ميثولوجيا الخرافة في البلد الأعظم

 
 
 
شبكة المنصور
حمدان حمدان
بمناسبة المأساة الكارثية التي حلت بهاييتي نتيجة الزلزال المدمر الذي ضربها في مركز كثافتها السكانية ، تفوّه القس الأمريكي الانجيلي روبرتسون ، تعقيباً على الحدث ومعللاً له بقوله ( ماأصاب شعب هاييتي يعود إلى انتقام إلهي مرسوم ، فقد قبل هذا الشعب أثناء الاستعمار الفرنسي للبلاد ، أن يعقد صفقة مع الشيطان ، شريطة تخليصهم من الوجود الفرنسي البغيض ) .


الزلزال إذن ، له سبب سماوي يحركه فتميد الأرض تحت أقدام شعوبها الشريرة !..
لو كان هذا الاستنتاج قادماً من عصور الظلام الأوروبية ، لكان من الأيسر استساغته وفهمه ، أما أن ينطلق من رجل دين كبير ومن بلد هو القطب الأوحد والقابض على سياسات قارات ، وعلوم تكنولوجيا وفضاء واستنساخ كائنات حية وجذوع بشرية ومواصلات واتصالات ....


فهذا مالا يمكن فهمه أو هضمه ، ويذكر تاريخ الكنائس الأمريكية ، عظات وخطابات القس روبرتسون وفق النماذج التالية :


في الكنيسة المعمدانية يخطب روبرتسون في تشرين من عام 1985 فيقول :
( نعرف نحن المسيحيين من صميم قلوبنا ، أن الله يقف إلى جانب اسرائيل ، وليس مع العرب أو المسلمين ، لأن القرآن وتعاليم الاسلام لايمكنها تلبية الحاجات الروحية للإنسان ...).


وفي تفسيره لاعصار كاترينا الذي دمر مدينة نيواورلياز جنوب الولايات المتحدة ، يجد أسبابه في فسق الزنوج هناك ..


وفي تعليقه على أحداث 11 أيلول الأمريكية يقول ( لقد ضرب الله هذه المدينة – أي نيويورك – لأنها سمحت بشيوع الرذيلة في أرجائها ، أما شارون قيلقى عذابه في الموت السريري ، لأنه خالف تعاليم الرب باعادته قطعة من الأرض وهبها الله لشعبه المختار ويقصد غزة.


وفي عودة أخرى إلى الاسلام يقول : ( إن لم نكف عن تسترنا على حقيقة الاسلام ، فسوف يأتي ذلك اليوم الذي يطيح الاسلام بدول العالم الغربي ولينقضي عهد الديمقراطيات إلى الأبد .. إنه دين عنف ولا شيء غير العنف ) القس روبرتسون واسمه الأول بات ، هو ابن السيناتور السابق وليامس روبرتسون عن ولاية فيرجينيا ، تخرج من جامعة ييل وهي أسست في العام 1710 لغايات دينية انجيلية صرفة ، وقد تخرج روبرتسون من الجامعة بشهادة من كلية الحقوق ، وقد عمل في ادارة شبكة تلفزيونية هي c.b.n فيها مايربو على ألف وثلاثمئة موظف وموظفة ، وتضم هذه الشبكة إضافة إلى كونها محطة تلفزيونية ، نادي اسمه ( نادي السبعمئة ) أي سبعمئة عضو مساهم ، وثلاث محطات تلفزيونية فرعية ، ومحطة إذاعة ، وظلت هذه الشبكة تعمل بالاشتراك مع محطة تلفزيون الشرق الأوسط القائمة في جنوب لبنان قبل تحريره ، وتبث المحطتان أخباراً لمدة ساعة كاملة يطلق عليها اسم ( أخبار الليل ) ، وهي ذات وجهة يهودية – مسيحية أميركية خالصة ، وتصل المحطتان إلى ثلاثين مليون مشاهد أميركي وعالمي ، وفي الولايات المتحدة وحدها ، يقدر المشاهدون بنحو 16 مليون عائلة ، وإلى 19 بالمئة من ملاّكي أجهزة التلفزة في أميركا ، وقد رشح روبرتسون نفسه لمنصب الرئاسة عام 1988 بناء على شعبيته الكنسية والاعلامية ، ووصف أحد الاعلاميين الأمريكيين واسمه توم فيكر ، وهو معلق صحيفة نيويورك تايمز ، أن روبرتسون يحظى بمشاهدين لشبكته الاعلامية ، أكثر من قراء التايم والنيوزويك ونيويورك تايمز ولوس انجلوس تايمز وواشنطن بوست مجتمعين .


وهذا يعني أن المؤمنين بالمثيولوجيا الخرافية الدينية في أميركا ، لهم حضورهم العددي والتأثيري ، ورغم أن الدستور الأمريكي يفصل ما بين الدين والدولة ، إلا أن دوافع الفصل ظلت لكل حالة بحالها ، أي أنها كانت محصلة تاريخ وتطور ثقافي واجتماعي ونفسي ، حيث تبقى الحدود بين تأثير الكنيسة وسلطة الدولة قائمة في الخفاء ، فكلما سعت الديمقراطية الأميركية لتدعيم مبدأ فصل الدين عن الدولة ، حسب نص الدستور ، تجد الكنيسة تسربت من خلال ( لا دستورية فصل الدين عن السياسة ) ، خاصة إذا كانت ممارسة الدين على الطريقة الأميركية ، فمع تطور الحياة والظروف والأمزجة .. كانت الكنيسة الأمريكية تجري تكّيّفها مع نفسها ، بحيث لا تتأخر عن العصر ، ولا تصطدم معه ، ونحن نعرف أن قساوسة من كنائس شتى ، تعزف رقصات الروك والبتلز والبوب ..في ساحات عامة تضم الشابات والشبان وبشكل أخص في الساحات الواسعة للكنائس .. دون أوهام تحريمية . وفي ميادين أخرى ، استجاب العقل الكنسي في شبكات اعلامه ، للحض على دخول مضمار العلم بجميع فروعه ، الرياضية والفضائية والطبية والموسيقية وكافة أشكال النشاطات الأخرى ، وعلى وجه الخصوص السياسية منها .. وهذا المزج بين التدين وممارسة ونشاطات الحياة المتنوعة ، أدى إلى دخول المئات من ألوف الشباب في هذا الخط الكنسي أو ذاك .. وهو ما يفسّر سرمدية الحكم لحزبين رئيسيين لا ثالث لهما منذ ما يزيد على القرن ، فالامتزاج الذي خلقته الكنيسة بين الدين والسياسة ، خَلَق تاريخياً حبلاً من مسد رئاسي لا يدين إلا بمذهب ديني واحد هو البروتستانتية إلا جون كيندي الذي جاء استثناءً كاثوليكياً ، ولا نعلم لماذا تم اغتياله وفيما إذا كان لهذا الموضوع علاقة ما !..


ولأن رؤساء أميركا جاؤوا على الجادة البروتستانتية فإن الخطاب الرئاسي يمتح من جذور الخطاب الديني ولو بصورة مرمزة ، وفي كتابه ( الدين المدني في أميركا ) يقول المؤرخ الأميركي روبرت بيلا ( عام 1967 ) : هناك نوع من الدين الشَبحي في بلادنا ، وهو ما يطلق عليه اسم الدين المدني حيث مكوناته الأساسية ترتكز على ثلاث دعائم : البروتستانتية واليهودية وأخيراً الكاثولوكية فالكنيسة بهذا المعنى، تحتوي الحزبينْ الجمهوري والديمقراطي احتواء مثلثاً قائماً على المذاهب المستترة أعلاه .


فالخطاب السياسي المدني الأمريكي مستمد من تأثيرات توراتية ولو ببعض التحريفات الأقرب إلى اللغة المدنية مع الالتزام بالأصل ، فعبارة الالتزام بأمن اسرائيل ، تعني العهد في التوراة ، ونسمع من رؤساء أمريكا كلمة ( أدبي ) ( التزام أدبي وأخلاقي بأمن اسرائيل ) وأدبي هذه تعادل (متوارث) من العهد القديم ، أما ( أخلاقي ) فيقابلها (الراسخ) في الكتاب المقدس ..


وهناك : التراث المسيحي- اليهودي المشترك ، أرض الميعاد ، البطاركة القدامى ( أنبياء بني اسرائيل ) .. وغير ذلك مما لا يجد الدستور سبباً لمنعه !.


الخط الكنسي العام في الولايات المتحدة ، يمتلك اليوم 1980 معهداً أكاديمياً ، منها 450 معهداً خاصاً بالخط الأنجيلي ( البروتستانتي ) وهناك ما يربو على عشرين ألف مدرسة دينية تضم مليوني طالب وطالبة في هذه المدارس ، ولعل الجامعات الشهيرة مثل جامعة هارفارد ( أسست عام 1636) وجامعة ييل ( أسست عام 1710 ) إنما أسستا لغايات دينية في البداية ، فأطروحة الدكتوراة الأولى في أميركا كانت بعنوان ( العبرية هي اللغة الأم ) وأول كتاب قرأه الأميركيون مطبوعاً كان بعنوان ( سفر المزامير ) وأول مجلة أميركية صدرت عن مؤسسة دينية حملت تسمية ( اليهودي )...


القس بات روبرتسون واحد من هذه السلالة التاريخية ، التي حكمت أميركا بلباس مدني وعباءة كهنوتية ، لا يهمه اتهامه بالشعوذة والخرافة في بلد هو الأول في العالم ، ما يهمه هو ما قيل في شعر المتنبي من قبل : ( حلبٌ قصدنا وأنت السبيل ) ! ..

 
hamdanmoaz@yahoo.co.uk
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الخميس / ١٣ صـفـر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢٨ / كانون الثاني / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور