وجهة نظر لراعي أغنام في واقع العراق جدير بأن يدرس

 
 
شبكة المنصور
حديد العربي

جمعتنا الأقدار بأحد رعاة الأغنام، ممن لم يتفاعلوا إلا يسيرا مع مفردات مناهج الحياة الغربية، التي تفرض اليوم على الشعوب باعتبارها حضارة إنسانية، وهي في حقيقتها ليست إلا شيطنة لها ولفطرتها.


رجل أمي لا يتقن من عربيته إلا ما تلقفه عن أسلافه نطقاً، وليس له من الكتابة حظ أو نصيب، فلا يعني الورق ورسم الحروف في حياته ووعيه شيئا.


مسلم لا يحفظ من كتاب الله تعالى إلا بضع سور قصار، يعتمدها في أداء صلاته، هي بعض مما توارثه عن الآباء والأجداد، مع خليط من الأعراف الإسلامية والجاهلية ممتزجة فيما بينها، لتشكل منظومة السلوك والثقافة لدية.
اقترحنا على ذلك الرجل أن يجد حلا لمعضلة العراق، لكنا ذهلنا لأنه لا يفقه من واقع العراق إلا كونه محتل، مهدور الكرامة، وفاقد لرجولته.


فما كان منا إلا أن نحاول رسم صورة مبسطة لذلك الواقع، وبحيادية تامة، فهو ليس ممن يسعى المرء لكسبه إلى صفه كي يتبنى قناعاته وميوله وأرائه فيما يدور، لأنه متجرد من هموم الحياة كالصحراء، لا يكتنف أفقها إلا القليل النادر من الأعشاب والأشواك، ولا سبيل ليقع فريسة الخداع والتضليل، فالسراب في ظمأ القفار قد ألهمه رصانة في الخيال والأحلام، كما ملكه قسوة في الآراء والأحكام.


استجمع راعي الأغنام قواه وشمر عن ساعد الجد، فاختط على الأرض بضعة خطوط ودوائر، ثم انطلق ليقرر ماذا يحتاج العراق لكي ينجو من شفير الهاوية، التي تكاد تنزلق فيها قدمه بين لحظة وأخرى.


وقد آثرنا أن لا ننقل خلجاته بلهجته البدوية، وإن كانت هي الأقرب إلى العربية من كل اللهجات التي استوطنت أمصار العرب، وصارت وكأنها هي الخصوصيات المحلية الأصيلة والمميزة لكل منها، فيما هي ليست إلا بعضا من آثار الاحتكاك السلبي وغير الحضاري بالأقوام والشعوب الأخرى، بفعل الغزو أو التجارة أو الخداع والتضليل أو التي كانت ناتجة عن محاولات يائسة للهروب أمام واقع العجز والتخلف والانحطاط.


يرى راعي الأغنام الآتي:
1- لا ينبغي لأحد من الذين يمكن لهم أن يتصدروا الأمر والقرار في العراق أن يكون له موطئ قدم خارج حدود العراق، فالذي لا يجد له ملاذا سوى العراق فإن حساباته على الدوام ستبنى على أساس أنه سيتعرض في يوم ما إلى المسائلة والحساب إن امتدت يده على حقوق الغير أو تهاون فيها.


ولكل العاملين اليوم في سياسة العراق مواطئ أقدام خارجه، بل إن لهم حواضن منعتهم فيما مضى تمنعهم اليوم وتقيهم العقاب والحساب، فهم لا يأبهون بالعراق ولا بشعبه، وكلهم جرب التآمر والتجسس والعمالة للغير والتجاوز على حقوق الآخرين ثم هربوا إلى حيث الجهات التي احتضنتهم ووفرت لهم الحماية والمأوى ومنعت شعب العراق أن يقتص منهم من قبل.


كل ساسة عراق ما بعد الاحتلال، وبلا استثناء يذكر أجرموا من قبل ثم هربوا ونجو بجرائمهم من العقاب، وعاد بعضهم وأجرم ثم هرب مرة أخرى وأخرى، كلما وجد نفسه في خطر من سيف العدل وقصاصه.


وهم جميعا اليوم أقدر على ممارسة الإجرام والمزيد من الإجرام دون رادع يجعل أحدهم يتردد في ارتكاب الجرم، لأن ملاذاته صارت كثيرة وطوق حمايته من العقاب أصبح أكثر فاعلية وأكثر أمنا.


وخلاصة القول في هذا: فإن كل هؤلاء الذين يمارسون لعبة السياسة ويقترفون في ظلها ومن خلالها جرائم لا تعد ولا تحصى بحق شعب العراق، لا يصلح منهم أحد ليكون في أدنى موقع خدمة في العراق، فما بالك بموقع للأمر والقرار.


وأن أي حل يمكن أن يتضمن مشاركة أو تأثير لأي أحد منهم فإنه فاشل باطل، وسوف لن يجلب للعراق إلا مزيدا من العذاب.


وأن الشرط الثابت في اختيار من يتولى أمراً أو خدمة في هذا البلد يجب أن يستند إلى قاعدة ثابتة لا تشذ عنها مفردة، بأن لا تكون له حاضنة خارج العراق، وأن لا يمتلك القدرة على إيجادها.


2- أن يخرج الشعب العراقي موحدا إلى الشوارع، ولا يعود منها إلا حين يسقط كل هؤلاء وعمليتهم السياسية المخابراتية الإجرامية، وينال ممن يقع منهم في يده، ويلاحق الحكومات التي جعلت من بلدانها أوكارا وملاذات لهؤلاء المجرمين والقتلة والسراق حتى يكونوا عبرة لغيرهم ممن يفكر في إيواء أمثالهم.


والشعب ليس بعاجز عن ذلك، فليست هناك قوة على الأرض تستطيع أن تقف بوجه شعب موحد إذا تمرد وانتفض، وسوف لن تخيفه عصابات الإجرام والقتل والاعتقال، فليس من أحد يملك القدرة على اعتقال أو إبادة شعب كامل موحد، ناهيك عن أن هذه العصابات بمجموعها لا تشكل رقما مهما أمام الشعب، والذين يلتفون حولهم اليوم من أجل أطماع الدنيا سيكونون أول من يتخلى عنهم ويقدح بهم ويفضح جرائمهم حين يشعرون بأن المصلحة باتت مع غيرهم ولم تعد معهم.


والعجيب أن شعب العراق لم يفعل مثل هذا لحد الآن، فإن شعوبا لا تملك تاريخه ولا تملك نسيجه الاجتماعي المتجانس والمترابط ولا تملك أعراف الشجاعة والرجولة والإباء التي يملكها، كما لا تملك قدراته المادية الهائلة، قد فعلت أكثر من ذلك بكثير، ردا على أحوال هي أرحم بكثير مما هو فيه.


والعجيب أيضا أن هذا الشعب يسحق منذ سبعة أعوام عجاف، بلغ الظلم والإفقار وامتهان الكرامة فيه حدّاً لا يطاق ولا يمكن تصوره ولا ينتفض.


والأدهى أنه بانتفاضته سوف لن يخسر شيء، لأنه لا يستحوذ على شيء مما يملك، ولأن ما يتوقع أن يصيبه من ظلم وجور حين ينتفض سوف لن يزيد على حصاد الفقراء المستمر ليل نهار على أيدي هؤلاء القتلة المدنسين، بل هو سيكسب الكثير الكثير. وقد اقترح ذلك الراعي ان يشارك الشعب انتفاضته عسى أن يجد في منطقتهم الخضراء مرعى ومرتع لأغنامه، فهي لم تعد تصلح، على حد تعبيره، لغير ذلك.


3- على الشعب إذا قرر أن يفعل ذلك، وهو الأقدر على فعله - فشعوب غيره رغم إدمانها على المخدرات والمسكرات وملذات الدنيا قد فعلت أكثر من ذلك – فعليه أن يختار لخدمة العراق من هو مستعد لأن يضع رقبته تحت سيف العدل حين يستحق ذلك، وأن يكون نوابه الـ 325 مع جهازه الحكومي آخر من يستفيد من ثروات العراق، وأن لا يتقاضى أحد منهم مرتبا يزيد على مرتب أدنى موظف في البلد فلسا واحداً، وأن لا يعطى أحد منهم مرتبا قبل أن يضمنوا مصادر للرزق لكل شعب العراق، تفي باحتياجاتهم وعيشهم مع أسرهم بأمن وكرامة، على أن يسود العرف بأن يكون كل هؤلاء العاملين في مواقع المسؤولية القرار هم المرتبة الأخيرة في سلم الرواتب ومصادر الرزق على الدوام، فلا يحصل أحد منهم على ما يزيد على مورد عامل البناء وسائق سيارة الأجرة وغيرهم، كي لا يحتاجوا لمن يذكرهم بحدود متطلبات العيش الكريم.


4- تسلب من العاملين في مواقع الأمر والنهي والخدمة العامة جميعا وبلا أي استثناء، أية امتيازات اعتادوا على الحصول عليها، بما فيها الحماية الشخصية، فحينها سيكون عمل هؤلاء هو حمايتهم من غضب الشعب، وهو حاميهم من غدر الغادرين إن أحسنوا الخدمة له، ولا سبيل أخر غيره.


فالذين بنوا أعظم حضارة في الكون لم يكن لأحد منهم حرس ولا حمايات، فذاك سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن على بابه حرس أو حاجب، وأولئك خلفاؤه الراشدون كذلك لم يكن لأحد منهم حرسا ولا حاجبا، بل كانوا يفترشون الأرض ويحلبون الشاة والماعز لرعيتهم ويخصفون نعلهم بأيديهم، رغم التيجان والصولجانات التي ذلت تحت أقدام جندهم، والإمبراطوريات التي ذهبت أدراج الرياح مع غبار خيلهم وتخت حوافرها، وماتوا أشرف ميتة يتمناها عبد يرتجي مرضاة ربه ورحمته، وقد مات الذين دججوا أنفسهم بالحرس والحجاب كما ماتوا، فالإنسان لا يقيه الموت إلا الأجل، والله تعالى يقول: { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}(سورة النحل، الآية:61) - وتلك الآية لم تكن من محفوظات ذلك البدوي، بل هو أشار إلى معناها إجمالا – وذلك لا يحتاج من الإنسان إلا أن يحسن علاقته بربه، فإن فعل فطريقه معبدة سالكة إلى الخير والعمل الصالح والنافع له ولسائر العباد.


وإن ذلك يستلزم من الذين يعرضون أنفسهم على الشعب لخدمتهم أن يفقهوا تماماً أن تلك الخدمة تنطوي على مسؤولية كبيرة وجسيمة كمسؤولية شيخ القبيلة، إن صلح حاله وأحسن الاقتداء صار لأفراد قبيلته قدوة حسنة يتأسون به فيصلح حالهم، وإن فسد أفسدهم معه وفرق شملهم وشتت أمرهم وأطمع فيه وفيهم شرار الخلق.


فالسارق إن كان من الرعية يكفينا فيه قطع اليد بعد أن نوفر له ما يمنع عليه تبرير الحاجة، لكن ولي الأمر والقائم بخدمة عامة لا يكفينا فيه قطع اليد حين يسرق، بل هو يستوجب قطع الرأس لأنه لم يسرق فحسب، بل خان الأمانة وأساء لرعيته بالاقتداء وتمثل السلوك المنحرف فأهلكهم.


تلك الخطوط المستقيمة التي ختمها ذلك البدوي بدوائرها المغلقة، عبر فيها عن فطرته النقية من سياسات الشيطان ومكره.


ولعلي في بادئ الأمر قد تصورت تلك المقترحات على أنها مجرد أوهام وفرط في الخيال، أو أنها مثاليات إفلاطونية غير قابلة للإنبات والعيش في الواقع الإنساني، لكنني بعد لحظات وجدت فيها ما يوجب إعمال الفكر، كونها مفاهيم عامة وثوابت قابلة تماما للتحقق في الواقع، رغم مرضه وانحرافه، فإن أي داء لا يمكن لكل الأدوية ومهارات وخبرات الأطباء أن تعالجه إن لم يملك المصاب بالداء رغبة وإرادة على الشفاء ونفي المرض عنه، ولأجل ذلك فإنه يحتمل شق بطنه بمبضع الجراح، أو يتقبل بتر ساقه، أو يعظ شفتيه بنواجذه وهو يصارع ألم الكي بالنار، أو يغصب فمه ومعدته على تناول علقم الحنظل.


إن الواقع العراقي المريض يحتمل كل ذلك، إن امتلك الشعب إرادة الخلاص، وإن كان ذلك لا يتحقق تلقائيا، بل هو يحتاج إلى طلائع تملك القدرة والإرادة على وضع أقدام الشعب موحدا على ذلك المسار، وقيادة مسيرته بحكمة وصدق واقتدار.


ولا أخفي هنا عجبي من شعب هكذا يفكر فيه الرعاة، والرعاة ليسوا أدنى شأنا من كل المتعلمين والمثقفين، كما يتوهم البعض، فالعلم إن لم يكن وعاؤه الفطرة السليمة والروح الطاهرة والعقل والغرائز المتحررة من غوايات الشيطان ومكره، فلا خير ولا نفع فيه،بل هو سيكون حينذاك وبالاً على الحياة وعلى من يحياها، لكنه معها وبها سيجعل الإنسان فاعلا ومؤثرا ومقتدرا أكثر من رعاة الأغنام، مع وقوفهم جميعا على قاعدة إنسانيتهم الواحدة. والفضل ليس في العمل وعنوان العمل، لكنه يكمن دوما فيما يفضي إليه ذلك العمل أو يفرزه من خير، والخير متيسر فعله لكل مريد غير خامل إن أراد وهداه الله تعالى لذلك.


فما بال الكثير من المتعلمين في العراق وفي الأمة لا يحذون حذو هذا الرجل، مع علمهم واطلاعهم وقدرتهم وألسنتهم والسليطة ووسائلهم العديدة لإيصال ما يريدون قوله وفعله لو أرادوا، والتي لا تجيدون بها إلا الدوران حول ميادين المشاكل وخارجا عن محيطها، ولا أحد منهم يجرؤ على دخول الميدان والعمل فيه!؟

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاربعاء  / ٢١ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٠٥ / أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور