كـتــاب - احْتِلالُ العِرَاقِ
العوامل التي ساعدت على نجاحه والأسباب التي أفشلت أهدافه

﴿ الجزء الاول ﴾

 
 
شبكة المنصور
حــديــد الـعـربـي

طبع هذا الكتاب بنسخ محدودة في دار السلام بغداد عام ٢٠٠٩م تحدياً للغزاة وأذنابهم الذين لم يسلم من همجيتهم ووحشيتهم وحقدهم حتى الكتاب والقلم.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً

سورة البقرة : من الآية  143

 

 

مقدمة

 

 

قد يتصور البعض أن من غير المناسب نقد الأخطاء، معتقداً أن في ذلك انتقاص ممن يوجه له النقد، ومع إن هذا الاعتقاد كان ولا زال يشكل أحد أهم أسباب الوقوع في الخطأ والزلل، لكنه يحض بكثير من المؤيدين والأنصار، مستغفلين لأنفسهم ووعيهم، ومنفصلين عن حقائق تاريخهم، وكأنهم يسهمون بشكل أو بآخر في إرغام أمتهم على المكوث في حالة التردي والتخلي عن أداء دورٍ أراده الله تعالى لها، بعد أن اختارها دون غيرها لتحمل رسالته حتى يوم الدين.

 

لقد كان لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائد هذه الأمة ومعلمها ومنقذها من ضلالها، قدوة حسنة، فالله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (سورة الأحزاب، الآية:21) وهو الذي تنزل عليه التوجيه والنقد الرباني في مواضع عديدة، لم يؤخرها لأسبابٍ كالتي يريد هؤلاء تأجيل النقد حتى يحين الوقت المناسب، منها قوله تعالى في سورة التوبة، الآية 13: { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} والآية 113: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، وقوله في سورة الأنفال، الآية 67: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، ومنها ماجاء في سورة عبس: {عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى }، لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلقيه هذا العتاب الرباني ليختلف بشيء عما كان يتنزل عليه من الآيات، فكان تواضعه لله تعالى كما كان حين أنزل عليه من سورة القلم، الآية 4: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، ومن هذا يستدل على أن النقد لا يستهدف منه الإذلال أو الانتقاص، بل هو وسيلة مثلى للتقويم والتصحيح، أمر الله تعالى بها عباده حين قال في سورة آل عمران، الآية110: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.

 

لقد وهنت امتنا وهناً لم يعد بمقدور أبناءها السكوت عليه، أو الرضوخ له، فذهب كل غيور فيهم يبحث عن وسيلة وطريق يحاول من خلاله استنهاض ذاته وأمته من وهنها وتردي حالها ونكوصها عن أدوارٍ كانت تؤديها، كلٌ حسب قدرته وطاقته ووعيه وهمته، فكان من بين هؤلاء الغيارى الأخيار رجال نبتوا في تربة العراق، أرض التاريخ والحضارات والبطولات والمنجزات، أنضجوا حركة تاريخية امتلكت كثيرا من أسباب النجاح للنهوض بأمتهم وتغيير واقعها المنحرف، وقد هيأ الله تعالى لهم فرصة العمل والتغيير في تموز عام 1968م، فعملوا وجاهدوا ما وسعهم على إرساء أسس قاعدة لنهضة الأمة ومركزاً للإشعاع فيها، بذلوا في سبيلها أيام أعمارهم ودمائهم وأرواحهم سخية، كي يتحقق الحلم، أو على أقل التقديرات وضع أقدام أبناء الأمة وأجيالها على الطريق الصحيح للنهوض ومعاودة المسير وحمل الرسالة الخالدة.

 

وكانوا بشراً برزوا من بين صفوف الأمة، عاشوا معاناتها وكابدوا واقعها المشوه والمنحرف عن أصالتها وعمقها التاريخي العظيم، ولم يكونوا ملائكة، فهم كغيرهم يصيبون ويخطئون، وخيرهم التائب والعائد عن خطئه، لكنهم تميزوا عن غيرهم من أبناء أمتهم، أنهم لم يركنوا للواقع ولم تقهرهم ظروفه القاسية، بل شنوا صولاتهم الجسور، فغيروا وأصلحوا وفتحوا للنور منافذ كثيرة، أنارت الدرب لأبناء الأمة كي يواصلوا مسيرة الخلاص، والأهم من كل هذا، فإنهم بددوا الوهم القائل: أن أمتنا قد خوت واستنفذت ما بجعبتها، وما عاد لها دور ريادي تؤديه بين أمم الأرض كما كانت تفعل من قبل.

 

ومع مهمات جسيمة كهذه، عجز عن أدائها غيرهم طيلة قرون عديدة، كان متوقعاً أن تعترض مسيرتهم عقبات جمة وتحاك لهم مكائد شتى، ولم يكونوا بغافلين عنها، وقد أعدوا لمواجهتها ما أمكنهم من قوة ومن رباط الخيل، وحسبهم أنهم واجهوها، وأثبتوا أن الأمة قادرة على تجاوز كل العقبات التي تعترض مسيرتها نحو النهوض لو أرادت ذلك وعقدت عزمها عليه، فقد واجهت هذه الحركة التاريخية بجزء يسير من طاقات الأمة وإمكاناتها وقدراتها طيلة خمس وثلاثون سنة كل هذه العقبات والمكائد وحققت عليها الانتصارات الباهرة، وأزاحتها عن طريقها.

 

ولو لم تكن الأمة قد غُيبت عن أداء أبسط أدوارها وواجباتها تجاه العراق وحركته التاريخية المجيدة من قبل حكامها لما تمكن حلف العداء التاريخي للأمة من اجتياح العراق وتدمير منجزات الأمة التي حققتها هذه الحركة المباركة على أرضه، بعد أن مهد له بحصار دام ثلاث عشرة سنة.

 

فمن أين استقت هذه الحركة المباركة فكرها ومنهجها في الثورة والتغيير، وما هي الأسباب والدوافع التي أدت بها لكي تنهج نهجها، ومن هم أعداؤها، وما هي دوافعهم التي أوجبت عليهم هذا العداء، وما هي الأسباب الداخلية والخارجية التي ساهمت في تسهيل غزو العراق، وهل تخلت هذه الحركة التاريخية عن مشروعها بمجرد نجاح الأعداء بغزو العراق، أم أنها لازالت تواصل مسيرتها حتى تحقق أهداف أمتها كاملة غير منقوصة، ومن أين تستمد عزمها وإصرارها على المواصلة والحراك؟

 

كل تلك الأسئلة سنحاول الإجابة عليها باختصار وتركيز شديدين، ولا ندعي أننا نحيط بكل جوانب هذا الموضوع الكبير الشائك، لكنه قدر استطاعتنا، آملين أن يكون أبناء الأمة الغيارى على أمتهم والمؤمنين برسالتها المجيدة ممن يستثمرون العبر والدروس من الأخطاء والهفوات في سبيل تجاوزها، آخذين بنظر الاعتبار أن ما تحقق للأمة، هي مكاسب تحققت بفعل تضحيات كبيرة وعزيزة، يجب التمسك بها، ومواصلة البناء على ما تحقق منها، وعدم اعتبار الأخطاء ذرائع للنكوص والتراجع مرة أخرى، فليس من عملٍ كبير يمتلك قيمة تاريخية إلا ورافقته أخطاء وهفوات، والعيب ليس في الخطأ، لكنه في عدم القدرة على تصحيحه، وتجاوزه إلى ما هو صحيح وإيجابي.

 

وقد قسمنا الكتاب على الشكل التالي:

مقدمة

الفصل الأول : أسباب ظهور البعث كحركة تاريخية، ويتضمن ثلاثة مباحث هي :

- حقائق العدوان.

- تنقية التاريخ وتصحيح الواقع.

- اعتلال الأمة وأسبابه.

 

الفصل الثاني : أسباب نجاح الغزو، ويتضمن أحد عشر مبحثاً :

- الأنظمة العربية وأدوارها التآمرية.

- التآمر السياسي.

- صفعة حكام الكويت.

- الحصار الجائر.

- معطيات الواقع ومتطلبات الطموح.

- اختلال الرؤية بين القيادة والجماهير.

- خط الشروع.

- غياب روح المنافسة في العمل السياسي.

- التهاون في فضح المجرمين.

- عدم وضوح أهداف التحول.

- أوهام التحول.

 

الفصل الثالث : مقدمات في المقاومة، ويتضمن تسعة مباحث هي :

- أسس للمقاومة.

- متى انطلقت المواجهة.

- سطوة الروح.

- مظاهر الغرور.

- التحرير العميق.

- بين استلهام العقيدة وتسييسها.

- جراح نازفة.

- سياسات الاحتلال في العراق إلى أين؟.

- تداعيات الغزو

 

نسأل الله تعالى التوفيق والسداد، وأن يجعل أبناء أمة خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يهديهم سواء السبيل، فلا تهون عليهم الدماء الزكية التي أُريقت على ثرى العراق وكل أرض العرب في سبيل عودتهم لما أراد لهم وارتضى، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، والله غالب على أمره.

 

المؤلف

٣٠ / ١٢ / ٢٠٠٩م

 

 

الفصل الأول

أسباب ظهور البعث كحركة تاريخية

حقائق العداء

 

اختط الأعداء للعرب طريقين ثالثهما محرمٌ عليهم حرمةً مغلظة، أياً منهما سلكوا كانت فيه هلكتهم، أو على أقل التقديرات وهنا يزيد على وهنهم حتى يهلكوا، طريقان تضافرت على رسم معالمهما كل جهود وإمكانات أعداء الأمة التاريخيين، خلائف إمبراطوريات الشرّ والشرك والعهر والرذيلة، حلف الشيطان وجنده، ومن يسر وسهل أمرهم وانضوى تحت راياتهم من أعراب الردَّة والجاهلية:

 

أولهما: قبول العرب بالتخلي عن الإسلام والعودة إلى جاهليتهم مكتفين بالشعر والهيام بليلى، كلٌّ له ليلاه يسجد ويركع إليها، وهو مطلب قديم يتجدد كل حين، وهدف مركزي تطلع الصليبيون وارثي عدوانية الإمبراطورية الرومانية، والصهاينة اليهود خزايا البشرية والتاريخ، والفرس مخلفات الإمبراطورية المجوسية وثقافة زرادشت وخبث إسماعيل الصفوي لتحقيقه منذ عصر الرسالة المحمدية وحتى يومنا هذا، وبذلوا في سبيله أقصى جهودهم ونضح أفكارهم وكنوز أموالهم، وحاكوا في مساره الدسائس والمكائد وخاضوا الحروب الدامية.

 

ذلك لأنهم تعلموا درساً بليغاً من أحداث التاريخ، يوم توحد العرب بالإسلام، فانطلقوا بسرعة مذهلة كالطوفان اكتسحوا خلال أعوام قليلة كل ما بناه أو استحوذ عليه الشيطان وأتباعه على تخوم الأرض في مشارقها ومغاربها من أوكارٍ للشرك ومخابئ للظلام.

 

فالإسلام ليس عنصراً مضافاً لعناصر وحدة العرب، من لغة وتاريخ وارض ونسب وموارد ومصير مشترك، وليس سبباً داعماً لأسباب قوتها، إنما هو عبارة عن عملية تنقية وتطهير للروح والنفس، التي لو خَبُثت – كما هي اليوم – فلن يتوحد العرب مهما زدنا من عناصر جديدة على عناصرها القديمة، فأنانيات النفوس لا تنزع إلا إلى الفردية والتطلع للاستحواذ لا العطاء.

 

وبهذا يكون العرب بعد تمزقهم قد فقدوا مبررات ومسببات موقعهم كأمة واحدة، وكقوة هائلة محركة لأحداث التاريخ باتجاه مختلف تماما عن مساراتها المفروضة من قبل أعدائها ومناوئيها.

 

ثانيهما: القبول بالإسلام لا كما هو في جوهره وصورته التي نزل بها الوحي وبشر وبلَّغ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأرسى له من دعائم، إنما الإسلام الذي أفقدوه جوهره وشوهوا صورته بمكرهم ودسائسهم وفتنهم، بعد أن جندوا كل من أضاع له الإسلام مغنما ومكسبا وحتى يومنا هذا، بحملات تشويه وتزييف متلاحقة، بما يجعل من صورته المزيفة هذه حائلا دون توحد الأمة وكياناتها المصطنعة وفقا لذلك، بل سبباً أساسياً في شرذمة الأمة إلى كيانات طائفية ومذهبية يكفر بعضها بعضا، وتُنْكِر إحداها على الأخرى دينها وطريقها وأفعالها وإن كان سليماً أو صحيحا.

 

حتى أن دويلات العرب التي تشكلت إثر الحرب العالمية الأولى كانت قد برزت إلى الوجود وفقا لهذه الأسس والمفاهيم وكناتج لها، وقد شهد القرن الماضي فصول عديدة من هذه المؤامرة الكبرى احتقنت أحقادها بين أطراف عدة داخل كيان الأمة، كان مردّ كثير منها طائفيا مذهبيا، أو بمعنى أخر، تحزبا دينيا وفقاً لصيغ التشويه لا الأصل.

 

ومما عزز من خطورة هذا المسلك أن الفرس تمكنوا من تحقيق أهدافٍ سعى أعداء العروبة والإسلام بكل أشكالهم على توفير وإنضاج مستلزماتها وتمهيد سبلها، متخذين من الإسلام ستارا وغطاءا وهدفاً في آن معاً للنفاذ إلى مواقع ومواطن كان يصعب على غيرهم الوصول إليها، أو تحقيق انجاز فيها، للحساسية التي أفرزتها تجارب التاريخ من عداء الصليبيين والصهاينة اليهود المفضوح والمكشوف.

 

فخلال معركة قادسية صدام المجيدة التي امتدت من 4 أيلول 1980 حتى 8 آب 1988م تمكن الكيان الصهيوني من تدمير مفاعل تموز النووي كعنوان للنهوض والاقتدار العربي. ثم تمكن من القضاء على المقاومة الفلسطينية في لبنان، وتمكن من جعل الجنوب اللبناني سياجاً فارسياً يقيه الهجمات الفدائية. كما تمكن من إصدار قراره بضم هضبة الجولان السورية إلى كيانه إلى الأبد. وتمكن أيضاً من إصدار قراره بجعل القدس عاصمة لكيانه. وختمها بفرض الحلول الاستسلامية على الأنظمة العربية وعلى المقاومة الفلسطينية. كل تلك المنجزات الصهيونية تحققت بفضل الفرس وعدوانهم على العراق والأمة، ولولاهم لما أمكنه فعلها.

 

ولهذا يتمسك طغاة الإمبريالية اليوم بالفرس كشركاء ومعول هدم في معركة العراق والأمة كلها، لينجزوا بهم ومن خلالهم فصولاً مهمة وحاسمة من أهدافهم، ويحاولون عقر أقدام من تمرد فسار بطريق آخر غيرهما فأغضب كل الطغاة والمتجبرين، وأقضّ مضاجع الشيطان وأرقه، فالصورة التي فرضوا مشاهدها على واقع العراق بشكل خاص والأقطار العربية الأخرى بشكل عام هي ناتج لعمليات تثقيف خفي مبرمج وتجريف متواصل لشواطئ نهري الحياة العروبة والإسلام معاً، فعند محاولة تفكيك هذه المشاهد سنجد الآتي:

 

مشهد يوحي بضحالة العرب وقِصر تفكيرهم حينما يُظْهِر بعضهم كوحوش كاسرة تنهش بلحم إخوانهم العراقيين، محاولين إحراق كل عناصر وحدتهم وموجباتها وذرها في أعينهم، كي تموت الرابطة القومية بعد أن يمقتها العرب أنفسهم، حينما تسود ثقافة العداء بين العرب حتى يتوهم البعض أن الأعداء أرحم منهم، وبذلك يكون وجودهم المباشر أو غير المباشر مقبولاً ومستساغاً ومبررا.

 

ومشهد أخر مشابه غايته جعل العراقيين أنفسهم يبغض بعضهم بعضا، ولهذا فقد وضعوا منذ البداية في حساباتهم نتائجها، فهيئوا لهم أسس كيانات مجهريه، أو ما سمي بالفدراليات، وشكلوا مشهدها بأبشع الجرائم وأقذرها على مرّ التاريخ، ارتكبتها عناصرهم ومرتزقتهم باسم العراق وأهله خلال إحدى أهم مراحل ترسيخ الاحتلال، والتي أطلقوا عليها الحرب الأهلية أو الطائفية، وعززوها باختلاق واقع مزيف يوهم مكونات الشعب بتناقض مصالحها فيما بينها.

 

اختاروا لمشهد عمليتهم السياسية أقذر العملاء وأخسهم نفوسا، ثم أضفوا عليهم صفة الإسلام، فجعلوا لكل مفردات الخيانة والخسة ودناءة النفوس ووضاعتها وخصال الغدر والتوحش مقاربات عربية إسلامية ومرادفات، كأنها لم ترتبط بجواسيسهم، بل بالعرب والعراقيين ومعتقدهم.

 

أضفوا على أغلب هذه المجاميع الممسوخة صفة إسلامية، وجعلوا منها مراجع وأئمة وسادات، لتكون مشاهد أفعالهم القذرة مصنفة على إنها هي فعل الإسلام بعينه، محاولين بذلك زعزعة قيم الإسلام في نفوس المؤمنين.

أوجدوا ما سمي بدولة العراق الإسلامية وجيش المهدي وفيلق بدر وفيلق القدس وغيرها من المسميات، وربطوا بمشاهدها كل همجية المتوحشين واستهتارهم، ليجعلوا من هذه المسميات على قداسة معانيها الحقيقية بعبعاً ترتعد منه الفرائص بمجرد ذكرها، بعد أن ارتبطت صورها بمشاهد الموت البشعة وقوانين هي أقرب لقوانين الغاب في عهودها ما قبل الحجرية.

 

اعتنوا كثيرا بإخراج المشاهد التي تصور العراقي وهو يستهتر بالسلطة، يرتكب كل المعاصي ويبدد الثروات ويفسد في الأرض، وكأن الذي يدفع هؤلاء للقيام بذلك هي القيم والمثل التي تشكل ثقافة الشعب العراقي وسلوكه، مع إنهم ليسوا إلا عبيد أذلاء يأتمرون بأمر المحتل، قدموا على خلف دباباته، بعدما أنجزوا تحصيلهم في الجاسوسية وتفوقوا بالعمالة والخيانة، وقبلها تخلوا كلياً عن عراقيتهم وعروبتهم، وتحولوا بفضله إلى طبقة طفيلية تعتاش وتجمع الثروات بأقذر الوسائل والسبل وأكثرها خسة.

 

كما اهتموا بإظهار من أطلقوا عليهم حكومة وبرلمان وجيش وشرطة وقضاء من أدوات احتلالهم على إنهم هم النخبة من شعب العراق، قادته وخبراء دولته بعدما فضحوهم وأظهروهم على حقيقتهم كمزورين يتخفون خلف عناوين لا تليق بهم ولم يكونوا ليحلموا بها يوما، وصولا إلى تشكيك العراقي والعربي بنفسه وبقدرته.

 

في لبنان كما في غيره من أقطار العرب أوجدوا مشاهد عديدة، كلها تصب في تشويه حقيقة العرب المسلمين وتحطّ من شأنهم وتدفع بالرموز الممثلة لهم سياسيا ودينيا إلى ذات المستنقعات التي يعلق بها الحكام العرب، مقابل تلميع الصورة الفارسية المتسترة بالإسلام والمشوهة له وللعرب وفقا لما يراد لهما أن يكونا.

 

في مقابل ذلك يحاولون باستمرار تجميع مشاهد منمقة للذين يتصرفون وفقا لمفاهيم التخلي عن الإسلام الحقيقي والعروبة الحقة ويلتصقون بمسارات المفاهيم الغربية ومتطلبات مصالحها، مع قروض ومنح ومساعدات تُطيل من أمد أنظمتهم الذليلة.

 

انطلقت أجهزة مخابراتهم تغذي كل فتنة طائفية وتوجد المبررات والمستلزمات لصدامها فيما بينها، حتى في الأقطار التي يحكمها حلفاء وخلفاء لهم ولسياساتهم، وإن كانت بعضها لا تتجاوز التراشق بالكلام، لإقناع العرب أن الكيان العربي لا تستقر فيه الأحوال وهو يتمسك بالإسلام كعقيدة ومنهج للحياة، ولا بدّ من فكر الغرب وسياسته لحل هذه الإشكاليات المتفاقمة.

 

جعلوا من حكام العرب دمى تحركها سياساتهم وأهدافهم باتجاه تشويه صورة الوحدة العربية، وجعلها كأنها مجرد خيال لا يمكن تحقيقه، بخلافاتهم فيما بينهم واستماتة كلٌ منهم على مصالح كرسيه، ومن ثم إبرازها على أساس أنها تناقضات بين تلك الأقطار وليست بين حكامها، وفي مقابل ذلك فتحوا باب تجزئة الأقطار اثنيا وعرقياً وطائفيا وجغرافيا، بما يجعل المواطن العربي يتملكه اليأس التام من إمكانية تحقق وحدة الأمة، فكيف يستسيغها وهو يرى أقطارها مهددة في وجودها كأقطار، وإمكانية تمزيقها إلى كيانات مجهريه هزيلة صار أمراً وشيكاً.

 

أما السبيل الثالث فهو محرمٌ على العرب مسلكه، والسالك له سيجد نفسه هدفاً لكل طغاة الأرض وكفارها ومشركيها ومنافقيها - كما حصل للعراق - والسبب بسيط غاية البساطة، أن السبيل هذا فيه المحذور الذي تخشاه كل هذه القوى الضالة المضلة، لأنه محاولة لاستحضار القيم والمُثل والأعراف وجوهر الإيمان الذي به انطلق العرب قبل أكثر من 1400سنة محررين لأغلب أصقاع الأرض من سلطان الشيطان وحزبه، ناشرين فيها عدل ربهم ورحمته، الصولة العربية الإسلامية التي اكتسحت أمامها كل الظلمات والمظالم والضلالة، التي فرَّت مذعورة مهزومة إلى حيث الزوايا المظلمة حتى تسنح الفرص بالظهور مجددا.

 

هذا السبيل يتلخص بأنه يتجاوز كل عمليات التشويه والانحراف إلى حيث الينابيع الصافية العذبة، ينهل من معينها ويستحضر قيمها ومثلها وإنجازات رموزها وروادها، ثم يوجد الأرضية الصحيحة الصالحة لإنباتها في واقع الأمة المجدب، ليكون منها قاعدةً للنهوض الحضاري لينطلق نحو تحقيق وحدتها المبنية على أسسها السليمة والقوية القادرة على تمكينها من استعادة دورها الريادي الرسالي، لتعود من جديد طوفاناً يكتسح أمامه ظلم الشيطان وقهره وكفره ودنس أتباعه، وهذا الذي لا تسمح به رؤوس الأفعى، أطراف المؤامرة.

 

ولهذا فقط كانت تجربة البعث في العراق وستبقى هدفاً أساسياً لحلف الشيطان وجنده، لأن قيادة طلائع البعث في العراق كانت قد تميزت في تلمسها لهذا السبيل، وأبدعت في فك رموز طلاسمه المستعصية بفعل التشويه والمكر والخداع، إن لم تكن الوحيدة التي تلمسته وامتلكت أسبابه ووضعت أقدامها فيه ومضت بلا تردد، بعد أن تخطت الواقع المصطنع بجسرٍ عبرت خلاله إلى حيث الينابيع، نتيجة قراءات صحيحة صادقة وواعية للتاريخ وأحداثه، مهتدية بقول الله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}(1) وأفشلت كثيراً من الدسائس والمؤامرات والتشويهات التي طالت الأمة وجوهر إيمانها أن تعيق حركته أو توهن عزمه، ورسمت الصورة الحقيقية الصادقة لجوهر العلاقة بين العروبة والإسلام، وبعد أن وفرت لها من مستلزمات القدرة والنهوض الكثير، متجاوزة كل الطائفيات والانحرافات، لتتمكن ولأول مرة منذ قرون عديدة من جعل روح الإسلام النقي تسري في عروق العرب ليتوحدوا بها ويسعون لاستكمال شروط نهضتهم ومعاودة أداء الدور الذي أراده الله تعالى لهم.

 

عند استيعاب هذه الحقائق فقط يمكننا معرفة أسباب العدوان على العراق بكل أشكاله وأساليبه منذ عام 1968م مرورا بكل المؤامرات والدسائس ومحاولات التعويق التي نفذها عراقيون وعرب وأعاجم حتى عام 1980م عندما تبنى الفرس المجوس أداء هذا الدور نيابة عن حلفائهم وشركائهم في عداء العروبة والإسلام، وصولاً إلى غزو العراق بكل أحلاف الشيطان عام 2003م وما تلاه من جرائم بشعة يندى لها الجبين، ارتُكبت بحق شعب العراق ورجال البعث وحداته، بقوانين وأساليب اجتثاثه والجرائم والفضاعات التي ارتكبت في مساره ولا زالت، وحتى يأذن الله تعالى بنصره المبين.

 

(1) سورة الرعد، الآية:11.

 

 

تنقية التاريخ وتصحيح الواقع

 

إن التفاعل الحضاري الذي نشأ داخل المجتمع العربي خلال مرحلة الانتشار وامتداد الدولة العربية الإسلامية نحو محيطها العربي في العراق والشام ومصر والمغرب العربي، والمعايشة الميدانية لجيوش الجهاد والتحرير لمجتمعات هذا المحيط رافقها انتقال أعداد كبيرة من مجتمع المدينة المنورة إليها خلال خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، بعد أن كان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد وضع قيوداً صارمة على ذلك من قبل، وما ترتب على هذا التعايش من احتكاك وملاحظة وتعامل وتأمل للواقع الجديد وتبادل التأثير، كان قد ترك أثاراً واضحة على منظومة السلوك لمنتسبي هذه الجيوش من خلال المنابع الجديدة والمتعددة الهويات، الهجينة غير الأصيلة والتي تشوهت من خلالها منظومات السلوك والثقافة الاجتماعية عموماً في تلك الأقاليم، فقد كانت أطراف المحيط العربي عرضة للغزو المتواصل منذ القرن السادس قبل الميلاد حتى أمكن تطهيرها بمعارك التحرير التي انطلقت عام 13ه (القرن السابع الميلادي) تعاقبت خلالها ثقافات شتى، بيزنطية وفارسية، مارست تأثيرها قسراً على المجتمعات العربية الخاضعة لاحتلالها، مما شكل بمرور الزمن منظومات سلوكية هجينة غير متجانسة في مفرداتها تماماً، لأنها حُشِرت بفعل الغزو ولم تدخل ضمن أساليب التفاعل الحضاري بين المجتمعات، وبقدر ما تأثرت المجتمعات المحررة بثقافة المدينة المنورة عن طريق القادمين منها فقد أثرت فيهم هي الأخرى، وبخاصة المقاتلين الذين كان كثير منهم من منتسبي القبائل التي أسلم أغلبها بعد الفتح عام 630م، ولم يكونوا قد هضموا ثقافة العقيدة الإسلامية كلياً، التي ترعرعت واكتملت في المدينة المنورة، ولم تستقر العقيدة الجديدة كلياً في نفوسهم ليتمثلوها جيداً فتطرد نقائضها وأضدادها خارج منهج الوعي والسلوك، فيما كانت دوافع بعضهم للجهاد متأتية أصلاً من نخوة قبلية وتعبير كلي عن فروسيتها وشجاعة رجالها في مسار التنافس القبلي المعبر عنه بالحروب، وبعضها كان بدوافع اقتصادية صرفة، ولهذا فقد كانت هذه الأمصار مصادر أولية لتشكيل فقه الفتنة ومبرراتها ومحفزاتها معاً، والتي استهدفت كيان الأمة ونظامها وعقيدتها، الأمر الذي ساعد أعداء الأمة المتربصين كثيراً في تشكيل التيار المعاكس وردة الفعل السلبية لمسار النهوض الحضاري في زمن مبكر جداً لم يتعد الشطر الأول من القرن البكر لانطلاق النهضة العربية الإسلامية، ليتطور بعد سنوات قليلة إلى مستوى أكثر خطراً بتحوله من تيار يتسم بالعبثية والإخلال عن طريق استغلال أحداث معينة إلى مناهج سياسية وفكرية وكيانات تنظيمية نشأت وتطورت في الجسد العربي الإسلامي بسرعة واضحة، وقد حصل ذلك كله بعد دخول أقوام عديدة من خارج كيان الأمة العربية وبالأخص منها الفرس الذين أُدخلوا في حظيرة الإسلام مرغمين بفعل السيف، وهي أمة كانت تشكل أحدى أهم القوى المتنفذة والمتمددة على حساب غيرها من الأمم المجاورة زمناً طويلاً، وتملك خزين ثقافي وعقيدة لا يمكنها التخلي عنهما بيسر وسهولة، ولعدم قدرتها على مواجهة التحدي العسكري وتحقيق أي نصر في هذا الجانب فقد راحت تمزج ثقافتها وعقيدتها بثقافة الفاتحين وعقيدتهم بصيغة التفاعل السلبي في أغلب الأحيان، حتى صارت منبتاً ومرتعاً وسبباً لأغلب التيارات الهدامة والتآمرية على الأمة العربية وعقيدتها الإسلامية.

 

والسبب الأساس في ذلك كان التفاعل الحضاري غير المتزن أو المتكامل في أدواته وأسبابه، فالأعداد الغفيرة التي انتقلت من جاهليتها إلى الإسلام بعد فتح مكة نتيجة شعورها بالعجز وعدم القدرة على مواجهة الإسلام كقوة وفكر وعقيدة وسلوك، لم يسعفها الوقت لتحض بالرعاية والعناية الكافية كي تنتقل بشكل تدريجي ومنظم وتتحول من واقعها الجاهلي الراسخ في الوجدان والسلوك والوعي إلى واقع العقيدة الجديدة المتناقضة معه، كما حصل مع الذين أسلموا قبل الفتح فخرج إليهم السفراء يعلمونهم العقيدة ويرسخون في نفوسهم ثقافتها وسلوكها، مع فارق القدرة على الاستجابة لديهم، حيث كان إسلام هؤلاء خياراً لم ينبع عن ضرورات دنيوية وملجئة، وهذا لم يكن بسب تقصير من طلائع الثورة، صحابة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مطلقاً، لكنها حالة تطلبتها الظروف التي أحاطت بالأمة عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عام 632م، فالردَّة كانت كبيرة وواسعة امتدت على مساحة شبه الجزيرة العربية كلها، تطلبت من قيادة الدولة الفتية والتي لا زالت تعاني من صدمة المصيبة التي حلَّت بها بفقد نبيها وقائدها ومعلمها ومربيها وملهمها صلى الله عليه وسلم، والتي تشكلت تواً تحت ضغط ظروف صعبة وقاسية كادت تعصف بوجودها مع صعوبة تلمس آليات الشورى في انتخاب ولي لأمرهم، أن تنهض بكل حزمٍ وعزمٍ وثبات لمواجهة الردَّة ووئدها في مهدها قبل أن تتطور وتتفاقم تداعياتها بعواقب لا تحمد عقباها لشدَّة خطورتها على وحدة الأمة التي تشكلت من جديد لتوها، فانشغلت قاعدة النهوض المتمثلة كلياً في فكرها وسلوكها للعقيدة الإسلامية فترة ليست قصيرة في دفع الردَّة بكل أطرافها حتى أجهضتها، ذهبت خلالها أعداد لا يستهان بها من المعلمين والسفراء والقدوات شهداء في معاركها القاسية والدامية، ثم تلتها مباشرة مهمات تطلبتها طبيعة الأخطار التي تنطوي عليها بما يجعلها لا تقلّ شأناً عن الردَّة ومخاطرها، تلك هي مخاطر حشود الروم والفرس التي بدأت تعد عدتها للانقضاض على الدولة العربية الإسلامية الفتية قبل أن يستفحل أمرها فتخرج من أيديهما الأرض العربية التي يتنعمون بخيراتها ويجثمون على صدور أهلها منذ زمن بعيد، فكان لزاماً التصدي لأخطارهما ودفعها خارج الأرض العربية كمرحلة أولى، فاتصلت معارك تحرير الشام والعراق مع حروب الردَّة بلا توقف أو أدنى فاصلة زمنية، كل هذه العوامل أدت إلى عدم إحكام عملية التنقية لمناهج السلوك خلال عمليات التفاعل الحضاري بين مجتمع المدينة المنورة، قاعدة النهوض، والمجتمعات العربية التي التحقت بها بعد التحرير، والتي كانت قد تشوهت مناهجها الفكرية والسلوكية كثيراً خلال قرون طويلة من التبعية على خلاف مركز الدعوة وقاعدة النهوض التي لم تألف احتلال طويل يترك آثاره عميقة غائرة في النفوس، فكانت بيئة صالحة للصراع، حققت فيها ثقافة الردَّة انتصارات هنا وهناك بشكل أو آخر، فحتى يومنا هذا لا زال العرب المسلمون في كل أقطار الأمة يتمسكون بالكثير من العادات الجاهلية التي رفضتها العقيدة الإسلامية وحرمتها منذ أكثر من 1400 عام، فقد كانوا يألمون أشدَّ الألم حين يرزقهم الله تعالى بأنثى، وكان بعضهم يئدها، فيما كان الغالبية يصابون بالنكسة ويتملكهم الغضب الشديد على الزوجات، ورغم أن الله تعالى نهى عن هذا السلوك المنافي للفطرة السوية بقوله:{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ}(1) فإنهم استمروا إلى الآن تسود وجوه أغلبهم حين تلد امرأة أحدهم بنتاً، وفي كثير من الأحيان يكون ذلك سبباً للطلاق أو الزواج بأخرى.

 

فيما اتخذ الصراع بعداً أخر تجسد من خلال التناقض في العقيدة والسلوك بين العرب بشكل عام وبين الأمم التي دخلتها الجيوش العربية الإسلامية على مدى فترة زمنية قصيرة، فخلال مئة عام من البعثة النبوية كانت الجيوش العربية قد وصلت إلى أقاصي الشرق والغرب معاً.

 

وهذا يفسر لنا حقيقة الفارق الكبير والتناقض بين دعوة التشيع للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بعد غياب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والتي تبنتها مجموعة من مكونات مجتمع المدينة المنورة، والتي لم تكن سوى اجتهاد ورأي خالص من النوازع والأغراض بأحقية عليّ لتولي أمر الأمة وبين دعوات التشيع التي تشكلت مفرداتها في الأمصار فيما بعد فحرفتها عن حقيقتها وحولتها إلى صراع يستهدف العقيدة والثقافة السلوكية برمتها لأهدافٍ ودوافع لا ناقة لآل بيت النبوة فيها ولا جمل، فقد كانت مجرد حركات سياسية تتستر خلف رموز عربية إسلامية جليلة، وقد أثبتتها وقائع التاريخ على مدى عمر الرسالة الإسلامية، وإن برزت خلال واقعنا الراهن كل خفاياهاً وأهدافها غير المعلنة فيما مضى، وحتى التشيع للأمويين من قبل أهل الشام كان هو الآخر ناتج طبيعي للتأثير السلبي لمنظومة السلوك والفكر التي كانت قد ترسخت فيهم جراء الاحتلال الأجنبي لقرون طويلة، فكانت مفاهيم المُلك والحكم الملكي هي الثقافة السائدة فيها من خلال طبيعة نظام الحكم الرومي، فيما ساعد على بروز هذا التفاعل الحضاري السلبي أن أمير الشام نفسه والذي استمرت إمرته لهذا المِصر زمناً طويلاً كان ممن التحق بالإسلام بذات الطريقة التي التحق بهذا أهل مكة خلال الفتح ولم يكن خياراً صعباً يستلزم طهارة الروح كلياً من أدران الماضي ومخلفاته الجاهلية، فتشكلت خلال هذا الزمن إرادة الاستحواذ نتيجة الصراع بين الإسلام من جهة والجاهلية وتأثير الثقافة الهجينة المكتسبة من مجتمع الشام من جهة أخرى، والتي طغت مفرداتها على المكتسب من ثقافة العقيدة الإسلامية التي صيغت مفرداتها في المدينة المنورة، بمغريات السلطة ومحفزاتها التي اتسعت خلال السنوات الأخيرة من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه لغياب التحسب الشديد والرقابة الصارمة التي كان قد اتبعها الفاروق خلال خلافته إزاء مظاهر الانحراف والركون إلى الدنيا، ساعد على هذا أيضاً تشكل حاشية ارستقراطية عسكرية حول الإمارة منعت على القادمين من قاعدة النهوض أداء دورهم في تصحيح مسار عملية التفاعل الحضاري بين الثقافتين المتصارعتين في واقع الشام آنذاك حفاظاً منهم على مصالحهم وامتيازاتهم الكثيرة التي تحققت كنتيجة لعدم التوازن في عملية الصراع والتفاعل الحضاري، فقد ألهمت الثقافة السلوكية المكتسبة من واقع الاحتلال الروماني الطويل تشكيل الحاشية الملكية قبل تكون المملكة نفسها كجزء من متطلبات الثقافة الاجتماعية الدخيلة التي لم تُحسن الطلائع فرزها ومطاردتها خارج الشخصية العربية كلياً.

 

لقد تمادى بعض ولاة الأمر في إسرافهم بتبديد الموارد (بيت المال) على غير وجوهها الصحيحة، فلم يكن يحلّ لهم الإغداق على المادحين لهم، شعراً ونثرا، بهدف تحريك عواطفهم باتجاه أنانيات الفخر والمباهاة، وفي الأمة فقراء وذوي حاجات، فإن ذلك العمل ساعد على جعل الناس طبقات وإن تساوى جهدهم، وذلك كان انحرافاً عن الشريعة الحقة التي جاء بها الإسلام.

 

فالشريعة لم تعد المصدر الوحيد الذي يعرضون عليه سلوكهم، فقد نشأت الحاشية لتأخذ بأيديهم وتغريهم وتحفز عواطفهم باتجاه المزيد من هتك حرمة بيت المال والتجاوز عليه، خلافاً لأمر الله تعالى بأن يتوسطوا في كل شأن من شؤون الدنيا والدين، فمن أمره تعالى قوله: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}(2).

 

وهذا الأمر يتعلق فيما يملك الإنسان، فكيف إذن بما لا يملك الولاة؟ فبيوت المال ليست ملكاً لهم، وليسوا مخولين في التصرف فيها، إنما هم مؤتمنين عليها ليؤدوها إلى مستحقيها، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}(3).

 

إن الحواشي التي نشأت حول ولاة الأمور لم تكن الضرورات التي صيرتها وقربتها تستند على ما فيها من علم وتقوى وإيمان، بل كانت أسباباً وضرورات سياسية وعسكرية في جوهرها، من أجل أن تضمن بقاء المُلك وتحافظ عليه، فهي تعمل بدوافع دنيوية خالصة، عمادها تبادل المنفعة، فبقاء المُلك عند هذه الحاشية لا يعني حفظ الشريعة وضمان مصالحها، إنما يعني بالدرجة الأساس المحافظة على ما تحقق لها من مكاسب دنيوية بفضل بوجود هذا النوع من السلطة، مع السعي المتواصل للاستزادة بتنمية مواردها.

 

ونتيجة لهذا الانحراف فإن الحكم بالعدل لم يعد هو الجدار الحافظ لمكانة ولي الأمر وصلته بالرعية، إنما صار رضا الحاشية وحماسها هو السبيل الوحيد لذلك، وذلك استوجب على الدوام المزيد من التهاون من قبل أولياء الأمور، وتلك كانت الطامة الكبرى، فالفساد إذا انطلق من القاعدة تصدَّت له القمة وأجهضته، لأنها تملك قدرة القرار والردع، أما إذا انحدر الفساد من القمة نحو القاعدة فإنه يتفشى سريعاً في القاعدة حتى يقوض الأُسس كلها، لعدم وجود من يردعه، فالكل يتطلع نحو القمة، يصلحون بصلاحها ويفسدون بفسادها، وذلك هو حال الأمة حين تنحرف عن شريعة ربها، فلو كانت القاعدة تعي دورها وواجبها لما سمحت لمن يقودها بالانحراف، فالله تعالى يقول: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}(4).

 

وذلك ما تجلى في خلافة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، حتى عُدَّ خامساً للخلفاء الراشدين رغم قصر ولايته، فالانقلاب الهائل الذي أحدثه هذا الخليفة خلال سنتين ونصف السنة كان يرتكز كليا على تصحيح الواقع الاقتصادي واستعادة حرمة المال والعدل في توزيعه، فحتى سبّ وشتم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوقفه هذا الخليفة كان يحمل في طياته دوافع اقتصادية خالصة، فلكي يضمن العامل والأمير موقعه الذي يلبي طموحاته المادية بالدرجة الأساس كان عليه إن يسابق غيره في إظهار الولاء لولي نعمته بالغلو في العداء لمن يخالفه الرأي والموقف.

 

وهذا وإن كان لا يلغي وجود الأسباب الأخرى مطلقاً، لكنه الاستغلال الأمثل في سبيل تحقيق الانحراف، فان عملية إفقار الناس ليست هدفاً بحد ذاتها، إنما هي وسيلة من وسائل عديدة في سبيل تمزيق وحدة الأمة.

 

ولهذا فأن أي مشروع نهوض حضاري يتطلب استيعاب هذه الحقيقة كلياً، وامتلاك القدرة على التعامل معها بدقة متناهية، فالنهضة واستعادة الدور يتطلبان قبل كل شيء إحكام الصلة بالماضي عن طريق استيعاب خصائص الموروث الحضاري للأمة وحقائقه الكاملة وربطه ربطاً مبدعاً بالواقع بعد فهم متطلباته فهماً علمياً خالٍ من العواطف المجردة من قدرة الفعل، ثم إحكام عملية التفاعل الحي بينهما بما يفضي لأفق مستقبلي واضح المعالم والأهداف، وبعد توفير شروط كينونته بالمنظور الحضاري الذي يجب أن يتكون مع عملية الإعداد للنهوض، وهو يتطلب - لكي لا ينحرف نحو التغريب أو السطحية ودهاليز التجريب وممارسة مبدأ الخطأ والصواب وتصحيح المسارات - أن تحكم العلاقة بين العمق الحضاري بكل قيمه القابلة للحياة مستقبلاً وبين الواقع وما يحمله بجانبه الايجابي من تطور محلي وإنساني شمولي ينسجم كلياً مع الأهداف الكلية لعملية النهوض، فقد طرأت على منظومات السلوك والثقافة الاجتماعية والفكر والوعي بشقيه المجرد والعملي تغيرات كثيرة منذ أن شحَّت الأمة بنتاجها الحضاري مروراً بالمرحلة التي تتسم بمحاولة استعادة فعل الانجاز مجدداً، على أن تستبعد كل عناصر التناقض والتعارض بينهما بوعي كامل لشروط المستقبل ومتطلباته الحضارية بما لا يتعارض مع العقيدة وثقافتها.

 

فكما إن التراث الذي يشكل جوهر العمق الحضاري ينطوي على خصائص مرحلية لا تصلح إلا لزمنها الذي ولدت فيه وعاشت لأجل متطلباته الآنية، فإن مراحل الزمن اللاحقة هي الأخرى تمخضت عن تطورات كثيرة ليست كلها أصيلة أو منسجمة مع الخصائص السلوكية والثقافة الاجتماعية لمجتمع التغيير ومتطلباته المستندة أصلاً لجوهر عقيدتها.

 

ولكي تستحضر الأمة العربية عمقها الحضاري الذي يمثل الإسلام جوهره الثمين بخصائصه الأصيلة خالية من التشويه والتزوير وآثار التفاعل الحضاري السلبي أو الصراع الذي حدث منذ عام الفتح 630م واستمر يتفاعل مع معطيات الواقع بوتائر متصاعدة حتى يومنا هذا، فإن هذا يتطلب قبل كل شيء إعادة قراءة التاريخ قراءة علمية مبصرة تجرده من الدَّس والتشويه، فالكثير من وثائق التاريخ كانت قد استوعبت خصائص تلك المرحلة التاريخية بعد زمن بعيد عنها نسبياً نقلاً عما احتفظت به الذاكرة الإنسانية التي تعرضت للمزيد من عمليات التشويه والتغيير، وإن كان هذا الأمر يشكل عائقاً جدياً أمام محاولات التنقية لأحداث التاريخ من الدخيل عليها لشتى الأسباب والغايات، فالعرب، وخصوصاً سكان شبه الجزيرة العربية كانوا يتعاملون في أغلب الأحوال مع أحداث التاريخ قبل الإسلام لمحدوديتها النسبية عن طريق الذاكرة الإنسانية دون التدوين إلا ما ندر، والتي كانت قادرة بصفائها واتقادها على استيعاب أحداث المعارك بين القبائل وتوثيق أنسابها ووقائعها والشعر الذي يقال فيها وأعرافها ولا أكثر من هذا، ولهذا كانت هناك مشكلة رافقت الدعوة الإسلامية التي استندت إلى عقيدة واسعة تغطي كل شؤون الحياة ومتطلبات الآخرة وقوانينهما ومنظومة الثقافة الاجتماعية المتكاملة، معتمدة بالأساس على القرآن الكريم، كتاب الله تعالى المنزَّل، والسنَّة النبوية الشريفة من قولٍ وفعل وقبول لقول وفعل أو رفضهما امتدت على مساحة من الزمن قاربت ربع القرن، فعقيدة بهذه السعة والشمول لم تكن الذاكرة البشرية قادرة على استيعابها كلياً، وإن استطاعت فإن عملية النقل والتلقي عبر الأجيال تعرضها للتشويه والتحريف كنتيجة طبيعية للنسيان والاختلاف بين قدرة الذاكرة واستيعابها من شخص إلى آخر، ولهذا فقد تركزت جهود التدوين في بداية الدعوة وخلالها على القرآن الكريم باعتباره الأساس الأول للعقيدة، ولم يكن تطور التدوين التاريخي يسير بنفس وتائر التطور الحضاري، بل تخلف عنه بمسافة واضحة تماماً، أضاف لتعقيدات ذلك الواقع محنة استشهاد أعداد كبيرة من الحفاظ خلال السفارات والبعوث ومعارك الردَّة التي كانت أعظمها أثراً بعد انقطاع الوحي بغياب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ساعد كثيراً على تزوير العديد من أحداث التاريخ أو حرفها عن مقاصدها وخلق الإشكالات التي بررت وجود المذهبية والخلاف بعيداً عن حدود الاجتهاد بما تتطلبه المفردات المستجدة في مسار الفعل الحضاري السريع لوضعها في موقعها الصحيح وتحديد أفقها السليم، فانَّ عدم تدوين السنَّة النبوية وحفظها من الضياع أو التقول عليها بما ليس منها فسح المجال لآلاف الأحاديث الموضوعة خدمة لأهداف الأعداء وأصحاب الأغراض، الأمر الذي وضع كثيراً من الأحاديث الصحيحة في دائرة الشكوك، وبخاصة من التي لم ترد روايتها عن أكثر من صحابي واحد، فإذا كانت السنَّة النبوية وهي مصدر العقيدة والتشريع الثاني بعد كتاب الله قد تعرضت لهذا الكم الهائل من التآمر والتحريف والتزوير مع وجود الرادع الذي تداولته الألسن بلا انقطاع بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ تَعَمَّدَ عليَّ كَذِباً فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ منِ النَّار"(5) فكيف بحوادث التاريخ التي لا رادع لمزوريها إلا الخلق القويم! يضاف إلى ذلك أن المزورين لا يرون في قولهم الزور إلا وسائل تبررها غاياتهم، وهم لا يرون غاياتهم وضيعة أو خاطئة وإلا لما سلكوا في سبيلها مسالك النار وعذابها الأبدي.

وحين اكتملت قدرة التدوين التاريخي خلال المراحل اللاحقة لعصر الرسالة وتوفرت للعاملين عليها قدرة جمع الموروث وحفظه في أوعية التاريخ ووثائقه كانت صورة الواقع قد تشوهت كثيراً عن حقيقتها الناصعة في عصر الرسالة بسبب العوامل التي ذكرناها آنفاً وتآزرها فيما بينها، فاختلط في حقائقه الكثير من التزوير والكذب والدس.

 

إنَّ مهمة كهذه تتطلب جهوداً جبارة ونوايا صادقة وعقول متفتحة وأرواح متطهرة وأدوات ووسائل وفسحة كافية من الزمن تسبقها إرادة كلية حقيقية لا تُصاغ بعيداً عن الجماهير العربية وخارجاً عن إرادتها وعن مفردات وعيها وسلوكها، فإرادة الجماهير على أهداف النهوض لن تتحقق في وعيها وهناك ما يمنع عليها هذه الإرادة.

أما الواقع فهو الأخر بحاجة إلى عمليات تنقية، قد تكون أكثر تعقيداً من وقائع التاريخ، فالواقع يتشكل من منظومات سلوكية ترسخت عبر الأجيال فشكلت العمود الفقري للثقافة الاجتماعية العربية، ولفقدان الصلة الفاعلة والصادقة بين الواقع الاجتماعي وعمقه الحضاري فإن أيّ عملية تغيير للمعتقدات وأنماط السلوك والتفكير تحتاج إلى انقلاب شامل على هذا الواقع، يمتلك من عدد التغيير ووسائله ما يجعله قادراً على النهوض بثورة شاملة كهذه، وهذا ما لا يمكن تحقيقه بقدرات بشرية خالصة دفعة واحدة تشمل المجتمع العربي بكل مكوناته وأطيافه وطبقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية، والتي تشكلت أغلب خصائصها خلال عصور الانحطاط، مهما امتلكت من قدرة وأسباب الاقتدار، فلابد أن تبدأ أولاً بالطلائع الثورية المندفعة روحياً لتنتظم بشكل يتلائم وجسامة المهمة وحجم الأهداف فتُحْدِث الانقلاب على ذاتها لتتطهر كلياً من أدرانها بوعي وإرادة كاملة، تترافق مع مرحلة تنقية التاريخ لكي تحدث عملية التفاعل الحضاري على أسس صحيحة وثابتة، فتحصل عند ذاك الرؤية الصادقة لآفاق المستقبل وتطلعاته، تتطهر الروح في هذه الطلائع وتتوحد بإيمانها على أهدافها وسبل الوصول إليها وآليات تحقيقها، تُخْضِع العقل والغريزة كلياً لمتطلبات هذه الروح بعد أن ترسم الحدود الفاصلة لمديات كل منهما فتجمعهما على نقطة ارتكاز واحدة لا يحيدان عنها.

 

وحينها فقط يمكن التوجه للجماهير وقيادتها بنجاح لتحقيق التحرير العميق والدقيق للمجتمع العربي من خلال برامج التطهير الثنائي للثقافة الاجتماعية والعمق الحضاري معاً وعلى مسار وصعيد واحد ومتصل لإحداث عملية التفاعل الحضاري العميق بما يهيئ كل مستلزمات النهوض والقدرة على الأداء والفعل الحضاري الأصيل، وإن كان هذا أيضاً بحاجة إلى تدرج مكاني وزماني، فخلق النموذج المشع على أي بقعة من أرض الوطن العربي سيكون إن أُحْسِنَ صياغته سبباً حاسماً في توسيع رقعته اختياراً وليس اضطراراً كجزء مما تتطلبه المصالح وضرورات تجنب المخاطر، فحينها ستلد الردَّة في رحم المشروع الحضاري، وسينتكس بفعلها مهما طال الزمن وتراكمت المنجزات، وهنا يأتي دور تركيز الطاقات والإمكانات وحشدهما كلياً داخل المحيط الذي يُراد له أو تتهيأ فيه الظروف لأن يكون مصدراً للإشعاع، وضرورة تجنب تشتيت الجهد والإمكانات خارجه مهما كانت الحاجة ملحة لذلك، فحينها لن يكتمل بناء النموذج ولن يكون قادراً على أداء مهمة تجاوز القوة الغاشمة وأساليب البطش ومحاولات التشويه والتآمر.

 

وذلك في الحقيقة كان من بين أسباب تلكؤ المشروع الحضاري الذي أُريد له أن يكون مشعاً على جماهير الأمة كلها من على أرض العراق منذ عام 1968م، فقد ساهمت الجهود والإمكانات التي توزعت على مساحة الوطن العربي خارج نطاق قاعدة النهوض ومركز إشعاع المشروع الحضاري على أهميتها ونبل غاياتها وضروراتها في تجسيد حقيقة الانتماء القومي والتعامل بمسؤولية تجاه قضايا الأمة، في تعطيل اكتمال بناء النموذج القادر كلياً على إحداث التغيير العميق والشامل في كل أركان الأمة الأخرى، وإن رافقته أسباب كثيرة أخرى داخلية وخارجية، ففي الداخل لم تحدث عملية الانقلاب لدى كل الطلائع بنسق واحد، حيث لم تتحقق في بعضهم على وجهها الأكمل، ولم تترافق عملية الانقلاب على الواقع مع عملية تنقية الإرث الحضاري واستحضاره بجسور الوعي الجديد لحقائق التاريخ بشكلٍ متزامن، ولم تُحكم صلة التفاعل كلياً بينهما، مما أدى إلى رؤية غير مكتملة للمستقبل المنشود وطبيعة الأخطار التي تتهدده. من جانب أخر كانت بعض الطلائع و العناصر التي تسللت بين صفوفها، وبسبب انحرافها أو انشغالها عن أداء مهماتها المركزية، نتيجة سوء التقدير أو قصور في الوعي والرؤية، أو عدم إحكام سيطرة الروح المؤمنة بعقيدة نقية كلياً من الانحرافات والتشويهات على مواقع العقل والغرائز فيها، ودورها في صياغة مفردات السلوك والوعي الحضاري الفردي والاجتماعي، مما جعلها غير فاعلة بما فيه الكفاية، ولم تكتمل مهماتها في خلق النموذج المشع القادر على تحقيق قدرة وحافز الاختيار لكل فئات المجتمع العراقي لتنتفض على واقعها وتنقلب عليه بإرادة ووعي، وتضع أقدامها على مسار النهوض باقتدار كامل، مع وعيها العميق بحقائق التاريخ فتحكم صلتها به كلياً، وحين يتحقق هذا المسير الموحد والانسجام فإنَّ الأقدام التي تشذّ عن خطوه تُكتشف بسهولة مهما امتلكت من قدرة على النفاق والتقية والمكر.

 

أما على صعيد الأمة فقد كانت أغلب الجهود والتضحيات التي بُذِلت مقتطعة من حصة وجهد المركز الطليعي وقاعدة النهوض بأعباء المشروع الحضاري لم تحقق لجماهير الأمة أكثر من المزيد من الاتكالية السلبية، وإن عالجت مشاكل جدية وهامة واستهدفت دفع أخطار عديدة عن الأمة، فيما استثمرته الأنظمة العربية لتوطيد أركانها وإحكام سيطرتها على جماهير الأمة من جانب أخر.

 

إن استعجال أداء الدور القومي قبل اكتمال أسبابه الحقيقية كان بسبب الدافع الصادق لتلك التوجهات والتعبير الدقيق عن وحدة الأمة وجوهرها الأصيل، تمت ترجمته بصدقٍ دون الالتفات لنتائج تعويقه للمشروع الحضاري وأهدافه النبيلة.

 

وعلى الصعيد الدولي فقد أحكم الواقع العربي أثره الكبير والجدي على طبيعة العلاقات ونتائجها بين العراق والمحيط الدولي بشكل عام، رغم أنها لم تحقق أي تحسن لذلك الواقع العربي المتهرئ بوجود الأنظمة العميلة والمنسجمة مع معطياته، فيما دفع العراق ومشروعه النهضوي ثمناً باهظا كنتيجة لتلك المواقف التي اتخذها العراق في تصميم علاقاته الدولية استناداً لمصالح الأمة ومعطيات تلك العلاقات على الواقع العربي.

 

إن وعي الطليعة لطبيعة التناقض بين أصولها الثقافية النقية وبين مفردات التشويه والانحراف التي تمتزج فيما بينها بعد صراعات طويلة وقاسية، حتى تتحول هذه المفردات الدخيلة وكأنها من صلب الأصول السلوكية وليست مفروضة عليها من خارجها، الوعي الذي لا تملكه الجماهير بدقة، ولا تملك القدرة على استيعابه بيسر وسهولة، يجعل من انبثاقها ووجودها الفاعل بين أوساط الجماهير أمراً حتمياً لتحقيق أهداف كبيرة وحاسمة على طريق النهوض. فلا يكفي للنهوض بعملية التغيير ما تقدمه الدعوات الإصلاحية الفوقية والترقيعية، بل يستلزم وجود كيان تنظيمي كنموذج متجسد على أرض الواقع يحول هذا الوعي إلى طاقة فاعلة ومبدعة، ويحكم العلاقة بين الطلائع نفسها، ينظم عملها، ويمارس الرقابة الصارمة على مسارها، ويحميها من الانزلاق في متاهات التأثير المتبادل، فيما يحكم من جانب أخر علاقتها بالجماهير، لأن الطلائع لا يمكن لها أن تمارس عملها بعيداً عن الجماهير ووعيها، فعند ذاك ستتحول إلى كيان فوقي تسلطي يفتقد بمرور الزمن لكل أسباب الصلة والتلاحم مع الجماهير بما يفقدها قدرة التعبير عن طموحاتها بالتفاعل الايجابي معها، التفاعل الذي بغيره لا يمكن للمشروع الحضاري أن ينهض لتحقيق أهدافه، فالفارق كبير بين أن يشكل هذا المشروع الجوانب الايجابية من طموحات الجماهير، يحفزها ويدفعها لتبني أهدافه والدفاع عن المكتسبات التي تتحقق في مساره، وبين أن يفرض عليها قسرا فيحول الحاجز النفسي بينهما ويمنع تفاعلهما، خاصة وأن الطلائع هذه يجب أن تنبثق من بين الجماهير ومن واقعها، تشكل وعيها الطليعي الجديد داخلها وبين صفوفها، ولأنها ليست طلائع نخبوية أعدت نفسها بعيداً عن الواقع الاجتماعي وإرهاصاته، فإنها تمارس خلال عملية التكوين الطليعي دورها كنموذج للمؤثر الإيجابي بالوسط الاجتماعي الذي تنتمي إليه، فينهض بقدرٍ ما وهو يمارس التأثير المتبادل خلال عملية التكوين للشخصية الطليعية، ومهما كان هذا التأثير محدوداً فإنه مهم جداً لأنه يحقق جانب أساسي وراسخ في عملية التحويل، كما يعزز الخبرة المعرفية الصادقة بمفردات الواقع وخصائصه، وطبيعة المشكلات التي تؤثر سلباً في الوسط الاجتماعي، وتعرقل نموه وتقدمه، ومصادرها المغذية لها، من خلال معاناة التجربة نفسها.

 

إن العمل بين الجماهير يحقق أهداف متعددة، فبالإضافة إلى العلاقة الحميمية التي تنشأ وتتشكل مفرداتها خلال المعايشة الفاعلة والتي تسهم كثيرا في نقل التأثير الطليعي إلى الجماهير باسلوب لا يتسم بالقسر والوصاية، مما يجعل تقبله ممكنا وتأثيره راسخاً، كونه يؤخذ كاختيار طوعي من قبل الجماهير لا يفرض عليها من خارجها، تتسلح الطلائع خلالها بقدرات استيعابية متكاملة للواقع الذي يتشكل في الوسط الاجتماعي بكل خصائصه الايجابية والسلبية والمكتسبة بفعل التأثير الايجابي والسلبي ومصادرهما، كما يسهل كثيرا عملية الشروع بالنهوض في المراحل اللاحقة، من خلال تعزيز تلك الصلات الاجتماعية عبر الزمن، والعمل والمعايشة، الأمر الذي يجعل الجماهير تشعر بالثقة والاطمئنان لمن يتقدم مسيرتها من هذه الطلائع، تعرف خصائصها السلوكية وقدراتها القيادية وصدقها في التعامل، فيما يحقق من جانب أخر قدرة تعزيز تلك الطلائع بالدماء الجديدة والبدائل الرديفة، التي ستكون قادرة على مواصلة قيادة المسيرة دون انقطاع أو انحراف أو تناقض في الأهداف والوسائل، وهذا هو جوهر الانقلاب الحقيقي والصادق والمؤثر، الذي لا يصطنع واقعاً جديداً منفصلاً كلياً عن امتداداته التاريخية، الذي لا يمكن تحقيقه إلا حبيساً في عقول المفكرين أو مسطراً على الورق، فيما لا يلتصق به بصيغة الخضوع، وإنما ينفصل عنه بمسافة الوعي لحقائقه، بالرفض للدخيل على سلوكه وفكره ووعيه، واستعادة ثقافته السلوكية الأصيلة النقية لتأخذ دورها في صياغة الوعي الاجتماعي مجدداً. فهو إذن الفاصلة التي ترسمها طلائع الحركة التاريخية بين الثقافة الاجتماعية العربية، التي تستند في أصولها إلى الأصالة العربية والعقيدة الإسلامية النقية، وبين المفردات الدخيلة والمشوهة لها والمعطلة لفاعليتها، ثم المضي قدماً في توسيع مساحة هذه الفاصلة وتعميق وجودها حتى يتم التحرير العميق للشخصية العربية من أمراضها، وبكل أشكالها وألوانها، وحينها فقط ستكون الجماهير قد تهيأت وأعدت نفسها لفرصتها التاريخية من خلال النهوض بأعباء المشروع الحضاري وتحقيق أهدافه. وهذا يعني أن الطلائع في انقلابها لا تنسلخ عن الوسط الاجتماعي الذي ستقوده، إنما تنسلخ عن الواقع السلوكي المدمر للشخصية، في ذات الوقت الذي تقدم للجماهير البدائل الأصيلة القادرة على إقناعها بالتخلي عن نقيضها الدخيل أو المشوه، بإيقاع متواصل لتكتمل عمليات التغيير. وهذا يشكل الركيزة التي يستند عليها البناء اللاحق كلياً، ولا تتحقق الأهداف التي تتطلع إليها إلا بتحققها.

 

فالديمقراطية، ذلك المفهوم الذي اتخذت منه القوى الامبريالية والتسلطية سلعة للمتاجرة من خلالها بمصائر الشعوب والأمم وحقوقها بالعيش بعيداً عن التسلط وفرض الإرادات الخارجية عليها، بذريعة الحضارة والتطور وحقوق الإنسان، والتي هي في حقيقتها ناتج للمناخ الصحي ليمارس الإنسان حريته الكاملة، والمقيدة بعقيدة الأمة ومتطلبات رسالتها. لا يمكن لها أن تتحقق بصيغتها هذه إن لم يتحول المجتمع كلياً من واقعه المريض بثقافته السلوكية والفكرية إلى واقع الثقافة الأصيلة، التي من خلالها تمتلك الجماهير الوعي اللازم لتحقيق فعل الاختيار الصائب، المبني على أسس رصينة تتطلبها عملية النهوض الحضاري، بعيدا عن كل الاعتبارات الفئوية وأشكالها المختلفة، والتي تشكلت مفردات أغلبها من ثقافة الدس والتشويه والتآمر الداخلي والخارجي، كما تتجاوز الأعراف القبلية بصيغها الجاهلية المتعصبة لتخلفها وردَّتها. كما تمارس بفضلها الحرية البناءة المنضبطة التي تشكل المانع الرادع لفكر الردَّة وسلوكها وثقافتها أن تعود مجددا لتوهن الأمة وتعيقها عن أداء دورها الحضاري، وكما بينَّا فإنَّ الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشكل قاعدة أصيلة للحرية الخلاقة، لو أُحسن استخدامها وتعاطيها، وليست الصيغ الغربية التي مسختها الدوافع الامبريالية التسلطية لتجعلها وسيلة من وسائل تسهيل النفوذ والهيمنة على مقدرات الأمم والشعوب، وتشكيل واقعها طبقاً لمتطلبات الغرب وأهدافه، بما تتضمنه من حصانة وحماية لفكرها، الذي تسعى لتعميمه على الشعوب الأخرى تحت ذرائع حقوق الإنسان في التعبير والتصرف والاعتقاد.

 

أما الاشتراكية بمفهوم الحركة التاريخية العربية والمستمدة من جوهر عقيدتها، ولا تشترك مع المفاهيم الاشتراكية الأخرى إلا في التسمية، فهي نابعة أصلاً من الواقع العربي لتلبي احتياجات المشروع الحضاري العربي، فهي تعتمد كل الطرق والوسائل المشروعة لتكوين الملكية، فردية كانت أم جماعية، بأن تكون ناتجة عن جهد وإبداع واستحقاق، دون أن تؤدي أو تسبب استغلالاً لجهد الآخرين أو تضر بمصالحهم المشروعة. وهي العدالة الاجتماعية، التي تتجسد في القيمة الإنسانية الواحدة لجميع أفراد الأمة، الأمر الذي يلغي لجوء المواطن للملاذات بحثاً عن الضمانات بكل أشكالها، والتي تصادر إرادته وقراره في الحياة، فيكون أداة طيعة بيد أصحاب نوايا التكتل بهدف التعويق أو التخريب وحرف المسار. فيما تهدف أيضاً إلى إلغاء التمايز والتفاوت الحاصل بين أقطار الأمة الواحدة، والذي أسهم كثيراً في تعميق التناقض بين كيانات التجزئة من خلال تركيز الثروات في أجزاء محددة منها، والتي ترتبط أغلبها بعجلة الاقتصاد الرأسمالي الامبريالي، فوقعت تحت تأثير متطلباته وأهدافه. وكذلك تستهدف الانقسام الطبقي بين أبناء الأمة لإلغائه منعاً للطبقات المتنعمة بالثروات أن تمارس استغلالها بهدف مصادرة حق الجماهير المسحوقة، وهي الغالبية العظمى، في المساهمة الفاعلة بعملية النهوض والمشاركة بتصدر مسيرتها. وتهدف أيضاً لقطع جذور الجهل والتخلف والمتمثلة في جانب مهم منها بالفقر، الذي لا يتيح للمواطن اتخاذ قراراته باستقلالية تامة، لتخضع لمعايير الصح والخطأ، النافع والضار، بل تلجئه الحاجة والعوز لصياغة مواقفه انسجاماً مع متطلبات الربح والخسارة المادية البحتة، فينتقل من حالة الانسجام مع وعيه وقناعاته واعتباراتها إلى ضرورات العيش ومتطلباته، التي قد لا يجدها إلا بمنهج النفاق الاجتماعي.

 

 

(1) سورة النحل، الآية: 58.

(2) سورة الفرقان، الآية:67.

(3) سورة النساء، الآية: 58.

(4) سورة هود، الآية:117.

(5) متفق عليه.

.
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاربعاء  / ١٧ ربيع الاول ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٠٣ / أذار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور