حول اعتقال اللواء تلفون كوكو أبو جلحة في جوبا

 
 
شبكة المنصور
د. صديق تاور كافي / أستاذ جامعي – ومحلل سياسي
نعيد هنا نشر فقرات كانت قد وردت في مقالنا تحت عنوان: اللواء تلفون كوكو ابو جلحة في جوبا الى متى؟ قبل ثمانية أشهر، وذلك على خلفية اعتقاله منذ اسبوع قبل يوم واحد من سفره في طريق عودته الى الخرطوم، بصحبة اللواء دانيال كودي مستشار حكومة الجنوب لولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان.


اللواء تلفون كوكو فضلاً عن كونه من القيادات الاولى المؤسسة لقطاع جبال النوبة في الجيش الشعبي لتحرير السودان، فهو يحمل صفة المبعوث الشخصي لرئيس حكومة الجنوب لدى جبال النوبة، وهي صفة سياسية وليست عسكرية. وقد كان ينوي القيام بجولة على المنطقة برفقة اللواء دانيال كودى واللواء خميس جلاب واللواء يوسف كوة الذي اقعده المرض طويلا. والزيارة نفسها قد تم الإعداد لها مع الرئيس سلفا كير من الناحية اللوجستية ومن ناحية البرامج والاهداف. ولذلك جاء قرار اعتقاله غريبا ومفاجئا لجميع الأوساط، وسادت ردود افعال على نطاق واسع خاصة في الأوساط السياسية والاهلية لولاية جنوب كردفان.


التساؤلات تدور حول من الذي اصدر قرار الاعتقال، وهل تم دون علم قيادة الحركة ام لا؟ وهل ُحسبت نتائج هذة الخطوة على الاوضاع السياسية بجنوب كردفان؟ هل هي جزء من صفقة التفاهمات بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بخصوص جنوب كردفان مركزيا او بين احمد هارون وعبد العزيز الحلو ولائيا؟ ثم لماذا اللواء تلفون كوكو بالذات؟ وهل هي قائمة تستهدف بقية قيادات جبال النوبة في الحركة؟ كلها اسئلة تفيض بها مجالس المدينة وتعكس قلقا وانزعاجا شديدين من هذه الخطوة الخطيرة.


ولاتزال الأزمة السياسية في ولاية جنوب كردفان قائمة ومتعمقة، سواء على مستوى الشراكة واداء حكومتها، او على مستوى الأزمة الداخلية لكل طرف، على الرغم من أن تكتيكات الزمن الضائع من مباراة نيفاشا في ملعب جنوب كردفان قد اضطرت الفريقين الى تبديل قائديهما هناك، وتبديل اللغة التي كانت سائدة طيلة الاربع سنوات الماضية. وهناك أزمة سياسية في هذه الولاية هي انعكاس للأزمة الشاملة التي يعيشها البلد عموما، ولكنها هنا تظهر بجلاء أكثر من المناطق الاخرى في السودان. وقد اهتم الكثيرون بهذه الأزمة تشخيصاً ومحاولات للخروج منها من داخل الشريكين او خارجهما، اهمها مجموعة الازمات الدولية في تقريرها الشهير نهاية اكتوبر 2008م. وكذلك عدد من الأنشطة والفعاليات الرسمية والمدنية والأهلية من ورش عمل ومؤتمرات ولقاءات كلها تتفق في عرض حال الواقع المأزوم في الولاية، وتحوم حول الحلول الجادة والعملية للمشكلة دون أن تقتحمها، باستثناء اللواء تلفون كوكو أبو جلحة الذي رد الأزمة الى الاتفاقية نفسها بقوله «أزمة الولاية ناتجة عن اخفاقات بروتكول جبال النوبة، ومن دون مراجعة بروتكول جبال النوبة فستظل الولاية مأزومة حتى لو عين لها عبد العزيز الحلو. ولو حتى عين تلفون كوكو فهو ايضا سيفشل طالما ان البروتكول لم يراجع» ـ رأي الشعب ـ الاثنين - 23/3/2009م ـ ص 5، ونحن بدورنا نضيف بأنه حتى لو تمت مراجعة البروتكول وتم ضبط النصوص بما يضع النقاط فوق الحروف ويعيد الأمور الى نصابها على الورق، فإن هذه الازمة سوف تستمر، لأن أهم عنصرين في اي اتفاق «الرغبة الجادة والارادة المجردة من الضغوط والاملاءات» غير متوفرين لها على مستوى الحزبين الشريكين في جنوب كردفان. وهذان العنصران لا يمكن توفرهما بالمهرجانات والخطب والأهازيج أو بالدعاية الإعلامية، خاصة أن ما تبقى من زمن هو بالكاد يكفي للملمة بعض الاطراف وليس كلها.. فمركزيا يتعامل المؤتمر الوطني مع هذه الولاية من منظور «مثلث حمدي» على ما يبدو، بينما تتعامل معها الحركة الشعبية على أنها مسرح لتصفية الحسابات مع الشريك «الخصم» ليس الا. ولا تغير من هذا الاستنتاج عبارات التطمين والوعود السراب بالعمل سويا على التنمية وتجاوز الخلافات من نوع ما قالته وزيرة الصحة الاتحادية د. تابيتا بطرس في «كاودا» من أن القيادة الجديدة للولاية استطاعت تجاوز «كافة» العقبات التي كانت تعترض الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، أو قول أحمد هارون والي الولاية الجديد في ذات المحفل «نحن كحكومة ملتزمون بتقديم نموذج للعمل المشترك والشراكة البناءة».-رأي الشعب - 9/6/2009م ـ العدد «1161». فاربع سنوات من الممارسة اليومية التي تخللها اكثر من الف حالة خرق واختراق للاتفاقية من الطرفين كافية لتعزيز الاستنتاج الذي خلصنا اليه، وليتهما يثبتان خطأ استنتاجنا هذا.


فالمؤتمر الوطني باعتباره منظومة حاكمة في هذه الولاية، هو أس الأزمة وأساسها قبل أن تشترك معه الحركة الشعبية في ذلك بعد يناير 2005م. اما الاخيرة فإنها تعتبر مسؤولة بالتساوي عن إخفاقات ما بعد نيفاشا، جنبا الى جنب مع شريكها اللدود. من هنا أخذت مواقف اللواء تلفون كوكو أهمية خاصة، ولفتت الانتباه منذ وقت مبكر للواقع المأزوم في ولاية جنوب كردفان، واعتباره الشريكين وجهين لعملة واحدة. ونسبة لمطابقة تحليلات اللواء تلفون للواقع هناك ومطابقة مواقفه لقطاعات واسعة من مواطني الولاية بما فيها قواعد حزبي الشراكة، فقد تبلور ما يمكن وصفه بتيار الأغلبية الصامتة خارج منظومة الشراكة و«داخلها جزئيا» يحمل رأيا واضحا عن بروتكول جبال النوبة في اتفاقية نيفاشا وعوامل فشله على أرض الواقع هناك.


وبعد ثلاث سنوات من النقد الصريح والجرئ حول واقع ليس بخافٍ على احد، اقتنعت قيادة الحركة بأن هناك مشكلة في هذه المنطقة تحتاج الى وقفة. فعلى لسان ياسر عرمان لصحيفة «الأحداث» بتاريخ 8/2/2009م ص 55» «أولاً اقول إن رئيس الحركة الشعبية سيجتمع بقيادات هذه المنطقة.. والمكتب السياسي يفكر في عقد مؤتمر عام للحركة الشعبية في هذه المنطقة مثلما تم في كاودا في المرة الاولى. وكل هذا يحتاج الى مشاورات مع اهل المنطقة». ويقول خميس جلاب إن «رئيس الحركة اكد لنا انه مهتم بجنوب كردفان والمواطنين هناك، لكن لمشغولياته الاخرى لم يزر الولاية، واكد انه سوف يزور الولاية، لكن المسائل تزامنت مع الأزمة الاخيرة»- أخبار اليوم ـ السبت 25/4/2009م العدد «5228».


وعلى خلفية هذه الأزمة السياسية في ولاية جنوب كردفان والأزمة الداخلية للحركة هناك بالدرجة التي عرقلت زيارة رئيس الحركة الشعبية التي كان مرتبا لها منتصف فبراير الماضي، وجهت الدعوة لقيادات الحركة الرئيسية في جنوب كردفان للالتقاء بالفريق سلفا كير لمعالجة الأزمة بوجهيها التنظيمي والسياسي. وبالتالي فقد وجد منذ الوهلة الاولى كل من الفريق عبد العزيز الحلو، اللواء دانيال كودي واللواء اسماعيل جلاب، بينما استعصم اللواء تلفون كوكو بملف خاص به أعده برفقة عدد من ابناء المنطقة الذين اتفقوا معه حول رؤيته للحل وسبل الخروج النهائي من الازمة. وقد جاءت الدعوة عن طريق اتصال هاتفي مباشر من الدكتور لوكا بيونج في 26/2/2009م، مفادها أن رئيس حكومة الجنوب يطلب اللقاء به في جوبا لمناقشة بعض الامور المهمة «وان الزمن في تطور ويمحو الكثير، لذلك عليك بالحضور للاستماع الى ما يريده منك القائد سلفا كير، وان لم يعجبك حديثه فأنت حر..»- رأي الشعب 23/3/2009م ـ ص 5. وبغض النظر عن الملابسات التي رافقت الدعوة وترتيبات السفر بعد موافقة اللواء تلفون كوكو على تلبية الدعوة، فإنه قد وصل الى جوبا في 2/4/2009م برفقة وفد من أبناء جبال النوبة المتفقين معه حول رؤيته. وقد كان سفر المجموعة على طيران الأمم المتحدة بعد ترتيب من الدكتور رياك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب، وقد تمت استضافتهم في فندق جنوب السودان «1» الذي يتبع لرئاسة حكومة الجنوب، حيث يقيم اللواء دانيال كودي ايضا.


وهناك استفهامات كبيرة حول الطريقة التي تتصرف بها قيادة الحركة الشعبية مع اللواء تلفون كوكو في جوبا. فقد سبقت دعوته الى جوبا بمبادرة حوار من الفريق دكتور مجاك أقود مدير الامن والمخابرات لحكومة الجنوب ونائب مدير الامن والمخابرات لحكومة الوحدة الوطنية منذ 17/9/2008م. وبحسب اللواء تلفون كوكو في «رأي الشعب» بتاريخ 23/3/2009م «تمكنا من الاتفاق حول معظم الملفات مثل السلطة والثروة، وبقي الخلاف فقط حول ملف بقاء قوات الجيش الشعبي من أبناء النوبة في جنوب السودان حتى 2011م العام الذي يمارس فيه شعب الجنوب حق تقرير مصيره، بينما يبقى مصير قوات شعب النوبة مجهولا تماما. وقد ساعد الفريق دكتور مجاك في هذا الحوار كل من حاكم ولاية الوحدة العميد تعبان دينج قاي والعميد ياسر سعيد عرمان والوزير ميان دوت وسكرتير الحركة بولاية الخرطوم مهندس بول رينق..» إذن هناك أرضية كافية لتفاهمات من الممكن أن تسهم بقدر كبير في معالجة أوضاع الحركة على صعيد جنوب كردفان، ومن ثم الإسهام في معالجة الأزمة السياسية ولو جزئيا. فلماذا تم تخطي كل هذا؟


وبتقديرنا أن ما يجري لا يخلو من وجود مجموعة بعينها يهمها ترتيب الأمور وفق نظرتها هي بمعزل عن رئيس حكومة الجنوب نفسه، ثم بعد ذلك فرض سياسة الأمر الواقع على اللواء تلفون، أو تطويل إجراءات التفاوض حتى يقصر نفسه ليكون في وضعية المستعد لأي تنازل. وكلا الحالين ينطلقان من قصر نظر لواقع الولاية، لأن القضية ليست قضية أفراد، فكثيرون على صعيد جنوب كردفان يتابعون باهتمام شديد ما سوف يسفر عنه وجود اللواء تلفون في جوبا، حيث تتبع ذلك تداعيات كبيرة «سلباً أو إيجاباً» تلقي بظلالها على الأوضاع السياسية هناك. فالموقف أكبر من النظرة التكتيكية أو المناورات. ونذهب أكثر من ذلك إلى أن هذه المجموعة تنظر الى العلاقة بين جنوب السودان وجبال النوبة بمنظار كسب الوقت، حتى يصل قطار نيفاشا الى محطته الاخيرة، وعندها «فألف حلاَّل يحلها».


ونعتقد أن اللواء تلفون قد تعامل بطول نفس وصبر كبيرين، رغم أسلوب التخطي والتجاهل، وبذلك أثبت انه قائد حقيقي يستطيع تحمل كل الصعاب حتى وان كانت ظلماً من رفاق السنين العجاف بين الأحراش. وعلى قيادة الحركة أن تعيد النظر في طريقة تعاطيها مع اللواء تلفون وملفه بمقدار ما يمثله من آمال وطموحات لكل الذين علقوا أمانيهم على سلام نيفاشا بأن يأتيهم باستقرار وطمأنينة، من الملايين المتناثرة في مدن وأرياف جنوب كردفان.. انتهى.


بقي أن نقول إن على قيادة الحركة الشعبية أن تعالج الأمر بما يستحق من سرعة وبما يرد الاعتبار للواء تلفون ورفاقة الآخرين الذين صُدموا بهذا الإجراء مثل اللواء دانيال كودي الذي عقد مؤتمراً صحفياً في جوبا، استنكر فيه ما حدث. ومثل أحزاب الإجماع الوطنى التى أصدرت بياناً مشتركاً بهذا الخصوص، وشكلوا لجنة للاتصال بالحركة الشعبية. والإدارة الأهلية للريف الجنوبي الذين أعلنوا رفضهم واستنكارهم لما حدث مع أحد قادتهم البارزين، وتقدموا بمذكرة للأمم المتحدة. وكثيرون من الذين يعرفون حساسية الأمر ويعرفون دور القائد تلفون كوكو .

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الخميس  / ١٥ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢٩ / نيسـان / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور