لماذا حزب البعث ؟
حزب البعث ضرورة فكرية ونضالية وحاجة وطنية وقومية وحدوية
(وجهة نظر في تحليل الأسباب والمراحل)

 
 
شبكة المنصور
حسن خليل غريب

يتساءل البعض، وكثيراً ما طُرح هذا السؤال: لماذا حزب البعث؟

هذا الأمر استوقفني، وألحَّ عليَّ إلحاحاً شديداً، فوقفت أمامه كثيراً، متأملاً بسهولة الجواب وصعوبته في آن، مستذكراً مرارة الإجابة عنه وحلاوتها.

 

سهولته من حيث إنني قضيت من عمري نصف قرن في صفوفه، قارئاً فكره، مبشراً بثقافته.

وصعوبته من إنني كنت مناضلاً في صفوفه على شتى المستويات المطلبية والتحررية، في البيت والشارع السياسي والخندق العسكري.

 

ومرارته من حيث إنني نعمت بحلاوة التعب في سبيل رفع صوت الطبقة الكادحة التي أنتمي إليها. ومرارة القتال من أجل تحرير الأرض، منتظراً أن أتذوق حلاوة العودة إليها.

 

وفي كل هذا أو ذاك، كنت أقف رافضاً كل الدعوات التي كانت تلح عليَّ بـ«طلاق» العمل السياسي الذي لا يحصد منه الإنسان إلاَّ مرارة الملاحقة والاعتقال، ناهيك عن مواجهة الموت في أي لحظة، وليس أقلها وأسهلها «وجع الرأس»، وعداوة الآخرين ممن يضيق صدرهم بأن تنتمي إلى ما يرفضون أن ينتموا إليه.

 

وأخيراً، ولأن الانتماء إلى حركة فكرية وسياسية يعبِّر عن علاقة جدلية بين حرية الفكر وحركة الإنسان النضالية، لأنه لا يمكن لفكر يتجه نحو التغيير أن ينجح من دون حركية عملية، فوضعت كل تاريخية انتمائي للبعث، للاستفادة منها في الإجابة عن هذا السؤال،  فوجدت، من وجهة نظري، أنه لا بد من معرفة عدد من المهام النظرية، المطلوبة للتغيير، فحصرتها بعدد من الأسئلة، ورحت أضع أجوبتي عنها، وهي:

 

1-لماذا العمل السياسي؟

2-لماذا العمل الحزبي؟

3-لماذا الحزب القطري؟

4-لماذا الحزب القومي؟

5-لماذا حزب البعث؟

 

في سبيل ذلك ستنقسم دراستي لخمس مراحل تتناول كل مرحلة إجابة عن رؤيتي لها.

 

المرحلة الأولى

الوعي السياسي ضرورة وحاجة للتغيير

بانتقال المحكوم من دور الولاء للحاكم

إلى دور مراقبته ومحاسبته

 

تمهيد

 

الوعي السياسي حاجة أساسية في عملية تغيير ما أصبح فاسداً، أو ما لايتناسب مع مصلحة الأفراد أو المجتمع، أو ما أصبح يشكل عائقاً دون تطوير الحياة الاجتماعية. ولأن الإنسان الذي يريد أن يغِّيِّر عليه أن يعرف ما يريد تغييره، وكيف يمكنه تغييره، ومعرفة الوسيلة الأفضل للتغيير؛ فعملية التغيير إذن هي عملية معرفية، تتضافر فيها ثنائية، التشخيص والعلاج، أي هناك حاجة لتعريف حديها:

 

-تشخيص الموضوع الذي ستطوله عمليةالتغيير.

-ومعرفة الوسائل والمقاييس التي ستُعتمد بعملية التغيير.

 

قد يشعر الإنسان بوطأة المشكلة، ولكنه غالباً ما يكون عاجزاً عن تشخيص أسبابها، وبالتالي سيكون عاجزاً عن وضع الحلول لها وتحديد وسائل تغييرها. فوعي أسباب المشكلة ووسائل علاجها شرط أساسي في عملية البدء بحلها. وهذا ما نسميه بالوعي السياسي. فالفقير، مثلاً، يشعر بوطأة الحاجة. وإذا كان لا يستطيع معرفة سبب فقره، فيستسلم إلى مقولة غيبية تدعو الفقير للصبر على فقره، لأن الغنى والفقر، كما يعتقد، هما عطيتان من الله. أما إذا كان يمتلك وعياً سياسياً لواجباته وحقوقه كفرد في جماعة، أو كمواطن في دولة، فسيعرف أن سبب فقره هو أنه لا يجد عملاً يحصل منه رزقه. وإن فقدان فرصة العمل يعتبر إهمال من الحاكم، ولأنه شارك في اختيار الحاكم، فإنما على شرط أن يسوس شؤون المواطنين، ومنها توفير فرص العمل لهم. وعليه أن يعي أيضاً أنه إذا كان من واجباته أن يخضع لقوانين الدولة وتشريعاتها، فإنما له حقوق على الدولة ومن أهمها أن تضمن له حياة كريمة، ومنها توفير فرصة عمل له. كما أن من حقوقه أيضاً أن يراقب الحاكم ويضعه تحت سقف المساءلة، وهذا الحق يضمن له حرية الاحتجاج ورفع الصوت. وهكذا دواليك.

 

ولأن مجتمعنا مليء بالمشاكل، وهناك حاجة لوضع الحلول لها. ولن يتصدى لتغيير الواقع الفاسدإلاَّ المتضررون منه، جاءت الحاجة إلى وجود الأفراد، وبالتالي الجماعات، الواعين لهذا الواقع.

 

ولأن الأمية والجهل هما من المشاكل المتفشية والمزمنة في مجتمعنا العربي، كان لا بد من تعميم الثقافة والوعي، على الأقل بين النخبة من الأفراد والجماعات، لتقوم بمهمة تغيير الواقع الفاسد. وبناء عليه، تبتدئ تلك العملية من كون الإنسان عضواً في أصغر خلية اجتماعية، وتنتهي بدوره كعضو في دولة.

 

 

مفاهيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في تطور متصاعد

ابتدأت بعلاقة الولاء والخضوع وانتهت بعلاقة الرقابة والمساءلة

 

1-مفهوم السياسةالتقليدية:

قبل نشأة الدولة الحديثة، كان الفرد في الماضي رقماً ملحقاً بشيخ العشيرة أو القبيلة، وانتقلا معاً إلى دور الملحق بالأمير أو الملك أو الإمبراطور... وفي عصر الإقطاع أصبح مالك الأرض واسطة العقد بين رأس الدولة ورعاياه، يحكم باسمه ويستمد سلطته من رضاه، لقاء تأدية عائدات منتجات الأرض، وتوفير العدد الكافي من العسكر والجنود لحماية الإمارة أو المملكة أو الإمبراطورية.

 

ذلك الواقع أنتج ثنائية العلاقة بين الحاكم والمحكوم بما يُعرَف بعلاقة (العبد بالسيد)، السيد الذي يأمر والعبد الذي يطيع، بما فيها سلطة السيد الذي يمتلك حق التصرف ليس بجهد العبد فحسب، وإنما التصرف بحياته أيضاً.

وإذا كانت الأديان السماوية قد تقدمت خطوة على طريق تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، فإنما جاءت لتكبله بقيود الطاعة والإذعان لأولي الأمر، وذلك بأنها أضفت صفات القداسة على موقعهم وبالتالي على أوامرهم وإرشادهم. ومن أهم الأقوال التي تدل على ذلك: (طاعة المرشد أو أمير الجماعة هي طاعة الله)، و(رأس الكنيسة هو ممثل الله على الأرض)، و(الراد على الإمام كالراد على الرسول والراد على الرسول كالراد على الله).

 

إن هذه النماذج، تؤكد على إنتاج أسس للمعرفة (التواكلية) التي سادت، ولا تزال تسود بين أوسع الشرائح الشعبية في مجتمعنا العربي. كما هي تمثل معرفة الاستسلام لأوامر الحاكم.

 

وبتأثير من معرفة التواكل والاستسلام، ورثنا تقليداً من أجدادنا وآبائنا يتضمن النصح بالابتعاد عن التدخل بالسياسة تحت ذريعة أنها تشكل (وجعاً للرأس)، والدعوة للابتعاد عن التصادم مع الحاكم على طريقة (اليد التي لا تستطيع أن تعضها، فقبلها).

 

وبتطور المعارف الفلسفية التي تدعو لحرية الفرد، ارتقت معها القوانين والتشريعات السياسية التي تضمن هذا الحق. وبمثل هذا التطور ابتدأ العصر الحديث منذ ما يقارب القرنين من الزمن. وتعود بداياته إلى ما عُرف بـ«الثورة الفرنسية» التي حققت نصرها على الملكية في العام 1799. وتُعتبر تلك الثورة فترة التحولات الكبرى في التاريخ السياسي والثقافي التي بدأت في فرنسا وعمَّت أوروبا وانتشرت في العالم. وكان من أهم مبادئها انطلاق صيحة الحرية والمساواة.

 

أما على مستوى الواقع العربي، بشكل عام، فإننا وإن كنا نعيش في عصر الحداثة وحقوق الإنسان ومن أهمها احترام حقه بالتفكير والقول ومساءلة الحاكم ومحاسبته ونقده، إلاَّ أننا ننتمي معرفياً إلى عصر يعود إلى أكثر من قرن من الزمن. وهذا ما يؤكد أننا ننتمي إلى الحداثة والمعاصرة بالشكل الحضاري المادي، وليس بالعصر الثقافي المعرفي. والدليل على ذلك أن عصر التواكلية المعرفية والاستسلام المعرفي لا يزالان منتشرين على الأنموذج ذاته التي عاش فيها أجداد آبائنا.

 

وإنا إن كنا نختار التغيير، على ضوء متغيرات عصرنا المعرفي والحقوقي، سنقوم بإطلالة سريعة على مفهوم علاقة الدولة الحديثة بالمواطن، أي على علاقة الحاكم بالمحكوم.

 

2-المفهوم الحديث للسياسة:

يقوم مفهوم الدولة على عقد اجتماعي بين حاكم ومحكوم، يكلف فيه المحكوم الحاكم بسياسة شؤونه، ولأن مفهوم الدولة هو مفهوم حديث، فقد انتقلت العلاقة بين الحاكم والمحكوم من ولاية الأمر بالمفهوم التقليدي، أي التواكلية والاستسلام، إلى علاقة الحرية بالاختيار والحق بالمراقبة والمحاسبة.

 

إن مصطلح السياسة مشتق من فعل «ساس»، وهي لغوياً تعني «عالج الأمر ودبَّره، وساس أمور الناس تولى رياستهم وقيادتهم»، و«ساس الأمور، أي دبَّرها وقام بإصلاحها». وفي الشأن العام للبشر، يُطلب من الحاكم إدارة شؤون الدولة، أي الشؤون ذات العلاقة بمصالح المواطنين بما يعود بالخير عليهم. ومن أهم أهداف هذه السياسة توفير أسس العدالة والمساواة بين المواطنين. فوظيفة الحاكم/ السائس إذن أن يكون في خدمة المواطنين.

 

لكن إذا أخفق الحاكم في وظيفته، ولم يستطع أن ينجح فيما أوكل إليه، ضمنت سلة الحقوق للمواطن حقه في محاسبة الحاكم. وإذا سكت عن تقصير الحاكم في أداء واجباته، يصبح كمن يتحمل مسؤولية التقصير تجاه حقوقه وحقوق غيره من المواطنين. وتزداد مسؤولية المواطن في التقصير كلما ازداد وعيه السياسي.

 

ومن ذلك نستنتج أنه لا طاعة لحاكم لا يسوس شؤون الناس بالعدل والمساواة، وعليه أن يتنحى عما انتدب نفسه لأجله، أو أن تتم إقالته وعزله بفعل الحق الذي اكتسبه المواطن عبر قرون من النضال التي قامت بها النخب المفكرة، من فلاسفة ومفكرين وأدباء وسياسيين...

 

وعلى الرغم مما عرفته مسيرة المعرفة البشرية من تقدم ومتغيرات في تعميق حقوق الإنسان، إلاَّ أن الطبقة الحاكمة لا تزال تعمل على إنتاج مفاهيم سياسية، تليها تشريعات وقوانين، تلائم مصالحها الطبقية. كما تعمل من أجل إنتاج معرفي تقوم بتعميمه ونشره شعبياً لتضمن استمرار خدمة مصالحها بأثواب الشرعية والقانون. وهذا الأنموذج نجده السائد الأكبر في معظم دول العالم إن لم يكن فيها كلها.

 

إن الإشارة إلى هذا الواقع، يدعونا ليس إلى المطالبة بتحديث أسس سياسة الدولة وإصلاحها فحسب، وإنما إلى مفهوم الثورة في السياسة أيضاً.

 

3-المفهوم الثوري للسياسة:

ليس النشاط السياسي حقاً للمواطن فحسب، وإنما هو واجب أيضاً. كما أن العمل السياسي لا يجوز أن يبقى حكراً على الطبقة الحاكمة بحيث ينتقل الحكم بالوراثة داخل الطبقة الواحدة.خاصة أن طبقة الأغنياء والموسرين وكبار التجار والاقتصاديين بمواقعهم الطبقية، مباشرة أم بالواسطة، تنتج باستمرار، المفاهيم السياسية والاقتصادية وتشريعاتها وقوانينها لتضمن مصالحهم وتؤمن عليها.

 

صحيح أن مفهوم الدولة في الأنظمة الحاكمة في معظم دول العالم بشكل عام، وفي الأنظمة الرسمية العربية بشكل أخص، يقوم على العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتلك العلاقة تتأسس على قاعدة أن يقوم الحاكم بالسهر على خدمة المحكوم، لكن الهوية الطبقية للحاكم لا تسمح بتطبيق تلك المعادلة على وجهها السليم. فهناك اختلال بالعلاقة استناداً للخلل في الهوية الطبقية. كما انقسام المجتمع إلى طبقة من الأغنياء ومن الفقراء، يقوم الغني بالهيمنة على حقوق الفقراء، كذلك هناك هوة سحيقة بين الحاكم والمحكوم، كما هو الواقع، فالحاكم لا يمثل الطبقة الفقيرة بل يصل إلى الحكم من ينتمي إلى طبقة الأغنياء أو من يمثل مصالحهم. وهذا الواقع يدفعنا أحياناً إلى الاستنتاج بأن الحركة الإصلاحية في التغيير لن تأتي بنتائج، بل لا بد من وسائل ثورية على صعوبة توفير ظروفها ومستلزماتها.

 

أما الحركة الإصلاحية، وهي الأسلوب الأكثر واقعية، فستكون نتائجها محدودة جداً، لأن أي إصلاح ستقوم به الطبقة الحاكمة تحت ضغط شعبي مطلبي، سيبقى يصب في طاحونة الطبقة الاجتماعية التي تمثلها. ولن تؤدي إلاَّ إلى إصلاحات جزئية لمصلحة الطبقات الفقيرة.

 

ولهذا وإن كان السقف الأعلى من حركة التغيير هي المطلوبة إلاَّ أن العمل بما هو ميسور يبقى الأكثر واقعية، لكن على أن لا ينسى المنخرطون في عملية التغيير السقف الأعلى.

 

4-العمل السياسي الثوري حاجة وضرورة للطبقات التي يقع عليها الاستغلال.

من مصلحة الطبقة الحاكمة، بانتمائها الطبقي المنحاز للأغنياء والموسرين، أن تبقى الطبقات الشعبية بعيدة عن ممارسة العمل السياسي، وإذا سمحت لها بذلك فعلى أن لا يتعارض عملها مع الإيديولوجيا التي توجِّه مسار الحكم أو من تنوب عنه.

 

لكن على الطبقات المتضررة، خاصة النخب الأكثر وعياً في داخلها، أن تعمل على نشر الوعي السياسي لحقوق المواطنين. أما الطبقات المتضررة فيمكن تصنيفها إلى عدد من الشرائح حسب طبيعة موقعها في عملية البناء الاجتماعي الوطني، على الشكل التالي:

 

-طبقة العمال والفلاحين.

-صغار الكسبة والمهن الحرة.

-صغار الموظفين وذوي الدخل المحدود.

-الطلبة والشباب.

-المثقفون الثوريون.

 

أما وسائل النضال المتاحة لهذه الطبقات، فهي تقوم على قاعدة التجمعات المهنية، وخاصة منها النقابات المهنية للعمال والفلاحين كل منها حسب تجانس اختصاصها. ونقابات الموظفين كالأساتذة الجامعيين والثانويين والمعلمين الابتدائيين في القطاع الرسمي العام. ويليها نقابات المعلمين في الجامعات والمدارس الخاصة.

 

ويأتي في السياق عينه نقابات أصحاب المهن الحرة، كالمحامين والمهندسين والأطباء...

وتلعب الأندية، والتجمعات النسائية والشبابية والطلابية والجمعيات الثقافية والرياضية والاجتماعية دوراً مهماً في التوعية والإرشاد.

 

أما عن وسائل النضال فهي عديدة ومتنوعة، ومن أهمها اللجوء إلى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة. كما تعتبر التظاهرات والندوات والبيانات من تلك الوسائل.

 

وقد يكون الأكثر تأثيراً على النخب الحاكمة هو موسم الانتخابات النيابية، التي بدلاً من أن تكون سوقاً لشراء الأصوات وبيعها، يجب الاستفادة منها في ضغط حقيقي على المقصرين والمتلاعبين بإرادة الشعب ومصالحه الحقيقية.

 

وقبل هذا كله على كل المنخرطين في تلك النقابات والتجمعات أن يحافظوا على مهنية أهدافها والابتعاد بها عن محاولات احتوائها من قبل أحزاب الطبقات الحاكمة، أو الداعمة لها، منعاً لاستخدامها في تقوية نفوذ تلك الأحزاب التي صُمِّمت على مقاييس مصالح طبقة الحكام أو من يمثلونهم.

 

وإذا كان الوعي السياسي للفرد مطلوباً كمدخل لا بدَّ منه إلى عملية التغيير، فإن الجهد الفردي يبقى ضعيفاً، إذا لم يكن عاجزاً، في القيام بعبء مهمة متعددة الزوايا والأشكال، وعلى غاية من التعقيد والصعوبة، فإن تضافر جهود الجماعية تبقى الحلَّ المطلوب.

 

المرحلة الثانية

الانتقال بالعمل السياسي

من دور الفرد إلى دور الجماعة

 

ولأنه من أهم أهداف العمل السياسي تغيير الواقع الفاسد الذي يتناقض مع مصلحة الطبقات المستغلَّة، كان لا بد من تضافر جهود تلك الطبقات في عمل جماعي، والعمل الجماعي يكون أشد تأثيراً وأسرع فعالية من الجهود الفردية.

 

ويتدرج العمل الجماعي من العمل داخل الأندية في المدينة أو القرية، ويمر بتشكيل تجمعات على أساس المهنة الواحدة تدريجياً من منطقة إدارية واحدة وصولاً إلى السقف الوطني وهو ما تُعرَف بالنقابات على مستوى العمال والفلاحين وأصحاب المهن الحرة، وينتهي بالعمل الحزبي المنظم وهو الإطار الذي يجمع كل تلك التجمعات وينسق جهودها.

 

أولاً: العمل النادوي

النادي هو جماعة منتظمة يقوم أعضاؤها بنشاط حر، وفي إطار هذه الجماعة يتعرف الأعضاء على تجربة ديمقراطية مصغرة، وعلى تجربة مصغَّرة من العمل الجماعي، ويكتسبون فيها روح المبادرة وحس المسؤولية، ويتدربون على مغالبة ميولهم الأنانية، وعلى العمل مع الآخرين، وتدبير الصالح العام، وعلى التسامح، ونبذ كل تفرقة أساسها الجنس أو العمر أو العرق أو الديانة أو الآراء السياسية أو البيئية الاجتماعية.

 

وقد يتخذ النادي تسميات أخرى، مثل: ندوة أو رابطة أو جمعية. وقد يجمع النادي نشاطات عديدة، رياضية أو اجتماعية أو ثقافية. أو أن يكون متخصصاً بنشاط واحد. وأياً تكن أشكاله وأحجامه وتسمياته، فالنادي، أولاً وأخيراً، يشكل حالة تواصل مهمة بين أبناء القرية الواحدة، أو الحي الواحد. وهو أحد الوسائل الجماعية التي يمكن الاستفادة منها في التغيير على مستوى ضيق، سواءٌ أكان تغييراً مطلبياً تدفع بالجماعة الصغيرة إلى مراقبة أداء أولي الأمر ومساءلتهم. أم على صعيد التغيير في ثقافة التخلف والأمية ورفع مستوى الوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ويمكن الاستفادة منه على صعيد النضال المطلبي المحلي الخاص، وعلى الصعيد المطلبي الوطني.

 

عادة تنحصر نشاطات الأندية على مستوى قرية صغيرة، أو على حي من أحياء المدينة. وعلى الرغم من ذلك، فإنه يشكل تجربة مهمة للتدريب على الانخراط في الشأن العام، وهو خطوة أولى على طريق ممارسة العمل الحزبي الشامل. ويُعتبر تجربة مصغَّرة لعمل سياسي منظَّم. والنجاح فيه يعطي مؤشراً للنجاح في أعمال أكثر تعقيداً وأكثر حركة، فمن هو عاجز عن ممارسة عملية التغيير في وسط ضيق سيكون أكثر عجزاً من ممارسة عملية التغيير على المستوى الأشمل. ولهذا يمكن القول: إذا كان يجب عليك أن تكون وطنياً ناجحاً فعليك أن تكون عضواً ناجحاً في وسط بيئتك الاجتماعية التي فيها نشأت، أو التي فيها تعيش.

 

وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى أن على الحزب السياسي أن يؤهل أعضاءه المنتسبين إليه لتمكينهم ليس من اكتساب ثقافة العمل النادوي وخبرة العمل فيه فحسب، بل أن يدفعهم للانخراط في العمل النادوي أيضاً، وتأسيس الأندية والجمعيات الأهلية في قراهم وأحيائهم. وإعطاء الأولوية لهذا الهدف. فهو يشكل حلقة وسيطة بين واقع الناس وهمومهم واهتمامات الأحزاب السياسية وحركات التغيير الاجتماعي والاقتصادي.

 

ثانياً: العمل النقابي:

يُعتبر العمل النقابي مرحلة أكبر من عمل النادي أو الجمعية المحدودة جغرافياً ووسطاً اجتماعياً، وأقل من العمل الحزبي الذي ينتشر على المستوى الوطني وتشمل نشاطاته كل أوجه التغيير.

 

فالنقابة هي تنظيم قانوني، يتكون من أشخاص يتعاطون مهنة واحدة أو مهن متقاربة أو صناعة أو حرفة مرتبطة بعضها ببعض، وهي تستهدف تحسين ظروف عملهم قانونياً ومادياً. وتعمل النقابات المهنية على تحقيق أهداف متعددة منها:

 

-تنظيم العمال والموظفين والحرفيين والمهنيين وتمثيلهم.

-الاطلاع على صعوبات ومشاكل المنخرطين المادية والاجتماعية ودراستها ثم تحويلها إلى مطالب.

-حث أرباب العمل والمسؤولين على تلبية مطالب المنخرطين.

-القيام بأنشطة اجتماعية يستفيد منها المنخرطون كصناديق التعاضد والتقاعد.

 

تشكلت أول نقابة في بريطانيا، في العام 1747، وذلك كردة فعل من عمال الخياطة الذين سُحقت حقوقهم. وكانت فكرة التنظيم النقابي، منذ ظهور أول نقابة في التاريخ في القرن 18 لم تأخذ بحسبانها التقاطعات السياسية لأفرادها، بل المصالح المهنية او العمالية. فتشكيل النقابة أمر تفرضه بيئة العمل الخاصة بمجموعة من المهنيين أو العمال الذين يتشاركون في عمل محدد، و هدفها الأساسي إيجاد مرجعية تدافع عن الحقوق (العمالية أو المهنية) لهؤلاء، انطلاقاً من التغييرات التي يعيشها مجتمعهم مادياً و ثقافياً، أو تلك التغييرات التي لحقت بمهنتهم نفسها و عكست نفسها على أدائهم و إنتاجيتهم .  

 

إن العمل النقابي هو من أرقى الوسائل التي تستخدمها الطبقات المتضررة من هيمنة النخب من كبار الاقتصاديين والصناعيين والملاَّك الكبار، وهنا نعني بذلك أن طبيعة المنهج الذي يستخدمه النظام الرأسمالي في العملية الاقتصادية قائم على استغلال جهد العمال والفلاحين. وتأتي أهمية العمل النقابي من أنه يتميز بأكثر من عامل من عوامل التغيير:

 

-على أساس ثنائيتها، (رب العمل العامل)، تقوم العملية الاقتصادية التي بدلاً من تعزيز وضع العامل، الطرف المنتج بعرقه، وتحسين معيشته، يقوم رب العمل باستغلال جهده. أما عن رب العمل ففي النظام الاشتراكي تُعتبر الدولة رباً للعمل. وفي النظام الرأسمالي يكون الصناعيون والتجار ومالكو الأرض رباً للعمل.

 

-في النظام الرأسمالي والإقطاعي يمارس رب العمل كل أنواع التسلط لتجميع الأرباح التي تنتج عن العملية الاقتصادية، ويقع عبء الاستغلال على عاتق العامل.

 

-ينشأ الصراع الطبقي استناداً للعملية الاقتصادية بين الطبقات الغنية والطبقات الفقيرة، وفي حسم هذا الصراع لمصلحة العمال والفلاحين، تعطي عملية التغيير فوائدها في توفير العدالة والمساواة بين الطبقات الاجتماعية.

-إن الصراع بين العمال وأرباب العمل، عمال صناعيون أم مهنيون أم عمال زراعيون، هو الأساس الثابت في عملية التغيير الاجتماعي.

 

فتقسيم المجتمع إلى طبقتين: طبقة تستغل جهد الآخرين وتثرى على حسابهم، وطبقة يقع على عاتقها فعل الاستغلال، يقود إلى صراع تناضل فيه الطبقة المنتجة من أجل الحصول على حقوقها. ولكي تصب نتائج عملية الصراع في مصلحة الطبقات المُستَغلَّة لا بدَّ من تعميق وعي هذه الطبقات لحقوقها أولاً، وإلى ابتكار وسائل في النضال تكون أكثر تأثيراً وسرعة ثانياً. وعن ذلك يأتي تأطير العمال في نقابات تعطي أولوية للنضال في سبيل حقوق أعضائها من أهم تلك الوسائل.

 

ولأن تقسيم العمل في عصرنا الراهن أصبح واسعاً ومتشابكاً، فقد أصبح من الضروري أن يواكب النضال النقابي، تقسيماً مهنياً للعاملين في مهنة واحدة، ويقتضي هذا التقسيم بانتساب كل فئة مهنية إلى نقابة تُسمى باسمها، كمثل (نقابة عمال النسيج، وعمال الأحذية، والعمال الزراعيين، ونقابة المحامين، والمهندسين والأطباء....). على أن يتم تتويج تلك النقابات باتحاد عام ينسق بينها، ويوحد جهودها.

 

وينقسم العمل النقابي إلى قسمين:

-القطاع الخاص: وهو يشمل كل المؤسسات التي يملكها أفراد أو شركات، صناعية أو زراعية. وهي تمثل الجانب الأساسي في عملية الاقتصاد الإنتاجية، وعلى أكتافها يقوم عبء تحسين الدخل الوطني. وهذا بدوره يجب أن يُستفاد منه في تحسين دخل الطبقة المنتجة من عمال وفلاحين. ومن أجل هذا الغرض يتعين أن يكون لكل مؤسسة من المؤسسات الإنتاجية نقابة تدافع عن حقوق المنتسبين إليها.

 

-والقطاع العام: وهو يشمل وظائف الدولة على شتى أشكالها وأنواعها. وهي على العموم تمثل القطاع الذي يقوم بأود الخدمات على شتى فروعها واختصاصاتها. ولكل وظيفة لها نقابتها تدافع عن حقوق المنتسبين إليها.

-ويبقى القطاع الطلابي، وهو قطاع له خصوصياته ومميزاته، فهو يمثل الشريحة الأوسع من صُنَّاع المستقبل. ولأن منهم سيتخرج كل من سيشغل دوره في عملية الإنتاج أو الخدمات في القطاعين العام والخاص، فحري بهم أن يستفيدوا من مراحل الدراسة لأجل تكوين وعي سياسي سيقومون بتوظيفه في النضال النقابي بعد التحاقهم بوظائفهم مستقبلاً. ولأجل الهدف المستقبلي، إضافة إلى مواكبة هموم الطلبة بشكل خاص وتحسين أداء العملية التربوية بشكل عام، لا بدَّ من تأسيس الروابط والاتحادات الطلابية.

 

بعد استعراض موجز ومكثّف لدور النادي والنقابة، يتأكد لدينا كم هو مهم توظيف البنى الجماعية في النضال من أجل المطالبة بحقوق الشريحة الأوسع في المجتمع. وهذا سيصبح أكثر تأثيراً إذا ما تم جمع تلك البنى في بنية حزبية أشمل. وتوضيح هذا الجانب هو ما سنطرقه في الفقرة اللاحقة.

 

ثالثاً: العمل الحزبي:

الحزب هو أعلى درجات العمل الجماعي. وهو الوسيلة الأشمل التي تقوم بالتنسيق المنظم بين شتى بنى ومؤسسات التغيير الجماعية، من أندية ونقابات وجمعيات، وتساعدها على تخطيط حركتها وتحتضنها، وتشاركها.

 

تعتبر الأحزاب إحدى الظواهر البارزة  في الحياة السياسية ولاسيما  في الأنظمة الديمقراطية وذلك لما تقوم به من تنافس على السلطة. كما أنها تعتبر تجسيداً لمبدأ المشاركة السياسية لكل أفراد الشعب في إدارة شؤون دولتهم، بمراقبة الحاكم ومساءلته.وإضافة إلى كل ذلك القيام بالتعبير عن إرادة المجتمع بكافة أطيافه ومصالحه.

وجاء في بعض تعاريف الحزب السياسي، أنه يشكل «مجموعة من الأفراد يجمعهم الإيمان والالتزام بفكر معين. واصطلاح الحزب يستخدم للدلالة على علاقات اجتماعية تنظيمية تقوم على أساس من الانتماء الحر».

 

ويعرِّفه gorges burdeau بأنه: «تنظيم يضم  مجموعة من الأفراد بنفس الرؤية السياسية، تعمل على تنفيذ أفكارها بالعمل في آن واحد على ضم أكبر عدد ممكن من المواطنين إلى صفوفها، والعمل على تولى الحكم أو على الأقل التأثير على قرارات السلطات الحاكمة».

 

وجاء في تعريف آخر، أن الحزب هو: «جماعة اجتماعية تطوعية واعية ومنظمه ومتميزة من حيث الوعي السياسي والسلوك الاجتماعي المنظم، ومن حيث الطموحات والآمال المستقبلية ولها غايات قريبة وبعيدة». وتهدف هذه الجماعة إلى الاستيلاء على السلطة «إذا كانت في المعارضة وإلى تغير سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وحياتي يتساوق مع قناعتها واتجاهاتها».

 

وعلى العموم فإن الانضمام إلى جماعة حزبية تنادي بفكرة أو عقيدة تؤمن بها وتعمل على تحقيقها هو التزام  واعٍ بخط من التفكير المسؤول.

 

1-كيف نشأت الأحزاب السياسية؟

المعنى الصحيح للحزب السياسي كما نعرفه اليوم يعود لأكثر من قرن ونصف القرن من الزمن أي إلى العام/1850/ ولم يكن هناك وجود لأحزاب سياسية في أي بلد من العالم باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية. واليوم توجد الأحزاب وتنتشر في كل مكان من العالم. وقد ارتبط نمو الأحزاب السياسية تاريخياً بنمو الديموقراطية واتساع مفهوم الاقتراع العام الشعبي ليشمل كافة الطبقات.

 

تختلف الأحزاب من حيث طبيعتها العضوية، ونستطيع هنا التمييز بين نوعين :

-  أحزاب الكوادر أو الصفوة: تضم في الغالب أبناء الطبقة البرجوازية. وترى هذه النخب أنها تمتلك من الخبرة والقدرة على إدارة الحملات الانتخابية ما يمكنها من كسب الأصوات وإيصال المرشحين إلى كراسي الحكم.

 

-  أحزاب الجماهير: تستقطب الجماهير لتحقيق غايات سياسية واجتماعية واقتصادية، وتعمل على تثقيفها وتوعيتها سياسياً. وإعداد نخبة منها لتولي المناصب السياسية والإدارية في الحزب والدولة إذا كان الحزب حاكماً. وتندرج في هذا الإطار الأحزاب الشيوعية والقومية والدينية.

 

2-وظيفة الأحزاب السياسية؟

إن الأحزاب السياسية تضطلع بأدوار بالغة الأهمية داخل المجتمعات. وهناك من يميز بين وظائف الأحزاب وفقاً لطبيعة النظام السياسي السائد (ديموقراطي أو شمولي)، كما يمكن التمييز بين وظائف الأحزاب الحاكمة ووظائف الأحزاب خارج السلطة (المعارضة).

 

ويمكن أن نجمل أهم وظائف الأحزاب السياسية فيما يلي :

-يضمن أسلوب عمل الأحزاب أن تكون النظريات والأهداف السياسية والاجتماعية في وضع قابل للتطبيق.

-يمارس الحزب وظيفة تجميع مصالح الناس من خلال مؤتمراته كالشكاوى والمطالب من التجمعات النقابية والعمالية والهيئات الأخرى، ليقوم بعد ذلك بوضع سياسة بديلة من أجل مطالبة الجهات المعنية بتطبيقها، كالحكومة أو أصحاب المؤسسات الخاصة. فالأحزاب تختار القضايا التي تواجه المجتمع وما يحتاجه، وتقوم بترتيب ذلك تبعاً للأولوية وتثير الانتباه إليها عبر كل وسائل النشر والإعلام.

 

-ومن أجل تنظيم حركة فاعلة للتأثير على الجهات المعنية، تقوم الأحزاب باختيار أفراد لشغل أدوار من نسق اجتماعي ما وتجنيدهم لقيادة تلك الحركة. بحيث يكون كل فرد مؤهلاً للنجاح في مجال نشاطه واختصاصه.

 

-إن الأحزاب السياسية هي بمثابة مؤسسات تعليمية. فهي تثقف الشعب وتوجهه وتمده بالمعلومات اللازمة بطريقة مبسطة وواضحة وهذا ما يساعد في خلق الوعي السياسي وبالتالي تكوين رأي عام أكثر فاعلية في البلد. لذا تقوم الأحزاب بالتنشئة الفكرية والسياسية لأعضائها، وخاصة من المؤهلين لقيادة نشاط معيَّن يتطلب وعياً فكرياً وسياسياً عاماً لأهداف حزبه من جهة، ووعياً مهنياً وتجربة مهنية في مجال معين من جهة أخرى. وقد تقتصر هذه العملية على مجرد نقل الثقافة السياسية من جيل إلى جيل. وقد تستهدف إحداث تغيير جزئي أو شامل في عناصر ومكونات هذه الثقافة. وتعتبر الأحزاب من المؤسسات المهمة التي تقوم بهذا الدور من خلال تكوين رؤية المواطن نحو المجتمع والسياسة عبر صحافتها أو ما تقوم به من نشاط تثقيفي..

 

-تقوم الأحزاب بمراقبة تصرفات الحكومة وأعمالها الأمر الذي يؤثر عليها ويمنعها من التجاوزات والفساد، وعلى أقل تقدير فإنها تحد منهما.

 

-في البلدان النامية، وعبر مراكزها ومكاتبها المنتشرة في مختلف أنحاء الدولة، تحث الأحزاب المواطنين على الانتساب إليها بغض النظر عن اختلافاتهم العرقية أو الثقافية أو الدينية. وهذا ما يسهم في إنقاذ المواطن من العصبيات الضيقة وشدِّه إلى المفاهيم الوطنية الشاملة.

 

3-الحزب السياسي ضرورة نضالية

خلاصة القول نرى أن الحزب يأتي في رأس الهرم المؤسساتي للوسائل التي ترمي إلى التغيير. ولهذا، في ظل نظام عام تترأسه وتقوده نخبة من الطبقات الاجتماعية العليا تعمل من أجل مصالحها الذاتية؛ وحيث إن الطبقات الفقيرة، من عمال وفلاحين وموظفين صغار...، تُعتَبر صاحبة المصلحة في التغيير، فلا يمكنها أن تحقق أهدافها من دون الانتماء إلى أحزاب منظمة، ولا أحزاب جدية من دون الاعتماد على تلك الطبقات.

 

ولخصوصية العمل النضالي على ساحة الوطن العربي، لا بدَّ لأي حزب، يرفع شعار الوحدة العربية ويعمل من أجل تحقيقها، من أن تكون له فروع على مستوى الأقطار العربية.

 

المرحلة الثالثة

لماذا الحزب القطري العربي؟

(مفاهيم وطنية ومطلبية وتحررية)

 

من غير المعروف على المستوى العالمي مصطلح «الحزب القطري»، و«الحزب القومي». وإنما هي مصطلحات سائدة في الوطن العربي فقط. والسبب يعود إلى خصوصيات تاريخية وفكرية وسياسية وإيديولوجية.

 

أسست كل شعوب العالم كياناتها القومية في بنى دول مستقلة، وأنظمة سياسية حديثة، لهذا لم يميز المصطلح الغربي، والمصلحات غير العربية، بين «القومية» و«الوطنية». بينما في المصطلح الثقافي والسياسي العربي حصل هذا التمييز، وانتشر الالتباس حول تعريف كل منهما. وقد ميَّز حزب البعث العربي الاشتراكي بينهما بإضفاء صفة «القطرية» على الأقاليم العربية التي فصلت بينها اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية. واستناداً إلى رؤيته الوحدوية استخدم مصطلح «الوطن العربي» كتعبير عن الجمع بين الثنائية التي يتم تعريف «الوطنية» بها، وهي «الأرض/ القوم»، أي الأرض التي يسكنها قوم لهم خصوصياتهم التي يتشاركون بها. ولهذا اعتبر أن الوطن العربي يتمثل بـ«الأرض العربية التي يسكنها قوم عرب»، فيصبح هو الكل الأشمل والأقطار هي الجزء.

 

وسبب الالتباس بالمصطلح العربي يعود إلى ظروف تاريخية، وعوامل أكثرها خارجي، وأقلها داخلي.

أما الظروف التاريخية فتعود، كما دلَّت أبحاثنا، إلى أن التكوين القومي العربي قد حصل عبر قرون عديدة من الزمن. ابتدأت منذ مطلع التاريخ المعروف، في حالة تفاعل تاريخي وثقافي، بين الأجزاء المعروفة في بلاد ما بين النهرين، وبلاد الشام، وحوض وادي النيل، وشبه الجزيرة العربية. وكان أكثرها تأثيراً عامل الدعوة الإسلامية التي انطلقت من شبه الجزيرة العربية، وشملت في مراحل اندفاعتها الرئيسية كل المناطق المحيطة، والمعروفة الآن كحدود شمالية وشرقية وجنوبية للوطن العربي. والجزء الغربي منها، ابتداء من ليبيا انتهاء بالمغرب الأقصى، تعرَّب بالتدريج، لغة وثقافة بفعل وتأثير الدعوة الإسلامية.

 

وباتساع الإمبراطورية الإسلامية، إلى أوروبا من ناحية إسبانيا، وإلى آسيا الصغرى المعروفة بـ«تركيا»، وصولاً إلى بلاد الصرب حتى أبواب فيينا، أصبحت المناطق التي تعربت أجزاء أساسية من الإمبراطورية الإسلامية، بحكم الولاء للخليفة الإسلامي، خاصة بعد سيطرة الأتراك العثمانيين على كرسي الخلافة. ولذا فقد عرفت تلك الأجزاء وحدتها تحت سيطرة العثمانيين، وكانت تابعة لها تحت مسميات دويلات متعددة. لكنها لم تعرف أية حالة وحدوية مستقلة عن جسم الإمبراطورية الإسلامية.

 

وبدأت الحاجة إلى وحدة الأجزاء التي تعرَّبت بعد الحرب العالمية الأولى، بعد أن انهارت الإمبراطورية الإسلامية، وبنت كل الشعوب الأخرى كيانا تها القومية. لكن هذه الحاجة، أي وحدة الأقاليم التي تعرَّبت، كانت مما يخيف الدول الاستعمارية، التي كانت فرنسا وبريطانيا من أهمها في تلك المرحلة. ونتيجة هذا الخوف الاستراتيجي قامت الدولتان المذكورتان بعقد اتفاقية بينهما أطلقتا عليها «اتفاقية سايكس بيكو»، وفيها وضعتا حدوداً جغرافية بينها، وأطلقوا على كل جزء منها الإسم المتعارف عليه اليوم. ووزعا التركة بينهما، بما يُعرف بعصر الانتدابين البريطاني والفرنسي. ولا يزال العرب يعيشون حتى اليوم عصر اتفاقية سايكس بيكو.

 

وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إمعاناً في هدف منع الأقطار العربية من التوحد، فقد وقعت بريطانياً وثيقة وعد لليهود بإعطائهم أرض فلسطين لبناء دولتهم الصهيونية عليها، وهو ما يذكره التاريخ باسم «وعد بلفور».

 

كان من الطبيعي أن يحقق العرب وحدتهم بعد الحرب العالمية الأولى، لكن عامل الإعاقة الخارجي، تم تعزيزه بنزعات إقليمية محلية، بابتكار صيغ قومية مفتعلة، مثل «الفينيقة، والفرعونية، والهلال الخصيب... ». وبعد أن تأكد للدول الاستعمارية أن العامل الإقليمي، كما ترسمه حدود اتفاقية سايكس بيكو ليست كافية للحؤول دون الدعوة إلى الوحدة العربية والعمل على تحقيقها، راحت تصدر دعوة أخرى تقوم على تعميق ثقافة النزعات الطائفية والدينية، تحت ستار «مشروع الشرق الأوسط الكبير». ويشكل التعميق الثقافي الطائفي الخطوة الأساسية الأولى لإعادة تقسيم أقطار الوطن العربي إلى دويلات طائفية، وإعادة تشكيلها في كيانات طائفية ومذهبية. وبالعودة إلى الخريطة المعلنة لهذا المشروع تدل على أن المرحلة الثانية من إعادة تشكيل سايكس بيكو جديدة سائرة على قدم وساق .

 

وأخطر ما في الأمر، ومما يدعو إلى الأسف أن حركات الإسلام السياسي الناشطة تشكل عاملاً مساعداً لهذا المشروع من خلال إعلان عدائها للفكر القومي من جهة، وتأسيس بنى طائفية أينما تستطيع ونشر الدعوات الطائفية تحت ستار الدعوة للدين من جهة أخرى.

 

وإننا نعتبر أن نشاط هذه الحركات هو الأخطر لأنها تحفر في ثقافة الأكثرية الساحقة من الشعب العربي الذي يتقبل تلك الدعوات لأنها مغلَّفة بستائر الدين الإسلامي، خاصة وأن الثقافة الدينية تشكل العامود الأساسي للثقافة الشعبية السائدة.

 

من داخل هذا السياق التاريخي أخذ الالتباس في تعريف المصطلحات يزداد وينتشر، فأخذت تسود لغة «الوطنية اللبنانية، والوطنية المصرية... »، وتحل بديلاً لما كان يجب أن يكون «الوطنية العربية».

 

ومن جهة أخرى أخذ التشكيك حتى بمصطلح الوطنية، القطرية منها والقومية، يزداد ويستفحل وتدور حوله الكثير من علامات الإبهام والتشكيك، وتشوَّشت مفاهيم الانتماء، وتاهت مفاهيم الهوية.

 

وفي تلك المتاهات ضاع المواطن العربي بين أن يكون انتماؤه إلى وطن أم يكون انتماؤه إلى دين؟ أو هل يكون انتماؤه إلى دين أم انتماؤه إلى مذهب؟

 

كما حلت الشكوك حول تحديد الهوية، بين أن ينتمي الإنسان إلى أمة دينية، أم إلى أمة قومية؟ وهل أمتنا عربية، أم أمتنا إسلامية؟

 

إنها باختصار أزمة ثقافية حادة. إنه وإن كانت مفاهيم القطرية الانفصالية، كالدعوات «الفينيقة، والفرعونية، والأمازيغية... » قد خفتت أصواتها، فإن التفكير على صوت عالٍ أخذ يرتفع من أجراس الكيانية الطائفية والمذهبية والدينية. فالخوف من الأولى أخذ ينحسر بشكل لافت، لكن الخوف من الثانية هو الذي أخذ يزداد ويتصاعد بشكل لافت أيضاً.

 

كل تلك الإشكاليات تستثير لدينا الكثير من المسؤوليات، ومن أهمها كيف نحول دون تفتيت القطر إلى دويلات، وكيف نحافظ على وحدة القطر الواحد، كخطوة ضرورية لاستئناف العمل بيسر على طريق الوحدة القومية.

 

أصبحت مهمة المحافظة على التكوين الوطني القطري من الانهيار تشكل إحدى المهام الأساسية أمام الذين يعملون على التغيير. ولهذا السبب تكمن أهمية العمل الوطني على مستوى القطر، التي نوجزها على الشكل التالي:

 

1-ترسيخ مفاهيم الانتماء الوطني على قاعدة الحقوق والواجبات، والاعتراف أن القطر تسكنه مجموعات إثنية، سواءٌ أكان على مستوى العرق أم ألدين أم المذهب.

 

والأمر كذلك، نعتبر أن التشريعات المدنية التي توحِّد بين حقوق المواطنين وواجباتهم هي التي تشكل الأساس على المستوى الدستوري وعلى المستوى القانوني، ورفض التشريعات التي تستند إلى الأساس الديني أو العرقي، إلاَّ بما يحفظ وحدة العائلة على صعيد الزواج والإرث والحقوق الروحية الدينية. ولكن على أن لا تنعكس تلك الحقوق سلباً على وحدة المجتمع الوطني.

 

2-ترسيخ مفاهيم المساواة بالحقوق والواجبات على مستوى الفروقات الطبقية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، على أن تراعي التشريعات القوانين مصالح شتى الطبقات وتنوعها.

 

والأمر كذلك، ولأن الصراع الطبقى لا يزال يمثل الأساس في بنيتنا الاجتماعية والاقتصادية، بحيث تسود طبقات النخبة الاقتصادية على مفاصل الحكم، وهو ما يتيح لها فرصة سن قوانين وتشريعات تكرس مصلحة تلك النخب، تبقى على الطبقات الأخرى أن تناضل من أجل توحيد الحقوق والواجبات ليس على صعيد التشريع فحسب، وإنما على صعيد التطبيق أيضاً.

 

أما على صعيد وحدة المجتمع الوطني، فلا يمكن أن تتوفر إلاَّ انطلاقاً من تهذيب التربية الدينية واعتبارها شأناً فردياً أكثر من كونها شأناً اجتماعياً أو سياسياً. أي باعتبارها شأناً يتعلق بمصير الأنفس بعد الموت. وإن السلوك الفردي، ضمن مفاهيم الأخلاق العامة، هو الذي يحدد مصير الفرد في الآخرة، ولا يتم الخلاص عبر أنظمة دينية سياسية. واستناداً إليه فإن تأسيس أنظمة على مقاييس تشريعات هذا الدين أو ذاك، أو هذا المذهب أو ذاك، لا يمكن إلاَّ أن يكون عاملاً للتفتيت والشرذمة والصراعات الدموية بين أبناء الدولة الواحدة والوطن الواحد.

 

وإن للدولة الراهنة مفاهيم جديدة تجاوزت مفاهيم المراحل التاريخية السابقة. والدولة الحديثة لا يمكن أن تتأسس إلاَّ على ثابتين اثنين: وحدة الأرض، ووحدة المجتمع الذي يعيش عليها. ولأن الثقافة الواحدة هي من أهم شروط وحدة المجتمع، ولأن الأديان والمذاهب ليس هناك ما يجمعها إلاَّ وحدة المفاهيم الأخلاقية. وليست هناك أسساً لثقافة واحدة بينها، ففيها الكثير مما يفرِّق، على صعيد التشريعات، نرى أنه لا بدَّ من التأسيس لثقافة أخرى تنتخب من تراث الأديان والمذاهب ما يجمع، واستبدال كل المفاهيم الأخرى بمفاهيم ثقافية جديدة تؤسس لوحدة ثقافية، وهي بدورها كفيلة بغرس عوامل التوحد الوطني بين كل تنوعات المواطنين الدينية والمذهبية والعرقية.

 

إن هذا الأمر يتطلب العمل من أجل محاربة المفاهيم الدينية التي يكون هدفها بناء دولة دينية. ولن يم هذا الأمر إلاَّ بفصل الدين عن السياسة.

 

وأما على صعيد الصراع الطبقي، فلن يتم على صعيد اجتثاث طبقة لطبقة، واستبدال ديكتاتورية طبقة بديكتاتورية طبقة أخرى، كما تدعو الماركسية. والسبب أنه طالما هناك تقسيم للعمل فهناك فروقات ومميزات، وهذا الأمر يقتضي وجود امتيازات. على أن لا تكون الامتيازات فارقة بحيث تؤسس لهوة سحيقة، اجتماعياً واقتصادياً، بين أبناء المجتمع الوطني الواحد. كما لا يجيز وجود طبقة رأسمالية تعتاش طفيلياً على جهد الآخرين وعرق جبينهم.

وأخيراً سيكون تعريفنا للقطر بأنه الكيان الجغرافي الأصغر في الكيان القومي العربي الأشمل. ولهذا القطر خصوصيات وله عموميات.

 

فخصوصياته هو أنه من خلال العمل النضالي، تعمل قوى التغيير فيه على تعزيز الثقافة الوطنية على مقاييس بناء الدولة الحديثة أولاً، وتعزيز الثقافة المطلبية التي تهدف إلى جسر الهوة بين الطبقات الاجتماعية على قاعدة المساواة والعدالة ثانياً، وكل ذلك يتم عبر إعداد النخبة المثقفة من بين حركات وأحزاب التغيير التي تشكل الجسر الذي يربط بين الأحزاب وقواعدها الحزبية انطلاقاً من أنه «لاتغيير في بنى الدولة من دون تغيير في البنى المعرفية للمواطن في الدولة الحديثة».

 

ولأن وطننا العربي يتعرض إلى هجمة استعمارية صهيونية منذ ما يقارب القرن من الزمن، نصنِّف الأقطار العربية في دوائر ثلاث:

 

-بعضها واقع تحت الاحتلال العسكري المباشر.

-وبعضها الآخر معرَّض للاحتلال العسكري.

-والبعض الثالث واقع فعلاً في دائرة الهيمنة والاحتواء السياسي والاقتصادي.

 

واستناداً إلى هذا الواقع، نعتبر أن مهمة التحرير من الاحتلال هي من المهمات الخاصة التي تقع على عاتق المواطن في أي قطر من أقطار الأمة العربية. وهي المهمة التي تميزه عن غيره من مواطني دول العالم الثالث. إلاَّ أنه في بعض الأقطار العربية غير المحتلة تتساوى مهماته مع غيره من دول العالم الثالث، وهي المهمة التي تقتضي العمل للخروج من دائرة الاحتواء والهيمنة والخضوع للدول الرأسمالية.

 

ومن هنا، فإن الحزب على المستوى القطري العربي يتحمل أعباء مهمات ثلاث:

-مهمة ترسيخ مفاهيم المواطنة، أي مفاهيم الانتماء إلى وطن تنصهر فيها النزعات الطائفية والعرقية لتحل مكانها ثقافة المفاهيم الجامعة لكل التعدديات الإثنية.

 

-مهمة ترسيخ المفاهيم المطلبية، وهي مفاهيم المساواة بين الطبقات الاجتماعية، وردم الهوة بين التعدديات الطبقية.

 

-مهمة ترسيخ مفاهيم التحرر من الاحتلال، وممارسة مقاومة الاحتلال.

 

ولكل مهمة برنامجها النضالي النظري، وخططها العملية النضالية. وهي تلك التي تحتاج إلى عمل جماعي لا يمكن أن توفر شروطه ومستلزماته إلاَّ الأحزاب العقيدية المنظمة.

 

ولأن الوطن العربي يختص بميزة أنه لم يحقق وحدته السياسية تناغماً مع حالته القومية، ولأن قضايا كل قطر تتكامل مع قضايا الأقطار الأخرى، تأتي الحاجة إلى حزب يمتلك شروطاً ومواصفات قومية.

 

المرحلة الرابعة

لماذا الحزب القومي العربي؟

(مهامه التوحيدية والتحررية)

 

لا تعاني أمة من الأمم ما تعاني منه الأمة العربية. فمن خصوصياتها أنه في الوقت الذي انهارت فيه الإمبراطورية الإسلامية العثمانية، آخر إمبراطورية في التاريخ، لجأ كل شعب ينتسب إلى قومية من القوميات التي كانت تابعة لها إلى بناء كيانها السياسي الوحدوي باستثناء الشعب الذي ينتمي إلى القومية العربية، فقد حالت الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى دون وحدته السياسية عن سابق تصور وتصميم.

 

بالإضافة إلى عوائق الوحدة الخارجية نشأت على ساحات الوطن العربي تيارات وقوى وأحزاب وحركات لا تعترف بالمفاهيم القومية، واستطراداً بالمفاهيم الوحدوية السياسية، وشكلت على مدى قرن من الزمن مضى عائقاً داخلياً أربك حركة القوميين العرب وأدخلتهم في معارك وصراعات جانبية. وإن تلك التيارات والأحزاب والقوى، وإن كانت تقف من بعض أهداف الصهيونية والاستعمار على الطرف النقيض؛ إلاَّ أنها في موقفها السلبي، والمعادي في أكثر جوانبه، من المسألة القومية، قدَّمت لهما خدمات جلى عندما اقتطعت جزءاً مهماً من الشعب العربي وعملت على تضليله ثقافياً وسياسياً، وحرفه عن الاهتمام بالوحدة القومية، وليس هذا فحسب، بل وضعته أيضاً في الموقع المعادي للقومية العربية والوحدة العربية.

 

ففي هذه الحلقة سنلقي أضواء موجزة على أهداف القوى الخارجية والقوى الداخلية وعلى مواقفها المعادية للفكر القومي، والوحدة السياسية بين أقطار الوطن العربي.

 

أولاً: تحالف الاستعمار والصهيونية:

وإذا كانت الأسباب التي حدت بتلك الدول للحؤول دون تحقيق العرب لوحدتهم السياسية أصبحت معروفة في ثقافتنا القومية، فإن التذكير بها بإيجاز يخدم السياق الموضوعي لمنهجية دراستا هذه.

بإيجاز نختزل تلك الأسباب بموضوعتين: الأهداف والوسائل.

 

1-الأهداف:

أما الأهداف فتعود إلى أن بناء كيان عربي موحد سياسياً سيعرقل أهداف الدول الغربية في السيطرة على الوطن العربي الممتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي. ولأن السيطرة على هذه البقعة الجغرافية، التي تضمن أهداف تلك الدول، تعني التالي:

 

أ-الاستيلاء على منطقة ذات أهمية استراتيجية جغرافية تربط الغرب الأوروبي والأميركي بالشرق الأقصى الهندي والصيني.

 

ب-الاستيلاء على خزان اقتصادي غني بالبترول والثروات الطبيعية يشكل العصب الأساسي للآلة الصناعية الغربية الحديثة. وينطبق الأمر على الآلة العسكرية الغربية، وهي الحقيقة التي عبر عنها أحد الرؤوساء الأميركيين قائلاً: (من يسيطر على النفط يستطيع أن يحكم العالم).

 

ج-الاستيلاء على خزان بشري يُعد المستهلك الأكبر للسلعة الصناعية التي تنتجها المصانع الغربية الرأسمالية.

 

2-الوسائل:

حددت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وكانت كل من فرنسا وبريطانيا تمثلان طليعتها، وسائل ضمان تفتيت الوطن العربي، وهما:

 

أ-اتفاقية سايكس بيكو التي رسمت خطوطاً جغرافية بين أجزاء الوطن العربي، واعتبرت كل جزء منها دولة كاملة السيادة. وتوزَّعتها كحصص فيما بينها، وأعلنت كل منها انتدابها على الأقسام التي حددتها تلك الاتفاقية.

ب-وعد بلفور، أعطاه وزير خارجية بريطانيا للصهيونية العالمية، من أجل بناء ما يسميه «الوعد » وطناً قومياً لليهود.

 

واستمرت بريطانيا وفرنسا بفرض سيطرتهما على المنطقة العربية إلى أن ورثتهما الولايات المتحدة الأميركية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، واحتلت موقع الصدارة في التأثير على المنطقة العربية واحتوائها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وأمنياً. فتكون قد استفادت مما أسسته الدولتان، ولكنها لم تغيِّر من استراتيجية الهيمنة ومن احتضانها للكيان الصهيوني شيئاً، وإنما أخذت منذ أواخر الثمانينيات من القرن العشرين تعد لاستراتيجية تفتيت أخرى أطلقت عليها:

 

ج- مشروع الشرق الأوسط الجديد: وهو مشروع يحافظ على استراتيجية تفتيت الوطن العربي، ومنطقة جواره الجغرافي، ليس على أساس خطوط جغرافية، بل على أساس خطوط أيديولوجية طائفية وعرقية. أي بناء دويلات طائفية وعرقية، وهي تؤسس لمشاريع اقتتال دائم فيما بينها. وبذلك تصبح أي دعوة للوحدة العربية في طي النسيان، لأن كل دويلة إثنية ستعمل للمحافظة على كيانها المستقل، وستستعين حكماً بقوى خارجية تساعدها على حماية كيانها في مواجهة الكيانات الأخرى خاصة المجاورة لها.

 

إن أهداف الاستعمار والصهيونية أصبحت واضحة تتلخص بمنع الوطن العربي من تحقيق وحدة أقطاره السياسية. وكلما أعيتهما وسيلة تقومان بابتكار أخرى.

 

ثانياً: الدعوات الأممية العابرة للقوميات:

لا شك بأن وحدة الإنسانية حلم جميل، خاصة على قاعدة المثل العليا المطلقة. لكن هذا الحلم الجميل تحوَّل على مدى المسار التاريخي للبشرية منذ نشأتها إلى كوارث وأزمات طالما عانت منها الشعوب في مرحلة ما تُعرف بأطوار النزعات الإمبراطورية. وفي تلك الأطوار سادت مبادئ سيطرة شعب من الشعوب على مقدرات الشعوب الأخرى، واستعبدتها واستغلت ثرواتها واعتاشت على جهد الشعوب المغلوبة.

 

وإذا كنا نعتبر أن أهداف الاستعمار والصهيونية هي نفسها أهداف النزعات الإمبراطورية التي سجلها التاريخ، فإننا نعتبر أيضاً أن الدعوات الأممية التي سنتكلم عنها هي نزعات إمبراطورية، عابرة للقوميات، وإن أتت بأثواب فلسفية مادية، كالمشروع الماركسي. أم بأثواب دينية ما ورائية كمشاريع إعادة الخلافة الإسلامية التي تعمل من أجلها التيارات الدينية السياسية لـ «الإخوان المسلمين»، و«ولاية الفقيه».

 

1-الأممية الماركسية: استناداً إلى مبادئ الماركسية، التي اعتبرت أن الفكر القومي هو فكر «شوفيني»، متعصب، وقفت الأحزاب الشيوعية العربية موقف العداء من الفكر القومي العربي واستطراداً حاربت فكرة الوحدة العربية.  لكن بعضها غيَّر موقفه من المسألة القومية منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين واعترف بها، إلاَّ أن تلك المواقف لم تتعمَّق حتى الآن ولم تجد لها ترجمة واضحة على أرض الواقع والفكر، فهي لا تزال مترددة حتى الآن باعتبارها استراتيجية ثابتة.

 

2-الأممية الدينية: تلخص الموقف من الفكر القومي العربي عند التيارات الإسلامية السياسية بالقاعدة التالية: «ما وجدت القومية إلاَّ لمحاربة الإسلام». وتحت ذريعة هذه القاعدة، وضعت تلك التيارات الدعوة الإسلامية في مواجهة حادة مع الدعوة القومية؛ واعتبرتها عائقاً أمام مشروع استعادة الخلافة الإسلامية، بمفاهيم التوسع الجغرافي ومفاهيم تطبيق التشريع الإسلامي.

 

ولقد استغل التحالف الاستعماري والصهيوني، مدعوماً من القوى النظامية العربية السائرة في ركاب ذلك التحالف، تلك الدعوات وعمل على تشجيعها والاستفادة منها، وذلك بأنه دعمها بكل أشكال المساعدات، منطلقاً من أنها «تعرف كيف تهدم، لكنها لا تعرف كيف تبني»،  وشجعها على مواجهة التيارات القومية. وقد كانت بداية السبعينيات من القرن العشرين البداية الجدية خاصة عندما ضعفت التيارات القومية بعد حرب حزيران من العام 1967. واستفاد التحالف الاستعماري والرجعي العربي من خدمات التيارات الإسلامية نفسها ووضعها في مواجهة مع الأحزاب القومية والأحزاب الشيوعية العربية، وخاصة في مواجهة الاتحاد السوفياتي.

 

واستناداً إلى كل ذلك، وإن بدا أن خطاب التيارات الإسلامية السياسي يقف على الطرف النقيض من التحالف الاستعماري الصهيوني استناداً إلى ثنائية «الكفر والإيمان»، فإن واقع الأمر لم يكن كذلك، فقد ارتقى تحالف المتناقضين إلى مستويات أعلى خاصة في مرحلة الإعداد للعدوان على العراق، عندما شاركت تلك التيارات المخابرات الأميركية في التحضير، واشتدت عرى التحالف بينهما بعد احتلاله، إذ شاركت في العمليات العسكرية. كما عملت على إنجاح ما سُميَّ بـ«العملية السياسية» التي أعدَّتها الولايات المتحدة الأميركية في العراق لحماية الاحتلال. وعلى العموم فإن المشاريع الدينية السياسية تؤدي خدمة كبرى لاستراتيجية المشروع الاستعماري «مشروع الشرق الأوسط الجديد»، لأن المشروعين معاً لا يمكن تنفيذهما من دون تفتيت الوطن العربي إلى دويلات طائفية.

 

أما من ناحية الأحزاب الشيوعية العربية، وإن كانت منطلقة من موقع العداء للرأسمالية، فقد أدى تحالفها مع الحركة الصهيونية في مرحلة ما، ووقوفها في موقع العداء للفكر القومي والوحدة العربية، إلى تقديم خدمات كثيرة غير مباشرة للمشروع الاستعماري والصهيوني على الصعيد العربي.

 

ثالثاً: في مواجهة القوى المعادية للقومية لا بدَّ من تنظيم قومي:

ولما كان من أهم وسائل القوى التي تعلن العداء للفكر القومي، وتعمل على إجهاض أهدافه السياسية، تعميم مفاهيم التجزئة في كل أقطار الوطن العربي؛ كان لا بدَّ من وجود حزب قومي يعبِّر نظرياً عن الأهداف القومية التي تتبناها الأحزاب على مستوى القطر؛ وعملياً يقوم بتوحيد جهودها وحركتها النضالية، والتنسيق بينها.

 

ولهذا الأمر، ولأن نضال الحركات القومية العربية وأحزابها في مواجهة عوائق الوحدة الخارجية والداخلية، تشكل هماً مشتركاً لها على مستوى الأقطار، أصبحت بحاجة إلى وسائل التنسيق فيما بينها لتتضافر جهودها وتتكامل وتتبادل خبراتها وتجاربها. ومهما كانت وسائل التنسيق متقدمة إلاَّ أنها لا تفي بالغرض المنشود إلاَّ إذا جمعها عامل الالتزام بالمفاهيم الواحدة التي اتفقت على مضامينها، وكذلك الالتزام بوحدة التحرك من أجل تعميمها. واستجابة لهذه الحاجة لا يمكن أن يوفرها إلاَّ حزب على المستوى القومي تقوده قيادة قومية لها صفة الإلزام لكل الملتزمين بالحزب، تضخ لهم المفاهيم الموحدة وتأخذ منهم نتائج خبراتهم وتجاربهم كل على مستوى قطره.

 

وتتكامل الحلقات وتتواصل بين فروع الحزب القومية بشكل يشبه تكاملها وتواصلها داخل القطر الواحد، انطلاقاً من الخلية القاعدية على مستوى الضيعة والحي، مروراً بالفرقة والشعبة وصولاً إلى الفرع على مستوى المحافظة، ويأتي القطر ليوحد بين شتى فروع الحزب في القطر الواحد، ويتم تتويج الوحدة التنظيمية على المستوى القومي من خلال مؤسستيْ المؤتمر القومي الذي ينيب صلاحياته لقيادة قومية لفترة زمنية محددة.

 

وهكذا يشكل الحزب على المستوى القطري فرعاً للحزب على المستوى القومي. بحيث تشرف القيادة القومية على نشاطات فروعها في الأقطار المختلفة، وتوحد اتجاهاتهم النظرية القومية، وتنسق بين نشاطاتهم. وتستفيد من خبراتها ومن إمكانيات أعضائها. ويحصل التفاعل المباشر بين شتى القضايا القومية، ويتم توظيف الطاقة الحزبية على المستوى القومي لخدمة القضايا الساخنة.

 

ولأن الحزب القومي يشكل حاجة نظرية وعملية، تستجيب لمتطلبات النضال القومي، من أجل الأمة العربية، فبغيابه تضعف الحركة الفكرية والسياسية للقومية العربية، حتى ولو كانت الحركة القومية تنتظم في أحزاب قطرية منفصلة إلاَّ أنها تفتقد عمقها الأساسي في تطوير الفكر وفي تنشيط الحركة بسبب غياب العامل المنظم لحركتها، لأنه من خلال القيادة القومية تصبح حركة الاستجابة أسرع وأكثر فعالية.

 

وأخيراً، ومن خلال قناعتنا بأن الحزب المنظم على الصعيد القومي، كحاجة وضرورة، قد أثبت فعاليته في العقود المنصرمة من التاريخ العربي، نتساءل: أين يقع حزب البعث العربي الاشتراكي في حركة التاريخ القومي العربي؟

 

المرحلة الخامسة والأخيرة

البعث هو حزب الضرورة التاريخية

والتنظيم الضرورة بين الرسالة الفكرية والنضال السياسي الوحدوي

 

منذ ابتدأ حزب البعث العربي الاشتراكي، كفكرة، منذ أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، كانت المسألة القومية ثابته الأول، وبوصلته المرشدة. والسبب يعود إلى أن ميشيل عفلق، مؤسس الحزب، استشرف خطورة المرحلة التي كانت قوى الاستعمار في تلك المرحلة تعمل من أجل تجهيلها. واستئنافاً لنشاط الحركة الفكرية القومية التي سبقت تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي انخرط عفلق في ميدان العمل القومي. فكان انخراطه امتداداً لحركة القوميين العرب الأوائل، حيث كانت البنية المعرفية للفكر القومي تشهد تراكماً متواصلاً جيلاً بعد جيل، وجاء حزب البعث ليضيف إليها مداميكاً جديدة أحدثت طفرة نوعية في مسار تلك الحركة. وقبل أن نستعرض تلك الإضافات، لا بدَّ من أن نقوم بإطلالة موجزة على التطور التدريجي لحركة الفكر القومي التي سبقت تأسيس حزب البعث.

 

المقدمات التاريخية التي انطلقت الفكرة القومية منها كانت كالتالي:

1- منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مهَّد عدد من المفكرين العرب، ورائدهم المعلم بطرس البستاني، اللبناني الأصل، بالتبشير بالفكرة القومية العربية، بعد أن أثبت النظام الإمبراطوري العثماني عجزه عن وضع حلول لمشاكل الشعوب المنضوية تحت لوائه. وكان من أهمها أن الدولة الدينية لا تستطيع تحقيق العدالة والمساواة بين مواطني الإمبراطورية.

 

2-تأثر المفكرون القوميون العرب الأوائل بمفاهيم الدولة الحديثة التي كانت تشق طريقها في أوروبا، والتي حققت إنجازات حضارية مهمة بهرت شعوب العالم الأخرى. فالدولة الحديثة قامت على أساس الرابط القومي، بعد انقلاب الأوروبيين على سلطة الكنيسة التي حكمت الشعوب الأوروبية بمفاهيم السيطرة الإمبراطورية التي تعتمد على الهيمنة والاستغلال. وكانت صورة الإمبراطورية العثمانية، تشبه إلى حد كبير صورة سلطة الكنيسة، إلاَّ أنها كانت تحكم بالمنطلقات الدينية الإسلامية، خاصة وأن شيخ الإسلام كان يضع نفسه في خدمة السلطان العثماني ويطوِّع الفتوى الدينية الإسلامية لمصلحته، ومن هنا انتشر مفهوم «فقهاء السلاطين».

 

3-شكل تجديد دعوة استعادة «دولة الخلافة»، التي أطلقها الإخوان المسلمون في العام 1928،  حافزاً جديداً أمام القوى التي تعارض إعادة تجربة حكم الدولة الدينية، واندفعوا للاصطفاف حول شعار القومية العربية منذ أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين. وكانت طلائع القوى العربية المثقفة تشترك معاً في تأسيس الصحف والمجلات؛ ولكن الحركة انقسمت بعد فترة قصيرة إلى كتلتين متنافستين: كتلة الشيوعيين وكتلة القوميين. وكان سبب الانقسام يدور حول المبدأ الذي قامت عليه الثورة العربية. إذ كان من المتفق عليه في صفوفها أن الأمة العربية قديمة في تكوينها، وهي جامع للذين انفصلوا عن الأتراك؛ إلى أن انفصل بعض الشيوعيين بمفاهيم جديدة عن الأمة، أي أن الأمم -كما أخذوا يروِّجون- تكوَّنت في العصر الرأسمالي الحديث؛ فخلصوا إلى أن الأمة العربية، قياساً إلى ذلك، ناقصة التكوين.

 

4-بعد انفصال الشيوعيين عن الحركة العربية بتأثير المد الستاليني الذي ألزم الشيوعيين العرب باعتبار الاتحاد السوفياتي مركزاً للثورة العالمية وعليهم حماية هذا المركز، اختار ميشيل عفلق صف القوميين؛ وراح يشق طريقه المتميز فاتَّجه نحو تأسيس حزب البعث منذ بداية الأربعينيات من القرن العشرين. وكان تميزه عن المفكرين القوميين الأوائل بأنه نزل بالفكرة القومية من السقف النظري إلى ميدان التطبيق. وبذلك لم تبق النظرية في برج المنظرين بل أصبحت ملكاً للشعب بأكمله.

 

5-بتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1947، واجه البعثيون وحدهم أطرافاً ثلاثة يعلنون العداء للمسألة القومية، وهم:

 

-المشروع الاستعماري الصهيوني، الذي أظهر عداءه ليس بالتبشير الفكري المضاد للقومية العربية فحسب، بل أيضاً بتأسيس دولة صهونية على أرض فلسطين في العام 1948 من جهة، وبناء علاقات مع بعض الأنظمة القطرية العربية مؤسسة على التبعية من جهة أخرى.

 

-الحركة الشيوعية العربية بتبعيتها للمشروع الأممي، واعتبرت مركزيته الاتحاد السوفياتي.

-الحركة الإسلامية السياسية وهدفها استعادة «دولة الخلافة الإسلامية». وقد بدأت طلائعها مع حركة الإخوان المسلمين منذ الثلاثينيات من القرن العشرين أولاً، وحركة ولاية الفقيه منذ الثمانينيات من القرن العشرين ثانياً.

-وبين هذا الطرف و ذاك، انتشرت النزعة القطرية في شتى أرجاء الوطن العربي. بعضها المتمثل بأنظمة رسمية رجعية، أو ملتحقة بقوى الاستعمار؛ وبعضها الآخر متمثل بأحزاب وحركات قطرية شعبية.

 

لقد واجه البعث تاريخياً كل تلك الحركات لعشرات السنين؛ وصمد في تلك المواجهة على الرغم من أنها شملت تحالفات بين قوى خارجية أجنبية، وقوى إقليمية، وقوى داخلية عربية، بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. ولقد عملت تلك القوى، مجتمعة أو منفردة، ولا تزال تعمل بشتى الطرق لاجتثاث فكره، واستئصال هياكله التنظيمية، وكل همها اجتثاث الفكر القومي، والفكر الوحدوي العربي.

 

في تلك المواجهة صمد الحزب في شتى أقطار الوطن العربي، من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، على الرغم من كل أشكال الملاحقات. وكان يحرز توسعاً وانتشاراً جديدين.

 

وأهم مظاهر صموده بدا واضحاً في ما يحصل اليوم في العراق، فقد واجه سياسياً مؤامرة انتزاع العروبة من فكر البعث ومن اتجاهات مشروعه النهضوي. ولما فشل الضغط السياسي الأميركي على النظام الوطني في العراق من أجل احتوائه وفرض التبعية عليه، قامت أميركا باحتلال العراق عسكرياً من خلال أكبر هجمة حشدت فيها إمكانياتها العسكرية الهائلة، وجمعت حولها إمكانيات عشرات الدول الأجنبية ناهيك عن إمكانيات دول الجوار الجغرافي، من أنظمة عربية وغير عربية.

 

كانت أولى القرارات التي أصدرتها قوات الاحتلال هو القرار الذي عُرف بقرار «تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث». وأهداف هذا القرار كانت واضحة وحاسمة بشأن الاجتثاث، الذي تناول الحزب على صعيد تفكيك بنيته التنظيمية والأخطر منها كان المقصود اجتثاث بنيته الفكرية أيضاً. نتأكد من هذا الأمر إذا عرفنا أن القرار مستند إلى استراتيجية أميركية قديمة تعتبر أن خطورة أي حركة سياسية في الوطن العربي تأتي من اعتناقها لأي توجه قومي. ولكن البعث قاوم وصمد، ولا يزال صامداً يقاتل على أرض العراق وينجز ليس الانتصارات وحسب، بل ألحق الهزيمة بالاحتلال أيضاً.

 

بالإضافة إلى كل ذلك، لا يزال الحزب مستمراً في نضاله على أكثر من ساحة قطرية في الوطن العربي وخارجه. وقد عجزت عن النيل منه أعتى قوى العدوان، كما لم تنل من انتشار فكره. ولأنه على الرغم من أنها أعلنت موتهما، فهي وإن أعاقت حركته فإنها لم تستطع إلغاءها. ومن كل مظاهر الصمود هذه، نخلص إلى النتيجة الأولى من نتائج دراستنا، والتي تقول: «إن البعث شكَّل طوال عشرات السنين، وهو لا يزال يشكل ضرورة تاريخية للأمة العربية».

 

I-حزب البعث ضرورة تاريخية للأمة العربية

ليس صمود الحزب، مترافقاً مع صمود الفكر القومي واستمراره، إلاَّ تعبيراً عن علاقة العلة بالمعلول، ولا معلولاً من دون علة. وهو أن الفكر القومي العربي، كما القومية العربية، كان من المحتمل أن يُصابا بالانهيار أمام قوة الهجمة وشراستها، لولا أن قُيِّضت لهما رافعة حملتهما، وحالت دون سقوطهما، تمتلك مواصفات وعوامل دفاعية لها القدرة على حمايتهما نظرياً بالتمسك بنشر الفكر، وعملياً بالتضحية والتصدي والصمود. فكانت تلك الرافعة ممثَّلَة بحزب البعث العربي الاشتراكي.

 

إذن، ليست هناك علة تشكل عاملاً لصمود المعلول لها قدرة السحر، بل تستمد قدرتها من خلال امتلاكها مواصفات موضوعية ملموسة تكسبها تلك القدرة. ولقد أثبتت التجربة التاريخية أن صمود الحزب وصمود الفكر القومي أصبحت تشكل ثنائية واقعية، ثنائية علمية وليست ثنائية سحرية؛ ثنائية قائمة على أن المحسوس العملي هو الذي يفسر استمرار المعقول النظري؛ ولأن حزب البعث هو المحسوس العملي، والفكر القومي هو المعقول النظري، فيعني ذلك أن استمرار البعث في الحركة يفسر لنا أنه سبب لاستمرار الفكر القومي العربي في الوجود.

ولأنه لا محسوساً في عصر العلم يمتلك قوة سحرية، بل يمتلك مزايا وشروطاً موضوعية؛ فحزب البعث، بما قام بتحقيقه، يمتلك تلك الشروط. فما هي تلك الشروط التي يتصف بها هذا الحزب؟

 

لقد أثبت البعث عبر مسار نضاله السابق أنه كان السد الذي حال دون تغريب الثقافة العربية، والتغريب الثقافي هو الجزء المتمم لاتفاقية سايكس بيكو، والمشاريع الأممية. ولا يمكن لتلك المشاريع السياسية المعادية أن تتحقق في المجتمع العربي من دون تغيير في بنيته الثقافية، أي نقلها من الثقافة الوحدوية إلى ثقافة التفتيت والتمزق، وهذا منطلق من حقيقة أساسية تستند إلى أنه لا يمكن ولوج بوابة تغيير واقع إلى واقع آخر من دون تغيير في بنيته الثقافية. ولأن اتفاقية سايكس بيكو، كما المشاريع السياسية الأممية، هي تعبير عن ثقافة تقسيمية أولاً، وثقافة تتجاوز حدود القوميات ثانياً، وهاتان الثقافتان لا يمكن انتشارهما إلاَّ بالقضاء على الثقافة القومية الوحدوية. ولأن حزب البعث تمسك بنشر تلك الثقافة، ومنع نفاذ ثقافة التغريب، يكون قد شكَّل حاجزاً صدَّ بواسطته تغلغل تلك الثقافة. ولقاء هذه الحقيقة يمكن تفسير العداء الشديد الذي يكنه الثلاثي المذكور لحزب البعث؛ هذا الثلاثي الذي يعلم أنه لا يمكنه أن يمرر مشاريعه من دون اجتثاث البعث فكراً وتنظيماً.

 

II-حزب البعث ضرورة قومية فكرية وتنظيمية

كل هذا يجعلنا نستنتج أن سر ديمومة البعث واستمراره يتعلق بعامليْن أساسيين، وهما: أنه يشكل ضرورة فكرية؛  وضرورة تنظيمية ونضالية.

 

بالعودة إلى مقدمات دراستنا التي أشرنا فيها إلى أن عملية التغيير تحتاج إلى مرحلتين: تشخيص المشكلة وتحديد وسائل ومقاييس علاجها، فهي إذن وعي نظري وعلاج عملي. ولما كان الحزب هو أعلى درجات وسائل التغيير الجماعي، تكاملت عناصر عملية التغيير في حزب البعث العربي الاشتراكي، على مستوى وعي مشاكل الأمة العربية نظرياً، وعلى مستوى الانخراط في ورشة عمل تطبيقية.

 

لكل هذا نعتبر أن البعث يشكل ضرورة فكرية وتنظيمية. وإننا قبل البدء في إلقاء نظرات أولية على هذين العنوانين، لا بدَّ من الإشارة رداً على من قد يوجِّه تهمة تضخيم البعث لذاته فنقول: إذا كنا نتكلم بلسان بعثي فليس إلاَّ لأننا نقوم بعرض موضوعي لشروط التغيير على المستوى القومي العربي. تلك الشروط التي إن امتلكها أي حزب آخر أو أية حركة أخرى، وإن كانت بأسماء أخرى، فهذا لن يضير البعث شيئاً أو ينتقص من دوره التاريخي. وإذا ما أرادت قوى أخرى أن تدخل للعمل إلى الساحة القومية  على أرضية الثوابت التي برهنت تجربة البعث التاريخية أنها صحيحة فهو مُرحَّبٌ به أكبر ترحيب لأنه يضيف إلى إمكانيات البعث إمكانيات أخرى تعمل على تسريع حركة التغيير فتقصِّر المسافات وتختصر الزمن.

 

كما تجدر الإشارة إلى إن ثوابت البعث، كثوابت للعمل القومي، لا تعني على الإطلاق أن تفصيلات العمل اليومي هي من الثوابت أيضاً، بل على العكس تماماً لأن في التطبيق قد تحصل أخطاء كثيرة الأمر الذي يُعتبر فيه النقد والتصحيح حاجة لا يمكن الاستغناء عنها أو رفضها.

 

وإذا كانت إشارتنا إلى ما أشرنا إليه ضرورة قصدنا منها زرع عامل التطمين في نفوس من يمثلون «الرأي الآخر»، أو الآراء الأخرى، فسنعود إلى تكثيف عرض عامليْ الضرورة الفكرية والتنظيمية وتحليلهما، على أن تكون تفصيلات ما نريد أن نعرضه كمساحة للحوار والمناقشة في جولات أخرى، كلما استدعى الأمر حواراً ومناقشة.

 

مدخل لتكوين الاستراتيجيا الفكرية:

عملية تشخيص المشكلة وإن انطلقت من معرفة الواقع إلاَّ أنها تعتبر عملية نظرية فكرية تخضع لقوانين المعرفة الأكثر تعقيداً. وفي تحديد عناصر المشكلة الميدانية يتم تفكيكها واحداً إثر آخر، من أجل وصف علاج لكل منها. وهكذا تم تشخيص عناصر المشاكل التي تعاني منها الأمة العربية.

 

بداية، استنتج المنظرون القوميون العرب الأوائل أن الشعوب الخاضعة للإمبراطورية العثمانية لم تنصهر في تكوين اجتماعي سياسي اقتصادي يجعلها تشعر بالانتماء إلى هوية واحدة. ولا لقوانين وتشريعات توفر المساواة بينهم. ولا لنظام اقتصادي تتساوي فيه الطبقات بالحصول على حاجاتها البشرية. لذلك اكتشفوا أن النظام الإمبراطوري العثماني لا يوفر الحل العادل للرعايا العرب، فراحوا يبشرون بالقومية العربية.

 

وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية تفككت الأجزاء الجغراسية التي كانت تابعة لها، وشكل كل كيان جغراسي دولته الخاصة، وحصل كل منها على اعتراف دولي بحدوده الجغرافية. بينما الجزء العربي الذي كان تابعاً للإمبراطورية العثمانية لم يتم الاعتراف به كدولة واحدة لها الحق بالوحدة كمثيلاتها من الشعوب الأخرى. فكان هذا الحق ماثلاً عند قدامى المفكرين القوميين العرب، فأعلنوا شعار الوحدة العربية.

 

لقد اكتشف بعض من قدامى الرواد القوميين أن هناك إصراراً من قبل أكثر من قوة على إبقاء الجزء العربي مفككاً وممنوعاً من توحيد أجزائه. فطُرح السؤال التالي: إذا لم يكن من المتاح أن يحصل العرب على حقهم بالوحدة، فمن الضرورة أن ينظم العرب صفوفهم للضغط في سبيل تحقيق هذه الوحدة. ومن أجل هذا الهدف تفرَّد ميشيل عفلق، أحد الرواد القوميين الأوائل، للتفتيش عن الحل عبر تأسيس حزب قومي، خاصة أن التنظيم الحزبي هو من أهم ابتكارات العصر الحديث، وهو الأقدر على قيادة عملية التغيير وتنظيمها ووضع الخطط لها.

وهكذا تم تأسيس حزب البعث في العام 1947، وكان التأسيس مولوداً لفكرة عاشت في فكر ميشيل عفلق قبل خمسة عشر عاماً سبقت التأسيس؛ وفي تلك السنوات تجمَّع حوله عدد من المؤمنين بها؛ ولما نضجت عندهم الفكرة تماماً، اتبعوها بصياغة نظرية شملت الأسس الفكرية التي نصوا عليها بـ«دستور الحزب»، والأسس التنظيمية بـ«النظام الداخلي».

 

أولاً: البعث ضرورة فكرية

 

1-الهوية العربية تمنع العرب من الضياع:

 

لن يكتب لقضية الحياة إلاَّ إذا كانت مبرَّرة فكرياً، فالوضوح الفكري يشكل البوصلة التي تصحح اتجاهات ربان سفينة قضية ما، إذا واجهت تلك السفينة رياحاً عاتية تغيِّب عن أعين قبطانها الرؤية الصحيحة.

 

والمسألة القومية العربية هي قضية حياة للعرب إذا ظلت حية، أو قضية موت لهم إذا ماتت. ولهذا ركَّز البعث على تحديد قضيته الأولى وحافظ عليها عبر نظرية قومية، واعتبرها البوصلة الأساسية للعرب. فالمسألة القومية للعرب، كما آمن بها البعث،  هي هوية لهم؛ وتأسيساً عليها تم إعلان هدف الوحدة العربية كحق يتساوون فيه مع الأمم الأخرى.

 

لذا كان إعلان البعث عن الهوية القومية العربية، وحدد أركانها، لأن العرب كانوا يتعرضون، ولا يزالوا، إلى أكثر وسائل تغريب هويتهم بالجنوح بها نحو القطرية تارة، وتارة أخرى نحو الأممية. فالقطرية والأممية كانتا ملهاة لبعض التيارات من أجل تجهيل هوية العرب العربية، أو كانتا مؤامرة إلغاء هذه الهوية عند التحالف الاستعماري الصهيوني.

 

ولقد كسب البعث جولته ضد تغريب الهوية أو تجهيلها، عندما أعلن شعاره أن العرب هم «أمة عربية واحدة». واستناداً إليه فإن المحافظة على هوية شعب هو كسب لنصف المعركة وخسارتها خسارة للمعركة كلها. فالمحافظة على الهوية ضرورة فكرية أساسية؛ ولا تحتمل أنصاف حلول.

 

وهكذا صدَّت نظرية البعث الفكرية رياح الاستعمار التآمرية، ورياح الأمميين الإيديولوجية. وفي وضعه للأسس الفكرية الوحدوية، وضع حداً لحركات التغريب القومي ومنعها من تغيير مسارات القومية العربية.  فبهذا المعنى يُعتبر البعث ضرورة فكرية.

 

2-المضمون السياسي الاجتماعي مفهوم حقوقي على طريق إلغاء الفروقات الطبقية:

لم يقف البعث في معركة ضد اجتثاث الهوية القومية فحسب، وإنما عمل أيضاً على صياغة معادلة حقوقية في داخل المجتمع العربي، عندما جمع النضال من أجل حماية الهوية القومية، مع النضال من أجل بناء مجتمع عربي تسوده العدالة الاجتماعية والسياسية، فكانت الدعوة إلى الحرية والاشتراكية من أجلى مظاهرها.

 

ثانياً: البعث ضرورة تنظيمية ونضالية

 

لأن عملية التغيير ثنائية متكاملة، حدَّاها التشخيص والتنفيذ، أي عملية التكامل بين الرؤية الفكرية والوسيلة العملية، تميَّز البعث في أنه عمل على الوحدة المتكاملة بين النظر الفكري والتنفيذ العملي، فجمع بين وحدة الفكر والعمل. وبعد أن أنضج رؤيته الفكرية مكملاً تجربة الذين سبقوه، أسس الحزب السياسي الذي يعتبر الوسيلة الأساسية في ترجمة الفكر إلى واقع ملموس.

 

وإذا كان الفكر حاجة نظرية، فإن الحزب هو المعول الذي يهدم القديم والرافعة التي تبني الجديد. لهذا شارك الحزب الرواد الأوائل في إنتاجهم الفكري، وتجاوزهم بأنه شكل الرافعة التي راحت تعمل على تنفيذ ما أنتجته عقولهم.

 

وإن انطلق الحزب من ساحة قطرية عربية، وهي سورية، فإن أهدافه كانت قومية عربية. إذ انطلق تنظيمياً من سورية ليتمدد وينتشر إلى الأقطار الأخرى. وكان هذا الانتشار نتيجة تخطيط مسبق. فكان نظامه الداخلي مؤسساً على قاعدة قومية شاملة.

 

من أهم ما يمتاز به النظام الداخلي للحزب هو أنه ابتدأ من تنظيم أصغر خلية في ضيعة صغيرة، أو شارع في مدينة، ليتدرج متسلسلاً إلى أعلى هرم في القطر الواحد. واعتبر أن كل الحلقات في الهرم القطري تنضوي تحت قيادة القطر الواحد. وتصاعدياً للوصول إلى السقف القومي العربي، اعتبر النظام الداخلي أن قيادات الأقطار هي حلقات قاعدية للهرم القومي تقودهم قيادة قومية غالباً ما تتمثل بها معظم الأقطار العربية.

 

يُعتَبر التنظيم البعثي خلية عضوية واحدة من أدنى حلقاته حتى أعلاها. وللتنظيم القومي فاعلية كبيرة من حيث اهتمامه بشؤون كل أقطار الوطن العربي على قدم المساواة، وهو إن أفسح المجال لكل قيادة قطرية بالاهتمام بخصوصيات أقطارها لكن على أن لا تتناقض مواقفها مع السياسة القومية الموحدة. وبمثل هذا التراتب التنظيمي والعلاقة العضوية تجد أية قضية قطرية صداها في داخل التنظيم الحزبي البعثي على الصعيد القومي.

 

نظرياً لم يواجه التنظيم القومي صعوبات وعقبات، وعملياً برهنت التجربة على أن البعثيين تواصلوا فعلاً على صعيد النضال القومي، وعرفوا سرعة استجابة كل المنظمات في الأقطار مع كل القضايا العربية الساخنة، إن كان من حيث الخطاب السياسي، أو التظاهرات المؤيدة، أو المشاركة العسكرية في معارك التحرر من الاحتلال.

 

فالبعث في مثل هذه الحالة يشكل ضرورة تنظيمية ونضالية إذ جمع بين مسألتين: وحدة التنظيم القومي كتعبير عن مضامين الفكر الوحدوي.

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاربعاء  / ٠٧ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢١ / نيسـان / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور