كتاب احْتِلالُ العِرَاقِ

العوامل التي ساعدت على نجاحه والأسباب التي أفشلت أهدافه

﴿ الجزء الرابع

 
 
شبكة المنصور
حــديــد الـعــربي

اختلال الرؤية بين القيادة والجماهير

 

إن أي عملية تغيير تحتاج إلى متابعة ورقابة واعية لمساراتها خلال التطبيق، فلكل مسار منها منزلقات وعوائق، لابد من تداركها في الوقت المناسب، ووضع الحلول القادرة على تجاوزها بأقل ما يمكن من خسائر.

 

إن القيمة لا تكمن في القدرة على اتخاذ القرارات التي تعالج أوضاعاً سيئة بهدف تغييرها من خلال دراستها وإيجاد الحلول المناسبة لها بما يخدم الأهداف الكبرى للتغيير ويعزز من إمكانية تحقيقها فحسب، إنما تحتاج لكي تحقق أغراضها إلى قدرة مبدعة في متابعة تنفيذها وحل كل الإشكاليات التي تعتريها كظواهر سلبية بنتيجة التفاعل والصراع بين الواقع والطموح الذي تجسده أهداف التغيير، من خلال أدوات ووسائل التغيير التي تنتظم في عملية تطبيق الفكر النظري المتمثل بالقرارات والقوانين، وبغيره فإن القرار إما أن يتحول إلى مجرد فكرة تنتظر من يأخذ بيدها ليجسدها على أرض الواقع، أو تنفذ دون تهيئة مسبقة لأدواتها ووسائل تحققها ودوام الرقابة والمتابعة على سير تطبيقاتها، لتتحول إلى أداة للصراع حولها بالاجتهادات المختلفة فيما بينها، قد تكون من بينها إرادات مناقضة لهدف القرار من التغيير، فتمسخ وتنحرف إلى تغيير سلبي آخر يضاف لما هو موجود، فيعمق من ذلك الواقع المستهدف بالتغيير، فتكون النتائج النهائية زعزعة ثقة الجماهير بقدرتها على أداء فعل التغيير المنشود.

 

في مستهل العقد الثاني من عمر الثورة كان هناك تطبيقا لقرار ثوري، هو من متطلبات مرحلة الإعداد للنهوض الحضاري في العراق، جاء مكملا ومتمما لمجموعة من القرارات الكبرى الهادفة إلى تغيير واقع التخلف والفقر والمرض والجهل إلى واقع جديد كليا ينسجم ويلبي متطلبات النهوض، فكان قرار التغذية المدرسية المجانية مكملا لقوانين التعليم المجاني الكامل لكل المراحل الدراسية، والزاميته للمرحلة الابتدائية كأسبقية أولى، واعتماد صيغ جديدة تحقق استيعاب الكليات للطلاب وفق أسس تعتمد قدرات التحصيل لدى المتخرجين من المرحلة الثانوية، بغض النظر عن المستوى الاجتماعي والاقتصادي للطالب، فلكي تكون فرصة اختيار الطالب للتخصص الدراسي في أي مجال عادلة ومنصفة، اعتمدت صيغة معدلات النجاح أساساً كليا، ولا تتدخل فيه أية عوامل أخرى كالانتماء السياسي والعرقي والمذهبي أو المكانة الاجتماعية أو القدرة الاقتصادية، كما كان الأمر من قبل، فتساوت الفرص بعدالة بين أبناء الفلاحين والعمال والكسبة وذي الدخل المحدود وبين أبناء الأثرياء وذوي المواقع العليا في الدولة والمجتمع.

 

كما كان ملبيا لمتطلبات أهداف الحملة الوطنية الكبرى لمحو الأمية بين صفوف الشعب، والنهوض بواقعه الثقافي والعلمي، من خلال جعل المدرسة مصدر جذب للأطفال وذويهم، نتيجة الحوافز التي وفرتها هذه الحزمة من القرارات التاريخية، وبعد أن تهيأت لإنجاحها كل الإمكانات والمستلزمات التي تطلبتها، للمساهمة في فعل التغيير، خلال العقد الأول من عمر تجربة الحركة التاريخية في تطبيق مشروعها النهضوي الحضاري، وبعد أن نجحت في تحرير الاقتصاد والمجتمع من أي تبعية، بعمليات تغيير واسعة وناجحة، كان من بين أهمها قرار تأميم الثروات الوطنية وتحريرها كلياً من السيطرة الأجنبية عام 1972م. فكان العقد الثاني قد شهد انطلاقة متميزة لتجسيد هذه القرارات التاريخية في الواقع العراقي باقتدار وتميز فريد، بدأت آثارها الايجابية واضحة على الجماهير في المدينة والريف وحتى البادية والهور وقمم الجبال، وبدأت تظهر القيم الأصيلة وتأخذ مواقعها في السلوك الاجتماعي، وصارت تزاحم خصائص السلوك الدخيلة المشوهة للمجتمع والماسخة لحقيقة وجوده وجوهر رسالته، ومعها حدثت منزلقات تطلبت جهودا لا تقل أهمية عن جهود التطبيق ذاتها، ففي الوقت الذي كانت التغذية المدرسية تحقق أهدافا متعددة، ابتداء من تحقيقها لهدف التنشئة الصحية السليمة للأجيال، عن طريق تلبية احتياجاتها الغذائية كاملة، مروراً بجعلهم مصادر إشعاع داخل العائلة وفي المجتمع، من خلال المفردات الثقافية النقية من التشويهات، والتي تضمنتها المناهج الدراسية، وانتهاء بجعلها - التغذية المدرسية - حافزا من ضمن مجموعة من الحوافز التي تدفع بالناشئة نحو المدرسة وطلب العلم، لتنغلق منافذ الأمية والجهل كلياً، وليتمكن البلد من إعداد أجيال متسلحة بالعلم والمعرفة والسلوك الاجتماعي الرصين المتحرر من مخلفات عهود التشويه والانحراف والردَّة، كهدف للتغيير ووسيلة لتحقيقه في آن معاً.

 

ومع كل ما حققته العملية من إنجاز فإنها تعرضت خلال التطبيق إلى مشاكل، كانت بحاجة ملحة إلى المعالجة والتصحيح، ولما كان الاهتمام يتركز حول التنفيذ دون إعطاء أهمية قصوى للتصحيح، فإن كل هذه الأهداف النبيلة قد استجدت حولها منزلقات تدفع باتجاهات غير اتجاهاتها الصائبة.

 

ولعلنا نستخلص مثلاً بسيطاً من تلك المنزلقات والعوائق ما يؤكد لنا نشوء هذه الموجات المعترضة لتدفق المياه بقصد حرف مجرى النهر وتغيير مساره، ففي عام 1978م كانت هناك مدرسة ريفية، هي ثمرة من ثمرات التفاعل الحي بين أهداف مشروع النهوض وبين الجماهير، حيث تبرع أحد المزارعين بالأرض والبناء لتلك المدرسة، وهو ممن كان يشعر بقيمة العلم والتعلم، حيث هيأت العناية الإلهية له إمكانية التتلمذ على يد شيخ تركي عام 1947م، فأتقن على يديه حفظ القرآن الكريم نطقاً وكتابة، بطريقة بدائية تفتقد لكل حوافز التعلم، لكن الإرادة القوية والعزم على تحقيق ذلك الطموح قد أديا إلى تحول ذلك الفلاح الريفي إلى (ملا)، كلقب يحمله بفخر واعتزاز كبير، وكدليل على ندرة المتعلمين بين أوساط المجتمع آنذاك، ومنذ ذلك الحين وحتى عام 1968م لم يكن قد تعلم من أبناء المنطقة سوى بضعة أشخاص، من بينهم أبناء ذلك الملا المتحمس للعلم والمعرفة ومعهم عدداً من أبناء أقارب له بتأثير ودفع منه، مع إنها من ضواحي العاصمة بغداد وليست بعيدة عنها، وتعدادها في ذلك الوقت كان يتجاوز الثلاثين ألف نسمة، وهي نسبة لا يستهان بها بالقياس إلى تعداد سكان العراق الذي لم يكن يتجاوز ستة عشر مليون نسمة.

 

كانت الفترة بين عامي 1968-1978م قد شهدت ثورة تغيير جبارة في المجتمع العراقي، تمثلت بولادة مئات المدارس في كل أرجاء العراق، كان من بينها المدرسة التي حققت جانباً من أحلام ذلك الفلاح المتعلم. وشاء الله تعالى أن يكون مديرا لتلك المؤسسة التربوية أحد أبناء ذلك الملا بعد نقل مديرها السابق، رغم حداثة عهده بالمهنة، فلم يكن قد مرَّ على تعيينه أكثر من عامين، لكن وجوده في ذلك الموقع قد رفع عن كاهل المعلمين مشاعر الإحراج وهم يعيشون ضيوفا على مضيف الملا، بكل ما تعنيه وتتطلبه أعراف الضيافة العربية الأصيلة، كما حقق وجوده مزيدا من الترابط والانسجام بين الهيئة التعليمية للمدرسة والبيئة الاجتماعية المتفاعلة معها بكل موروثها وعاداتها المتناقضة بشقيها؛ الأصيل والمكتسب من عهود الظلام خلال عمليات التفاعل الحضاري غير المتزن مع الأمم والأقوام الأخرى عبر مئات السنين.

 

كان ذلك المدير الشاب يعاني من مشاكل برزت خلال تطبيق نظام التغذية المدرسية، ففي الوقت الذي كانت بعض المواد الغذائية كالفواكه والحمص المسلوق (اللبلبي) والصمون الكهربائي تلبي رغبات التلاميذ، كانت هناك مواد أخرى لا يتقبلها التلميذ ذي النشأة الريفية، لأنها تشكل العمود الفقري للغذاء الذي يتناوله في المنزل، فيعزف عن تناولها لأنه متخم بها منذ الصباح، كالبيض والجبن بأنواعه والحليب الطازج والمجفف والمحلى والمكثف والخضر، مما دفعه للبحث عن حلول لهذه المشكلة، لأن أساليب الترغيب والترهيب قد أعيته ولم يحقق بها أي علاج لتلك المشكلة الطارئة.

 

كان احد المعلمين قد اقترح فكرة لا تخلو من الدعابة أن توجه الإدارة دعوة لأولياء أمور التلاميذ بعدم تقديم وجبة إفطار لأولادهم كي تتمكن المدرسة من تصريف المواد المكدسة لديها، فيما وجد آخر إمكانية بيع هذه المواد في السوق المحلية وشراء مواد أخرى عوضاً عنها من التي تستهوي الطفل الريفي، أو شراء ملابس لهم بأثمانها، وكان هذا المقترح على موضوعيته مثار اعتراض شديد من قبل الإدارة، لأنه أمر ينطوي على مخاطر كبيرة، فقد يشكل إغراءا لبعض ضعاف النفوس على ندرتهم في ذلك الحين فتمتد أيديهم لهذه الأموال، فيكونوا قد سنوا سنة سيئة، حتى وإن تشكلت لأجل ذلك لجان مختصة، فيما اقترح آخر أن تقوم الإدارة بتوزيع الخزين الفائض على المعلمين للتصرف فيه، فكان الجواب على هذا المقترح بالإيجاب، بشرط أن يصاحب المقترح ما يحلل للمعلمين استحواذهم على ما ليس من حقهم، وان كانت فائضة عن حاجة التلاميذ، وما كان بمقدوره فعل ذلك.

فما كان أمام مدير المدرسة إلا أن يقوم بإعداد دراسة تتناول جوانب هذه المشكلة مع مقترحات عملية لمعالجتها، وتقديمها إلى مراجعه التربوية لغرض التعمق في دراستها كظاهرة ومشكلة تعترض التطبيق، للخروج بحلول موضوعية لها، من أجل أن تتحقق الأهداف التي من أجلها وُجدت التغذية المدرسية، فقد تحولت الضغوط على التلاميذ لتناول ما لا يرغبون بتناوله إلى تغيب بعضهم عن الدوام، ومما عزز اندفاعه للبحث عن حلول لتلك المشكلة، أنه وجد كل المدارس الريفية ضمن محيط عمله تعاني من نفس المشكلة.

 

جدير بالذكر أن مواد التغذية توزع مركزياً وفق حصص مقدرة على أسس علمية توازن الحاجات الغذائية التي يحتاجها الأطفال، ولا دور للمدارس فيها سوى التوزيع.

 

ورغم أن هذه الدراسة قد فتحت الأبواب للبحث عن حقيقة تلك المشكلة، واكتشاف بعض التجاوزات هنا وهناك، من خلال معالجات من قبل بعض المدارس شبيهة بتلك التي اقترحها بعض أعضاء الهيئة التعليمية في تلك المدرسة، واكتشاف أن هذه الظاهرة لا تشمل كل أرياف العراق رغم سعتها، إنما ترتبط بالمستويات المعاشية المختلفة بين منطقة وأخرى، لكن قراراً تصحيحياً بمعالجتها علاجاً موضوعياً يلبي متطلبات أهداف التغذية المدرسية لم يصدر، ولم تتحقق المعالجات حتى استجدت ظروف العدوان الشعوبي الفارسي عام 1980م فأوقف العمل بها.

 

والسبب في ذلك كان يكمن في عدم استيعاب بعض القيادات الميدانية والوسطية لحقيقة وطبيعة التفاعل بين القمة والقاعدة، فالميدان مختبر حقيقي تتفاعل فيه الأفكار النظرية التي تنهض بها القيادة في القمة، فتتكشف خصائصها فيه، ولكي تكون الأفكار قادرة على المساهمة الفعالة في عمليات التغيير، فإن الواجب يحتم أن تتواصل عمليات التفاعل الموضوعي بين القاعدة والقيادة خلال التطبيق، لكي تتطور الأفكار من خبرة الميدان، وذلك لا يمكن تحقيقه إلا بوجود المتابعة والتواصل والإرادة الحاسمة في تقبل ذلك واعتماده كمنهج حياة لا تنتفي الحاجة إليه في أي ظرف ومهما بلغت الأفكار من النضج والمصداقية المعبر عنها بالنجاح في الميدان، فأي قرار مهما كان صادقاً في تعبيره عن معاناة حقيقية لواقع الجماهير لن يغير من ذلك الواقع شيئا إن لم يستند إلى الصلة بالجماهير وقراءة ردود أفعالها بشكل دقيق.

 

وهذه الصلة لا تتحقق إلا بقدرة وأمانة ووعي الوسط الناقل بين القيادة والجماهير، وكل خلل ينتاب تقديرات القيادة أو عمل وتطبيق القاعدة يتأتى بالدرجة الأساس عن قصور في هذا الوسط الناقل أو سوء تقدير منه لخطورة مهامه. ففي كثير من الأحيان لا تصل التصورات التي تطمح لها القيادة إلى أوساط الجماهير إلا عن طريق هذا الوسط، وقد ينقله بشيء من الموضوعية، فلا خشية لديه من غضب أو امتعاض الجماهير، نتيجة سوء تقديره وقصور وعيه، لكنه في أغلب الأحيان يلتمس شتى الذرائع ولا يحمل نفسه العناء ومسؤولية الأمانة في رسمه لحقائق الميدان، فينقل للقيادة ما ليست بحاجة له، ولا يخدم أهدافها بشيء، حين يختزل الجوانب الإيجابية فينقلها، وهي وإن شكلت حوافز للمزيد من العمل والمثابرة وشحذ الهمم في القيادة، لكنها لا تصحح ما ينبغي تصحيحه، ولا تُعدِّل ما يستوجب تعديله انسجاماً مع متطلبات الواقع وضروراته، بما يحقق إعادة النظر في الرؤية والتصور وبما يتلائم مع متطلبات الميدان، لو قام هذا الوسط الناقل بنقل كل الجوانب السلبية في ميدان التطبيق إلى القيادة، وليس في هذا - كما يتصور الوسط واهماً - أي إزعاج للقيادة أو خشية من نقلها إليه، فهي حين أجهدت نفسها وعانت كثيراً كي تتوصل لصيغ للتغيير، لم تكن لتسعد بانحرافه نتيجة الأخطاء، وما يسرها هو وضعها اليد على الثغرات لكي تسدها بما ينبغي من معالجات، وهي تعلم أن أي قرار يصمم على أساس معطيات الواقع وقدرات الجماهير الحقيقية لا المتصورة سيأخذ طريقه للتطبيق بنجاح وفاعلية.

 

وهذا الخلل ينتج عن جملة من الأسباب، أهمها: أن هذا الوسط لا يُعتنى كثيراً في اختياره، لعدم الشعور والقناعة بأهميته القصوى، ذلك أن القيادة حين تسلمت زمام السلطة تملكها الشعور بالقدرة على استمرارية التواصل مع الجماهير بذات الوتيرة التي كانت عليها قبل استلامها للسلطة، وهذا غير ممكن، فالقيادة حين تتسلم السلطة وتنهض بأعباء مشروع حضاري كبير، مع مشاغلها النمطية الأخرى التي تتطلبها السلطة، ستتغير طبيعة علاقاتها بالقاعدة عما كانت عليه في مراحل النضال السابق لها، فظروف العمل المتواصل والمسؤوليات الجسيمة المستحدثة قد لا تتيح لها هامشاً من الزمن لمواصلة التحامها بالجماهير، وخلق التصورات المباشرة عن واقعها كما كانت من قبل. ولأن هذا الوسط الناقل، نتيجة التهاون في اختياره، لا يفهم جيداً ولم يكن يستوعب ولا يقدر حجم الأهمية التي ينطوي عليها دوره ومدى تأثيره على المسيرة برمتها، حين يكون جهده مقتصراً على إرضاء القيادة ومحاولة إسعادها أو الحصول على ثنائها وتقديرها، من خلال انتقائية غير منصفة، تختزل الايجابيات وتنقلها دون الإشارة إلى ما هو سلبي في الميدان، الأمر الذي يحولها بمرور الزمن إلى طفيليات مرضية وغشاء ضبابي يحجب الرؤية الصادقة والتواصل بين القيادة والقاعدة، أو ينقلها مشوشة في أحسن الأحوال، مع انه كان معنياً ليس بنقل صورة صادقة عن الواقع بشقيه السلبي والإيجابي فحسب، إنما كان عليه أن يلتقط كل الإرهاصات التي تشير لإمكانية بروز انحرافات وينقلها بكل أمانة لغرض دراسة أسبابها ومعالجتها قبل استفحالها وتحولها إلى ظواهر مرضية.

 

فلو كان هذا الوسط صادقاً وأميناً في رسمه لصورة الواقع العراقي أمام القيادة العراقية عام 1990م لما أقدمت على استرجاع الكويت في الثاني من آب من ذلك العام، مهما تمادى حكامها في تآمرهم وخيانتهم. ولو كان النقل صادقاً ودقيقاً عن أسباب هروب الجنود من الجيش العراقي خلال سنوات الحصار الجائر، لأمكن القيادة من علاجها بيسر وسهولة، قبل أن تتحول إلى ظاهرة خطيرة، أفرزت فيما بعد عصابات للجريمة المنظمة، والتي تمكنت جارة السوء إيران من تطويع الكثير منهم في مساراتها التآمرية والعدوانية، وبخاصة في المحافظات الجنوبية والشمالية. ولو أن هذا الوسط المؤتمن، الذي بنت القيادة تصورها على أساس الصورة التي رسمها للمواجهة مع الغزاة قبيل حدوث الغزو عام 2003م، كان صادقاً وأميناً في نقلها، وواعياً لأهمية ما كان يتغاضى عن نقله، لاتخذت القيادة من القرارات والإجراءات ما كانت ستمنع به الانهيار المفاجئ للقوات المسلحة أمام وحشية الغزو. ففي الوقت الذي كان هذا الوسط المجامل على حساب الحقيقة وأمانة النقل، ينقل لها صوراً منافية كلياً للواقع، من أجل إبهاج القيادة وكسب رضاها عنه، كان الجنود الذين يحفرون مواضعهم القتالية قد أرهقهم الحصار وسلب فيهم روح التحدي وإرادة الانتصار، وسيطر على كثير منهم الشعور بالحيف، حين يجد أن هذا الوسط يتاجر بمحنته، ويتمتع بمكارم سخية على حساب جوعه وحاجته ومصاعب عيشه.

 

وقد كان واحداً من الأخطاء التاريخية أن تعتمد الدولة على أسس خاطئة للتكريم، فمع إن تكريم المتميزين والمبدعين يعدّ مطلباً مهماً وعادلاً ومنصفاً لتقييم الجهود والتضحيات، ووسيلة ناجحة من وسائل التحفيز والتشجيع على العمل الجدّي المثمر، والهادف إلى تفجير الطاقات المبدعة للمساهمة الفاعلة في البناء، لكنها كانت تنهج نهجاً خاطئاً في طبيعة التكريم ونوعيته وآثاره غير المحسوبة بدقة، حين كانت تعتمد على توزيع قطع الأراضي السكنية كجانب أساسي في مفردات التكريم، وذلك رغم أنه في المرة الأولى يعدّ تلبية لأهم متطلبات العيش الآمن والحياة الحرة الكريمة، لكن تكراره لمرات عديدة حوله إلى سبب من أسباب المعاناة القاسية التي كانت تعانيها شرائح واسعة من الشعب، فقطعة الأرض الواحدة يفترض بها أن تشمل كل الشعب العراقي، لأن المأوى شرط أساسي يجب توفره لتكوين الأسرة وضمان عيشها بكرامة، ولم تكن كذلك، بل إن المكرمين من الذين حصل بعضهم على أكثر من خمس قطع سكنية كانوا سبباً في معاناة الأسر العراقية التي لا تملك مساكن، وليس أمامها إلا الاستئجار من هؤلاء المكرمين وغيرهم، يفرضون عليهم بدلات إيجار تعادل مواردهم أضعافاً مضاعفة، فساهمت في تحويل بعض المكرمين إلى مستغلين يبحثون عن أي فرصة يستغلون فيها شعبهم. فكان يمكن أن يكون التكريم بأية وسيلة غير أراضي السكن مما لا يشكل استحواذا على حقوق الآخرين أو استخدامها بهدف استغلالهم والعبث في حياتهم، ففي الوقت الذي كان هناك الآلاف من المواطنين والموظفين الذين أفنوا أعمارهم في خدمة بلدهم، ويتقاضون في ظل الحصار مرتبات شهرية لا تلبي أدنى الاحتياجات لإسبوع واحد، كانوا لا يزالون يرزحون تحت رحمة المؤجر وجشعه، وكثير منهم أحيل على التقاعد بخدمات تجاوزت الثلاثين عاماً، فيما استحوذت شرائح معينة على عددٍ ليس قليل من قطع الأراضي السكنية، استثمرتها للثراء على حساب حقوق الآخرين، من الذين لم يكونوا أقل منهم تضحية وجهداً وإخلاصاً لبلدهم ومشروع نهضته.

 

فالسكن كان وسيبقى حاجة أساسية من حاجات المجتمعات، ولا يصح استخدامها بهدف الاستغلال للمتاجرة، وعدم توفره كان وسيبقى أحد أهم أسباب الانحرافات الاجتماعية، لأن تكوين أسرة لا يمكن أن يتم في العراء. وهذا الاتجاه الخاطئ لم يصحح لأن الوسط لم ينقل الصورة الحقيقية لآثاره المدمرة في الواقع العراقي، ففي العقد الأول من عمر الثورة تملك الآلاف من العراقيين، وبخاصة الموظفين أراض سكنية وحصلوا معها على قروض من المصارف العقارية فكونوا لأسرهم أهم مستلزمات العيش الأسري، لكن الفترة التي تلته شهدت عشرات القرارات التي تسهل امتلاك المواطنين وبالأخص منهم الموظفين على قطع أراضي سكنية، لكن أياً منها لم ينفذ بشكله الصحيح بحجج شتى؛ من صعوبات فرز الأراضي وتغيير نوعية استخداماتها وملكياتها وغيرها، فيما راح البعض ممن لم يتنبه إلى خطورة تمليك شرائح محددة لأكثر من خمس قطع سكنية، وهي لا تحتاج لتنشئ مسكنا إلا لقطعة واحدة، إلى تبرير عدم توزيع الأراضي على مستحقيها لأنها لو وُزِعت ستساهم في رفع أسعار المواد الإنشائية، وكأن توفير المزيد من المواد الإنشائية وأغلبها يصنع محلياً معضلة لا يمكن تجاوزها، وكأن بقاء الأسر العراقية ترزح تحت رحمة المؤجرين وجشعهم أفضل من شحّة هذه المواد، فكما هو معلوم أن المسكن دليل على الوطن، وإحدى وشائج الارتباط به.

 

لقد كان أغرب ما وصل إليه الانحراف في هذا الوسط، أن بعضاً منهم كان يختصر أهدافه بكيفية إرضاء المسؤول الأعلى منه، ليس بالعمل الجاد والمخلص، إنما بأساليب التزييف والتضليل والمبالغات، ولم يلتفت إلى أنه ومن يسعى لكسب رضاهم سيفقدون مواقعهم بنتيجة هذه الأساليب المنحرفة.

 

ومما يؤكد ما قلناه آنفاً، أن العقد الأول من عمر الثورة لم يشهد فجوة كبيرة بين القيادة والقاعدة، ذلك لأنها كانت في حالة تواصل وتفاعل مباشر في الميدان، حيث أن القيادة لم تكن حينها مثقلة بمشاكل إدارية وظيفية كبيرة وتحديات خارجية وداخلية واسعة، بل كان عملها يتسم بالثورية المتحررة من قيود العمل الإداري وأخلاقياته المبنية على الروتين والطبقية السياسية والوظيفية، ولغياب دور هذا الوسط أو محدوديته في تلك الفترة، فقد كانت القيادة تتواصل مع الميدان وتكتشف المعوقات والمنزلقات والظواهر المرضية فتسرع لمعالجتها، ولهذا كان كم المنجزات ونوعها في تلك الفترة متفوقاً على المراحل اللاحقة رغم محدودية الخبرة والإمكانات، فقد كانت فوائدها مباشرة انعكست آثارها على حياة الجماهير كلياً، فأسهمت في تعزيز صلتها بالقيادة وتلاحمها معها في أصعب الظروف وأقساها، لكن العقود التالية اتسمت بطابع مختلف، كان من بين أهم أسباب تغيره، هو ظروف الطوارئ خلال مواجهة العدوان الفارسي الشعوبي طيلة ثمان سنوات، مما استوجب وجود هذا الوسط، كعنصر أساس في ربط الصلة بين القيادة والقاعدة، والذي لم يكن اختياره دقيقاً، فالتهديد الذي شكله العدوان استوجب اختيارات تلبي في جانب كبير منها خصوصية التصدي والقدرة على مواجهة العدوان وتحقيق الانتصار، مما أغفل وعطل جوانب أخرى أهم كثيراً منها، والتي ترتكز على المصداقية والدقة والأمانة في النقل، وقدرة الفرز بين ضرورات الدفاع العسكري وحقائق الواقع وإمكانات وقدرات الجماهير المتاحة، ولم يعاد النظر فيه بعد الحرب بشكل كلي تلبية لمتطلبات مرحلة جديدة مختلفة، ذلك أن هذه العناصر تأقلمت شيئاً فشيئا مع أخلاقيات العمل الوظيفي، فانسحبت من صفوف الطلائع الثورية دون علمٍ منها أو إرادة، الأمر الذي أفقدها قدرة التفاعل الحي مع الجماهير ورؤية واقعها، فافتقدت لقدرة النقل الثوري الصادق وخلق أرضية التواصل بين الجماهير وقيادتها، فتحولت إلى معوق أمام المسيرة وأهدافها. وعلى الرغم من فشل هذا الوسط في نقل الصورة الحقيقية لواقع الجماهير في أكثر من مناسبة، ووضوح الخلل الكبير في مهمته ودوره، فإن عملاً يستهدف تغييره لم يتم، بل ظلت الإجراءات ترقيعية إصلاحية لم تغير من واقعه شيئا.

 

خط الشروع

 

كان التماسك الاجتماعي العراقي قد تشكل على أسس وطنية وأهداف جمعية، متجاوزا لكل الأسباب والعوامل التي ساهمت بفعلها المدمر تمزيق المجتمع العراقي وحرمانه من أهم مرتكزات قوته وحيويته قروناً ليست قليلة، وذلك كان مطلوباً في البداية وعلى رأس الأهداف المرحلية، فالوحدة الوطنية، بأي درجة من القوة والرصانة والثبات، تشكل شرطاً أساسياً وفاعلاً في تكوين مقدمات المشروع الحضاري، تستجمع بها الطاقات وتتكامل فاعليتها من أجل توفير أهم مستلزمات النهوض وتغيير الواقع، والتي بدونها لا يمكن تحقيق أي منجز تاريخي ذا بعد حضاري يترك آثراً ايجابياً في الواقع، وهذا ما تحقق بفاعلية وتميز حين وضعت القيادة العراقية كل مكونات الشعب على مسار التغيير والفعل الثوري المقتدر.

 

لكن المرحلة اللاحقة لم تشهد عودة لمعالجة هذه الأسباب والعوامل التي تم تجاوزها في المرحلة الأولى، والتي لا زالت تفعل وتؤثر في الواقع الاجتماعي، وتمارس صراعها الخفي مع واقع الوحدة الوطنية الجديد، وكشف أسبابها ودوافعها وتصحيح مساراتها بما يحولها إلى عناصر مضافة لتعزيز الوحدة والتماسك الاجتماعي بدلاً من الإبقاء عليها كأعراض لمرض يستفحل كلما سنحت له الفرصة، أو ضعفت القدرة على تحجيمه وعزله، بل أُهْمِلت بذريعة عدم الاختصاص، أو تحاشي فتق جروح مندملة كان يُعْتَقد أنها قد التأمت، مع عدم الشعور بحجم أخطارها، أو الأدوار التي ستؤديها في تدمير كل البناء حيثما توفرت لها الفرص والأجواء الملائمة والمحفزة.

 

وقد كان من بين أهم الحوافز التي دفعت بعوامل التجزئة للظهور مجدداً، هو عدم قدرة بعض الطلائع الثورية بمسوياتها العاملة في الوسط الاجتماعي، والتي لا يتحقق القرار المتخذ من قبل القيادة الطليعية العليا على أرض الواقع إلا بوجودها وفاعليتها وقدرتها على القيادة الميدانية، على إحكام صيغة خط الشروع الموحد ومتطلباته وتطبيق آلياته بفاعلية، الأمر الذي أدى إلى تفاوت بين مناطق القطر العراقي في حجم البناء ونوعيته وتأثيره في الواقع الاجتماعي ومردوداته الملموسة، في حين كان خط الشروع يتطلب خلق حياة حرة كريمة بالمساواة الكاملة في توفير الخدمات الأساسية لجميع المواطنين دون تمييز أو مفاضلة، وتوزيع فرص العمل توزيعا يتلائم مع الكثافة السكانية والحاجة الفعلية، وعدم تركيزها في مناطق محددة دون أخرى، وإلغاء أي أفضلية في هذا الجانب للمدن الكبيرة على حساب المدن الصغيرة أو القرى، مع السعي المتواصل لردم الفجوة بين واقع المدينة والريف.

 

هذه القاعدة شابها الخلل منذ البدايات، وأخذ يتضخم ويتراكم حتى رسم للواقع الاجتماعي صورة مختلفة ومتناقضة في أحيان كثيرة مع أهداف الثورة ومشروعها النهضوي الحضاري، ثم صارت معالجته تزداد صعوبة كلما ازداد الفارق وتعمقت الهوة، وتنوعت أشكاله ليشمل كل أنماط النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي بفوارق واضحة، قد تكون طبيعية جداً في ظل أنظمة نمطية إن لم تكن متميزة، لكنها لا تنسجم مع مشروع للنهوض الحضاري التاريخي تقوده حركة تاريخية تسعى من خلاله لاستعادة دور الأمة المفقود منذ أكثر من ألف سنة، لأنها جزء من قاعدة تتكامل فيما بينها لتحقيق المباشرة بتنفيذ هذا المشروع، وأي وهن في جانب من جوانب هذه القاعدة سيجعلها غير قادرة على تحمل أعباء التحشد وأثقاله فوقها فتنهار.

 

وقد يكون لطبيعة العمل الاستثنائي مساهمة بشكلٍ من الأشكال في بروز هذه المشكلة، لكنه لم يكن العامل الأساس، إنما كان الفعل والأداء الثوري الميداني الذي يتميز هنا ويخفق هناك هو العامل الأرجح في خلق ذلك التفاوت.

 

وعند ذاك برزت ظواهر الشعور بالحيف وعدم الاكتراث، الأمر الذي كانت عوامل التجزئة، المهملة بلا علاج سوى إفقادها زمام المبادرة وتحجيم الدور، له بالمرصاد لتستغله أبشع استغلال، وتصويره على أنه ناتج لفكر التجزئة وقصد من مقاصدها، وليس تقصير في الأداء يمكن تلافيه وإصلاحه، على أن هذه العوامل الطائفية والعرقية لم تكن تعمل بوحي من قناعاتها مطلقاً، بل في أساسها وليدة لثقافة التجزئة التي أوجدها الأعداء لتمارس دورها في منع الأمة عن أي محاولة للنهوض مجددا وما يتطلبه ذلك من شروط، تشكل الوحدة الاجتماعية أبرزها وأكثرها فاعلية، ولهذا كان التأثير يجد له استجابة، خاصة وأن الثقافة السلوكية للمجتمع العراقي لم تكن قد تخلصت كلياً من سلوك وثقافة التجزئة وظروف الانحطاط، فلا زال المجتمع تتفاعل فيه أعراف عشائرية وقبلية وطائفية ومذهبية وعرقية، فتربط هذه الأخطار بأطرها لتعطيها أبعاداً لثقافة الهدم المضادة، والتي لا تعيش هذه الأعراف بمجملها إلا في ظلها.

 

لذلك كان من المفروض أن لا تُهمل عوامل التجزئة ويترك لمكتسبات مشروع النهضة بمفردها محاصرتها ونفيها، فكما أن هذا المشروع يتطور وفقاً لقوانينه فإنَّ عوامل التجزئة هي الأخرى تطور نفسها وأساليبها اعتماداً على الأخطاء والهفوات، وبخاصة تلك التي لم تجد لها حلاً سريعاً يفقدها قدرة التأثير المعاكس، والتي لا بدَّ أن تكتنف أي عملية شروع بالبناء والتطور وتترافق معها، لتتخذ منها أرضية جديدة ولا تفصح عن وجهها الحقيقي.

 

وهذا كان سيستنزف وقتا طويلا وجهدا كبيرا في مسار عملية الانطلاق، لكنه في المقابل كان سيشكل الضمانة الأكيدة لمضي المشروع نحو تحقيق أهدافه كاملة، فأي قاعدة فيها بذور للتفتت لا تصلح لان تكون منطلق نهوض وفعل تاريخي كبير، وقد فعل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ذلك، فالمرحلة التي استغرقها في تهيئة مستلزمات النهوض كانت تغطي المساحة الأكبر من زمن الدعوة الكلي، وعند انجازه لتلك المتطلبات آذن بالشروع ومع بدايته اختار الرفيق الأعلى، فنهضت طلائع العروبة بالعقيدة تواصل البناء والفعل.

 

هذه المواجهة مع عوامل التجزئة كانت تتطلب قبل كل شيء النهوض بأعباء معركة التطهير الفكري والسلوكي، تسبقها معرفة علمية وشاملة ودقيقة لأسباب الشوائب الفكرية والسلوكية الدخيلة ومسبباتها، بقراءة جديدة مبصرة لأحداث التاريخ لاكتشاف حقائقه وفرز الدس والتشويه عنها، بعد معرفة أسبابها ومحفزات نشوئها في الوعي العربي وتحديد آثاره المدمرة على المجتمع العربي، فالجاهلية ليست هي الخصائص النقية للقبيلة العربية، والطائفية ليست هي الصورة الحقيقية للعقيدة الإسلامية، ولم تكن في أيّ من أيامها معبرة عنها وعن قيمها، وكذلك هي العرقية العنصرية فهي ليست خاصية تعبر عن الانتماء القومي، كما إن التجزئة لا يمكن لها أن تكون حافزا مضافا للبناء والإنتاج والرقي الاجتماعي، فالوحدة الاجتماعية تحققت بشكل من أشكالها وأثمرت انجازات لم يكن لها أن تتحقق بعوامل التجزئة مطلقا، وهذا عامل مرجح خلال المسار ليقف المجتمع بكل مكوناته موقفا لا يمتعض فيه من نقد التجزئة ومسبباتها واكتشاف حقائقها بالتدريج مع تواصل العمل والبناء، وهذا يقتضي نظرة صحيحة للإسلام من خارج منظور المذهبية والطائفية، ليتحول من عامل تعويق لنهضة الأمة كما يتخيله الذين لا يجيدون الفرز بين الإسلام كعقيدة وثقافة سلوك وبين الصورة المشوهة التي رسمتها المذهبية والطائفية والحزبية للإسلام، وهذا الأمر غاية في الأهمية والخطورة، لان الأمة التي تعاني اليوم من التجزئة والانحطاط بفعل عوامل لا يستبعد عنها العامل الديني، لم تكن في نهضتها الحضارية الكبرى إلا بسبب وجود هذا الدين، فالأمة العربية كانت تملك حينها كل عوامل وحدتها وقواسمها المشتركة من لغة وتاريخ وجغرافية ومصالح لكنها كانت في أسوأ حال، مفككة يسودها الجهل والتخلف، يقتسمها الأعداء من كل اتجاه، ولا تملك من إرادتها إلا الخنوع والخضوع لذلك الواقع المزري.

 

لكنها حققت بالإسلام كل شروط نهضتها الحضارية وامتلكت كل أسبابه وعوامل نشوئه، فتحولت القبلية الجاهلية إلى رابطة جديدة مختلفة كليا، وانتقلت من معتقداتها الساذجة المتخلفة إلى عقيدة التوحيد الحنيفية، فربطت كل الأسباب بمسبباتها الحقيقية والصادقة، وطردت كل المفردات المشوهة الدخيلة على أنظمة سلوكها خارج وعيها وسلوكها فتحولت إلى وحدة اجتماعية متماسكة أذهلت التاريخ بانجازاتها الفريدة خلال ربع قرن من الزمن.

 

فالإسلام إذن هو المرشح القادر على تنقية عوامل الوحدة العربية من الدخيل عليها والذي يوهنها ويبدد أسباب فاعليتها، لكن أي إسلام؟ إنه إسلام الينابيع الصافية النقية الخالية من الدس والتشويه والأهواء التي تشكل اليوم كثير من مفرداته، إنه الإسلام الذي يتجاوز الطائفية والمذهبية بكل خصائصها المعوقة لوحدة الأمة، فالإسلام الخالص هو الذي جمع كلمة الأمة بعد تفرقها، ووحد جهود أبنائها بعد أن كانت مشتته فاقدة لقيمتها، وهو الذي نقلها من واقع الانحطاط والتشرذم إلى واقع النهوض الحضاري بعد أن وحد مواقعهم على قاعدة الانطلاق ونظم خطى مسيرهم نحو الأهداف. والمذهبية والطائفية تهدف في واقعها المشوه عكس هذا، فهي وإن بدأت كجهود فكرية تُوجِد حلول لمستجدات الحياة السلوكية بما لا يمس جوهر العقيدة وأصل أهدافها، لكنها أُستغلت أبشع استغلال من قبل الأعداء وأهل الأهواء لحرفها عن مقاصدها وتحويلها إلى تحزب سياسي بهدف تحقيق أغراض لا تمت للإسلام والعرب بصلة، ولا تنسجم مع العقيدة بشيء، لأنها تتخذ منها أسباباً للفرقة والتناحر، والعقيدة في جوهرها لا يمكن أن تكون سبباً للفرقة، إنما هي تأخذ مصداقيتها من واقع التوحد، والفرقة دليل أكيد على الانحراف عنها. فالقاعدة الصحيحة أن كل ما يعزز وحدة العرب والمسلمين ويزيد من تماسكهم يرتبط بالعقيدة الإسلامية، وغيره لا يشكل إلا انحرافاً عنها أو تزويراً لها.

 

كذلك ينسحب الأمر على القبلية والعشائرية والمناطقية والعرقية، التي تتحول بالعقيدة الإسلامية النقية من حالها المعوق للنهوض والبناء إلى عوامل دافعة للنهوض وفاعلة في مساره.

 

ولا يغيب عن البال أن ما نقصده بالعقيدة الإسلامية ليس ما يتصوره العجزة ممن يعتقدون بلوي عنق الزمن والتاريخ للعودة بهما إلى حيث كانت الأمة قبل 1400 سنة، لكنه الاستحضار لقيم تلك العقيدة استحضارا مبدعا وواعيا ومقتدرا، فهناك فرق كبير بين استحضار العقيدة وبين استعادة الواقع الذي كان يمثلها قبل 1400 عام، وذلك ما لم تستوعبه بعض الدعوات السلفية والعلمانية في آن معاً، فإن مما لا يمكن تحققه أن تستعيد الأمة واقعاً كان يعيشه أسلافها قبل قرون مهما كانت النوايا صادقة والأهداف نبيلة، لأن ذلك محض خيال وأحلام لا يمكنها أن تتحقق مطلقاً، وذلك هو السرّ الذي اهتدت إليه الحركة التاريخية في العراق، والذي ميزها عن كل الحركات والتنظيمات العربية الأخرى.

 

على هذه القاعدة يمكن تحقيق التماسك الاجتماعي الرصين، ولن يكون وجود عرب يعتنقون أديان أخرى عائقاً أمام هذا التوجه أو محرجا له، على العكس تماماً، فالمسيحيون العرب لم يشعروا بعمق ارتباطهم بالأرض ولم يشعروا بالأمن والأمان ولم يفخروا بعروبتهم في أي زمن غير زمن النقاء الذي شهدته عقود النهضة الحضارية العربية الإسلامية، أكدتها وأفصحت عن حقيقتها المساهمات الكثيرة لهم في شبه الجزيرة العربية والعراق والشام ومصر بالفعل الحضاري، منها مشاركاتهم بالقتال مع إخوانهم المسلمين العرب في معارك تحرير العراق ضد الفرس ومعارك تحرير الشام ضد الروم، ذلك لأنهم وجدوا في الإسلام عقيدة طهرت الروح العربية من كل أدرانها ووضعتها في مسار فطرتها التي خلقها الله عليها، فأمنوا على دينهم ودنياهم في ظله، وكذلك حال اليهود ممن لم تستحوذ عليهم الأفكار الصهيونية وتصوغ مفردات وعيهم، ففي الوقت الذي كانوا وقوداً للحقد والعداء الغربي، كان غيرهم من اليهود الذين عاشوا في كنف العرب المسلمين ودولتهم خلال قرون طويلة يتنعمون بوافر الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.

 

غياب روح المنافسة في العمل السياسي

 

إن حافز المنافسة جزء من الفطرة الإنسانية النقية وينسجم مع طبيعتها، والمنافسة حين تكون ضمن أطرها الصحيحة، بعيداً عن الأنانيات الشخصية، تخضع فيها الطموحات الفردية للمصالح العامة، التي هي في الحقيقة طموحات مشتركة لكل أفراد المجتمع، فإنها تشكل دافعاً كبيراً للإنجاز وتحقيق التفوق في مساره، فيما تشكل من جانب آخر الضمانة الأكيدة للتطور النوعي والكمي معاً، بوتائر متسارعة قد لا يمكن تحققها بدونها، وقد احتفظ التاريخ بالكثير من الوقائع التي تُظهِر دور المنافسة في تحقيق انجازات كبرى، فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان قد أبقى للطلائع العربية الإسلامية خصائصها التنافسية ولم يمحها من الوجود، فاستمرت الأمة تتعامل بمفردات المهاجرين والأنصار، الأوس والخزرج، وكان التنافس بين هذه المسميات على فعل الخير حافزاً يدفعها للمزيد من العطاء والانجاز والتميز في أدائه، يحكمه الرسول الكريم بالرقابة الشديدة ويتعهده بالتصحيح المستمر لغلق أي منفذ للسلوك الجاهلي، فكان من نتيجة هذا التطور أن تراجعت العصبيات الضيقة لصالح وحدة الأمة وانسجامها. وفي معارك الردَّة كان القائد خالد بن الوليد يلجأ لسبيل المنافسة فيؤججه بين جنوده، ليس بصيغ التعصب والانحياز، بل بصيغ الفعل والانجاز سعيا للمزيد من رضى الله تعالى، ففي معركة حديقة الموت حين اشتدت مقاومة أهل الردَّة لجأ ابن الوليد لتقسيم جيشه وفقاً لمتطلبات التنافس فكان كل فريق يسعى لأن يحقق ما يُعزه ولا يفضحه، وتحقق الانتصار الكبير، وفي معركة القادسية لجأ القائد الكبير والصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص إلى تفعيل التنافس بالانتساب لخلق حافز جديد يضاف إلى قوة الإيمان في مواجهة الحشود العظيمة لجيوش الفرس وتحقق الانتصار، والتنافس لا ينحصر على القتال فحسب، بل يتعداه ليشمل كل جوانب الحياة، العملية والفكرية وحتى التعبدية.

 

خلال العقد الأول من عمر الثورة كانت الطلائع القيادية والميدانية تخوض معاً سباقاً تسوده روح المنافسة على الانجاز المتميز مع طلائع أخرى ثورية وغير ثورية تشارك في العمل السياسي في العراق، يسعى خلالها كل طرف لإثبات وجوده وتميزه وصواب منهجه من خلال الخدمة التي يقدمها لمسيرة شعبه، عملياً ونظرياً، فتحققت خلال العقد الأول من عمر الثورة منجزات كبرى لم تكن مساحة الزمن لتفيها أغراضها ومدياتها لولا وجود هذا الحافز الدافع بالاتجاه الصحيح، فقد تميزت التحولات الاقتصادية وأثمرت واقعاً رائعا تضاعفت معه نسب الدخل القومي للفرد العراقي بطفرات هائلة، رافقتها تحولات اجتماعية هامة جداً، في الجانب الصحي والخدمي والتعليمي، خاض شعب العراق خلالها حرباً شرسة ضد الجهل والتخلف وحقق فيها انتصارات أبهرت العالم بأسره، أما في الجانب السياسي فقد تحولت المنظمات الجماهيرية من واجهات دعائية إلى مدارس للنضال والكفاح من أجل تنظيم شؤون الحياة والمساهمة في البناء والنهوض، عبرت الجماهير خلال ممارساتها الانتخابية عن وعي جديد ينسجم والدور الذي ينهض به العراق كرائد طليعي متقدم في مسيرة الأمة نحو خلاصها، وتميزت معه الحماسة في بناء الجيش وصولاً إلى تكوين القوة القادرة على صيانة المنجزات والدفاع عن قضايا الأمة وحقوقها.

 

فيما شهد العقد الثاني من عمر الثورة تراجعاً تدريجياً بسبب العدوان الفارسي بموجته الخمينية العدوانية المتغطرسة، ومتطلبات حشد الطاقات وتركيزها دعما للمجود الحربي ومواصلة الدفاع عن الأمة لفترة قياسية طويلة استنزفت من طاقات العراق وطلائعه الكثير، فاقتصرت المنافسة وتركز تأثيرها على قيم البطولة والتفوق في الدفاع عن حدود البلد وإفشال العدوان بكل أهدافه، سبقها انسحاب الأطراف التي كانت قد مارست عملية التنافس، نتيجة شعورها بعدم القدرة على المواصلة، ولعدم إيمانها أصلاً بأهداف المشروع الحضاري، وفقدانها لقواعدها الجماهيرية وانكماش مساحات عملها، لأنها كانت لا تُخْضِع طموحاتها الفردية للمصالح العليا للجماهير، بل كانت تحاول إخضاع الجماهير لتلبية طموحاتها الفئوية، فوضعت نفسها بين خيار الهروب والتآمر وبين الاستمرار في المنافسة حتى تسحقها عجلة التطور وتلغي وجودها، فاختارت التآمر مسلكاً أوقع بعضها في حبائل الأعداء التاريخيين كجواسيس صغار لا قيمة لهم، ففقدوا تاريخهم بعد أن مسخوه بأيديهم، إلا من ثبت منهم بعد أن اكتشف دوافع التخلي عن المنافسة في بناء قاعدة النهوض الحضاري، فانحاز إلى إرادة المجتمع وتخلى عن الطموحات الضيقة المتعارضة معها، فواصل بذل الجهد الفكري والعضلي في مسار النهوض.

 

أما العقد الثالث فقد شهد هو الآخر المزيد من صفحات التآمر والعدوان، الذي توسعت أطرافه وعظُمت أخطاره، الأمر الذي استوجب المزيد من قوانين الطوارئ لمواجهتها وإفشال أهدافها، والمزيد من التأجيل لمشاريع كان يمكن لها أن تعيد مسيرة التنافس إلى سابق عهدها أو أفضل منها، وكانت القيادة تشعر بالضرورة الملحة لوجود روحية التنافس في الميدان السياسي بهدف استعادة الطلائع لفاعليتها في العمل بين الجماهير كما كانت في العقد الأول من عمر الثورة، خاصة وأنها استثمرته في عملية إعادة إعمار البلد بعد الدمار الذي ألحقه عدوان الحلف الثلاثيني عام 1991م والذي أنجز الفرس المجوس أخطر صفحاته، التي كانت أكثرها خسة ووحشية وعدوانية وهمجية، فكان التنافس عاملاً حاسماً في تحقيق معجزة اعمار ما دمره الأشرار بزمن قياسي وقدرات وموارد محلية 100% وخلال أصعب ظروف العدوان والحصار، لكن البعض من الذين لايملكون تواصلاً عميقاً مع واقع الجماهير والمستجدات التي أوجدتها ظروف العدوان المتواصل وإفرازاتها، والذين يعملون في الميدان ولا يحسنون قراءته ولا يجيدون اكتشاف الواقع ونقاط ضعفه ووهنه، كانوا العقبة أمام رغبة القيادة والشهيد صدام حسين رحمه الله بصياغة واقع جديد يتيح للمنافسة أن تفرز ظروفاً جديدة وتمنع على الأعداء تحقيق مساعيهم التآمرية مستغلين تأثير الحصار في إخراج أعداد من الذين نفذ صبرهم وخوت هممهم فراحوا يستمعون لأكاذيبهم وينساقون في مخططاتهم بالتدريج، ثم ذهبوا إلى إسلوب في المنافسة ينم عن قصور في الرؤية، حين حولوا صيغ التنافس لتكون بين الطلائع الثورية نفسها، بصيغ هي أقرب للمزايدات منها إلى التنافس، الأمر الذي أفقدها بعض مواقعها بين الجماهير نتيجة هذه المزايدات وافتقادها للمصداقية الثورية في العمل والتعامل، فالتطوع في جيش القدس مثلاً أستخدم كوسيلة من وسائل التنافس بالكم دون النوع، الأمر الذي أفرز أخطاء كبيرة وخطيرة أفقدت المشروع قيمته وحولته إلى مجرد وسيلة دعائية، بحيث اضطرت الكثير من التنظيمات قبول تطوع أشخاص يشك في ولائهم، وما كان يمكن قبول تطوعهم لولا إحراجات المنافسة بالكم بين الحلقات التنظيمية بمختلف مستوياتها والمزايدات التي رافقتها، مع إن القيادة كانت تعي وتدرك أن الكم إذا افتقد لقياسات النوع سيتحول إلى حالة ضارة ومؤذية جداً، فالكم الذي كان في جانب مهم منه في جيش القدس يفتقد لمتطلبات النوع كلياً لكنه يلبي طموحات المنافسة الشوهاء، كان قد تسبب بتشتيت الجهد وضياعه، فالتجهيزات التي جُهِز بها هؤلاء كانت ستسد بعضاً من حاجة الجيش العراقي، وكذلك الأسلحة والمعدات على بساطتها، فقد حُيِّدت وأُبطِل مفعولها حين سُلِّمت بأيدٍ بعضها لا تجيد استخدامها ولا تملك الدوافع للقتال والتضحية من أجل البلد، فقد كان قسم منهم يتطوع بدافع الفائدة المادية من المرتب، أو تأدية خدمة الاحتياط العسكرية، وقد وجدنا بعضاً منهم فيما بعد أداة مدربة وجاهزة استغلتها عصابات الجريمة الأمريكية والصهيونية والفارسية ببضعة مئات من الدولارات لتسخرها في حملاتها الإجرامية ضد أبناء الشعب العراقي الأصلاء.

 

ولم تنحصر مفردات التنافس السلبي في هذا الجانب، بل لقد تعدته إلى مفاصل عديدة، تركت كل واحدة منها أثرها السلبي عليها، فيما كان يفترض بمنهج التنافس أن يضع الشعب كل هذه العصابات الإجرامية والشراذم المتخفية خلف أستار الدين والمذهبية وشعارات المظلومية والديمقراطية الزائفة في ساحة الفعل والانجاز ليكتشف زيفهم وكذبهم ويلفظهم كما لفظ الذين من قبلهم، فيبطل سحرهم ويُعجز كيدهم أن يلحق الأذى بالعراق وأهله، وليس هذا فحسب بل كان سيطهِّر مسار العمل الثوري من الدخلاء وأصحاب المصالح ونوايا السوء من المنافقين الذين تسللوا بين الطلائع وتسلقوا مواقع مختلفة خلال زمن الثورة وعمرها الطويل الذي تخللته العديد من ظروف الطوارئ، التي كما تُظهر جواهر الرجال فإنها تُبرز من لا يستحق بمواقف تخلقها الصدف في أغلب الأحوال، فإرهاصات العمل والبناء المتواصل كفيلة بأن تُعْجِز أمثال هؤلاء عن مواصلة التضحيات من أجل الجماهير فيتساقطوا أو تلفظهم المسيرة وتبعدهم عن طريقها.

 

وتلك كانت ستكون كالهزات العنيفة التي تُحدثها الرياح في أواخر أيام الخريف تطرح عن جسد الشجرة كل أوراقها الصفراء المريضة والميتة، تمهيداً لموسم الربيع حيث تتنعم الأوراق الخضراء بالراحة والكمية الكافية من ضوء الشمس وتمنحها قدرة النمو بالبراعم الجديدة.

.
*طبع هذا الكتاب بنسخ محدودة في دار السلام بغداد عام 2009م تحدياً للغزاة وأذنابهم الذين لم يسلم من همجيتهم ووحشيتهم وحقدهم حتى الكتاب والقلم.
 
للاطلاع على الاجزاء السابقة :
كـتــاب - احْتِلالُ العِرَاقِ العوامل التي ساعدت على نجاحه - والأسباب التي أفشلت أهدافه
كـتــاب - احْتِلالُ العِرَاقِ العوامل التي ساعدت على نجاحه - والأسباب التي أفشلت أهدافه
كـتــاب - احْتِلالُ العِرَاقِ العوامل التي ساعدت على نجاحه - والأسباب التي أفشلت أهدافه
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الثلاثاء  / ٢٨ ربيع الثاني ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١٣ / نيسـان / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور