كتاب احْتِلالُ العِرَاقِ

العوامل التي ساعدت على نجاحه والأسباب التي أفشلت أهدافه

﴿ الجزء الثالث

 
 
شبكة المنصور
حــديــد الـعــربي

صفعة حكام الكويت

ما كان للبشر من عصمة في عقله وفكره ويده ولسانه إلا من أراد له الله تعالى، من نبيٍّ أو رسول، وبحدود التكليف ونوعه ولا يتعداها، لكي لا يختلط الأمر الإلهي برغبات النفس البشرية ونزغ الشيطان، أما ما سواها فهم كسائر البشر تجتهد عقولهم، فتصيب وتخطئ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أحق عباد الله بالعصمة وأحوجهم إليها، لأن رسالته خاتمة الرسالات وسنته خاتمة السنن النبوية وناسخة لما سبقها، وشريعة دينه ستبقى قانوناً للحياة ودليلا للآخرة إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، فتولاه ربه تعالى بالرعاية والعناية وتواصل الوحي حتى اكتملت معالمها وأصولها، لكنه خصه بالعتاب مرات والنهي أخرى في أمور ليست متعلقة بالتنزيل الإلهي مباشرة، منها ما ورد في سورة الأنفال، الآية 67 { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }، ومنها ما ورد في سورة التوبة، الآية 43 { عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ }، ومنها في سورة التوبة أيضا الآية 113 { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }، ومنها في سورة الأحزاب، الآية 37 { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً }، وما ورد في سورة التحريم، الآية 1 { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، ومنها أيضا ما ورد في سورة عبس، الآيات 1-3 { عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى }، ولهذا لا تأخذ العاقل المدرك لطبيعة الإنسان وقدراته العقلية والنفسية رعدة وقشعريرة حينما يقرأ أو يسمع أن هناك خطأ قد أُرتكب، لعلمه ويقينه أن البشر يخطئون وخيرهم من يكتشف خطئه ويعترف به ثم يتراجع عنه، فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ "(1).

 

ولهذا فنحن كنا ولا زلنا وسنبقى بعون الله تعالى متمسكين بهذا المنهج الصحيح في نقد أخطائنا وتصحيح مساراتها، وقد كانت قيادة العراق تمارس هذا النقد على نفسها وعلى تجربتها والعاملين فيها منذ بداية الثورة وحتى بعد الاحتلال وفي أدق الظروف وأصعبها، فلا غنى عن النقد بقصد التوجيه والتصحيح مطلقا، ولا يصح أن تضيق الصدور من النقد الهادف البناء الخالي من الأغراض الدنيئة والدس والمكائد، فالنقد بوصلة وموجه ومصوب نحو الأهداف إذا مورس بشكله الصحيح، وتصويب دائم لخطو المسير نحو الأهداف الصائبة.

قيل ويقال كان على العراق أن لا يسمح لكل الأعداء والمتربصين من أدوات التآمر أن يتوحدوا بالكويت ومن خلالها ضده بقصد تدمير مشروعه الذي انتظرت جماهير الأمة مخاض ولادته زمناً طويلاً ودفعت في سبيل تحقيقه تضحيات كبيرة جداً تليق بأهدافه النبيلة، على الرغم من اختلاف هؤلاء الأعداء وتقاطع مصالح البعض منهم فيما بينهم، وتباين أهداف البعض الأخر عما سواه من المتحالفين والمتوحدين على إلحاق الأذى بالعراق، بل وتناقض وتقاطع أهداف بعضهم مع أهداف البعض الأخر من تدمير العراق، ثم لا يسمح لمن هم من أهل الدار - والدار وأهلها منهم براء - أن يكونوا أدوات بيد هذا الحلف، يحققون له ما كان سيعجز عن تحقيقه لولاهم بالطريقة التي حدثت.

 

صحيح أن أغلب الأنظمة العربية كانت منسجمة مع ثالوث العداء الصهيوني الصليبي الفارسي للعراق، أو خاضعة لهيمنة بعض أطرافه، لكنها لم تكن لتملك الجرأة أمام الأمة لتجاهر بحقيقتها، بل كانوا غالبا يعلنون ما يخالف سرائرهم النازعة للدعة والتخاذل والتفريط بكل حقوق الأمة حفاظاً على كراسيهم ومغانمها، حتى أتاهم الفرج والمخرج من ازدواجيتهم ونفاقهم بأحداث 2 آب 1990م التي كانت كالمنديل الذي مسحوا به قطرة الحياء من على جبينهم دفعة واحدة، ليجاهروا بعدها بعدائهم للعراق وشعبه وقيادته والسعي لإيقاع الأذى به بكل الوسائل والسبل الخسيسة، والمجاهرة بتولي ثالوث الكفر والشرك والنفاق، دون خوفٍ أو وجل من الله والأمة أو افتضاحٍ لأدوارهم التآمرية على أمتهم وحرماتها ومقدساتها، فصارت الكويت القضاء الفقير التابع للبصرة فيما مضى قبلة الحكام العرب ومعقل حضارتهم وحصن عروبتهم وقميص ثأرهم الذي سبق وإن ارتداه ولوح به كل صاحب غرض ومطمع وهوى، وبهذا فقد استُغفلت الأمة، وما أدركها وعيها لتهتدي لحقيقة ذلك القميص المؤامرة، والتي ما أُريد بها العراق لذاته، بل لجذوة النهوض التي أوقدها أبناء العراق وقادته في نفوسهم، متطلعين يحثون الخطى من أجل استعادة الأمة لدورها الذي افتقدته منذ زمن بعيد بالتفريط والتراجع، حتى لتكاد تفقد بواقعها المؤلم راية رسالة ربها الذي اختارها سارية لها أمد الدهر.

 

فالعراق وإن كان حكام الكويت قد مارسوا بدفعٍ من ثالوث العداء وتشجيعٍ من حكام العرب الخونة الآخرين، أبشع وأقذر وأخس الأدوار التآمرية ضد شعب العراق وقيادته، ومهدوا الطريق للعدوان ونجاحه في اجتياح العراق وتدمير كل مصادر قوته، من خلال عمليات تدمير اقتصاده وسرقة ثرواته، لكنه – العراق – كان يواجه حلفاً عدائياً كبيرا متسعة أطرافه، وقد توضحت معالم هذا الحلف وأخطاره بشكل جلي خلال شهر نيسان من عام 1990م، وإن كانت القيادة العراقية واعية تماماً لنتائج انتصار العراق الساحق على عدوان إيران والفكر الخميني، الذي كان من ثمار الحملات الصليبية الصهيونية على أخر معاقل العروبة والإسلام، قبل ذلك العام، بل منذ معارك التحرير الكبرى التي ابتدأت بمعركة تحرير الفاو عام 1988م.

 

لكنها في نيسان 1990 تكشفت كل تفاصيلها للرأي العام، فقد تحول الصهاينة من تقديم الدعم لإيران الخمينية إلى تهديدات وقحة بضرب العراق وتدمير جيشه، الذي تجاوز التعويق الفارسي المنسجم مع الإرادة الصهيونية، لكي لا يقوى على تأدية دوره القومي في تحرير فلسطين وطردهم منها، الشعب والجيش الذي أراد الصهاينة من الهجمة الخمينية أن تدمر قوته وتقهر إرادته، ولم تُجدهم ثمان سنوات من الحرب الطاحنة نفعا، فقد خرج العراق منها منتصراً وقوياً ومتماسكاً أكثر من أي وقت مضى، أكسبت الحرب التي أطال الأعداء أمدها جيشه خبرات ميدانية وقتالية وفنية كبيرة جداً ومعها زهو بالنصر وثقة عالية بالنفس، على غير ما أرادوا وخططوا.

 

والصليبيون أيضاً تكشفت نواياهم، بل هم أرادوا كشفها مستغلين قضية الجاسوس الإيراني بازوفت كذريعة لكل عمليات التشويه والتضليل واستجلاب العداء للعراق وشعبه وقيادته، وجندوا حكام الخليج بالضغط على العراق وتقويض اقتصاده من خلال مضاعفة إنتاج النفط حتى أوصلوه إلى بضعة دولارات، بعد إرهابهم بتقارير كاذبة عن نية العراق اجتياح دول الخليج الواحدة تلو الأخرى، فانساقوا مرغمين أو متحمسين في مخطط العداء ضد العراق، في مفارقة هي أغرب من الخيال، فالعراق الذي تصدى بصدور شبابه وثرواته وكل إمكاناته لأعتى هجمة شعوبية عنصرية حاقدة على العرب والإسلام، كانت ستنطلق في ديارهم تأكل الأخضر واليابس لولا وقفة أبنائه وتضحياتهم، فدحرها وردها على أعقابها، رغم المدد والعون الذي قدماه جناحا الثالوث الشيطاني لذيله الفارسي، فكان الجزاء من هؤلاء الحكام العرب أن شمروا عن سواعد الجدّ ليكافئوا شعب العراق وقيادته بالتآمر عليه وتسهيل مهمة الثالوث التي لم تكتمل بثماني سنوات من القتال.

 

ولهذا فما كان لقيادة العراق أن تمكنهم من فتح بابٍ كانت قد أحكمت غلقه عليهم منذ ثورة تموز عام 1968م المباركة، وهم رواد التاريخ وحماته ومبدعي وسائل استيعاب دروسه، وقد مارس قائدنا ومعلمنا الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم هذا المنهج في كثيرٍ من معارك دولة الرسالة وهي في طور التكوين والنضج، منها ما فعله في معركة الأحزاب، فبعد أن تلاحمت كل القوى المعادية من قريش وأحلافها وغطفان وأحلافها ويهود المدينة من داخلها على وئد الرسالة وكيانها، قرر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم العمل على تفكيك هذا الحلف، فأرسل إلى زعيمي غطفان عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري أن يعودا بمن معهما عن حصار المسلمين ولهما ثلث ثمار المدينة، وأجاز للصحابي نعيم بن مسعود ليمارس خدعة الحرب في تمزيق حلف الأحزاب، والذي نجح من خلال خدعته المعروفة بدقّ إسفين الشك والريبة بين بني قريضة من يهود المدينة وبين قريش وغطفان، فتمزق الحلف وكفى الله المسلمين شرّ القتال.

 

لقد كان في تآمر حكام الكويت درساً بليغاً لم تستوعبه قيادة العراق بشكل كامل، أو لم تُحسن تقدير الظرف ومتطلباته، فبعد خروج العراق منتصراً في تصديه للهجمة الصفوية الجديدة، التي أعيتها المواجهة ولم ترجح كفتها كل الإمدادات العسكرية واللوجستية الأمريكية والصهيونية، وخذلان الخميني لأسياده كان بمثابة الناقوس الذي دق في دهاليز الأعداء للبحث عن بديل.

 

والخميني كان فارسياً بالفكر والنوايا والخؤولة يتخذ كغيره من الشعوبيين من آل بيت النبي الأطهار ستاراً لتحقيق أهدافه القومية، التي اضطرته لإيجاد صيغة ولاية الفقيه، ليلجم بها أفواه المنتظرين المغرر بهم، لكن الظروف الدولية وجدت فيه مفتاحاً سحرياً لتحقيق بعض أهدافها التي لا تمت بأي صلة لمصالح الشعوب الإيرانية، فالشاه محمد رضا بهلوي لم يعد شرطي الخليج الذي أعدته القوى الامبريالية والصهيونية العالمية ليشكل لهم قلعة منيعة ضد أطماع الاتحاد السوفييتي السابق في الوصول إلى مياه الخليج العربي، حيث بحيرات النفط ومصادر الطاقة، كما لم يعد مصدر تهديد وتخويف مستمر للأنظمة العربية الخليجية كي لا تفكر في الانعتاق من ربقة الامبريالية بأي شكل من الأشكال.

 

وكان من نتائج ضعف ذلك الشرطي أن أمسكت القوى الشيوعية واليسارية زمام الشارع الإيراني وأوشكت أن تنقضّ على النظام الملكي وتحول إيران إلى الصف الشيوعي وتوصل الاتحاد السوفييتي إلى شواطئ الخليج العربي، الأمر الذي ما كان الغرب ليسمح بحصوله مهما كلفهم ذلك من تضحيات، والشاه ليس تضحية كبيرة، خاصة إذا كان البديل سيحقق لهم بالإضافة إلى منع الشيوعية من تحقيق مسعاها أهدافاً أخرى لا تقل أهمية عنها، فقرار قيادة العراق التاريخي بتأميم النفط عام 1972م لازالت جراح طعناته تنزف قيحاً في قلب العالم الرأسمالي.

 

ولعل الخميني نفسه كان شيوعياً، أو أداة من أدوات الفكر الشيوعي، قبل أن يتحول إلى الشيطان الأكبر، ففيه من التشابه بلينين ما يجعل الصدفة أمراً غير معقول لتبرر هذا الشبه، فهو بالإضافة إلى إباحيته المستهترة حدَّ التفخيذ بالرضيعة، كما أفتى ومارس، بشهادة أتباعه وإقرارهم، فإنه انطلق من باريس نحو طهران بعد سقوط نظام الشاه، وكذلك فعل لينين من قبل، فقد انطلق هو الآخر من باريس نحو موسكو بعد سقوط القيصر رومانوف، وكان دافعه الظاهر هو الحقد على النظام البهلوي لأنهم قتلوا أبيه ثم تسببوا بموت ابنه مصطفى عام 1977م، فيما كان لينين حاقدا على القياصرة لأنهم تسببوا بموت أخيه. وكلاهما اتخذ من الفقراء والمستضعفين سلماً للوصول إلى السلطة، وكما ساوى لينين شعوبه بالفقر والجوع، فقد ساوى الخميني الشعوب الإيرانية بالجوع والتخلف. وكلاهما يمقتان القومية ويقدسان قوميتيهما. وكما اتخذ أتباع لينين من كتاباته دستوراً مقدساً فقد اتخذ أتباع الخميني من كتاباته وأقواله دستوراً مقدساً. ولينين قال بالأممية كي يبرر تبعية الدول والأمم لنهجه، وكذلك فعل الخميني حين جاء بأممية مبتكرة تحت مسمى"ولاية الفقيه". وقد يكون هذا التأثر والاقتداء نابع من الأصول الثقافية للخميني، التي استقى منها الفكر الشيوعي أهم ركائزه، فالمزدكية سبقت الشيوعية إلى مبدأ إشاعة الثروات والنساء بين الناس.

 

إزاء هذا الواقع الخطير توحدت كل القوى الامبريالية لتجد سبيلا تُفشل فيه الانتفاضة الإيرانية أو تحرفها عن مسارها بحيث تُبعد القوى اليسارية عن التأثير فيها، فكان الخميني أفضل الخيارات وأرجحها وأقربها للتحقق، ولهذا تمكنت الدعاية الغربية خلال الفترة بين 15تشرين أول 1978م تاريخ خروج الخميني من العراق وحتى 11 شباط 1979م اليوم الذي حطت طائرة الشياطين الكبار في مطار مهراباد بطهران تحمل على متنها القائد المفاجئ لثورة الشعوب الإيرانية برفقة أكثر من 150 صحفي وعددا من المستشارين الذين انتظمت أغلب فصول حياتهم في أوكار المخابرات الأمريكية ومعها الجنسية - الدكتور إبراهيم يزدي الأمريكي الجنسية الإيراني الأصل عميل المخابرات الأمريكية المعروف والذي قَدِمَ إلى النجف قبل رحيل الخميني من العراق بيوم واحد وغادر برفقته والذي عُيِّن من قبل الخميني نائبا لرئيس الوزراء مهدي بازركان، وأمير انتظام الذي عُيِّن وزيرا للدولة وناطقا رسميا باسم الحكومة، والدكتور مصطفى جمران الذي عُيِّن وزيرا للدفاع وهما أيضا يحملان الجنسية وصك العمالة الأمريكية - وهي فترة لا تتجاوز الأربعة شهور، من أن تخلق من الخميني زعيماً وقائداً ثورياً، رغم إنه كان قبل ذلك مغمور مطمور في سراديب النجف قرابة العقد ونصف العقد من الزمن، جُلَّ همه الفتوى بوسائل وأساليب المتعة والتفخيذ بالرضيعة.

 

وقد يكون من أسباب تعزيز ذلك الخيار أن الأرضية كانت ممهدة أصلاً لهكذا شخصيات للبروز على مسرح الأحداث بفعل المراحل المتقدمة التي كان مشروع بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق قد قطعها في حينه بتثوير المجتمعات المسلمة ضد الكيان السوفييتي.

 

وبذلك فقد تمكنت الدوائر الامبريالية وأجهزتها المخابراتية من سرقة الانتفاضة الإيرانية من أصحابها الشرعيين ووضع مقاليدها بيد الخميني وزمرته، وأتاحت لهم البطش بالأحزاب والمنظمات التي كانت قد قادت الثورة وأنضجت فعلها، وتلك حقيقة الثورة الإيرانية والخميني وزمرته، وإن كانت أساليب التضليل والتزوير قد صورتها على غير صورتها الحقيقية، فإن التاريخ لا ينخدع بأضاليل الإعلام الغربي والصهيوني، وهو كفيل بأن يثبت حقائقها كاملة وإن طال الزمن.

 

ولأن المطالب الصهيونية لا يعلو عليها مطلب مهما كان مصدره، فقد أوجدت الأرضية المناسبة لقيام إيران الخمينية بمهمة تعويق مسيرة العراق وحربها بالنيابة عنها شاءت أم أبت، فالعراق كان قد قطع أشواطاً مهمة وحاسمة في مسار التفوق العسكري والاقتصادي والإعداد لمعركة الأمة الفاصلة، ومما سهل هذا التوجه أن القوى الامبريالية كانت قد حققت بالخميني أهدافها، وهو الأمر الذي دعاها لتجعل منه زعيما وسارقا لثورة الشعوب الإيرانية، فقد فوتوا الفرصة على الاتحاد السوفييتي وأفشلوا مساعيه بالوصول إلى شواطئ الخليج العربي حيث بحيرات النفط، كما زادوا به خوف الأنظمة الخليجية مما جعلها تلتصق أكثر من ذي قبل بالسياسات الغربية.

 

واستهداف العراق لم يكن مطلباً صهيونياً وامبريالياً فحسب، بل كان مطلباً فارسياً صفوياً في ذات الوقت، وحلم طالما راود الموبوئين بالهوس الشعوبي في تدمير العراق والاستحواذ على مقدراته - كما فعل كل أسلافهم - منذ اكتمال تحرير العراق عام 16هـ من براثنهم وحتى ذلك الوقت وإلى يومنا هذا.

 

وقد شاءت إرادة الله تعالى رغم شدّة الهجمة وهمجيتها أن يستحضر أبناء العروبة في العراق وقادته كلّ خزين الأمة وإرثها الزاهر ليجعلوا منه طاقة مضافة إلى قدرات البناء منذ عام 1968م، فتكسرت كل الهجمات الشعوبية الصفوية على حدود العراق وخارجها.

 

وقد كانت تلك النتيجة مدعاة لكل قوى الظلام والكفر كي تعيد حساباتها من جديد، فقررت أن العراق قد شبّ عن الطوق وتجاوز كل خطوطهم الحمراء، ولابد من مواجهته بشكل مباشر.

 

فكان لابد من ذريعة، والأدوات التي تتخذ منها هذه القوى المجرمة ذرائع للعدوان ليست قليلة، بحكم الهيمنة الكاملة على أغلب الأنظمة الهزيلة السائرة في ركاب الغرب والحاكمة في ظلّ سطوته وقوته الغاشمة.

 

وقد كان حكام الكويت أفضل تلك الأدوات وأكثرها انصياعاً، بسبب كونها تحكم جزء سليبا مقتطع من أرض العراق وتمارس أساليب الغدر والتخريب ضده منذ تشكلها كدويلة وحتى ذلك الحين، وقد وضعتها القوى الامبريالية والصهيونية أمام الأمر الواقع حينما سربت المعلومات والوثائق التي تثبت قيامهم بسرقة نفط العراق طيلة فترة الثماني سنوات التي قضاها العراق في تصديه للهجمة الصفوية الخمينية على العراق والعرب جميعا، ثم أرغمتهم على المطالبة بالأموال التي قدموها للعراق خلال الحرب على إنها جزء من واجبهم.

 

أما موضوع إغراق السوق بالنفط لينخفض سعره إلى أقل من ثمانية دولارات فهو أمر خارج عن إرادة حكام الخليج تماماً، لأن من يملك ذلك القرار هم فقط أصحاب القواعد العسكرية الجاثمة على صدورهم وشركات النفط الاحتكارية التي تحتكر لنفسها قدرة هكذا قرارات.

 

وقيادة العراق كانت تعي تماما كلّ هذا، وتعي أيضاً حقيقة هؤلاء الحكام والأدوار التي ينهضون بها والجهات التي تقف خلفها، وتعي حقيقة تجرد القوى الامبريالية والصهيونية لمواجهة العراق بشكل مباشر، وتعي أن هؤلاء الحكام الخونة سيشكلون بنتيجة أفعالهم العدائية ضد العراق أهم مبررات تلك المواجهة وذرائعها، ويعون مع كل هذا أن العراق خرج تواً من ملحمة تاريخية طال أمدها، استنزفت الكثير من الإمكانات والقدرات والطاقات، على الرغم من خزين خبرتها الثرّ، لكن فاتهم أن الإنسان العراقي مع ما استُحضر فيه من قيم نبيلة جعلته جبلاً أمام هجمات الفرس، كان بحاجة إلى استرداد أنفاسه وتكييف أوضاعه بعد تلك المنازلة القاسية والطويلة، وإنه لن يكون بمقدوره العطاء بذات الهمة التي كان عليها قبل عشر سنوات ما لم تتح له الفرصة الكاملة للتكيف، خاصة أن اقتصاد الحرب كان قد أثر كثيرا في واقع الأسرة العراقية وأفقدها بعضاً من المكتسبات التي تحققت لها، وصار يثقل كاهلها بشكل واضح وملموس، كما إن مستوى التضحيات كان كبيرا، والتوجس من الجار المتربص لم ينته بعد، فلم يتخل الصفويون عن مجاهرتهم بالعداء وتحين الفرص للإيقاع به، وقد عمدوا إلى إرهاق الواقع العراقي بمشكلة الأسرى والمفقودين، كما استمرت محاولاتهم الخبيثة للعبث بواقع المجتمع العراقي من خلال التشيع الفارسي وبدعه.

 

وفي التاريخ الذي يفترض أن درسه كان جيداً ومبدعاً ممن عرف أهميته ودعا إلى إعادة قراءته برؤية جديدة تزيل عنه الدسائس والمكائد والتلفيقات الكثيرة التي حشرتها الشعوبية الفارسية والصهيونية اليهودية والأحقاد الصليبية.

 

كان يمكن لوقائع التاريخ أن تكون سندا وعونا في تلك المواجهة مع أداة وذريعة العدوان، فبعد غزوة بني المصطلق سنة 6هـ تزاحم أجير لعمر بن الخطاب يدعى جهجاه مع سفيان بن وبر الجهني على الماء، فبرزت القيم الجاهلية وصرخ الجهني: يامعشر الأنصار، فيما استنجد الأخر بالمهاجرين، في ردة إلى أعماق الجاهلية التي فرقت العرب ومزقتهم كل ممزق، فاستغلها رأس النفاق عبدالله بن أُبيّ بن سلول ليظهر مكنونات نفسه، وراح يحرض الأنصار على عداء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين، فقال: " أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأَذلّ....هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم..."(2)وحين أعلم زيد بن أرقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول ابن سلول ذاك، ثار عمر بن الخطاب واقترح على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر أحد الأنصار بقتله، لكن رسول الله رفض، وابن سلول يُنكر قوله حتى نزلت الآيات تصدق أذن ابن الأرقم بقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(3) وعندها تداعت الأنصار تعتذر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون أن ابن سلول ناقم على ضياع ملكٍ كان سيكون له على أهل المدينة، فالحلم والأناة والحكمة التي تصرف بها قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي دعت عبدالله بن عبدالله بن أُبيّ للطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون هو قاتله إن كان يريد قتله، لكنّ رسول الله بذات الحكمة ردّ عليه قائلاً: " بل نترفق به، ونُحسن صحبته ما بقي معنا" وعند ذاك صار الأنصار هم الذين يقفون بوجه نفاق ابن سلول ويردعونه، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب مذكرا إياه بطلب قتله " كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي أقتله، لأرعدت له أُنفٌ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته"(4) كلّ هذا وابن سلول كان نفاقه وخبث نواياه قد نجما منذ سنين، ففي معركة أحد كان ابن سلول قد ألحّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبقى في المدينة ولا يخرج لقريش، وكان هدفه غير هدف الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان يرجو أن تأتي جيوش قريش المدينة فيستغل حلفاءه اليهود الفرصة لينقضُّوا من كل جانب على المسلمين ويفتكوا بهم، لكنّ إرادة الله تعالى كانت هي العليا فخرج المسلمون لملاقاة قريش عند جبل أحد وفي الطريق نفذ صبر المنافقين فعاد ابن سلول بمن نافق معه عن المسلمين وهم ثلث الجيش، وقد جاء دليل هذه النية التي كانت تراود ابن سلول والمنافقين في عام 4هـ، حين أراد الرسول صلى الله عليه وسلم إجلاء يهود بني النضير، فقد بعث إليهم ابن سلول" أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم"(5)

 

ولهذا فقد كان ترك حكام الكويت في تلك الظروف والأحوال أولى من صفعهم، أو على أقل تقدير تأجيلها إلى وقت مناسب، أو كيلها بغير تلك الطريقة، فتلك الصفعة أمكنت حكام الكويت وكل أعداء العروبة والإسلام ليتداعوا جميعا من أجل تحقيق أهدافهم دفعة واحدة، فالصليبيين والصهاينة عززوا مواقعهم على أرض العرب في الخليج وازدادت هيمنتهم على حكامها، كما تمكنوا من طرد العرب العاملين في دول الخليج عامة والكويت خاصة، من الفلسطينيين والأردنيين والمصريين وغيرهم من العرب ليحلّ محلهم الفرس ومن يقع على هواهم، وبذلك فتحوا الباب واسعا للتوغل الصفوي الخميني بين صفوفهم، بالإضافة إلى الهدف الأساس من تلك الذريعة بتدمير قوة العراق التي باتت تشكل خطراً جسيما على الكيان الصهيوني وأطماع الغرب ومصالحه بأرض العرب وخيراتها، الهدف الذي عجزت الخمينية عن تحقيقه.

 

وكان على قيادة العراق أن تستفيد من تجارب التاريخ أيضاً، فيما يتعلق بالطاقة البشرية وحدودها على الصبر والتحمل، فقد وقع العراق في ذات الشرك الذي وقعت فيه الدولة العثمانية خلال السني الأخيرة من عمرها، حيث كان الجيش العثماني مشهوداً له بالبسالة والصبر على القتال، وظلّ يقاتل بتميز حتى أواخر عام 1916م، لكنه ونتيجة المدة الطويلة التي استغرقتها الحروب بدأ يفقد صبره وجلده رويداً رويدا، فبرزت ظاهرة الهروب من الجيش العثماني، واستمرت تتفاقم وتبدد قوة الجيش حتى بلغ تعداد الهاربين منتصف عام 1918م أكثر من نصف مليون هارب، وعندها برزت مشكلة أخرى لا تقل أهمية عن الهروب ذاته، تلك هي أن هؤلاء الهاربين ما كان بمقدورهم العودة إلى منازلهم وعوائلهم خوفاً من الملاحقة والإعدام، فكانوا مرغمين على أن يسلكوا طريق الإجرام والتمرد في المناطق النائية والوعرة، فتحولوا بالنتيجة إلى عصابات تمتهن الإجرام وتشن غاراتها على طرق القوافل والسكك الحديد، ومارست أبشع عمليات السرقة والخطف،فكانت نتائجها أن ساهمت بشكل كبير في تمزيق الوحدة الداخلية وإضعافها، مما ساهم في انهيار الدولة العثمانية بشكل كبير.

 

وهذا حصل أيضاً في العراق خلال تلك الفترة العصيبة من تاريخه، فقد تزايدت أعداد الهاربين، ونتجت عنها عصابات الإجرام والتخريب في أهوار الجنوب، وعصابات الأكراد في أعالي الجبال وكهوفها، مما أغرى الأعداء باستغلالها أبشع استغلال في عمليات التآمر والتخريب، فأوقعت بالمجتمع العراقي خسائر جسيمة وساهمت في تمزيق وحدته وإضعاف قدراته. فقد فتحت إيران أبوابها وأتاحت كل إمكاناتها لهؤلاء الفارين من الجيش، مع إنهم لم يهربوا نتيجة قناعات سياسية أو طائفية أو عرقية، إنما ألجأهم إلى ذلك ضعف نفوسهم ونفاذ طاقتهم على الصبر والتحمل، ولأنهم من أهل الدنيا وليسوا من طلاب الآخرة أو المعاني العالية التي تسمو بها الحياة الكريمة، توقفوا ولاذوا بالفرار، الذي أوقعهم في شراك الإجرام، وهذا لم يكن غريبا، ففي زمن الرسول صلى الله عليه وسلم تخلف من هو أفضل من كل هؤلاء وأصدق إيمانا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ففي عام 9هـ تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره لغزو الروم (غزوة تبوك) أعداد لا يستهان بها من المنافقين والمتخاذلين وعشاق الدنيا، وكان من بينهم ثلاثة من المسلمين الذين لا يشكّ في إسلامهم، هم كعب بن مالك، مُرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فقاطعهم المسلمون وحرمت عليهم زوجاتهم، حتى تاب الله عليهم بصدقهم بعد معاناة مريرة وقاسية، بقوله تعالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(6)

 

وهذه من أمراض البشر المزمنة، فقد أبانها الله تعالى ووصف حالهم بقوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}(7).

 

----------

(1) رواه الترمذي في سننه.

(2) ابن هشام، السيرة النبوية،ص592.

(3) سورة المنافقون، الآية: 8.

(4) ابن هشام، السيرة النبوية،ص593-594.

(5) ابن هشام، السيرة النبوية،ص.

(6) سورة التوبة، الآية: 117،118.

(7) سورة التوبة، الآية: 81.

 

الحصار الجائر

كان الحصار الاقتصادي الذي فرضته الهيمنة الامبريالية على العراق عام 1990م كصيغة جديدة كلياً، تمهد للغزو العسكري، وتوطد مقدماته بصورتها التي فُرِضت على العراق، أمراً في غاية الخطورة، فهو لم يكن في حقيقته حصاراً اقتصادياً بمعناه المجرد، بل كان حرباً همجية مدمرة، أدواتها أمضى من السلاح، استهدفت تدمير العراق اقتصادياً وسياسيا وثقافيا واجتماعيا وعسكريا في آن معاً، فرضتها القوى الصليبية المتصهينة على حكام العالم وأنظمتهم، وجندت لتحقيق أهدافه المحيط العربي الرسمي، بالإضافة إلى تركيا وإيران، بقصد إحكام الطوق كاملا على العراق وشعبه، كان الهدف منه واضحا منذ بدايته تدمير الكيان الاجتماعي الموحد للشعب العراقي، والذي كان العنصر الحاسم في تجاوزه لكل العراقيل والمؤامرات والاعتداءات التي واجهته خلال مسيرة الإعداد لمشروع النهوض الحضاري وتحقيق شروط اقتدار الأمة وعودتها لممارسة دورها الحضاري عن طريق حمل رسالتها الخالدة مجددا، فقد استهدف قبل كل شيء الحاجات الإنسانية التي لا يمكن المحافظة على البناء الاجتماعي الذي تم إلا بتوفير الحد المعقول والمقبول منها، فللإنسان حاجات بدنية تتلخص بالغذاء والكساء والدواء والمأوى، وله حاجات نفسية تتمثل بتحقيق الانتماء للبيئة والوطن ومستلزمات تحقيق الذات وطموحاتها مع تحرره من عوامل الخوف والمجهول وحرية التعبير والنجاح في العمل والثقة بالنفس والشعور بالأمن والأمان، وله متطلبات اجتماعية، تتميز بالمكانة اللائقة والمعاملة العادلة في الحقوق والواجبات وتكوين الأسرة بعد تهيئة مستلزماتها الضرورية والمشاركة الاجتماعية، وله أيضاً متطلبات ثقافية تعليمية، تتلخص بالحاجة إلى التزود بالمعرفة وتنمية مهاراته وسلوكياته واكتساب القيم والاتجاهات في مسار تكوين شخصيته المستقلة.

 

إن هذه الحاجات والمتطلبات الإنسانية الأساسية كانت كلها هدفا للحصار، تراكمت أثاره عليها سنة بعد أخرى حتى أوهنته بشكل أو أخر، فخلق كما من المشاكل لا تقل بأي حال من الأحوال عن عدد هذه الحاجات الأساسية، حين أفقد الإنسان العراقي قدرة الحصول عليها أو المحافظة على التي في حوزته منها، الأمر الذي أدى بمن لا يملك رصيدا إيمانيا راسخا، وثقافة سلوكية نقية وأصيلة وخالية من التشويهات، والتي تعزز الارتباط بالأرض وتوسع القدرة على ربط الأسباب بمسبباتها، والاستشعار بالنوايا التي تكمن خلفها، إلى السقوط في مهاوي الزلل، فخرجت أعداد من البلد بهدف البحث عن تحقيق هذه الحاجات الإنسانية، التي افتقدتها بسبب الحصار، بعيدا عن موطنها، فوقع كثير منهم ضحية سوء التقدير أو دناءة النفوس أو ضيق الأفق بيد أجهزة المخابرات المعادية لتصوغ منهم أدوات للتخريب أو وسائل للتشويه الإعلامي من خلال افتراء الأكاذيب مقابل تلبية هذه الاحتياجات، التي من أجلها حبذوا التخلي عن موطنهم وأداء أدوارهم فيه، وإن كان في حاجة ماسة لجهدهم ووجودهم، فيما ذهب من لم يسعفه الحال للخروج من العراق إلى مهاوي الجريمة والانحراف السلوكي الذي تراكمت آثاره على الواقع لتعبث بكل مرافق الحياة، والتي تطلبت من جانب آخر استهلاك الكثير من جهد الخيرين في المتابعة ومعالجة آثار التخريب وتحجيم نتائجه المدمرة على المجتمع في أضيق الحدود.

 

أما في الجانب السياسي فقد اوجب لمواجهة آثار الحصار والتهديد والعدوان اللجوء إلى ممارسات وأساليب الطوارئ حفاظا على المسيرة ومكتسباتها، فقد تحفز الجانب الأمني كثيراً كي يلبي متطلبات المرحلة الشاذة ويقف بوجه أخطارها، مما ولد الكثير من مشاعر الضيق والنفرة من قبل الفئات التي لا تدرك حجم الأخطار المحدقة بها وبمستقبلها، ولم تكن تملك الوعي اللازم لتستوعب طبيعة المهمات التي يؤديها الحصار تمهيدا لمرحلة اخطر بكثير في نتائجها وآثارها، فيما وضع الذين هربوا ووضعوا أقدامهم على أرضية تثير من حول عوائلهم كل الشكوك والهواجس، وتسلمهم عرضة للشبهات وتداعياتها، وان كانت سياسة الدولة تتعامل بحذر شديد في هذا الجانب، فلم تحمِّل أحداً من هذه العوائل وزر ما جنت أيادي أبناءها، من الذين ضلوا الطريق وفقدوا المسار وسقطوا في مستنقعات الخيانة، وبنفس الوتيرة انعكست على العلاقات الخارجية، وبخاصة سياسات دول المحيط المجاور.

 

وفي الجانب الاقتصادي، أسهم الحصار بشكل فاعل في تعطيل العديد من البرامج الاقتصادية الممولة لمشاريع الخدمات والبنية التحتية، فالعائدات النفطية كانت تشكل الأساس الذي يعتمد عليه اقتصاد البلد، التي حوصرت كلياً وأُغْلِقت عليها كل المنافذ، مما عطل أغلب الخطط والبرامج الإنمائية فيه، ابتداء من توفير مستلزمات البناء والتشييد التي يحتاجها المواطن في المأوى، مرورا بالمشاريع ذات الفاعلية في توفير الخدمات الصحية والبيئية وانتهاء بمتطلبات النشاط الاقتصادي بكل مفاصله الزراعية والصناعية والتجارية وغيرها، فتراجعت مستويات الدخل القومي مع تقلص موارد الفرد وعجزها عن تلبية احتياجاته ومتطلباته الأساسية والثانوية.

 

أما الجانب الثقافي والعلمي فقد كان الأمر لا يختلف عن أوجه النشاط الأخرى، فقد تعرض العراق لحصار منع عنه كل مستحدثات التطور العالمي طيلة ثلاثة عشر عاما متصلة، وهي فترة طويلة بالقياس إلى مسار التطور العالمي المتسارع.

 

فاجتمعت كل العوامل سالفة الذكر لتترك آثارها المدمرة على الواقع التعليمي في العراق، رغم كل المعالجات والمبادرات التي لجأ إليها الشعب من اجل المحافظة على الحد الأدنى من متطلبات ومستلزمات التعليم، فالريف الذي شهد لأول مرة في تاريخه نهضة كبرى، غطت فيها المدارس كل مساحاته الشاسعة وطاردت الجهل والتخلف في أبعد الزوايا وحاصرتهما كليا، فساهمت بنقل المجتمع الريفي نقلة نوعية تجاوزت فيها قرون طويلة من التردي والتراجع، عاد خلال الحصار ليشهد تراجع قدراتها لمواصلة دورها ومسؤوليتها بشكل فاعل، رغم مساهمات المواطنين بحل إحدى المشاكل التي أفرزها ظرف الحصار حين تطوعوا لتوفير وسائط النقل لتقل الملاكات التعليمية من وإلى مدارسهم، لكنها لم تكن كافية لتعيدها إلى موقعها السابق للحصار، فالتغذية المدرسية أُلغيت والرعاية الصحية المتميزة للتلاميذ انحسرت، بالإضافة إلى أن الملاكات التعليمية كانت تعاني بشكل كبير من تدني مواردها المادية، التي عجزت عن تلبية أبسط احتياجاتها ومتطلبات العيش الكريم بأدنى مستوياته، لكنها كانت تتمسك بأداء دورها ورسالتها المقدسة ولم يسلموا أطفال البلد للضياع في مهاوي الجهل والتخلف، خاصة وأن الدولة استمرت في توفير مستلزمات التعليم مجانا لكل مراحله، وإن كانت بأدنى مستوياتها، فيما أُرهقت العائلة نفسها ليتراجع حماسها في دفع أبنائها لمواصلة الدرس والتحصيل، وتردت الخدمات الصحية، التي كانت فيما مضى تقدم للمواطنين أفضل الخدمات الوقائية والعلاجية والرعاية الصحية المتكاملة مجاناً، والتي كانت أيضاً تملك أرقى أنظمة الرعاية الصحية في المنطقة والعالم، والمنتشرة في كل مناطق العراق وتغطي كامل متطلباته الصحية، فالحصار كان قد استهدف العلاجات والمستلزمات الطبية شأنها شأن المعدات والأجهزة الحربية بالمنع الكلي، ولم تكن أساليب التمويل الذاتي لتحدث تغييرا كبيرا رغم ما أرهقت به كاهل المواطنين، وكان هذا بالإضافة إلى مصادر التلوث الخطيرة التي تعمدت القوى الامبريالية والصهيونية المجرمة بإلقائها على العراقيين دون تمييز قد ساهم في وفاة أكثر من مليون ونصف المليون طفل عراقي خلال زمن الحصار.

 

فيما كان النشاط العسكري قد تأثَّر بشكل مباشراً وكلي، فقد مُنِع العراق من تطوير قدراته العسكرية وتوفير مستلزمات الدفاع عن الوطن ومصالحه وصيانة مكتسبات شعبه، من مصادرها الداخلية والخارجية معا، فاستيراد الأسلحة بكل أنواعها وأشكالها قد حُرِّم عليه، فيما قامت لجان التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل التي تشكلت باسم الأمم المتحدة الخاضعة كليا لهيمنة الصهيونية وإرادتها ومتطلبات مشاريعها العدوانية، بتدمير القدرة العسكرية الأساسية المتوفرة لديه من الاستيراد السابق للحصار أو بالتصنيع المحلي بقدرات وطنية خالصة أبدعت الكثير من عدد الجيش ذات الأفق الإستراتيجي المقتدر، فجردته من كل إمكاناته المؤثرة بحجة أنها تشكل تهديداً للسلام الدولي وأمن المنطقة، وهي في حقيقتها عمليات تجريد منظمة ومدروسة لتسهيل الاحتلال فيما بعد، وبذلك وضعوا المقاتل العراقي أمام واقع مرير، لا يتمكن من توفير أدنى مستلزمات مهنته، تمهيدا لتفكيك القدرة التي ظهر بها جيش العراق منتصراً في 8/8/1988م وقادراً على الدفاع عن كل قضايا الأمة، فيما كانت الآثار الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي سبقت الإشارة إليها قد انسحبت عليه وتركت بصماتها واضحة على عموم تشكيلاته، فالمؤسسة العسكرية ليست خارج سياق المجتمع، فأسقط الحصار عليها كل إفرازاته القاتلة جملة واحدة مع تجريده من قدرته العسكرية.

 

وبهذا فقد كان الحصار أحد أهم الأسباب التي أدت إلى نجاح الأعداء في اجتياح العراق واحتلاله عام 2003م.

 

معطيات الواقع ومتطلبات الطموح

كان من القياسات الخاطئة، أن يُنظر إلى الجماهير من خلال الطلائع الثورية، وهذا الذي كان يرسم كل التصورات الخاطئة عن قدرات الجماهير الحقيقية، ومدى استيعابها لأهداف المشروع الحضاري واستعدادها للتضحية في سبيلها، فللجماهير وعي محدود، وقدرات لا تتجاوز واقعها الحقيقي وإمكانات على الصبر والمطاولة تختلف كثيرا عن تلك التي تتمتع بها الطلائع الثورية المؤمنة، وهذا في الحقيقة كان السبب في الشعور أن هناك فجوة تتسع بين مطالب هذه الطلائع وبين قدرات الجماهير على تلبيتها، فليست كلها مزايدات سياسية في مسار التنافس الشريف على كم الانجاز بين الطلائع نفسها، إنما هي ناتجة عن سوء التقدير لهذه الطلائع وقصور في فهمها لواقع الجماهير ومدى تطور وعيها وقدراتها والتصاقها بأهداف النهوض وحجم التضحيات القادرة على بذلها في سبيل ذلك.

 

ففي الوقت الذي كانت الطلائع ترى في فسحة الحياة رسالة يجب أن تؤدى بكل إخلاص وأمانة، نجد أن نسبة لا يستهان بها من الجماهير ظلت تراوح في مواقع وعيها الجاهلي الفاقد لكل قيم الرسالة، لا تشكل الحياة في تصورهم أكثر من متعها المادية الخالصة بغض النظر عن كونها مباحة ومشروعة أم لا. فيما كانت غالبية الجماهير لا تملك قدرة الطلائع الثورية، رغم التصاقها بها وتبنيها لأهدافها والعمل معها على تحقيقها، لأنها لم تكن تملك القدرة التي تمتلكها الطلائع على التضحية في سبيلها ومواصلة مشوارها بتجرد تام عن متطلبات الدنيا، فليست كل أهداف الطلائع تنتج ثماراً في الواقع المعاش بشكل مباشر، إنما هي بناء طويل يتراكم لينتج في آخر مدياته حياة حرة كريمة، وذلك ما لم تكن كل الجماهير تستوعبه وتتحمس إليه، لأنها لم تجد فيه تطوراً ايجابياً مباشرا في حياته، فنظرتها قد لا تتعدى ظرفها المباشر، فيما تمتد نظرة الطلائع إلى الأجيال القادمة ومستقبلها.

 

وهذا جعل العديد من الممارسات النضالية الكفاحية التي تتسم بالمزيد من نكران الذات والتجرد من المنافع الفردية لصالح مكاسب المصالح العليا للشعب والأمة وحتى الإنسانية ينظر لها على إنها عمليات استلاب للطموح الشخصي، فكثير منهم كان لا يستوعب حقيقة أن الدفاع عن الوطن والأمة بالتضحية والفداء هو الذي يضمن العيش الكريم، ليس بالنظرة اللحظية إنما بنظرة مستقبلية قد تمتد إلى أجيال لاحقة، وإنه واجب أخلاقي لا يحسب في كفته مدى فقدان المتع الدنيوية من عدمها، فليس ثمة متعة شريفة تتسم بالأخلاقية إذا تعرض الوطن إلى التدنيس من قبل الأعداء، فيما كانت هناك نسبة لا يستهان بها ممن لم تتمكن بعد ثقافة التغيير من تحويله عن ثقافة ماضيه القريب المسممة بمفردات الردَّة وما نجح الأعداء بدسه في السلوك العربي من ثقافات غريبة سيئة، قد ضاعت عليهم الحدود الفاصلة بين الحلال والحرام في كل نشاط اجتماعي واقتصادي، فالغاية تبرر الوسيلة مهما كانت نتائجها، وهذا جعلهم لا ينظرون إلى التحديات التي تواجههم إلا من خلال مدى ما يمكن لها أن تحقق لهم من مكاسب مادية دون النظر لمدى شرعيتها، فهي هدف لسعيهم سواء أكانت حلالاً طيباً أو كانت سحتاً حراما، وذلك ناجم عن عدم الموازنة بين المتطلبات المادية والروحية.

 

وهذا ما مهد الأرضية للأعداء كي يتمكنوا من العبث في الواقع العراقي بواسطة هؤلاء من خلال ثقافة التخريب التي قادتها الزمر الإجرامية المرتبطة بالشعوبية الفارسية المتسترة بالتشيع، حيث كانت تدفع بهؤلاء إلى البحث عن أي منفذ للربح المبني على الخطيئة والحرام والإجرام بحق الآخرين، بعد إضفاء القدسية الدينية المزيفة عليها لضمان الإيغال فيها قدر المستطاع، فقد انبتوا في وعيهم تبريرات ماكرة مخادعة تبيح لهم السرقة والتجاوز على حقوق الغير، فيما كانت تعد نهب المال العام متى سنحت الفرصة، عملاً يتصف بالقدسية من خلال اختراعهم لما يسمى بأعمال التمهيد والتعجيل بالفرج في ثقافة التشيع الفارسي، فكل هذه الرذائل واجبة الحصول، لأن المنتظر على وشك الظهور ليبسط العدل ويعمم الرخاء ويقتل الأعداء ويسيِّد هؤلاء الرعاع على سواهم من الناس، لكن خروجه مرتهن بشيوع الفساد والإجرام، وذلك في الحقيقة كان ستارا يخفي خلفه شبهة التنظيم السياسي والعمالة والجاسوسية التي لا يستوعب هؤلاء الجهلة حقيقتها، ولا يدركون أنهم مسخرين في منهج عدواني يستهدف مستقبلهم، كي لا يكون الخوف من العقاب حاجزاً أمام تطويعهم في مسالكها.

 

لذلك فقد كان يفترض بالطلائع الثورية أن توازن باستمرار بين قدراتها وبين قدرات الجماهير بشكل دقيق وحقيقي ومنصف، فمن الأخطاء القاتلة أن تُطالب الجماهير بما لا تطيق تحمله، قياساً على قدراتها هي، كي لا تشعر بالإحباط حين تنتكس الجماهير عن أداء أدوار هي أكبر من طاقاتها، توهمت الطلائع أنها تملك مواصفاتها هي، فتصورت وخططت على أساس أنها قادرة على إنجازها بالصورة التي تتيحها قدرات الطلائع وليست قدرات الجماهير، وتلك هي الموازنة المبدعة التي يجب أن لا تغيب في أي منعطف تاريخي، بين معطيات الواقع ومتطلبات الطموح.

 

فمن غير المنطقي أن تعتقد الطلائع بإمكانية أن تكون كل الجماهير طلائع، وتمتلك قدرتها، ولو كان ذلك متاحاً لما برزت في عصر الرسالة الإسلامية أسماء لامعة من بين الطلائع نفسها؛ صحابة رسول الله وآل بيته، وغطى بريقها على من سواها من الطلائع على صفحات التاريخ، فلم يكن كل الصحابة وآل البيت النبوي متميزين في المجتمع العربي الإسلامي، عملاً وقدرة وتضحية وإبداعا، كما لم يكن كل المجتمع الإسلامي طلائع، فقد وجدنا فيهم من ارتدّ بمجرد غياب الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.

 

لقد نجحت الحركة التاريخية خلال العقدين الأول والثاني من عمر تجربتها في العراق بقيادة الجماهير، وتحقيق منجزات كبيرة ومتميزة جداً، لأنها كانت تجيد إجراء هذه الموازنة بإبداع فريد، لكنها اختلت فيما بعد اختلالاً كبيرا، ذلك أن كل حرب مهما كانت أهدافها ونتائجها تترك أثاراً حتمية على الواقع، تتضح كثيراً بعد أن تطوى صفحاتها، آثار متنوعة لتشمل كل مناحي الحياة وأنشطتها؛ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والسلوكية، وتنسحب حتى على الجانب الروحي في الشخصية، سلباً أو إيجاباً، وهذا في كل الأحوال يغير من حقيقة الموازنة بين الواقع والطموح، مما يستوجب إعادة النظر مجدداً بغض النظر عن المراحل التي كانت قد قطعتها، فهي عادة ما تشهد تراجعات في جوانب معينة رغم تقدمها في جوانب أخرى، فعلى سبيل المثال، حدث تغير جذري بين الإمكانات المادية والقدرات البشرية، ففي العقدين الأولين من عمر الثورة كان هناك تفوق للقدرة الاقتصادية على القدرة البشرية في التعامل والاستثمار، فيما انقلبت المعادلة بعد عام 1988م حيث تفوقت القدرات البشرية كثيراً على ما متوفر من إمكانات اقتصادية متاحة، فقد كانت مرحلة الاعمار التي تلت العدوان الثلاثيني عام 1991م تعتمد بشكل أساسي على الخبرة البشرية التي تفوقت على ما متاح لها اقتصادياً فطوعته وأنجزت مهماتها بنجاح كبير، وهذه المعادلة تغيرت في كل مجالات الحياة العراقية ومنافذ النشاط فيها، فالزراعة التي كانت تعاني من تخلف الفلاح عن قدرة مواكبة مفردات التطور الزراعي كماً ونوعاً، تحول واقعها بعد عام 1988 إلى واقع مختلف تماماً، اتسم بحاجة الفلاح الذي اكتسب العديد من خبرات التطور واستوعبها في نشاطه الاقتصادي والاجتماعي، إلى الدعم الاقتصادي كي تتكامل دورة النهوض، وفي التعليم كان البلد يعاني من شحة في أعداد المؤهلين علمياً لقيادة النشاط التربوي والتعليمي مع توفر كل مستلزمات النهوض العلمي، بما فيها التغذية المدرسية التي كانت متميزة على صعيد العالم وليس الأمة فحسب، لكنها تحولت بعد انتهاء الحرب لتشهد جيوشاً جرارة من المؤهلين لممارسة هذا النشاط في كل مراحله، لكن المتوفر من المستلزمات كان قد تراجع بشكل ملحوظ فاختلت الموازنة مرة أخرى، مما دفع البعض منهم للبحث خارج الوطن عن بيئة أفضل ليمارس فيها نشاطه، وهكذا كان حال جميع مجالات الحياة الأخرى، فتركيز الجهد على متطلبات المواجهات العسكرية كان قد عطل أو أضعف من قدرة متابعة وإحكام الموازنة بين المتاح الفعلي في الواقع، بعيداً عن التعميم من خلال التسليم بما كان عليه من قبل، وبين متطلبات المرحلة وخطط النهوض التي تشكل ضغط الطموح.

 

ليس صحيحاً أن يعتبر ما تحقق ثابتاً لا تراجع فيه، فحينها قد تنطوي المراحل اللاحقة على اختلالات كبيرة في ميزان المعادلة بين معطيات الواقع الفعلية وبين متطلبات النهوض، وقد حدث هذا في العراق منذ عام 1991م، فقد استمرت القيادات الثورية تبني تقييمها لقدرات الجماهير على أساس المتحصل قبل عام 1988م، ولم تحدث مراجعات لهذه الموازنة بشكل جدي وفاعل لتكتشف أن هناك تغيرات كبيرة قد طرأت في كل ميادين الحياة انعكست على الجماهير بشكل مباشر، كناتج منطقي لحرب وتآمر تراكمت تأثيراتهما لثمان سنوات، تلاهما عدوان وحشي استخدم خلالها الأعداء كل ترسانات الأسلحة ومعدات التدمير التي كانت مهيأة لمواجهة دولة عظمى وليس العراق بقدراته ومساحة أرضه وعدد نفوسه، ولأن الموازنة لم تصحح فقد ظهر عجز الجماهير عن تأدية أدوار كانت تؤديها بتفوق واقتدار فيما مضى، فأصيبت بعض الطلائع بخيبة الأمل، لأنها أرادت تحميلها ما لا طاقة لها به، دون قصد منها، فهي قد لا تعلم أنها حملت الجماهير ما ليس بمستطاعها تحمله، فيما أصيبت الجماهير ذاتها بهذا الإحباط، لأنها وجدت نفسها عُرضة للاتهام بعدم القدرة على الإنجاز المتميز، بالوقت الذي كان وعيها يؤكد أنها قادرة، وسبق لها أن امتُحِنت ونجحت بتفوق، فأوقعها هذا التناقض في دوامة ازدواجية في الوعي والتفكير، لعدم قدرتها على استيعاب التغيير الذي حدث لطبيعة قدراتها رغم إدراكها للأسباب التي أدت بها إلى ذلك التناقض، ولو كانت الطموحات تنسجم مع القدرات الفعلية لجماهير الشعب لكانت النتائج لا تخرج عن المعقول ولا تتجاوز التوقعات.

 

ولقد كان الفارق بين خلافتي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، أن الأول كان يتابع أحوال الجماهير يوما بيوم، ويرسم صورة صادقة للقدرات يبني عليها موازناته الصائبة والرائعة بين الطموح والواقع، وذلك الذي جعله يرى ما لم يكن يراه غيره، من أن مسار الانحراف بدأ يزاحم مسار العقيدة والطلائع، فلذلك منع على أثرياء الصحابة، وبالأخص القرشيين منهم أن يسيحوا في الأمصار، وحدد من حركتهم، رغم أنهم لم يكونوا السبب المباشر في ظواهر بدأت تنمو في الوسط العربي الإسلامي، لكنها نشأت بين صفوف الجماهير، فالتقطها بسرعة مذهلة وراح يضع لها الحلول قبل أن تستفحل، كما كان لا يعزل أحداً ولا يولي أحداً إلا وعالج بهما خللاً وصحح مساراً وعدّل اعوجاجا، وذلك نابع أصلاً من قناعته أن هناك فواصل في الوعي والقدرة والإرادة بين الطلائع والجماهير، وهي كذلك بين الطلائع أنفسهم، لذلك لم يحمل الرعية ما تستطيع الطلائع تحمله، ولم يحمل الطلائع نفسها ما لم تكن قادرة على حمله. فيما اختلت الموازنة تماماً خلال خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه لم يكن يملك قدرة الفاروق على المتابعة وإجراء الموازنات التي تصحح المسارات وتعدل الانحرافات.

.
*طبع هذا الكتاب بنسخ محدودة في دار السلام بغداد عام 2009م تحدياً للغزاة وأذنابهم الذين لم يسلم من همجيتهم ووحشيتهم وحقدهم حتى الكتاب والقلم.
 
للاطلاع على الاجزاء السابقة :
كـتــاب - احْتِلالُ العِرَاقِ العوامل التي ساعدت على نجاحه والأسباب التي أفشلت أهدافه
كـتــاب - احْتِلالُ العِرَاقِ العوامل التي ساعدت على نجاحه - والأسباب التي أفشلت أهدافه
 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاحد  / ٢٦ ربيع الثاني ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١١ / نيسـان / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور