فكل أمة عظيمة، عميقة الاتصال بمعاني الكون الأزلية، تنزع في أصل تكوينها إلى القيم الخالدة الشاملة. والإسلام خير مفصح عن نزوع الأمة العربية إلى الخلود والشمول فهو إذن في واقعه عربي وفي مراميه المثالية أنساني. فرسالة الإسلام إنما هي خلق إنسانية عربية. إن العرب ينفردون دون سائر الأمم بهذه الخاصة : إن يقظتهم القومية اقترنت برسالة دينية، أو بالأحرى كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية. فلم يتوسعوا بغية التوسع ولا فتحوا البلاد وحكموا استناداً إلى حاجة اقتصادية مجردة، أو ذريعة عنصرية، أو شهوة للسيطرة والاستعباد.. بل ليؤدوا واجباً دينياً كله حق وهداية ورحمة وعدل وبذل. أراقوا من اجله دماءهم، واقبلوا عليه خفافاً متهللين لوجه الله. وما دام الارتباط وثيقا بين العروبة والإسلام، وما دمنا نرى في العروبة جسماً روحه الإسلام، فلا مجال إذن للخوف من إن يشتط العرب في قوميتهم. أنها لن تبلغ عصبية البغي والاستعمار... وطبيعي  إن العرب لا يستطيعون أداء هذا الواجب إلا اذا كانوا أمة قوية ناهضة، لان الاسلام لا يمكن إن يتمثل إلا في الأمة العربية، وفي فضائلها وأخلاقها ومواهبها. فأول واجب تفرضه إنسانية الإسلام إذن هو إن يكون العرب أقوياء  سادة في بلادهم )28.

 

وكل من يقرأ بتمعن هذه السطور سيجد نفسه إمام حقيقة عظيمة تفصح عن مدى وعي وإدراك مؤسس البعث لجوهر الإسلام وجوهر العروبة ومدى ترابطهما الأزلي والذي لايتقاطع مع عالمية الإسلام وإنسانيته إنما وبسبب هذا الترابط المهم ( ترابط العروبة بالإسلام ) فقد تمتع الإسلام بأمة اختصها الله عزوجل من بين سائر الامم بان تكون بهذا القدر الكبير من الإنسانية . بل إن دعوة البعث للعرب للنهوض تتضمن من بين ما تتضمنه دعوة العرب للنهوض بحمل رسالة الإسلام إلى باقي أمم وشعوب الأرض وليس مجرد دعوة لنهضة العرب فحسب .

 

 

ملاحظة :

1- إن ماجاء أعلاه من اقتباسات عن موقف مؤسس البعث رحمه الله واسكنه فسيح جناته من العروبة وترابطها بالإسلام لم تكن الوحيدة التي جاءت في كتابات القائد المؤسس إنما هي عينة بسيطة منه .

 

2- إن المقصود بأصحاب الفتاوى التكفيرية هما صنفين من رجال الدين ، أولئك المحسوبين على امتنا العربية وآخرين محسوبين على امتنا الإسلامية والإسلام منهم براء كما هو الحال مع فتاوى ملالي الكذب والشعوذة والدجل في إيران.

 

3- يتبع بأذن الله تعالى ، الجزء الثالث عن شرعية اشتراكية البعث .

 

 

الهوامش :

 

1- مسند الإمام أحمد (5/411). 

2- أسباب النزول للواحدي ، ص 236 ، وتفسير ابن كثير (8 / 79) نقلاً عن كتاب الولاء والبراء ص 228 .

3- صحيح مسلم : كتاب الإمارة ، ح 3 / 1476 ، ح 1848. 

4- عفيف عبد الفتاح طبارة ، اليهود في القران ، ص 27. 

5- الراوي : جندب بن عبد الله و أبو هريرة ، المحدث : الألباني ، المصدر: صحيح ، الجامع - الصفحة أو الرقم  6442خلاصة الدرجة : صحيح. 

6- المصدر: ابن تيمية - مجموع الفتاوى. 

7- مسند الإمام أحمد (5/411). 

8- مقدمة ابن خلدون ص 438 الطبعة الرابعة دار إحياء التراث العربي بيروت . 

9- اقتضاء الصراط المستقيم ص 161. 

10- تفسير ابن كثير للقران الكريم ، سورة يوسف ، الآية 2 . 

11- شبلي العيسمي عروبة الإسلام وعالميته ص47. 

12- المصدر نفسه ، ص46. 

13- المصدر نفسه، ص47-48. 

14- الطبري الجزء الثاني ص 224.   

15- شبلي العيسمي عروبة الإسلام وعالميته ص 35. 

16- الأغاني ج 3 ص 98-99. 

17- شبلي العيسمي عروبة الإسلام وعالميته ص 36. 

18- اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص 169 

19- المصدر نفسه ، ص156.

 

20- نفهم الماضي من خلال تحملنا لمسؤولية الحاضر ، كلمة القائد المؤسس أثناء حفل تقلده وسام المؤرخ العربي من قبل اتحاد المؤرخين العرب في 23/ 8 / 1987.

 

21- المصدر نفسه، ص 169. 

22- القومية حب قبل كل شيء ، 1940.

 

23- الوطنية السودانية هي العروبة والعروبة السودانية هي الإسلام ، حديث القائد المؤسس مع وفد حزب الاتحاد الديمقراطي السوداني في 14/1/1982 .

 

24- في القومية العربية ، حديث القائد المؤسس 1941.

 

25- قضية الدين في البعث العربي ، حديث القائد المؤسس إلى الأعضاء والأنصار في طرابلس ، نيسان 1956.

 

26- ذكرى الرسول العربي ،خطاب القائد المؤسس الذي ألقاه على مدرج الجأمعه السورية في 5 نيسان عام 1943.

27- المصدر نفسه . 

28- المصدر نفسه .

 

 

تم بحمد الله وتوفيقه .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الجمعة / ٠٨ مـحـرم ١٤٣١ هـ

***

 الموافق  ٢٥ / كانون الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور