مكانة أهل العراق عند الله عزوجل عبر التاريخ

﴿ الجزء الرابع ﴾
 
 
 
شبكة المنصور
الرفيق رأفت علي - بغداد الجهاد

من نينوى يونس عليه السلام

حقيقة ايمان اهل اشور

 

 

خلاصة الجزء السابق :

 

كنا قد تحدثنا في الجزء السابق عن قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام ، والأقوام التي سبقته وعاصرته انتهاءا بهجرته عليه السلام إلى بيت المقدس . وتبين لنا من خلال ذلك جملة حقائق ودلائل فسواء كان إبراهيم عليه السلام في أور أو في حران فانه في ارض العراق ، وقصته عليه السلام تبين لنا مدى قوة إيمانه وصلابته وبأسه ، وتبين لنا أيضا مدى خلق وأدب وذكاء سيدنا إبراهيم عليه السلام .

 

و تبين لنا أيضا إن أهل العراق في ذلك الوقت كانوا يعبدون الأصنام والكواكب ، وأصروا على كفرهم وعنادهم ، وأصر إبراهيم عليه السلام على إيمانه ودعوته . فان كان أهل حران أو أور يرمزون إلى كفر أهل العراق في ذاك الزمان فان إبراهيم عليه السلام يرمز إلى  الإيمان بالله في العراق ، وان كان أهل الكفر كثرة وان كان المؤمنون قلة .

 

كما تبين لنا قصة إبراهيم عليه السلام مسالة أخرى مهمة جدا ، وهي إن الله عز وجل لم ينزل عذابه على أهل العراق وكانوا كفرة . بينما كان عذاب الله على قوم هود وصالح ولوط وشعيب شديدا عسيرا ماحقا أتى عليهم كلهم فأبادهم 1. بل اختص ملكهم التجبر بعذابه ، ومن خلال حشرة من ابسط مخلوقات الله سبحانه وتعالى . فكسر هيبة ذلك الملك الجبار ، وكشف كذبه وبطلان ادعاءاته حتى بهت هو نفسه .

 

بل  إن الخطيب البغدادي رحمه الله 2 أشار في كتابه تاريخ بغداد إلى حديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم (أن أبي إبراهيم عليه السلام هَم أن يدعو عليهم فأوحى الله تعالى إليه لا تفعل فإني جعلت خزائن علمي فيهم وأسكنت الرحمة قلوبهم) 3.

 

 

المقدمة :

إما في هذا الجزء فسنبين بإذن الله عز وجل أهم الإحداث التي جرت على ارض الرافدين بعد هجرة سيدنا إبراهيم عليه السلام ، حيث سنتوقف عند قصة نبي الله يونس عليه السلام والذي بعث إلى قومه وهم أهل نينوى من بلاد الأشوريين من أهل العراق . مستدلين على بيان مكانة أهل العراق عند الله عز وجل بما جاء في كتاب الله العزيز وأحاديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء في كتب علماء امتنا الإجلاء رحمهم الله ، بالإضافة إلى ما جاء به علماء التاريخ والآثار من نظريات واكتشافات أثرية .

 

حقيقة إيمان أهل نينوى:-

وصف الله تعالى قوم يونس عليه السلام أي أهل نينوى بأهل الإيمان النافع ، قال تعالى (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) سورة يونس ، الآية 98. فقد أشار الله تعالى إلى حقيقة إيمانهم ، وصدق هذا الإيمان في قلوبهم بحيث نفعهم ذلك الإيمان ودفع عنهم البلاء ، ولنا في التاريخ شواهد كثيرة لأمم وأقوام تابوا إلى الله تعالى عما اقترفوه من آثام وخطايا إلا إن الله تعالى لم يقبل توبتهم بل عاقبهم عقابا شديدا ، وذلك لان صدق التوبة تقترن مع صدق الإيمان ، فصدق الإيمان هو المنجي لأي امة وقوم ، ولذلك ضرب الله تعالى المثل بصدق الإيمان عند أهل نينوى من العراقيين وقرن إيمانهم بالإيمان النافع 4.

 

– قصة يونس عليه السلام وقومه من أهل نينوى :-

هو النبي الكريم يونس بن متى. قال عنه سيد الخلق وإمام البشر والرحمة المهداة للعالمين محمد بن عبد الله ، صلى الله عليه وسلم (لا تفضلوني على يونس بن متى)5. كانوا يسمونه ويونان ، وذا النون - والنون من أسماء الحوت فيكون اسمه صاحب الحوت 6 .

 

قال الله تعالى (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) يونس  98 ، وقال تعالى (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) الأنبياء 87-88. وقال تعالى (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ . إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ . فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ . فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ . فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ . لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ . وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ . وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ . فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) الصافات 139 – 148.

 

بعث الله يونس عليه السلام إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله عز وجل فكذبوه وتمردوا على كفرهم وعنادهم، فلما طال ذلك عليه من أمرهم، خرج من بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث.

 

فلما خرج من بين ظهرانيهم، وتحققوا نزول العذاب بهم، قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم، فلبسوا المسوح وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله عز وجل وصرخوا وتضرعوا إليه، وتمسكنوا لديه، وبكى الرجال والنساء، والبنون والبنات والأمهات، وجأرت الأنعام والدواب والمواشي، فرغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحملانها، وكانت ساعة عظيمة هائلة، فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب، الذي كان قد اتصل بهم بسببه، ودار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم.

 

ولهذا قال تعالى (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) أي: هلاّ وجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها، فدل على أنه لم يقع ذلك بل كما قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) . وقوله سبحانه وتعالى (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) أي: آمنوا بكمالهم.

 

وقد اختلف المفسرون هل ينفعهم هذا الإيمان في الدار الآخرة، فينقذهم من العذاب الأخروي، كما أنقذهم من العذاب الدنيوي؟ على قولين؛ الأظهر من السياق : نعم والله أعلم. كما قال تعالى (لَمَّا آمَنُوا) وقال تعالى (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ . فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) وهذا المتاع إلى حين لا ينفي أن يكون معه غيره من رفع العذاب الأخروي، والله أعلم.

 

فلما ذهب يونس عليه السلام مغاضباً بسبب قومه، ركب سفينة في البحر، فلجت بهم واضطربت وماجت بهم، وثقلت بما فيها وكادوا يغرقون، على ما ذكره المفسرون. قالوا: فاشتوروا فيما بينهم على أن يقترعوا، فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ليتحفظوا منه. فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله يونس، فلم يسمحوا به فأعادوها ثانية فوقعت عليه أيضاً، فشمر ليخلع ثيابه ويلقى بنفسه فأبوا عليه ذلك. ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضاً، لما يريده الله به من الأمر العظيم. قال تعالى (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ . إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ . فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ . فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) الصافات 139- 142 . وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ألقى في البحر، وبعث الله عز وجل حوتاً عظيماً من البحر الأخضر فالتقمه ، وأمره الله تعالى أن لا يأكل له لحماً ، ولا يهشم له عظماً ، فليس لك برزق. فأخذه فطاف به البحار كلها، وقيل: إنه ابتلع ذلك الحوت حوت آخر أكبر منه. قالوا : ولما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات ، فحرك جوارحه فتحركت فإذا هو حي، فخر لله ساجداً وقال : يا رب اتخذت لك مسجداً لم يعبدك أحد في مثله. والمقصود أنه لما جعل الحوت يطوف به في قرار البحار اللجية، ويقتحم به لجج الموج فسمع تسبيح الحيتان للرحمن ، وحتى سمع تسبيح الحصى لفالق الحب والنوى ، ورب السموات السبع والأرضين السبع ، وما بينها وما تحت الثرى.

 

وقال تعالى (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) الأنبياء 87-88. فعن معنى (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أن نضيق. وقيل معناه : نقدر من التقدير وهي لغة مشهورة قدَر وقدّر. (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) قيل ظلمة الحوت ، وظلمة البحر، وظلمة الليل ، وقيل : ابتلع الحوت حوت آخر، فصار ظلمة الحوتين مع ظلمة البحر. وقوله تعالى (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ . لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) قيل معناه : لولا أنه سبح الله هنالك ، وقال ما قال من التهليل والتسبيح والاعتراف لله بالخضوع والتوبة إليه ، والرجوع إليه للبث هنالك إلى يوم القيامة. ولبعث من جوف ذلك الحوت. هذا معنى ما روي عن سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه. وقيل معناه (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ) من قبل أخذ الحوت له (مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) أي: المطيعين المصلين الذاكرين الله كثيراً 7.

 

إما عن الزمن الذي شهد إحداث قصة سيدنا يونس عليه السلام ، فلنستطيع إن نحدد ذلك على وجه اليقين. إما بخصوص عدد من امن بيونس عليه السلام وهم يزيدون على مئة ألف كما جاء في قوله تعالى (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُون) الصافات 148، فقد اختلف البعض عن الزيادة حتى قال البعض إن يونس عليه السلام بعث إلى  170 ألف ، وربما يكون هذا العدد هم إجمالي عدد الأشوريين في ذلك الزمان ، والله اعلم8.

 

قصة يونس عليه السلام وحقيقة إيمان أهل العراق :-

إن الفترة الفاصلة بين إحداث قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام - والتي من المرجح حسبما جاء في الجزء السابق قد جرت في غضون ( 2350 - 2150 ) قبل الميلاد – وبين ظهور رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في حدود عام (570) للميلاد هي طبعا فترة طويلة جدا لأتقل عن 27 قرنا من الزمان . ورغم طول هذه المدة الزمنية فإننا لم نسمع عن وجود نبي أخر لأهل العراق بعد إبراهيم عليه السلام باستثناء نبي الله يونس عليه السلام .

 

وانطلاقا من إيماننا بان الله عزوجل قد بعث نبيا من عنده في كل أمة من نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم ليدعوهم إلى عبادة الله وحده وينهاهم عن عبادة الطاغوت ، حيث قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) النحل 36. وقوله تعالى (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء 165، وقوله تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الإسراء 15.

 

يتبين لنا وبما لا يقبل الشك بان الله عزوجل قد أرسل أنبياءه لأهل العراق . فلماذا لم يذكر القران الكريم قصص أولئك الأنبياء الذين بعثوا إلى أهل العراق بعد إبراهيم عليه السلام ، لاسيما وإن مساحة ارض وادي الرافدين مساحة كبيرة جدا ؟!

 

إن الإجابة على تسأولنا هذا ، تكمن في معرفة الطابع القصصي للقران الكريم . فالقران الكريم لم يأتي على ذكر قصص أنبياء الله عليهم السلام كقصص تاريخية إنما أراد الله سبحانه وتعالى من ذكره لهذه القصص بيان الدروس والعبر للمسلمين 9. قال تعالى (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) يوسف 111.

 

وبمعنى أوضح ؛ فإننا نجد بان السبب وراء عدم ذكر القران الكريم لقصص أنبياء الله عليهم السلام من الذين بعثوا إلى أهل العراق بعد إبراهيم عليه السلام ، هو لخلو تلك القصص من العبر . حيث امن أهل العراق بأنبياء الله عليهم السلام من غير إن يصروا على كفرهم كما كان الحال في عهد إبراهيم عليه السلام . كما أدى أنبياء الله عليهم السلام رسالتهم على أكمل وجوه ، قال تعالى (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ).

 

وحينما يأتي القران الكريم على ذكر قصة يونس عليه السلام تكون عبرة هذه القصة موجهة لنبي الله يونس عليه السلام . فلو صدر هذا التصرف من إنسان صالح لا من نبي لكان ذلك منه حسنة يثاب عليها ، حيث هاجر في سبيل الله تاركا القوم الكافرين. ولكن يونس عليه السلام نبي قد أرسله الله عزوجل لقومه ؛ فمن المفروض على النبي أن يبلغ قومه عن الله سبحانه وتعالى فليس عليه إلا البلاغ. فخروج يونس عليه السلام تاركا قومه من أهل نينوى في ميزان الأنبياء ، أمر يستوجب تعليم الله تعالى له وعقابه. فالعبرة التي انطوت عليها قصة يونس عليه السلام هي إن الله عزوجل يلقن نبيه يونس عليه السلام درسا في الدعوة إليه ، ليدعو النبي إلى الله فقط. هذه حدود مهمته وليس عليه أن يتجاوزها ببصره أو قلبه ثم يحزن لأن قومه لا يؤمنون.

 

فالله عزوجل قد اختار ارض العراق لتكون مهبطا لأدم عليه السلام ومن ثم لتكون ارض ذريته أيضا ، شيت وانوش وقينان ومهلائيل واليارد واخنوخ – إدريس – ومتوشلخ ولمك واختارها أيضا لان تكون ارض نوح عليه السلام 10. فان كان الدليل على وجود ادم عليه السلام في العراق دليلا غير قطعيا فان الدليل على وجود نوح عليه السلام في العراق هو دليلا جازما . وان انتهت البشرية بطوفان نوح عليه السلام في العراق ، فان البشرية  قد عادت من ارض العراق أيضا . وان غرق أهل العراق لكفرهم فان أهل العراق المؤمنين قد نجو بإيمانهم .. فأليس نوحا عليه السلام ومن امن معه وركب السفينة كان عراقيا هو الأخر ؟! .. ثم الم يبعث اله نبيه إبراهيم عليه السلام وهو عراقيا أيضا ؟! .. ولماذا اختص الله عزوجل النمرود ملك العراق في ذلك الزمان بعذابه ، دون سائر العراقيين ؟! .. لماذا لم يأتي عذاب الله عزوجل على قوم إبراهيم عليه السلام وهم العراقيون كما أتى عذابه على قوم هود وصالح ولوط وشعيب ..؟!

 

وبعد كل هذا الانقطاع عن عدم ذكر القران الكريم لقصص الأنبياء المبعوثين لأهل العراق بعد إبراهيم عليه السلام ، يأتي القران الكريم على ذكر قصة نبي الله يونس عليه السلام والتي انطوت لا على عقاب الله عزوجل لأهل نينوى – لأنهم لم يؤمنوا بنبيه منذ البداية -  إنما على عبرة بليغة لنبيه يونس عليه السلام بان لا يجزع ولا يتسرع في أمره وان يصبر ويتحمل كل ما قد يواجهه في سبيل القيام بواجبه على أكمل وجه ليرضي الله عنه أولا ومن ثم سيرى كيف يؤمن به قومه من أهل نينوى .

 

الخلاصة :

- من خلال هذه الحقائق نستطيع إدراك حقيقة إيمان أهل العراق ، فإيمان أهل العراق كان هو الأعم وما كفر من كفر منهم فليس سوى حالة شاذة عما عرف عن إيمانهم بالله عزوجل ، وحالة مؤقتة عابرة وليست حالة عامة مستمرة 11.

 

إن قصة يونس عليه السلام تعبر عن هذه الحقائق ، قصة يونس عليه السلام لاتعبر عن إيمان أهل نينوى فحسب بل وتعبر أيضا عن إيمان أهل العراق . فأهل نينوى وهم الأشوريين كانوا على صلة وثيقة بباقي إنحاء العراق ، فالتشابه والتداخل والتجانس بين أفكار ومعتقدات وثقافة الأشوريين وبقية أقوام العراق من سومريين واكديين وبابليين ، كان تشابها وتداخلا وتجانسا كبيرا للغاية . فقد سكن الأشوريين مدينة نينوى والأشوريين هم أقوام قد استقروا في العراق بحدود الألف الثالث قبل الميلاد ( 3000 ق . م ) وينتمون إلى نفس الأصول التي انتمى لها الاكديين والبابليين والكلدية والآرامية والعربية حيث كان منبت هذه الأقوام الجزيرة العربية والتي عرفت بالأقوام السامية .

 

وتكلم الأشوريون لهجة من لهجات اللغة الاكدية ، وهي اللغة التي انتشر استخدامها في إنحاء العراق منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد وحتى أواخر الألف الأول قبل الميلاد ( 1000ق . م )، واستخدموا الخط المسماري ذاته الذي ابتدعه السومريون وطوروه الاكديون والبابليون .

 

واتصفت معتقداتهم الدينية وأفكارهم وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية ونظمهم الأخرى المختلفة بالصفات العامة التي اتصفت بها معتقدات ونظم وأفكار إخوانهم بقية سكان العراق حتى غدا من الصعب على الباحث إن يميز بين أصول العناصر الحضارية العراقية القديمة أهي سومرية إما كدية أم بابلية أم أشورية . بل إن التشابه الحضاري الكبير بين الشمال والجنوب ، ولاسيما بين الاكديين والأشوريين في عهدهم القديم قد دفع البعض إلى الاعتقاد بان الأشوريين كانوا قد استقروا في بداية أمرهم في جنوبي العراق ثم نزحوا إلى الشمال في فترة متأخرة نسبيا 12.

 

بل إن القوانين الأشورية قد أشارت إلى وجود عادة التحجب للمرأة منذ العصر الأشوري الوسيط على اقل تقدير ، ويبدو إن الحجاب كان يتضمن ستر الوجه والرأس وربما ارتداء ما يشبه العباءة وكان يسمح للمرأة الحرة فقط إن تتحجب في حين لم يسمح للفاجرات وغيرها ارتداء الحجاب 13. كما إن الباحث والدارس لمسلة حمو رابي سيجدها قد انطوت على بعد أخلاقي ذات صفة إيمانية لتحقيق العدالة والازدهار والوحدة ولمنع حالات تاليه الملوك وكما سيجد إن لحم الخنزير كان محرما عند السومريين ولم يسمح لهم بأكله الأبعد تهديد المجاعة لهم ، وسنذكر ذلك بالتفصيل في الجزء القادم من بحثنا عن مكانة أهل العراق عند الله عزوجل .

 

- كما إن قصة يونس عليه السلام تعبر عن نفس المعنى الذي جاء في حديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الذي ذكره الخطيب البغدادي (أن أبي إبراهيم عليه السلام هَم أن يدعو عليهم فأوحى الله تعالى إليه لا تفعل فإني جعلت خزائن علمي فيهم وأسكنت الرحمة قلوبهم) فحينما أوحى الله عزوجل لنبيه إبراهيم إن لا تدعوا على أهل العراق ، لان أهل العراق سيؤمنون بالأنبياء من بعدك. فأهل العراق فيهم بذرة الإيمان ومن يمتلك العلم والرحمة فلن يكفر ، حيث بين لنا القران الكريم بان من صفات المؤمنين إن يكونوا أصحاب علم ورحمة .

 

قال تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)  فاطر 28 ،أَيْ إِنَّمَا يَخْشَاهُ حَقّ خَشْيَته الْعُلَمَاء الْعَارِفُونَ بِهِ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتْ الْمَعْرِفَة لِلْعَظِيمِ الْقَدِير الْعَلِيم الْمَوْصُوف بِصِفَاتِ الْكَمَال الْمَنْعُوت بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كُلَّمَا كَانَتْ الْمَعْرِفَة بِهِ أَتَمَّ وَالْعِلْم بِهِ أَكْمَلَ كَانَتْ الْخَشْيَة لَهُ أَعْظَم وَأَكْثَر14. (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) قَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس مَنْ لَمْ يَخْشَ اللَّه تَعَالَى فَلَيْسَ بِعَالِمٍ . وَقَالَ مُجَاهِد : إِنَّمَا الْعَالِم مَنْ خَشِيَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَعَنْ اِبْن مَسْعُود : كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّه تَعَالَى عِلْمًا وَبِالِاغْتِرَارِ جَهْلًا . وَقِيلَ لِسَعْدِ بْن إِبْرَاهِيم : مَنْ أَفْقَهُ أَهْلِ الْمَدِينَة ؟ قَالَ أَتْقَاهُمْ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَعَنْ مُجَاهِد قَالَ : إِنَّمَا الْفَقِيه مَنْ يَخَاف اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَعَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : إِنَّ الْفَقِيه حَقَّ الْفَقِيه مَنْ لَمْ يُقَنِّط النَّاس مِنْ رَحْمَة اللَّه , وَلَمْ يُرَخِّص لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّه تَعَالَى ، وَلَمْ يُؤَمِّنهُمْ مِنْ عَذَاب اللَّه , وَلَمْ يَدَع الْقُرْآن رَغْبَة عَنْهُ إِلَى غَيْره ، إِنَّهُ لَا خَيْر فِي عِبَادَة لَا عِلْم فِيهَا ، وَلَا عِلْم لَا فِقْه فِيهِ , وَلَا قِرَاءَة لَا تَدَبُّر فِيهَا 15.

 

وقوله تعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) الفتح 29 ، وقوله تعالى (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَة) البلد 17 .

 

كما بين لنا ذلك رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، فعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ارحموا ترحموا واغفروا يغفر الله لكم) رواه أحمد ، وعن أبي هريرة قال سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول ( لا تنـزع الرحمة إلا من شقي)  رواه الترمذي وقال حديث حسن. وحديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) رواه مسلم عن عبدا لله بن مسعود رضي الله عنه , فالمؤمن الصالح قلبه سليم , قلبه نظيف من الحقد والغل والحسد والبغضاء والشحناء لإخوانه المؤمنين , هذا هو المؤمن الصالح المؤمن الصادق الذي يخشى الله ويتقي الله ويراقب الله 16.

 

- إن العبرة التي جاءت بها قصة يونس عليه السلام لهي عبرة عظيمة ، قد أرد الله عزوجل إن يفهمها ويعيها كل إنسان مسؤول عن مسؤوليته . فالحاكم أو الملك أو الرئيس أو القائد أو النبي ينبغي عليه إن لا يجزع ولا يتسرع في أمره وان يصبر ويتحمل كل ما قد يواجهه في سبيل القيام بمسؤوليته على أكمل وجه ليرضي الله عنه أولا ومن ثم سيرى كيف يحصد ثمار ما زرع .

 

 

----------------------------------------

 

الهوامش :

1- راجع قصة نبي الله هود عليه السلام لقوم عاد ، وقصة نبي الله صالح عليه السلام لقوم ثمود وقصة نبي الله لوط عليه السلام لمدينة سدوم وقصة نبي الله شعيب عليه السلام لمدين والايكة .

 

2- الخطيب البغدادي هو احمد بن علي بن ثابت (ت,463هـ,1076م) . ويعد كتابه تاريخ بغداد من أهم واكبر مؤلفات وأكثرها شهرة على الإطلاق ، ونال من أجله صيتاً ذائعاً لما تميز به من ميزات عظيمة ، ويعد أول كتاب تناول تاريخ علماء بغداد منذ تأسيسها إلى عصره. وتظهر أهمية الكتاب بما حواه من تراجم بلغت حوالي 7831 ترجمة شملت هذه التراجم العلماء من فقهاء ومحدثين فضلا عن رجال الدولة من خلفاء ووزراء ، ولقد وصف الدكتور ألعمري تاريخ بغداد (بتاريخ النخبة) لأن الخطيب تناول في كتابه العلماء البارزين وأصحاب الكفاءات وخاصة العلماء الذي ينتمي إلى طبقتهم. وأصبح تاريخ الخطيب مصدراً مهما لكثير من مؤرخي الإسلام الذين استفادوا منه كثيراً وأصبح لهم مرجعاً رئيساً في كتبهم ، وهذا ألسبكي ( ت، 771هـ) الذي قال عنه يعد من محاسن الكتب الإسلامية. و أثنى عليه طاش كبرى زاده(ت، 965هـ)  بقوله (كان من الحفاظ المتقنين والعلماء المتبحرين ولو لم يكن له سوى التاريخ لكفاه فأنه يدل على اطلاع عظيم) .

 

3- الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، الجزء الأول ، صفحة 24-25. أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن بكير المقرئ قال حدثني أحمد بن محمد بن إبراهيم الأنباري قال نبأنا أبو عمر محمد بن أحمد الحليمي قال نبأنا آدم بن أبي إياس عن بن أبي ذئب عن معن بن الوليد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا وفي شامنا وفي يمننا وفي حجازنا قال فقام إليه رجل فقال يا رسول الله وفي عراقنا فأمسك النبي صلى الله عليه و سلم فلما كان في اليوم الثاني قال مثل ذلك فقام إليه الرجل فقال يا رسول الله وفي عراقنا فأمسك النبي صلى الله عليه و سلم فلما كان في اليوم الثالث قام إليه الرجل فقال يا رسول الله وفي عراقنا فأمسك النبي صلى الله عليه و سلم فولى الرجل وهو يبكي فدعاه النبي صلى الله عليه و سلم فقال أمن العراق أنت قال نعم قال أن أبي إبراهيم عليه السلام هَم أن يدعو عليهم فأوحى الله تعالى إليه لا تفعل فإني جعلت خزائن علمي فيهم وأسكنت الرحمة قلوبهم .

 

4- الأستاذ الدكتور محمد جاسم حمادي المشهداني ، مكانة العراق والعراقيين في كتب التاريخ والتراث ، صفحة 41 .

 

5- أبي فداء الحافظ ابن كثير، البداية والنهاية ، المجلد الأول - الجزء الأول، صفحة 236.

 

6- عفيف عبد الفتاح طبارة ، مع الأنبياء في القران الكريم ، صفحة 308.

 

7- أبي فداء الحافظ ابن كثير، البداية والنهاية ، المجلد الأول - الجزء الأول، صفحة 231- 236.

 

8- المصدر نفسه ، صفحة 232.

 

9- عفيف عبد الفتاح طبارة ، مع الأنبياء في القران الكريم ، صفحة 24-28.

 

10- سبائك الذهب في معرفة قبائل وانساب وتاريخ العرب ، تأليف الشيخ الفاضل أبى الفوز محمد أمين البغدادي الشهير بالسويدي الصادر سنة 1819ميلادية / 1239هجرية، صفحة 13، مطبعة الزهراء الحديثة بالموصل ، منشورات مكتبة بسام ، رقم الإيداع في المكتبة الوطنية ببغداد 861 لسنة 1984.

 

11- سنأتي على المزيد من التفاصيل وبيان الحقائق عن إيمان أهل العراق في الأجزاء اللاحقة بإذنه تعالى ، لنرى ونتأكد كيف كان إيمان أهل العراق في ذلك الزمان ، حيث سنتطرق إلى إحدى الحقائق الهامة عن معنى الإلهة عند العراقيين القدماء وحقيقة عبادة الكواكب والنجوم والأصنام وسبب ذلك .

 

12- العراق في التاريخ ، تأليف لجنة من كبار المختصين العراقيين برئاسة الدكتور صالح احمد العلي رئيس المجمع العلمي العراقي ،صفحة 124 - 128، رقم الإيداع في المكتبة الوطنية ببغداد 837 لسنة 1983 ، دار الحرية للطباعة.

 

13- المصدر نفسه ، صفحة 193.

 

14- انظر تفسير ابن كثير للآية 28 من سورة فاطر .

 

15- انظر تفسير القرطبي للآية 28 من سورة فاطر .

 

16- http://www.islameiat.com/ansar/mqal100-4.htm

 

 

والله اعلم .

تم الجزء الرابع بحمد الله وتوفيقه .

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاثنين / ٢٥ مـحـرم ١٤٣١ هـ

***

 الموافق  ١١ / كانون الثاني / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور