وصفة علاجية لتاريخ معقد

 
 
 
 
شبكة المنصور
محمد عيسى عبدالحميد
لا امتلك وصفة علاجية سحرية... كان هذا ردي على مذيع قناة السلام العراقية حينما سألني عن حل للازمة العراقية الراهنة، ولكن السؤال والإجابة أرّقاني طويلا وفتحا امامي بابا عراقيا لا يوصد في التفكير اليومي بالأزمات والمشاكل، فتاريخ العراق السياسي من أزمة الى أزمة ومن مشكلة الى مشكلة منذ ان كانت الارض وكان العراق.


وبقراءة متأنية لتاريخ العراق بعيدا عن ضجيج الانفجارات وتشظي الجثث وصخب خطابات القادة، فإننا لن نجد على وجه البسيطة تاريخا منتجا لتطور الحضارة البشرية كما هو وادي الرافدين، فمنه ظهرت اول ابجدية واخترعت الكتابة وبنيت اول حضارة واخترعت العجلة وسن اول تشريع بشري، تحكي مدنه القصص الاولى، يقال إن سفينة نوح رست في مدينة أور، وفيها بيت النبي إبراهيم عليه السلام ومعبد القمر لعبادة الآلهة، أما بابل التي تعني (بوابة الإله) فقد أسسها حمورابي عام 1763 قبل الميلاد، وأصدر قانونه المعروف بشريعة حمورابي ومن اشهر قادتها نبوخذ نصر الثاني الذي فتح فلسطين وسبى اليهود وهزم الفينيقيين والفرس وبنى حدائق بابل المعلقة، وظهرت كذلك حضارات سومر واكد بين نهري دجلة والفرات، ويروي تاريخ التراث الإسلامي عن قبور أنبياء الله آدم ونوح وهود وصالح في الكوفة ومن ثم الآثار الإسلامية المنتشرة من شماله إلى جنوبه.


يتميز تاريخ العراق بأمور قلما نجدها في حضارات العالم فهو أولا: تاريخ واقعي لا يقبل الأساطير كما في حضارات فارس وروما وثانيا: إنه تاريخ ارضي يبحث عن الخلود على الأرض ولا يرتبط بفكرة الخلود السماوي كما في الحضارة المصرية او المكسيكية القديمة وثالثا: انه التاريخ الوحيد الذي يقرأ ويكتب حسب الأهواء والاتجاهات ورابعا: ارتباطه بحضارات الجوار انعكست سلبا على شعبه وخامسا: ضاعت معالم كثيرة من هذا التاريخ العتيد جراء قانون إلغاء الغير الذي يعتمده كل قائد منتصر فيه، وكأنه يقول أنا وبعدي الطوفان.


ومن خلال هذه الخصوصية وبعدها الموغل في الأزمان البعيدة نرى تجذرا وهميا بحمل اعباء هذا التاريخ عند الأعم الأغلب من الشعب العراقي، ولتقريب المعنى اضرب ثلاثة أمثلة عن أحداث مشهورة ومعروفة، المثل الاول قضية كربلاء التي رسخ في أذهان اغلب العامة من المسلمين من أن اهل العراق او الكوفة بالتحديد هم من غدر بالإمام الحسين عليه السلام وساهم في قتله، حتى ان الشعب الإيراني يحيي الإمام الخميني بشعار يقول نحن لسنا اهل الكوفة لنترك الامام وحيدا، وانما الثابت تاريخيا ان اهل الكوفة ممن كانوا يوالون عليا عليه السلام قد شردوا منها او سجنهم واليها عبيد الله بن زياد بن ابيه بعد استشهاد الإمام كما يروي ذلك المدائني في شرح النهج، وقادة جيش يزيد الاموي كانوا من الجزيرة العربية كعمر بن سعد بن ابي وقاص وعبيدالله بن زياد بن ابيه وشمر بن ذي الجوشن واغلب جنودهم كانوا من المرتزقة من أسرى الفرس والترك المعروفين بحمر الديلم كما يروي اسد حيدر في كتابه مع الحسين في نهضته نقلا عن انساب الأشراف ويروي الطبري في نفس المصدر بان المجتمع الكوفي آنذاك كان من المجوس وكثير من اليهود ونصارى نجران الذين أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من نجران إلى الكوفة، فأدرك اختلاف القراءة!!


اما الحدث المشهور الثاني الذي يقرأه الناس حسب أهوائهم فهو إلقاء مكتبات بغداد في نهر دجلة حينما دخلها هولاكو المغولي غازيا وقد وثقت أربعة مراجع حادثة سقوط بغداد وهي الحوادث الجامعة وهو أرشيف ليوميات الاحتلال ولا يعرف مؤلفه ورسالة استيلاء المغول على بغداد للطوسي وكتاب احتلال بغداد لرشيد الدين فضل الله ومعجم ابن الفوطي، وهي جميعا خالية من ذكر إتلاف هولاكو للكتب، أورد ذلك الدكتور محمد مفيد آل ياسين في التاريخ العربي الإسلامي، فانظر الى حقائق التاريخ!!


اما الشاهد الثالث فهو معاصر، فقد قامت ثورة عسكرية في العراق عام 1941 تسمى ثورة مايس اي ثورة مايو وقادها رشيد عالي الكيلاني المتهم بولائه لألمانيا النازية حيث نجح في الاستيلاء على السلطة وهرب قادة العهد الملكي، وتدخلت بريطانيا لضرب هذه الحركة الثورية وعادت الأمور الى مجاريها بعد أن اعدم قادة هذه المحاولة الانقلابية وهم كامل شبيب ويونس السبعاوي وصلاح الدين الصباغ وابعد الكيلاني عن البلاد وما لبث ان عاد مرة اخرى، يعتقد المؤرخ العراقي علي الوردي بان الكيلاني كان عميلا لبريطانيا وأنها استشعرت بحركة في الجيش العراقي ضدها فأوعزت له بقيادة هذه الحركة نظرا لشهرته المناوئة لبريطانيا وذلك لأجل إظهار قادة الحركة على العلن وبالتالي القضاء عليهم، والتاريخ يقول إن الكيلاني بقي وترأس في حين اعدم الآخرون، فانظر وادرك!


اعتقد ان اختلاف القراءات هو من جعل التاريخ العراقي يدرس بأبعاده الاجتماعية السياسية منذ ان وضع ابن خلدون الاساس لمثل هذه الدراسات وحتى جاء الدكتور علي الوردي بكتابه العبقري دراسة في طبيعة المجتمع العراقي عام 1951 ومن ثم أردفه بموسوعته الكبيرة لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ليضع ثنائية البداوة والمدنية والحضارة والتخلف من ضمن مكونات الفرد العراقي، واختصر شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري هذه الثنائية الازدواجية ببيت شعر في قصيدته عن نهر دجلة يقول فيها:


 تريك العراقي في حالتيه   يسرف في شحه والندى


وعلى الرغم من مرور أكثر من سبعة آلاف سنة على الحضارة العراقية إلا أن الحكومات المتعاقبة في هذا البلد تتعامل ببدائية سياسية ساذجة تفوق بدائية الإنسان الأول على كوكب الأرض، فما زال الفكر السياسي ينادي بإلغاء الآخر ونفيه وعدم إشراكه في المجتمع، لذلك لا يمكن لعوامل التاريخ المتجذرة في الذات ان تهدأ أثناء الترويج لمثل هذه الأفكار.


وارى الحل في ان يعود السياسي العراقي الى الحضارات الحديثة ليأخذ منها، فألمانيا النازية في منتصف القرن الماضي وجنوب أفريقيا في أوائل القرن الحالي أثبتتا للعالم تصرفا حضاريا عظيما، ألمانيا استوعبت صدمة الحرب العالمية الثانية وتحملت مسؤوليتها السياسية أمام الأجيال وحاكمت مجرمي الحرب وعذرت كل الشعب لانتمائه للحزب النازي لتحقق طفرة اقتصادية سميت بالمعجزة وهي تحت الاحتلال، وجنوب أفريقيا التي كانت تعيش أسوأ نظام فصل عنصري يميز البشر على ألوان بشرته، حينما حققت حريتها أعطت الأقلية حق المشاركة في الحكم وشكلت أربعة لجان هي الحقيقة والمصالحة ولجنة انتهاك حقوق الإنسان ولجنة التعويضات والتأهيل ولجنة العفو، ليتعايش شعبها على أجمل صورة، فهل قدمت وصفة علاجية لهذا التاريخ المعقد لفتح صفحة سلام جديدة تؤسس لفكر جديد في عراق جديد، هل تعيها أذن واعية..

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت / ٣٠ مـحـرم ١٤٣١ هـ

***

 الموافق  ١٦ / كانون الثاني / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور