أم يحيى .. أنحني تحية لك

 
 
 
شبكة المنصور
ذكرى محمد نادر
طوابير الحرب..
أيتام
طوابير الحرب..أرامل
طوابير الحرب..
عصافير لا تحسن الكلام فيما يحزنها.. ولا تحسن اللوم ولكنها عصافير عراقية تتقن كيف تُقر العين بما يُسر القلب الذي يقتات على ما تبقى بالنفوس من كرامة لم تفلح صنوف الدهر, بما جادت به من خطوب ان تلسع أو تجرح.. أو تثلم كرامتها. وصنوف الدهر التي تناوبت عبر سنوات صارت أبلغ من سبع عجاف بما فيها من غضاضة وألم وعوز, ومرارة سواء من غريب, أم من ذوي القربى! لكنها لم تتمكن من كسر شكيمة أرملة عراقية.. لا تعرفونها.. ولم تسمعوا عنها شيئا.. أمرأة لم يصفها صحفي أعد للقاء سيدة كويتية, معية وفد نسوي قدم من تلك الديرة, بغير كنيتها "أم يحيى". أرملة مات عنها, أو بالاحرى قتل زوجها بفاعل مجهول, أُم لأربعة أطفال, لا يتقن أكبرهم كتابة اسمه في كراسته المدرسية, امرأة تتشح بالسواد على سعة جسدها وتتلفع بالكبرياء ما شاء لها.


خلّ الحكاية تروي نفسها, فلا طائل من تزويقها ففيها من الأنفة ما يكفي أن تضرب بقفا الكف على أفواه من
يحاول أن يشوه رقيم سيدة عراقية.. سيدة الحزن المهيب.


أم تقتر اللقمة, تخبئها عن شفتيها, لتوفرها لاصغر الأبناء عند جوع.. وتضمد بالصبر دمعة على خد أكبرهم وهو يسمعها تبكي صمتا على وسادتها.. لترسم على وجهها بسمة مضيئة بمحبة الأمومة وهي تبعث به إلى مدرسته وإن كان على سغب صباحي يطول.. وهي تتمتم له: الله يفرجها ابني.. لليتيم رب يحميه.


أم يحي أرملة من ثلاثة ملايين أرملة أخرى غيرها, حسب آخر احصائيات وزارة التخطيط العراقية التي وجدت أن هذا هو الرقم التقريبي لعدد الأرامل, تتراوح أعمارهن ما بين 23 وحتى 80, لا تتقاضى, سوى 83 ألف منهن, مبالغ الإعانات الإجتماعية التي لا تسمن ولا تغني من جوع, و لكنه مبلغ على هزاله, قد يعفيهن لبضعة أيام ويرد سؤال الحاجة, وقد يسد رمق طفل, أو يبلّ ريقه بحليب مجفف بعد جفاف أثداء الامهات, أو بقوت مسنة مات عنها معيلها!


بعضهن يقضين أياماً طويلة بصبر ومثابرة لا تعرف الركون لليأس علّ رحمة الباحثة الاجتماعية تشملهن, وتغفل لبرهة زمن عينها,عن محسوبيات, أو وساطات فحتى ألم اليتم والحاجة, لم يعد معفيا من ضريبتها! أم يحيى وأربعة أيتامها, في سعيها اليومي المواظب, تشد همتها, بانتظار استمطار رحمة حقها من نصيبها بمنحة الإعانة الإجتماعية, ولكنها في سعيها الدائب ما كانت, لتفرط بكرامتها أو أنفتها, فهل يكسر الجوع روحا جبلت على شمم؟ لم تكن تمد اليد لسؤال قد يسلمها إلى الذلة, لكنها بكل حزن الأرامل تنتظر وحسب, وبصبر العراقية تكابر على زمن لم يعفها وثلاثة ملايين غيرها من هم الانتظار في اثنائه تتسمع لحكايات لا تبتعد كثيرا عن حكايتها.. أمهات, ثكالى, أرامل, مكدودات محدودبات القلوب, ولكنهن مع ذلك يتشبثن بكبرياء سواد ثيابهن او مصائبهن.


أم يحيى, كانت تتسمع لحديث السيدة هدى العلي رئيسة الوفد النسوي الكويتي, الذي قدم إلى العراق لتقديم معونات انسانية! وكأن العراق بما فاض الله عليه من الخيرات بلد فقير, وكأن الجيوب التي اكتنزت, ولم تشبع بعد, وغصت خزائن بلدان أوروبا بما اكتسبه ساسته من صفقات موت وتخريب, صارت تشعشع بهم شوارعها فيللا, وقصوراً, وعمارات, ومزارع, كانت تتسمع للسيدة هدى وهي تتحدث لصحفي من نيوز ماتيك, عن واقع أرامل العراق المؤلم وانها جاءت مع بقية وفدها للاطلاع على ما هنّ عليه, وتقديم المساعدة لهن, فقد اصبح وضع الأرامل في العراق مخزيا وغصت الشوارع بأسراب المتسولات وصغار العصافير من الأيتام المتسولين!


وأم يحيى, أرملة لأربعة أيتام يرضع أصغرهم عن أب مقتول وأكبرهم لا يحسن كتابة اسمه في كراس مدرسته وقفت
بكل عزة عنفوانها وقالت: لا!
ماذا يا أم يحيى,
يا أرملة وأم لأربعة أطفال!
أم يحيى قالت مرة
اخرى: لا.. بلدي.. عراقي غني, مسروق نعم, لكنه غني, وانا لا استجدي منظمة ما, بل آخذ
حقي من وطني!
ثم كفت أم يحيى
عباءتها وشدّت ابنها على صدرها ومضت!


حكاية ليست عادية, في زمن غير عادي, أمثولة كبرياء لا تحسن القيام بها سوى عراقية خاطت الخطوب على قامتها ما شاء لها من الأسى. ولكن هل قصّت هامتها؟ قد يكون العناء قصّ أحلامها, بتر جناحيها, صادر حياتها ومأواها, ولكن هل قصّر من قامة كبريائها؟


أم يحيى ترفض أن تتسول المنظمات باسمها وهي على علم ويقين أن الحكومة تسرق باسمها وأن المليارات التي
تعد لصالح الأيتام والأرامل تذهب إلى جيوب كبرت خزائن أصحابها, ولكنها مع ذلك تعض بالأنياب على جرحها وترطب بمهابة كرامتها جوع صغارها, وترفض أن تستجدي باسمهم.


بماذا نسمي أم يحيى, أي التسميات أليق بها, قامة, مهابة, كبرياء, باسقة, نخلة, عشتار, بابل, اينانا, اينيا, ماذا تسمي قامة حزن أرملة ترفض ذلّ السؤال, وتقول بلدي أغنى من كلّ الهبات وتشد الحزام على بطون صغارها, وتنتخي بعراقها.. ماذا تسميها الباسلة, ضد غول الجوع الذي لو كان رجلاً لقتله الامام علي رضوان الله عليه, ماذا تقول لقامة فارعة التقى, مهيوبة الدمع تضم قلبها بالكف كي لا يتنحب, إلاّ سراً, سوى.. أنها, تلك هي يا أيام السوء, امرأةعراقية الإباء.


أم يحيى.. يا أم
يحيى .. أحني قامتي لمجد رفضك صدقة لا تليق بكبرياء جرحك.. يا أُما عراقية

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الجمعة / ٢٣ مـحـرم ١٤٣١ هـ

***

 الموافق  ٠٩ / كانون الثاني / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور