حرب صليبية على البعث ، غرة العرب وتاج عزهم

﴿ الحلقة الثانية ﴾

 
 
شبكة المنصور
حديد العربي

لم تكن الجغرافيا والمصالح هما الحافز الأساس في تكوين الاتحاد الأوربي، إنما كان الحافز الديني قد استُحْضِر ليكون الأكثر تأثيراً في توفير الأجواء النفسية المنسجمة مع حافز التحسب الوهمي من العرب والإسلام، وبذلك فقد أكد الدافع الديني مرة أخرى على فاعليته كوسيلة ناجحة في توحيد المشاعر تجاه القضايا السياسية، التي تتطلبها المصالح الامبريالية، وليس من أجل تفعيل الفضائل وعوامل الخير الكامنة في النفس البشرية المغيبة كلياً بما انحدرت إليه المسيحية كديانة من تحريف وانحراف عن جوهر رسالة عيسى عليه السلام وبما أفرزته العلمانية الغربية من سموم الشيطنة والانفصال عن الفطرة والانغماس في البهيمية المادية المتوحشة، وقد تحقق ذلك من خلال الاندماج السريع للشرق الأوربي، أو ما كان يسمى المعسكر الشيوعي الاشتراكي مع الغرب الأوربي الرأسمالي.


وذلك ما سعى الغرب بكل طاقته لتعطيله بشتى الوسائل والأساليب من أن يكون فاعلاً بين العرب، كونهم يتفوقون على العالم الغربي بحوافز عديدة أخرى، غير العقيدة الإسلامية والوحدة الجغرافية، فهناك صلة النسب والانتماء الواحد، وهناك الإرث التاريخي المشترك بكل خصائصه ومراحله، وهناك التعدد والتنوع في الثروات، الذي يشكل تكاملاً اقتصادياً فريداً من نوعه.


والإسلام أيضاً يختلف في طبيعة صلته بالعرب، فهو ليس مجرد عقيدة دينية بالنسبة لهم، إنما هو يشكل أهم ملامح خصوصية الهوية القومية بكل معانيها، لأن الإسلام لم يكن مستورداً للعرب من بيئة أخرى أو منقولاً لهم، إنما هو نشأ ونما وترعرع في وجدانهم وعلى أرضهم وبسواعدهم وعقولهم وأرواحهم وأتخذ من أدواتهم الفكرية والحضارية وسائلاً للتبليغ والدعوة، وقد أبدع القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق رحمه الله بوصفه للعلاقة بينه وبين العرب كصلة الروح بالجسد وموقعها منه، فلغة العرب كانت هي الأداة التي نطقت بها العقيدة ودونت شريعتها، وكل أمثلة الصراع بين قوى الخير والشرّ التي أوردها الله تعالى في كتابه العزيز كان مسرحها أرض العرب وبيئتهم ومراحل من تاريخهم، ولأن العقيدة الإسلامية ليست مرحلية، ولاترتبط بزمن أو واقع محدد، على العكس من كل الأديان السماوية التي سبقتها، فإنها ستبقى باستمرار تشكل البديل الموضوعي والأصيل لكل ما تفرزه العقلية البشرية من علاجات لواقع مراحل زمنية مختلفة في مناطق أخرى من المعمورة، فالعلمانية مثلاً كانت سبيلاً حتمياً للغرب المسيحي كي يتحرر من قيود التخلف التي كانت تفرضها الكنيسة على كل محاولات التطور، وتعيق التجاوب مع أي من مستجدات الحياة وقوانين تطورها، لكنها – العلمانية – لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون بديلاً للعقيدة الإسلامية، ذلك لأن العقيدة الإسلامية لا تتسم بالمرحلية والمحلية ومحدودية الزمن والمكان كما المسيحية، بل هي منهج للحياة، يلبي كل متطلباتها إلى أبد الدهر، لأنها جاءت معبرة عن مرحلة الإنضاج الإلهي للوجود البشري وخصائصه التي صارت مع الدعوة الإسلامية قادرة على التعامل مع المتغيرات وفقاً لقدرات العقل المستند لثوابت الفطرة الإنسانية التي أحاطت العقيدة الإسلامية بكامل خصائصها.
إن حقيقة الصراع الدائر اليوم بين الغرب وعقائده الفاسدة وسياساته الشيطانية من جهة وبين العرب وعقيدتهم الإسلامية من جهة أخرى، ليس مفروضاً من العرب، ولا تمليه عليهم عقيدتهم، إنما هو ناتج عن إصرار الغرب على تطويع العرب وعقيدتهم للقبول بواقع الهيمنة الإمبريالية، والذوبان في علمانيتها الموهومة، بالتخلي عن هويتهم وأصالتهم الحضارية لصالح غاياته وأهدافه المرتكزة على الاستحواذ والاستغلال.


ولما كان هذا الأمر غير قابل للتحقق بالوسائل السلمية من خلال الترغيب والترهيب والمضايقات والحصار، فإن العنجهية والاضطهاد والعدوان الهمجي صار هو السبيل الوحيد لإرغام الأمة على التسليم لإرادة الغرب وسياساته. لذلك فإن القرن العشرين كان قرن التضليل الدعائي بحق، حيث تلاحم مفكروا وساسة الغرب الإمبريالي على هدف ترسيخ صورة مشوهة عن العرب والإسلام، مغايرة كلياً للحقيقة، ولعل أولى بدايات تلك الحملات قد أثمرت نتائج مرضية لهم ومشجعة على المضي في مناهج التضليل والتشويه، حين تمكنت القوى الأوربية المتصارعة فيما بينها خلال الحرب العالمية الثانية من نقل صراعها إلى خارج محيطها، عن طريق التوجه صوب الأرض العربية لاقتسامها، احتلالاً وسيطرة ونفوذاً، مستفيدين من تجاربهم السابقة خلال القرن التاسع عشر حين اقتسموا الجزء الغربي من الوطن العربي، ففي عام 1830 احتلت فرنسا الجزائر، وفي عام 1881 احتلت تونس، فيما انطلقت بريطانيا بعد ذلك بعام، أي في 1882م لتحتل مصر، وبنفس الطريقة اقتسموا المشرق العربي، وكانت الحجج دوما ترتكز على خلق صورة مزيفة ومضلله عن الواقع العربي آنذاك، من خلال تصوير العرب على أنهم مجتمعات بدائية متخلفة، لا تملك القدرة والإمكانية والإرادة على إدارة شؤونها الحياتية وتكوين أسس دولة قادرة على النهوض بأعباء المجتمع العربي المتخلف، فأوجدوا لذلك مفاهيم الانتداب والوصاية بزعم إخراج الشعوب العربية من مرحلة طفولتها، وتمكينها من بلوغ رشدها، وعلى مراحل متلاحقة ومنتظمة تمكنت الدعاية من ترسيخ هذه الصورة المزيفة عن العرب في أذهان الشعوب الغربية، ثم أضفت عليهم طابع الهمجية والتوحش من خلال زرع الكيان الصهيوني ورعايته وإمداده بكل سبل البقاء والقدرة على الصراع، وراحت بعد ذلك تقلب الحقائق فتصور الصهاينة على أنهم الحملان الوديعة التي يريد العرب استئصالهم من الوجود.


إن الغايات الامبريالية، وهي تستعيد صورة مزيفة للمسيحية تدريجياً إلى الواجهة في رسم واقع سياساتها وتبني أهدافها كرد فعل طبيعي على صورة التهديد العربي الإسلامي المفتعلة، والتي حشرتها بالتضليل في وعي المواطن الغربي، لم تكن مجردة من الأطماع، ذلك أن النفط والثروات الأخرى والسوق المثالي لتصريف المنتجات والموقع الجغرافي كانت هي الأخرى أهداف يستحق كلٌ منها المجازفات وخوض الحروب الدامية.


ولأن السياسة الإمبريالية لا تتسم بالأخلاقية في أي مرحلة من مراحلها، فإنها استغلت الديانة المسيحية كأداة سياسية ودعائية ومحفز عاطفي، ليس بهدف إبراز خصائص الخير والفضيلة فيها بين المسيحيين أنفسهم، إنما كأداة تضليل لتبرير العدوان على الأمة العربية وعقيدتها، والتي لم تكن لتستجيب لمنطق هيمنتها وجبروتها المادي المنحدر والشاذ.


لقد كان أحد أهم أسباب إسلام النصارى في المشرق خلال القرن الأول الهجري يعود إلى شعورهم بالخيبة والنفرة من دينهم نتيجة الأثار المدمرة التي تركتها الروح الهلينية التي أفرزت مذهبيات تتصارع فيما بينها على تشويه حقيقة الديانة المسيحية ومسخها، حيث ارتكزت هذه المذاهب كلها على تنمية روح التشكيك وإثارة الشبهات حول العقيدة تبريراً لمعتقداتها وغاياتها بأساليب فلسفية، أضفت عليها المزيد من الغموض والتشتت وعدم الانسجام بين مفرداتها.


من هنا كان الجهد الغربي الصليبي ولا زال يتمحور بالدرجة الأساس حول ضرورة إمراض العقيدة الإسلامية بذات الأمراض التي أصابت الديانة المسيحية من قبل وأفقدتها القدرة على تطهير النفوس وتوحيد مساراتها.


ومن هنا أيضاً نقول أن المذهبية والطائفية التي أبتلي بها العرب والإسلام لم تكن وليد صدفة، بل ولم تكن تعبير عن حاجات تطلبتها مراحل التطور الحياتي اللاحقة، فتلك لا تخلق طائفية بشكلها المعروف تاريخياً، إنما هي تتيح فضاء للعقل كي يمارس دوره وواجبه في توفير إجابات لما استعسر فهمه أو استيعابه من شؤون الدنيا ومتغيراتها خلال التطور الحضاري، وذلك لا يؤدي إلى الصراع السلبي كما فعلت الطائفية المستحدثة في الإسلام، إنما كان الهدف منها أن تبذر في العقيدة جراثيم المرض الفتاك، المتمثل بالفرقة والتناحر، وهو المرض الذي بشفاء العرب منه نهضوا من قبل ببناء أرقى وأكثر الحضارات أصالة وغنى وفائدة. إن الفرق بين الاجتهاد والمذهبية والطائفية كالفرق بين تشجيع المفكرين على استخلاص الأفكار بهدف توحيد الجهود من أجل البناء وبين تشجيعهم على استخلاص كل ما هو فاعل في تعطيلها وإلهائها عن أداء الدور والواجب.


والواقع الذي تعيشه الأمة اليوم يشهد بصدق و وضوح على ذلك، فالمذهبية والطائفية التي ترسخت في الواقع العربي الإسلامي بدسائس الصليبيين واليهود الصهاينة ومكر الفرس المجوس وخبثهم عبر مراحل متتالية ومتصلة، لا تساهم اليوم بشكل أساسي في تمزيق شمل الأمة العربية وتعمل على تعجيزها ‘ن أداء دورها الحضاري فحسب، إنما تحول بينها وبين أن تعبر عن صلتها بعقيدتها نفسها، بل وفتحت الباب لمن استساغ فكر الغرب ومنظوماته السلوكية نتيجة الإحباط والشعور بالعجز، حين لا يستطيع التفريق بين العقيدة الإسلامية وبين المذهبية والطائفية الدخيلة عليها والمنحرفة عن جوهرها، وحين لا يملك القدرة على التمييز بين الواقع المريض وأسبابه وبين قدرة الأمة الكامنة فيها على النهوض ومعاودة فعلها الحضاري الخلاق والمبدع. وقد أثبتت طلائع البعث في العراق صحة هذا الاعتقاد وفاعليته خلال تجربتها المجيدة.


وعلى هذا فإننا لا نتوقع من الصليبية والصهيونية والشعوبية إهمالاً أو تجاوزاً لواقع التجزئة، الذي تمثله الكيانات الطائفية، بعد أن حققوا بها ومن خلالها أهم انتصاراتهم المرحلية على العروبة والإسلام في اجتياح العراق، والذي يعد تتويجاً لمنهج التآمر المستمر منذ أكثر من ألف عام خلت، ولا نستغرب أن يخوض هذا الحلف حروبه الدامية منذ عقود ضد العرب وقاعدة نهوضهم في العراق، بكل ما أفرزته من خسائر بشرية ومادية ومعنوية، من أجل أن تجمع تجار الطائفية وتضعهم على مسرح الصراع المباشر فيما بينهم باسم السلطة ومغرياتها، فذلك أسلم سبيل للترويج لفكرها وسلوكها، على أمل أن يمتد هذا الصراع إلى الجماهير، وعند ذاك فقد ستعلن هذه القوى انتصارها النهائي على العرب والإسلام بكسر شوكتهم إلى الأبد.


على هذه الخلفية يمكن لمن يشغله واقع العراق والأمة اليوم ويحيّر عقله ويشتت فكره أن يجد العديد من الأجوبة الموضوعية لأسئلة لا تجد لها جواباً شافياً.


من هنا تأخذ المقاومة العراقية مكانتها وقيمتها وأهميتها، فهي ليست مجرد مقاومة شعبية لمحتل بهدف طرده خارج الحدود، إنما على يتعلق على نتائج جهادها مصير الأمة وعقيدتها وتاريخها ومستقبلها، وكثير منهم قد لا يعلم أن على جهاده يتوقف مصير أمته برمتها، وقد لا يعلم كثير منهم أيضاً أنه يتصدى لمؤامرة دام الإعداد لها وتلاحقت فصولها منذ عام 23هـ وحتى يومنا هذا. والذي يجعلنا نشكك بعلمهم قناعاتنا التي تقول أنهم لو كانوا يعلمون من قبل لماتوا جميعاً دون العراق ولم يسلموه للغزاة، ولو علموا اليوم لكانوا صفاً واحداً، وامتثلوا لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (سورة الصف، الآية:4)، ولسنا نهتم بغيرهم من أبناء العراق والأمة، أكانوا يعلمون أم هم غافلون، فالتاريخ لا يصنعه إلا أهله ورواده وعناوين فخره وزهوه.


ورحم الله صدام حسين الذي منّ الله تعالى عليه بأن ملكه كفايته وعزز إرادته وقوى دوافعه، ثم بخل به التاريخ علينا، وإن كان معذوراً في ذلك، فإن صفحاته خاوية منذ قرون لا تجد من تفخر باحتضان اسمه ومجده حتى سدّ له أبا عدي فراغاً وأشبع خواء. ورحم من سار على دربه مخلصاً لربه غير هيابٍ بالخطوب، فما عند الله خير وأبقى.

.
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الخميس  / ١٨ ربيع الاول ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٠٤ / أذار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور