يا أهل العراق تحصنوا ضد واحدة من أخطر صفحات الاحتلال
دراسة تحليلية تستهدف الكشف عن الأساليب الجديدة التي تعتمدها قوى الاحتلال

 
 
شبكة المنصور
حــديــد الـعـربـي

تمهيد


لم تكن مرحلة الاحتراب الطائفي مجدية كثيرا في تحقيق الأهداف الكبرى لقوى الغزو والاحتلال والعدوان المختلفة، فهي وإن حققت إزهاق أرواح مئات الآلاف من خيرة أبناء العراق، وكادت تشتت شمل الشعب، وتمزق أوصاله، وتحجم حركته وقدرة طلائعه على المناورة الواسعة في منازلتهم لألة العدوان الحربية وأدواتها المحلية والإقليمية، وهي وإن أذكت في نفوس السفلة والرعاع ثقافة الطائفية المقيتة، ورسخت سلبيتها في سلوك البعض منهم، فإنها من جانب آخر أفقدت سياسات قوى الاحتلال مصداقيتها المبنية أصلا على الأكاذيب والتزوير والتضليل أمام شعوبهم والقوى المتربصة بها والتي تتسقط أخطاء سياساتها للنيل منها أو للإنعتاق من ربقة التبعية لها، قبل أن تفقدها في نظر المغرر بهم من العراقيين، وأذهبت فاعليتها في المضي قدما نحو تطبيق خططها الإجرامية في رسم معالم الشرق الأوسط الجديد انطلاقا من العراق، كما إنها فشلت في جرّ فصائل الجهاد والمقاومة الحقيقية المستندة إلى إرادتها وحقها وواجبها بالتحرير، واستيعابها لوسائل وأساليب الأعداء ومحاولاتهم جرّها إلى معارك هامشية تستنزف طاقاتها وجهودها وتمنح أعدائها فسحة من الزمن لالتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم الصفوف.


وحقاً فقد أثبتت فصائل الجهاد وعياً وقدرة على قراءة الواقع قراءة صحيحة تفوقت بفضلها، بعد هدي الله وتوفيقه، على مكر الأعداء وخبثهم وأضاليلهم، وأحبطت غاياتهم الأساسية، وتفاعلت مع الواقع بمستجداته بحيوية واقتدار وصبر جميل، حتى تمكنت من قلب الموازنة في واحدة من أخطر صفحات الحرب والاحتلال، مما أفقد الأعداء القدرة على إدامة زخم ما سمي بالاحتراب الطائفي، نتيجة وعي الشعب الفطري بمكائد الأعداء، وتمسكه بأحد أهم أسباب قوته كشعب موحد.


لذلك لم يكن أمام الصليبيين والصهاينة والمجوس مجتمعين إلا الإقرار بفشلهم في تحقيق أهدافهم الأساسية من إشعالهم لنيران الفتن الطائفية بين العراقيين، والأمر بإيقافها، ولهذا فقد توقف القتل الطائفي بقرار منهم وأمر لكل الأدوات المساهمة في تنفيذ تلك الصفحة القذرة، والتي أعدوا صفحاتها بكل تفاصيلها، ولم يكن للأدوات الطائفية في هذا الأمر إلا التنفيذ، وما يؤكد ذلك التوقف، هو التوقف المفاجئ والسريع وخلال بضع ساعات، دون حدوث ما يبرر ذلك في ظاهر الأمور، فالحروب الأهلية وبكل خلفياتها وصيغها على مرّ العصور التاريخية لم تكن واحدة منها قد شهدت توقفا مفاجئا وبلا مبرر منطقي كالذي حصل في العراق عام 2007م، فهي إما أن تتوقف بنتيجة وساطات ومفاوضات أو ضغوط خارجية وداخلية تمتد لفترة زمنية معقولة، تكفي لتغطية وإيفاء الحركة التصالحية حقها وحيثياتها، حتى تتقارب رؤى أطراف الصراع بالتنازلات المتبادلة على مساحة مشتركة، تحسب فيها اعتبارات الربح والخسارة لكلا الفريقين، وذلك يتطلب وقتا طويلا نسبيا، يتراجع خلاله لهيب العنف والأحقاد حتى تخمد تحت رماد الاتفاقيات، وأما أن تنتهي بانتصار أحد طرفي الصراع وافتقاد الطرف الآخر القدرة على الصراع ومواصلة الاحتراب، وذلك يتطلب مقدمات وزمن ويفرز أوضاعا يمكن رؤيتها بجلاء تام، فإذا كان المهزوم حريص على تعمية هزيمته، فإن المنتصر أحرص منه على إشهارها ، بل وتهويلها، فلا مغنم له من حربه وتضحياته إلا التغني بالانتصار والتفاخر بالبطولات.


وأي من ذلك لم يتحقق بأدنى مستوياته في الواقع العراقي حين توقف الاقتتال الطائفي، يوم قررت قوى الاحتلال التوقف عن المضي في ذلك المسار والقرار بطي صفحاته، وإن كان ذلك الطي لا يلزم التمزيق، فقد تستلزم الظروف والمستجدات فتحها ثانية وثالثة في الساحة.


فما هو البديل الذي كانت قوى العدوان، أو الأطراف صاحبة القرار الأعلى فيها، قد أعدته لتباشر به مرحلة جديدة من حربها على العراق والأمة؟


صفحة المكر الشيطاني الجديدة ومقاطعها


إنها صفحة جديدة هي أخطر ما أفرزته العقول الشيطانية لقوى الاحتلال حتى الآن، لأنها تتسم بخاصية لا تنطوي عليها أي من الصفحات التي سبقتها، رغم أخطارها وآثارها المدمرة على الواقع العراقي، فقيمتها الأساسية تكمن في كونها لا تثير حولها لغطا أو إعلاما مضادا، تلك هي الصراعات التي توحي بأنها تتسم بصبغة اجتماعية خالصة، ولا ترتبط بأبعاد سياسية أو عسكرية، كما لا توحي باستنادها إلى خلفيات طائفية أو عرقية، الأمر الذي يجعلها وكأنها النقيض لحالة الاحتراب الطائفي، أو ردة فعل عليه، بسبب استناده إلى غايات لجهات خارجية يرفضها الشعب بفطرته.


وذلك ما اعتقدوا أنه يحقق لهم استغفال وعي الشعب العراقي عن معرفته لحقيقة أهدافها ومراميها، لتطويع نسبة كبيرة منه في مسارها ومن حولها بذلك الخداع والتضليل، باعتبارها عمليات تطهير لبقايا منهج الاحتراب الطائفي الذي يخشاه الشعب ولا يحبذه.


وقد حدث ذلك على مرحلتين، إحداهما أخطر من الأخرى:


المرحلة الأولى:


وهي تلك التي شهدت وجود ما سمي بمجالس الإسناد والصحوات، التي تولدت نتيجة استغلال الأعداء لحالة الرفض التي عبر عنها الشعب للتحزب والتخندق الطائفي، للإحباط الذي انتابه من جراء الجرائم البشعة التي ارتكبت في مساره بعد الغزو بحق الأبرياء، والذين لم يجدوا مسوغا لاستهدافهم، وإن كان واهيا، فكانت ردود فعلهم تكاد تكون منسجمة مع ما خطط له الأعداء وأعدوا من أدوات لم تكن في ظاهرها من أدوات الاحتراب الذي كان طائفي الصبغة والهوية في ظاهره، والارتباط الواضح بقوى الاحتلال والعدوان، فيما أوحت به الدعايات وطبيعة الجرائم المرتكبة في مساره وفقا لتخطيط الغزاة وأوامرهم.


والحقيقة أن هذه المجالس والصحوات لم تكن دوافع الغزاة من إيجادها كما أعلن وأشيع عنها، من أنها تهدف لتصفية أدوات الحرب الطائفية ومسببيها، أو على أقل التقديرات منعهم عن معاودتها مجددا، إنما هي أدوات لتنفيذ جانب من مرحلة جديدة تطلبتها حاجات وظروف قوى الاحتلال في مسار تثبيت وجوده وتفعيل دوره في الواقع العراقي لصياغته مجددا وفقا لأهداف المشاريع الصليبية والصهيونية والفارسية، المتمثلة بتمزيق أوصال الأمة وإعادة توزيعها على خارطة المشروع الشرق أوسطي.


على أن مجالس الإسناد والصحوات لم يكن كل منتسبيها يدركون طبيعة الأدوار التي يؤدونها، كما لم يكونوا كلهم واعين للنتائج التي تفضي إليها أعمالهم والمهمات التي تلقى على عاتقهم، بحكم التضليل وطغيان العاطفة على دور العقل في ردة فعلهم غير المدروسة على جرائم أدوات ما سمي بالحرب الطائفية، ناهيك عن أن كثير منهم كان قد تضرر ماديا بفعل الظروف السيئة التي خلقها الاقتتال طيلة سنة ونصف السنة تقريبا، مما أفقد البعض منهم لأعمالهم ومنع على أخرين الحصول على موارد العيش لهم ولعوائلهم، مما عزز في نفوسهم ردة الفعل تلك ورسخها في وعيهم، فكان ذلك كافيا لأن يندفعوا كل ذلك الاندفاع الساذج غير المدروس وغير المحسوب جيدا لنتائجه في مناؤة فصائل المقاومة، بما أوحى لهم المحتل وضللهم على انها جزء من أداة الاحتراب الطائفي وأسبابه، حين حشروا في وعي المغفلين من أبناء العراق أن المقاومة لم تكن هويتها عراقية، وأن أهدافها ليست تحررية وردة فعل طبيعية على العدوان والاحتلال، واستجابة لأمر الله تعالى في جهاد الكافرين المعتدين ودفع شرهم، بل ضللوهم وأوهموهم على أنها لغايات طائفية، تتعلق بأهل السنة، الذين فقدوا حكم العراق بفعل الاحتلال، كما زعموا وضللوا، بعد أن تكالب عليها الشيعة واستحوذوا عليها. كما أوهموا الشيعة بأن حقهم في الحكم الذي منحته إياهم قوى الاحتلال والتآمر، بوصفه فرصتهم التاريخية، معرض على الدوام للضياع مالم تكسر شوكة أهل السنة، وتمنع عليهم أية فرصة لامتلاك قدرة المواجهة والتحدي، فرسخوا في وعي الرعاع أن المقاومة ليست من أجل طرد الاحتلال وتطهير أرض العراق من دنسه، إنما هي سعي لاستعادة السلطة الموهومة من يد الشيعة.


وبذلك فقد تمكنت قوى الاحتلال من كسب مؤيدين لمنهجها، ومن تطويع أدوات جديدة قادرة على إيذاء المقاومة أكثر من كل الأدوات التي أوجدتها قبل الاحتلال وبعده، ذلك أن الزمر التي تشكلت منها المجالس والصحوات كانوا في الغالب ضمن صفوف الحواضن الاجتماعية للمقاومة، مما مكنهم من معرفة الكثير من التفاصيل والمعلومات عن عملها وتشكيلاتها ومكامن القوة والضعف فيها.


فيما لم تكن العناصر التي جندها الاحتلال بكل وجوهه الصليبية والصهيونية والمجوسية ومن تحالف معهم أو وجد في واقع العراق الجديد مصلحة متاحة، كبيرة بأعدادها وتأثيرها ، بل إن من المؤكد أنهم كانوا نفر قليل، تمكنت المخابرات المعادية من ملاحقتهم وتوثيق أعمالهم وممارساتهم خلال الفترة السابقة من عمر الاحتلال، استغلتها فيما بعد كأوراق ضغط لإرغامهم على القبول بالانضمام إلى ركب الجواسيس والعملاء، مع توفير ما أوهموهم أنه يلبي متطلبات أنفسهم المريضة بمشاعر النقص والصغار، مع ما توفره لهم من موارد مالية خيالية، أغنت بعضهم عن التسليب والنهب والسرقة والاحتيال.


لكنهم حين حققوا بهم ما أمكن تحقيقه من غايات ومقاصد تخلوا عن الذي لم يكن بالمقدور تطويعه للعمل في سياق مناهجهم بطريقة الارتباط والتولي الصريح، مع إبقاء بعضا من خيوط الصلة تحسبا لما لم يدخل في حسابات الخطط، وما يطرأ على العملية السياسية، التي صاغوا ولا زالوا مفرداتها بالتدرج المعروف، من مفاجئات لا تقع ضمن الحسابات وقدرة السيطرة.


ولعل هذا القول لايجد الكثير من الآذان الصاغية، ذلك أن للجهل دورا في تعويق القدرة على وعي ما لم يكن سهلا على الجهال فهمة واستيعابه، ففي أحيان كثيرة تعتقد نسبة ليست قليلة من شعب العراق ومن الأمة وحتى الإنسانية، أن من تجندهم أجهزة المخابرات الأمريكية أو الصهيونية أو الفارسية كأدوات لتنفيذ سياساتها الإجرامية، يمكن كشفهم بسهولة، وذلك جهل كبير، والجهل الأكبر أنهم لا يصدقون بحقيقة ذلك التجنيد رغم الشواهد العديدة والدالة على وجوده، بحجة أنهم لا يجدون دلائل ملموسة تثبت لهم ذلك.


لكن أحدا من هؤلاء لا يجرؤ على التساؤل مع نفسه يوما عن جدوى أجهزة المخابرات، التي تصرف عليها ميزانيات تكفي لتعيش بها شعوب عديدة، إن كانت لا تجيد تضليل عدوها والمكر به بما يجعل من كشف عملائها أمرا في غاية الصعوبة والتعقيد، كما لم يسائل أحد منهم نفسه عن المؤهلات التي يملكها لكشف عملاء لجهاز مخابرات امبريالي عجزت أجهزت مخابرات عريقة بكل إمكاناتها وقدراتها وخبراتها وتحسبها عن كشف أمثالهم، كما حدث للمخابرات السوفيتية وغيرها.


ولعل اللعبة الأمريكية في الكشف عن كل الجواسيس الذين وظفتهم في الواجهات السياسية أوحى للسذج من الناس أن هؤلاء هم كل الجواسيس وليس هناك غيرهم، وللجهل في طبيعة المهمات والأدوار الواسعة التي تنهض بها أدوات التجسس والعمالة أفرز أيضا لدى البعض قناعات واهية من أن المحتلين يحكمون العراق وليسوا بحاجة للتجسس عليه، فحصروا مهمات الأجهزة المخابراتية بجانب محدود جدا من عملها، فهم لا يفهمون من مهماتها الكثيرة سوى التجسس بمعنى جمع المعلومات.


المرحلة الثانية:


وهي المرحلة التي نعتقد بأنها أخطر بكثير عن سابقتها، لما تنطوي عليه من قدرة عالية على التضليل والإيهام، بما يجعلها تسير في طريقها بهدوء تام، دون أن يثار حولها ضجيج إعلامي قد يحرج العاملين عليها ويعرقل سيرها أو يكشف الكثير مما يخفى على الناس من غاياتها، ويفضح جرائمها. وهي في الحقيقة حالة مطورة للمرحلة الأولى، استفاد مخططوها كثيرا من الأخطاء والثغرات التي اكتنفتها حين تطبيقها منذ النصف الثاني من عام 2007م.


وليست صدفة أن ترتبط وتترافق هذه المرحلة في بداياتها مع جملة من ألاعيب الاحتلال، ابتداء بما سمي بانتخابات المجالس المحلية للمحافظات عام 2009م والانتخابات النيابية عام 2010م وما سيعقبها من الاعيب، وأكاذيب الانسحاب ومنح المزيد من الاستقلالية المزعومة للعراقيين في إدارة شؤونهم، فكلها خيوط لنسيج مرحلة أعد الأعداء لها جيدا، كخلاصة حقيقية لما تمخضت عنه الدراسات المختلفة لتجارب الأعوام السبع الماضية من عمر الاحتلال.


تعتمد هذه المرحلة بالدرجة الأساس على تفعيل منهج الإجرام بين العراقيين، كما حدث في كل المراحل السابقة، لكنه يختلف عنها جميعا، بكونه يرتكز على مبررات تبدو وكأنها ناتجة عن مشاكل أفرزتها المراحل السابقة بما احتوته من إجرام وتجاوز على الحقوق والممتلكات، وتعمل جاهدة عن طريق أذنابهم العملاء، بما يسمى حكومة بكل أجهزتها بتصويرها على أنها مجرد تصفية حسابات بين مختصمين لا يستندون إلا إلى خلفياتهم الاجتماعية العشائرية أو العائلية ومتطلباتها.


فقد استغلوا كل من لديه مشاكل مع بيئته الاجتماعية، ممن حسبوا على المقاومة في ظرف ما، وحاصروهم بحيث أشعروهم أن لا ملاذ لهم إلا اللجوء للقانون، واستدرجوهم للإدلاء بمعلومات كاذبة بالاتجاه الذي يخدم أغراضهم، بخلق مشاكل في كل المناطق ودفعها وقيادتها باتجاه الصراع، يعملون على الدوام منع علاجه، ثم يفرضون عليهم فيما بعد التقدم بشكاوى قضائية تتضمن تهما ملفقة لأشخاص خططوا لأن يجعلوهم أطرافا في الصراعات، وليس ما يريد المحاصرين الإيقاع بهم فحسب، وذلك كله يعملون على إيصاله بتفاصيله المضللة إلى الأطراف التي فرضوا هم على من لم يكن راغبا بالصراع معهم، ثم يأتي دور التأزيم باعتقالات انتقائية لأفراد من طرفي الصراع المختلق، وبعدها ترتكب جرائم القتل بالاتجاهين، وقد ضمنوا أن أصابع الاتهام سوف لن تشير إلا باتجاه الخصم الذي اصطنعوه، وغيبوا عنهم جميعا هوية المجرمين، ثم يسعون بعد ذلك لتوسيع مساحة التأثير بفعل دوافع الانتقام والثأر حتى يصلوا إلى مبتغاهم باستهداف العوائل الشريفة الرافضة للاحتلال وأذنابه، فهم وإن لم يظفروا بمجاهد فإن الظفر بعائلته سيفقده الكثير من حرية الحركة والقدرة على التركيز بالعمل، بالإضافة للآثار النفسية القاسية.


وهذه كلها موثقة باعترافات وأدلة ثبوتية لأطراف مختلفة من الأجهزة الاستخبارية التي أوجدها الاحتلال.


نماذج من التطبيقات


واحدة منها أنهم يستغلون ظلام الليل – وهم لا يجدون العمل إلا في الظلام – فيقومون بوضع عبوات ناسفة قرب أحد الدور المستهدفة لمواطنين يريدون لهم أن يكونوا أطرافا في تلك الصراعات المختلقة رغم أنوفهم، فإن انفجرت فقد أدت جانبا من غايتهم، وإن لم تنفجر يأتون عند الصباح لرفعها والخيار لهم بين أن يتهمون أصحاب الدار نفسها أو يزودونهم بمعلومات مضللة تفيد بأن الخصم هو الذي أمر بوضعها، مع معلومات تبدو دقيقة عن هوية المنفذين من الطرف الآخر، فهم في الحقيقة دفعوا بهم لزرعها على أساس أن تكون دليلا لاتهام تلك العائلة كي يعتقل أفرادها، وبهذا فقد أوقعوا بينهم، دون أن يكون هناك مايبرر تلك الوقيعة مطلقا، وتلك واحدة من هذه الأساليب التي مورست فعلا.


ولعل المتتبع لعدد من الجرائم النوعية البشعة التي ارتكبت منذ شهر كانون أول عام 2009م في المناطق المحيطة ببغداد، ومنها الجريمة التي ارتكبتها عناصر ترتدي الملابس العسكرية ضد مجموعة من العوائل في قرية زوبع ضمن قاطع ابو غريب، والجريمة التي أعقبتها بأيام قليلة ضد عائلة من عشيرة الغرير في قرية تل الذهب في المحمودية، ثم تلتها جريمة أخرى استهدفت ذات العائلة راحت ضحيتها أرملة شهيد وأم ليتيمين، والجريمة الأخرى التي طالت البو صيفي من قبيلة الدليم في منطقة العدوانية التابعة لناحية الرشيد ضمن قاطع المحمودية أيضا، سيجد أنها اعتمدت أساليب جديدة للتضليل، فكما كان متعارفا عليه أن المليشيات الإجرامية التي شكلت العمود الفقري والجهاز العصبي للجيش والشرطة اللذين أوجدهما الاحتلال، كانت تنفذ جرائمها بملابس مدنية، للإيهام بأنها ليست من تلك الأجهزة ومليشياتها، فخلقت لكثرة تكرارها قناعات لدى المواطنين أن المظهر المدني لأدوات الجرائم لا يوحي للمقاومة أو أية جهة أخرى، بل هو دليل على تورط تلك الأجهزة الأمنية في ارتكابها، لذلك فإن تنفيذ الجرائم في المرحلة الجديدة أخذت وجها مغايرا لقناعات المواطنين، كجزء من الإيهام والتضليل، فهي تمت كلها بلباس عسكري كامل، في محاولة لنفي التهم عن المليشيات العاملة ضمن تلك الأجهزة، لأنها تخلق حالة مضادة لما استقر في وعي العراقي من قبل، وبذلك يفتح الباب لها للقيام بحملات دهم وتفتيش واعتقالات واسعة ضمن تلك المناطق المستهدفة والمنتقاة كساحات للجرائم بذريعة أن منفذيها لا يمكن أن يكونوا إلا من سكنة تلك المناطق، وأن الأسباب لا تتعدى أن تكون خلافات عشائرية أو عائلية، لنفي أي سمة سياسية عنها، وذلك مهم جدا لقوى الاحتلال وأدواته، ولخلق بؤر صغيرة للصراعات هنا وهناك داخل المناطق السكنية والقرى الريفية، تحقيقا لخلخلة النسيج الاجتماعي في أدق حلقاته وتفاصيله، فيما يتحقق لهم استهداف كل رجال العراق المؤثرين في هذه المناطق من وجوه اجتماعية ومن رجال المهمات الصعبة الذين اختبرتهم ميادين المنازلات السابقة للغزو والذين لم ينل الاحتلال من صلابتهم وتمسكهم بخطهم الوطني رغم كل المحاولات والأساليب الخبيثة، وهذا ما يحصل اليوم دون ضجيج إعلامي يذكر مما كان يثار حول حملات الاعتقالات الوحشية والواسعة.


على إن الأخطر في بؤر الصراع، تلك التي تصور على أنها مجرد تصفية حسابات بين فصائل للمقاومة متناحرة فيما بينها، أو على أنها تصفية حسابات وثارات بين فصائل للمقاومة وبين محيطها الاجتماعي، ذلك أنهم ، وكما أسلفنا، قد تمكنوا من تطويع أعداد لا بأس بها من الذين كانوا على صلة بفصائل المقاومة، بهذا الشكل أو ذاك، أو ممن حسبوا عليها بهدف التشويش وتشويه سمعتها بما ارتكبوا من جرائم ضد أبناء الشعب العراقي ولأسباب واهية لا تبيح لهم القتل مطلقا، فكما هو معلوم أن أغلب الذين غدروا من الأثرياء بحجة أنهم امتنعوا عن تقديم الدعم المادي للمقاومة، كانوا في الحقيقة ضحايا لتلك العصابات الإجرامية التي نجح الاحتلال في اختراقها وتوظيفها للعمل بما يخدم مصالحه وأهدافه، مع الحرص على إبقائهم ضمن الوصف العام للمقاومة حتى وإن تطلب ذلك التضحية ببضعة علوج من قواتهم، بهدف تشويه صورة المقاومة وتضليل رؤية الشعب لها، لخلق فجوات بينها وبين جماهيرها وحواضنها، فهم يعلمون جيدا أن أخطر الأخطار التي تضعف موقف المقاومات هو تخلي الجماهير عن دعمها، أو فتور حماسها وتشجيعها، وتوقفها عن رفدها بالدماء الجديدة.


وفي أحيان أخرى تدفع بقواعد مخترقة لبعض الفصائل ممن لا يملكون وعيا سياسيا كاملا بطبيعة الأعداء وأهدافهم، والأساليب والوسائل القذرة التي يعتمدونها من أجل تحقيقها، إلى الصراع مع حواضنها الاجتماعية، بنتيجة الأخطاء التي تترك آثارها على المحيط الاجتماعي بأكمله، وبشتى أساليب التضليل والخداع، ومنها الاسلوب المكشوف الذي تمارسه أجهزة الاستخبارات للجيش والشرطة، المتمثل بتسريب معلومات مضللة لبعض تلك القواعد تفيد بأن قواعد أخرى من غير فصيلها، أو حتى من فصيلها نفسه، أو مواطنين لهم ثقل اجتماعي في مناطقهم ويحضون بالتقدير والاحترام والتأثير فيها، على أنهم هم من تعاونوا مع تلك الأجهزة وقدموا تلك المعلومات بهدف الإيقاع بهم، فيستخلصون من خلال ردة الفعل غير المنضبطة معلومات منهم تضر بتلك الأطراف، وبذلك ينجحون في إيقاع العداوة والبغضاء فيما بينهم.


مع عمل تلك الأجهزة، وبمساعدة وإسناد وتناغم مع كل الأجهزة الحكومية، على تخريب أي جسر يمكن أن يمتد بين الأطراف التي ضللوها ودفعوا بها نحو الصراع والتخاصم، لرأب الصدع ومعالجة تلك المشاكل الوهمية المفتعلة، ومن هذه الأساليب القذرة، أنها تقوم باعتقال أعداد من طرفي الصراع لتمنع عنهما التخلي عن الاحتكاك المستمر بها، من خلال متابعاتهم لقضايا معتقليهم، والمساومات التي تدور حولها، فتكون بذلك قد أمست بخيوط اللعبة وتمكنت من إدامة أمد الصراع وتوسيعه حتى يحقق الأهداف القذرة الكامنة خلفه.


محيط بغداد والحماس الفارسي لجعله الساحة الأولى للتطبيق


يتحمس النظام الفارسي وأتباعه وأدواته كثيرا لتركيز التطبيق لهذه الصفحة على المناطق المسماة حزام بغداد، وللتذكير فإن غاية التسمية كانت في العهد الوطني تعني المساحات الخضراء التي تحيط بالعاصمة المكتظة بالسكان لما تتميز به تلك المناطق من مساحات زراعية واسعة، فيها الكثير من بساتين النخيل والفاكهة، فهي عملية معادلة صحية للهواء الملوث في المدينة، ولم يجر على مناطق المحمودية والمدائن وأبو غريب أي تغيير سكاني منذ ما قبل العهد العثماني مطلقا، بل على العكس فإنها شهدت هجرات واسعة من سكان الجنوب العراقي إليها بسبب أجواء الجوع والحرمان التي فرضها فقه التشيع الفارسي على سكان الجنوب. فيما يدعي الفرس وأتباعهم، كجزء من حملات التضليل، أن حزام بغداد يعني تطويقها بعشائر تنتمي للمذهب السنية كي تمنع على الشيعة الاستحواذ على بغداد.


لذلك فإن التركيز على حزام بغداد أكثر من غيره من المناطق الأخرى له أسباب ودواعي إضافية ارتبطت مع الخطة نفسها، ذلك أن التخطيط الفارسي كان واضحا منذ صفحة الخيانة والغدر عام 1991م، ومن خلال الوثائق التي تمكنت المقاومة في وقت مبكر من عمر الاحتلال من الحصول عليها من أحد العملاء الذين وقعوا في قبضتهم، والتي تفيد بأن النظام الفارسي الشعوبي الصفوي يخطط ويسعى بكل الوسائل والسبل لإفراغ تلك المناطق من سكانها الأصليين، ليس لأنهم من أهل السنة، بل لأنهم يشكلون عقبة كبيرة أمام المشروع الفارسي، بما عرف عنهم من شجاعة ورجولة وفطنة بدسائس الأعداء، فقد أفشلوا بتماسكهم وحرصهم على أمن مناطقهم كل المحاولات التي قامت بها المخابرات الفارسية وزمر الإجرام من تحقيق موطئ قدم لهم في قضاء المحمودية أو المدائن أو أبو غريب خلال تلك الصفحة الغادرة والجبانة التي شهدتها أيام شهر آذار من عام 1991م استكمالا لما قام به الحلف الثلاثيني المجرم، ولعل الحملات المحمومة لشراء الأراضي وبأسعار مغرية في تلك المناطق تدلل بوضوح على حقيقتها وواقعيتها، ولعل نتائجا أولية عززت من حماس قوى الاحتلال في التمادي والإنطلاق بهذا المخطط إلى مديات أبعد، ذلك أن عددا غير قليل من سكنة تلك المناطق قد ارتحل، وأن هناك أعدادا أخرى تحزم أمرها على الرحيل، وسيكون بيع الأرض في مرحلة لاحقة أمر حتمي، وأن العروض الفارسية قائمة على الشراء بأي ثمن.


وعلى الرغم من أن الأمريكان والصهاينة يعلمون بكل تفاصيل الغايات الفارسية، يغضون الطرف عنها، بل ويسهلون على القائمين عليها المضي قدما في منهجهم، ولهم في ذلك غاياتهم، فإن خلق منافذ كثيرة للصراع بين أبناء الشعب، لا تكون لها صبغة سياسية أو دينية مسيسة في ظاهر أحوالها، وبخاصة ضمن المجال الحيوي الذي تمثله تلك المناطق المحيطة بالعاصمة، تحقق لقوى الاحتلال فرصا ذهبية لصياغة واقع العراق بما يحقق جوانب مهمة من غايات كل الأطراف المتحالفة ضمن منهج العدوان والمساهمة فيه.


هذا الاسلوب يعد له جيدا ليشمل كل مناطق العراق، وقد قام الأعداء بتجارب لقواهم وأدواتهم فيها جميعا، وحققوا فيها نجاحات أغرتهم بالاستمرار فيها وتطويرها، فقد نجحت في أغلب محافظات العراق وأعطت نتائجها المطمأنة لهم، من خلال بؤر الصراع التي توزعت بين صراعات عشائرية وعائلية في مختلف المناطق، استنزفت الكثير من الجهد والإمكانات وألهت الشعب عن محنته ومنعته عن أداء واجباته، فيما تحققت الفرص للأجهزة الحكومية العميلة لتستغلها أبشع استغلال بممارسة حملات الاعتقال وما رافقها من استباحة وانتهاك للحرمات، وهي تحقق اليوم انجازات لم تكن قادرة فيما مضى عليها، فالمناطق الرافضة لوجودها تحولت إلى ساحات تجوب فيها ليل نهار وبكل طمئنية بما أوهموا الناس من أنهم يعملون للسيطرة على تلك الصراعات والمحاولة لإيقاف نزيف الدم فيها، فيما هم لا يفعلون في الحقيقة إلا التربص بخيرة أبناء تلك المناطق للنيل منهم بالاغتيال أو الاعتقال.


أسباب التحصن


إن الواجب يحتم على المقاوم والمواطن العادي معا أن يستوعبوا ويدركوا جيدا خطورة هذه المرحلة ونتائجها المدمرة لو أتيح لها أن تمر دون مواجهة تكافئها، وامتلاك القدرة على إدارة الصراع معها وإفشالها كسابقاتها، فإن نجاحها يعني ضياع العراق، ليس ككيان اجتماعي فحسب، بل وفقدان الصلة بتاريخه وقيمه وامتداده الحضاري وعمقه القومي والإنساني.


ورغم أن وعي الشعب وفصائل مقاومته قد أحبطت الكثير من هذه الخطط وأفشلتها، فإن في الساحة من عجز عن مواجهتها، ووقع في حبائلها.


لذلك فإن على أحرار العراق المتابعة الجدية لهذه المرحلة بكل تفاصيلها، وعليهم كشف أضاليلها ودسائسها والأساليب الشيطانية التي تنتهجها، وذلك لا يتحقق بالجهد اليسير، لأن العينات التي اختارها الغزاة وسيختارون تتسم كلها بالقابلية على تقبل تلك الخدع الماكرة، والسعي خلفها بصراعات مدمرة للمجتمع بأجمعه، فهي تشترك فيما بينها بخصائص الجهل والسذاجة في الوعي والإدراك لطبيعة قوى الاحتلال وأهدافها وأساليبها القذرة.


لذلك يجب تفعيل العمل السياسي المباشر في الميادين بقوة وصلابة وقدرة على تحصين وعي المواطن من التضليل، ودفعه باتجاه مواجهة التحدي المعادي بدلا من التخاذل والهروب أمامه، ففي ذلك الخطر كل الخطر.


إن عملا جبارا كهذا يشكل ضرورة قصوى، لأنه السبيل الوحيد لإفشال المؤامرة الصليبية الصهيونية الشعوبية والتي تهدف منها الإجهاز النهائي على شعب العراق، وإلا فإن المقاومة - الأمل الوحيد بخلاص العراق بعد الله تعالى - ستفقد الكثير من حواضنها، بل ستتحول إلى مخبر سري يرصد حركتها ويصوب بنادق الأعداء إلى صدور رجالها.


إن شعب العراق اليوم بأمس الحاجة إلى من يقوده ليصحح في وعيه وإدراكه لما يدور حوله، ويحصنه من أن يسقط في شباك المكر والتضليل فتغيبه وتغيب دوره مهاوي الزلل، فإن ساحات كانت فيما مضى عصية على الاحتلال وأذنابه أفرغت اليوم من رجالها بسبب تلك المكائد، وتحولت إلى مناطق آمنة للحشد المعادي بفعل ذلك، وستضاف إليها مساحات أخرى تباعا إن لم تقف طلائع العراق الثورية المؤمنة وقفتها الاستثنائية فتنهض بتصحيح وعي جماهيرها وتعدل مسارها، بنسق متواصل مع العمل وسط فصائل المقاومة، فهي الأخرى فيها من سقط في شراك التضليل، بسبب محدودية الوعي والإدراك، وبخاصة بين صفوف الشباب الذين لم يحصلوا على كفايات تقيهم السقوط في الفخاخ المحكمة، فقد سقط فيها حتى البعض ممن يملك قدرة الكشف عنها، لأنه لم يكن يحسن الإحاطة بأخطارها والنتائج التي ستتمخض عنها.


وليس على المدرك للأخطار أن يتصور أن غيره قد أدركها، وإن كانت من المسلمات، والساحة ليست حكرا على وعينا، بل هي اليوم ميدان صراع بين الحقائق والأوهام، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين أتباع الرحمن وأتباع الشيطان، وكل منهما يسعى لحرف وعي الجماهير بالاتجاه الذي يخدم أغراضه، مع ما تملكه قوى الظلام من تفوق في القدرة على الحركة وفي وسائل الاتصال المستخدمة للتضليل. فمن غير المنطقي أن نتصور أن الجماهير تملك وعي الطلائع وقدراتها وخبراتها، فحينها سنقع في الوهم، لأنها في الحقيقة لاتجيد كشف الفخاخ كما نجيد، لذلك هي اليوم كالذي ردّ إلى أرذل العمر، لا يعلم من بعد علم شيئا، نتيجة ضغوط التضليل والمعاناة والألم.


وعلى طلائع البعث الأماجد والماجدات يقع العبء الأكبر في ذلك، وعلى غيرهم أن يجدوا في ذلك فرصتهم كي يثبتوا بالعمل أنهم يستحقون أن يكونوا ضمن صفوف الطلائع، فذلك الحق لا يمكن لأحد أن يمنحهم إياه من غير الجماهير، فهي صاحبة الحق في ذلك، وهي وحدها القادرة على منح ذلك الاستحقاق. وإن كان ذلك ينطوي على مخاطر جسيمة، فإن في نجاح هذه الصفحة الخبيثة ضياع للعراق وأهله، فلا خطر بعده ولا خسارة بجسامتها.


فلتتضافر كل الجهود الخيرة وتعبر عن صدق انتمائها من أجل إفشال هذه الصفحة القذرة.

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الثلاثاء  / ٠٦ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢٠ / نيسـان / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور