النظام الدولي وانعدام العدالة بين الشمال والجنوب

 
 
شبكة المنصور

د. غازي فيصل حسين - أكاديمية الدراسات العليا

صحيفة الشمس ، طرابلس

اتفقت أغلب قيادات دول الجنوب في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية المؤمنة بأفكار ومبادئ حركة عدم الانحياز: بأن النظام الاقتصادي ألدولي ألراهن " غير عادل وباطل كالنظام الاستعماري "، لأنه يمتد بأصوله وبأسباب بقاءه لهذا النظام " ولأنه تعزز وتماسك وأزدهر، بناء على ديناميكية لا تتوقف، تُفقر ألفقراء وتُغني الأغنياء. هذا ألنظام الاقتصادي، يُشكل عقبة أساسية أمام أي فرصة للتنمية وللتقدم بالنسبة لجميع بُلدان العالم الثالث ". إن جميع ألمحاولات لتغير نظام العلاقات الاقتصادية الدولية ، اتسمت بالغموض، فالنزاع والخلاف بين الدول مازال قائماً حول مفهوم النظام الدولي الجديد، والتناقض قائم بين محاولة الإبقاء على الوضع الراهن Statu quo  ، أو بناء توازن دولي جديد يتسم بالهشاشة.فما هي الانتقادات التي يُمكن توجيهها للنظام الدولي المعاصر؟ 

 
على الصعيد الاقتصادي ، أسس اتفاق لومي Lomé  ، بداية لبناء نظام اقتصادي دولي معاصر، عندما اجتمعت 46 دولة من إفريقيا والكاريبي والباسيفيك ACP، ووقعت في عاصمة توغو، في 28 فبراير 1975، على اتفاق مع دول المجموعة الاقتصادية الأوربية. بناء على اتفاق لومي، قامت دول السوق الأوربية، بفتح أسواقها التجارية وبحرية عبر رفع ألتعرفه الجمركية وإلغاء الحصص أو ألمقابلة بالمثل، أمام جميع ألمواد ألمُصنعة، كما انفتحت الأسواق لأقصى ما يُمكن أمام ألمُنتجات الزراعية لدول إفريقيا والكاريبي والباسيفيك ACP. كما تعهدت ألدول الأوربية بتقديم مساعدات بقيمة 5 مليارات دولار لدول ACP. وبغية تحقيق  استقرار في عائدات التصدير، وضعت دول ألمجموعة الأوربية نظاماً خاصاً يضمن استقرار عائدات ألسلع ألمُصدرة من دول ACP نحو أوربا ألغربية ، خصوصاً ألمُنتجات التي قد تتأثر باختلاف الأسعار أو الكميات.

 
اعتبر البعض اتفاق لومي حدثاً ثورياً، كما تعرض للعديد من الانتقادات، أبرزها للفقيه شارل فالية ألذي رأى فيه " خطر تعزيز النظام ألقديم من خلال تلطيف جوانب من نتائجه غير ألعادلة والمُخزية، أكثر من كونه انقلابا جذرياً، فهو محاولة إصلاحية رديئة ". ورأى فيه الاشتراكيون، نظاماً موجهاً " قبل كل شئ لتجديد هياكل الأسعار ، والاستثمار للشركات ألمُتعددة ألجنسية "، فهو محاولة لتجديد السيطرة على العالم الثالث . إن اتفاق لومي عالج المُشكلات التجارية ، وحافظ على القدرة الشرائية لدول أوربا الغربية ، وهذا ما يتقاطع مع رغبة دول العالم الثالث،  الموقعة على الاتفاق، لتوسيع آفاق ألتنمية. ومن ألملاحظ ، أن اتفاق لومي أهمل بلدان آسيا وأمريكا أللاتينية، بمعنى آخر: جزأ بلدان العالم الثالث، وفقاً لمفهوم ألتقسيم الإقليمي.

 
لقد تعرضت المُقترحات والمفاهيم الخاصة ببناء نظام اقتصادي دولي جديد لانتقادات واسعة، وعلى نفس ألمستوى تعرضت الأفكار المتعلقة ببناء نظام سياسي دولي جديد لانتقادات متعددة الجوانب. وبصورة خاصة، في الجانب الاجتماعي، فمن المعروف أن : مليار من البشر، على الأقل ، يعانون من سوء ألتغذية ومن فقر مدقع (دخل الفرد أقل من  دولار يومياً). 2.5 مليار نسمة من سكان العالم يعيش بأقل من 2 دولار يوميا ، يشكلون 40 % من سكان الكرة الأرضية ، 1200 طفل يموت كل ساعة بسبب الفقر، 300 مليار دولار تكفي لرفع مليار نسمة فوق خط الفقر المدقع .

    
لكن ألمُشكلة الجوهرية، تتمثل ببقاء معدلات الإنتاج ألعالمي من الغذاء لا تتناسب مع اتساع ظاهرة الفقر والجوع،لرفض مالكي فائض الإنتاج من القبول بمشاركة الآخرين، مع ذلك استمرت البلدان المُعرضة للمجاعة في طرح مُشكلاتها على صعيد المجتمع الدولي، بمُطالبة الدول الصناعية، من خلال مؤتمر الأمم المتحدة للغذاء والزراعة ، منذ مؤتمر روما، في 8-27 نوفمبر 1975، بتزويد بلدان العالم الثالث بحوالي 750 مليون دولار من ألمساعدات ألغذائية لكن استجابة الدول الغنية كانت محدودة جداً.

 
بعد مُشكلة ألتغذية، تظهر مُشكلة الإسكان، فالعالم الثالث يعاني من الانفجار ألسكاني على صعيد ألمدن. وشهد عام 2000 ارتفاع نسبة سكان المدن قياساً لسكان الريف. حيث يعيش 3.5 مليار من ألبشر في مجمعات عشوائية لا تستوعب أكثر من 20 ألف ساكن. لقد اهتمت العديد من المؤتمرات الخاصة بالبيئة، منذ العام 1975 بمشكلة السكن ، وتم إقرار برنامج من 9 نقاط ، يستهدف تحقيق التعاون الدولي في مجال الإسكان الإنساني ، في إطار الاعتقاد: بأن تحسين حياة الأفراد يجب أن يصبح  من الأهداف الأكثر أهمية في كل سياسة تتعلق بتوفير سكن لائق بالبشر، ولم يتحقق على صعيد الواقع شئ يُذكر، سوى طلب قُدم للأمين ألعام للأمم ألمُتحدة، للتحقق من ظروف حياة الفلسطينيين في الأراضي المُحتلة.

 
وبهدف محاربة الفقر ، وانعدام العدل الاجتماعي ، وانتشار ظاهرة البطالة ، شارك 121 وفداً في أعمال مؤتمر جنيف الدولي ، في 4-17 حزيران 1976 ، لمناقشة قضايا : التوظيف؛ المُشاركة في الدخل؛ التقدم الاجتماعي؛ تقسيم العمل الدولي، وإقرار الوثيقة النهائية المُتعلقة ببناء نظام اقتصادي دولي جديد ، الذي يُمكن أن يوفر فرصة لكل دولة لاختيار نمط الإنتاج ألملائم لطبيعة ثرواتها وقدراتها ، كما تشكل معالجة الفقر الهدف الأول من سياسات التنمية ، لكي تتمكن الدول من إشباع الحاجات الأساسية للشعوب الأكثر فقراً ، إضافة لتمتع بلدان العالم الثالث، بحق الوصول لتوازن عادل، بين الأيدي ألعاملة في مجال ألتقنية ورأس المال ألمُستثمر، أي التوان بين قوى العمل ورأس المال .

 
أما على صعيد أزمة المياه في العالم، فلم يطرأ أي تحسن، فإذا كان ألماء يغطي 7 أعشار الكرة الأرضية ، فإن أقل من 1% من المياه صالحة للشرب. حيث تسبب المياه الملوثة بوفاة 4000 شخص يومياً ، علماً بأن حاجة البلدان النامية لمعالجة تلوث المياه وتوفير المياه الصالحة للشرب لا تزيد عن 30 مليار دولار، فالمتضرر الكبير من ظاهرة أزمة وتلوث المياه ، البلدان النامية، حيث تتعرض المجتمعات لانتشار الأمراض والأوبئة بسبب تلوث ألمياه، ويطرح حاجة 57 دولة فقيرة، لطاقم طبي مكون من 4 ملاين شخص، لمواجهة المشكلات الصحية، لذا يجب على المجتمع ألدولي اعتبار قضية ألمياه من القضايا الأساسية ألتي تتطلب تعاوناً دولياً لمعالجتها.

 
كما تبرز ظاهرة ألتصحرDésertification، واحدة من القضايا الخطيرة التي يوجهها العالم الثالث، فالصحارى اليوم تحتل ثلث مساحة الكرة الأرضية، بسبب نشاطات الإنسان الصناعية والزراعية ألتي أدت إلى تحويل مساحات واسعة تقارب مساحة الصين إلى مناطق صحراوية، والضحية الأولى لهذه الظاهرة هي بلدان العالم الثالث، ولم تستطع مقاصد النظام الدولي المعاصر من تحقيق تقدم ونجاح ملموس لمعالجة هذه التحديات الخطيرة. 

 
إن النظام الدولي الراهن، لا يقدم سوى معالجات مادية وقواعد أيديولوجية، فحركة عدم الانحياز أقرت مجموعة من الأفكار والمقترحات لبناء نظام دولي جديد. لكن دول الحركة ، ذات خصائص متباينة ، ولا تؤمن العديد منها بالعدالة،ولا ترفض مبدأ استغلال الإنسان للإنسان. لقد نص الإعلان العالمي لحقوق الشعوب: على أن " الإمبريالية بأدواتها القمعية وبالتواطؤ مع الحكومات، تستمر في الهيمنة على جانب من هذا العالم، من خلال التدخل المباشر وغير المباشر، وعبر الشركات المُتعددة الجنسية ، وباستخدام سياسات محلية تآمرية ، وبدعم نظم عسكرية مبنية على القمع البوليسي والتعذيب والإبادة الجسدية للمعارضة، وهذا ما يُشكل بمجموعه من الناحية التطبيقية، ما يٌمكن تسميته بالاستعمار ألجديد، فالإمبريالية بذلك توسع من هيمنتها على شعوب عديدة ".

 

من المؤكد، أن حركة عدم الانحياز، كان بمقدورها التحول أداة فعالة لبناء نظام دولي جديد، شرط قيامها بوضع حدود لأفكارها. إن مفهوم ألنظام ألدولي ألجديد يعكس في ألمجال الأول، خطاباً أيديولوجياً، ثم يكون وبالتتابع حالة من علاقات القوة على صعيد العلاقات الدولية، وسلاح للكفاح من أجل تغيير الواقع الراهن للعلاقات الدولية .

 
إن الجانب القانوني للنظام الدولي الراهن ، مكون من مجموعة من القواعد ألخطرة، فالقانون ألدولي ألذي تبلور بعد إنشاء الأمم المتحدة عام 1945، كان من وضع الدول الصناعية، لتلبية حاجات الإمبريالية ولتبرير الهيمنة على دول العالم الثالث.  لكن الشعوب والأمم ، بدأت ترفض تدريجياً " التصور الأرستقراطي للأمم المتحدة "،  معتبرة أن التحرر السياسي يبقى ناقصاً، إذا لم يرافقه التحرر الاقتصادي ، وهذا ما دفع نحو البحث عن إجراء تعديلات جوهرية لقواعد ألقانون ألدولي .

 
" فاليوم يتولد قلق كبير في جميع مجالات ألقانون ألدولي "، وفق تصور السفير بينتو C.W Pinto. " ففي جميع ألمجالات خضع النظام القديم للاختبار، وبدأت تتضح العديد من الخبايا الغامضة، كما بدأت المفاهيم الجديدة بالظهور. فالأشكال المهيبة، التي كانت تبدو أبدية، تبدو اليوم مبنية على مُستنقع من ألجور والظلم. فكيف يمكننا، إذاً، إعادة بناء ألقانون ألدولي؟  

 
عصر الفضاءات الكبرى

 
إن التحديات المعاصرة التي تواجهها الدول في قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية تتمثل بدخول النظام الدولي، " مرحلة أخرى وهي عصر العولمة والفضاءات الكبرى وتراجع الدولة الوطنية ليحل محلها الفضاء الكبير". فالدولة الوطنية وفق تصور القائد معمر ألقذافي: " أي دولة وطنية في العالم الآن لا تستطيع أن تعيش بمفردها، إلا في فضاء كبير في إتحاد كبير "، لكي تستطيع التكيف مع المعطيات الجديدة لعصر ألعولمة وبغض النظر عن الانتماءات العرقية والدينية والمذهبية والثقافية ، فالسائد في العصر الراهن كما يبين القائد معمر ألقذافي هو: الديموغرافية.

 

لهذه العوامل تتوحد إفريقيا في عصرنا الراهن حيث تجمعها المقومات الديموغرافية، وهذا يعني: وفق تحديد القائد وحدة "الفضاء المادي، المصالح المادية التي تربط مجموعة تعيش فوق بقعة من الأرض "، فلا يوجد أمام بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، لكي تصبح قوة وكتلة قائمة بذاتها ومؤثرة في العلاقات الدولية، إلا الذهاب نحو خيار التجمعات والفضاءات الدولية، مما يوفر قدرة تنافسية لهذه الدول في إطار نظام العولمة الاقتصادية ، بمعنى آخر: تعطي الفضاءات قدرة تنافسية للدول الأعضاء من خلال توفير " إمكانيات ضخمة: سوق استهلاكي كبير، وإنتاج كبير، وتصدر بالمليارات وتستورد بالمليارات، ويكون عندك عمق إستراتيجي وأمن ودفاع "، بهذه الفكرة تتحدد ملامح رؤية القائد معمر ألقذافي نحو مستقبل العلاقات الدولية، فالدول اليوم لا تستطيع أن تدافع بمفردها عن نفسها في مواجهة " القوى الهائلة الموجودة الآن في العالم " ولا تستطيع أن تواجه التحديات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، إلا من خلال وحدة اللغة والمفاهيم الاقتصادية والدفاعية والأمنية المشتركة.

 
ويتيح عصر الفضاءات الإقليمية والدولية، العمل جماعة اقتصادية تجمع دول الجنوب، توفر الفرصة لضمان العمل الاقتصادي المشترك، وتتيح هذه المبادئ والأفكار تخصيص وتنظيم توزيع الموارد داخل المجالات الإقليمية ، في إطار خطط وعمليات التنمية الاقتصادية داخل الدول الأعضاء في التجمعات والفضاءات الإقليمية ، وتعميق الاندماج بين دول العالم الثالث، عن طريق التنسيق بين السياسات المالية والاقتصادية ، وتحقيق درجة أكبر من حرية الحركة والانسياب للعمالة ورأس المال ، مما يوفر سعة السوق ويؤدي إلى تحسين الإنتاجية، وزيادة رفاهية الدول الأعضاء بانتقال وانتشار المعرفة العلمية والتكنولوجية، لتوفير الموارد التي تستخدم في بناء مشروعات توسع من قاعدة الصادرات ، وتقلص الاستيراد وبناء شبكة نقل واتصالات ، وتنويع الإنتاج ، وتقليل الاعتماد الاقتصادي على الدول المتقدمة، بما يحسن من المركز التفاوضي للدول النامية مع الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية.

 
إن السلام والأمن في فكر القائد معمر ألقذافي يتخطى المفاهيم التقليدية ، أي أنه لا يبني فقط على علاقات القوة العسكرية ، بل يراه في مدياته الإنسانية والاقتصادية ، الاجتماعية والثقافية ، ومن خلال إزالة الفوارق الحادة بين الأغنياء والفقراء في العالم عبر : توزيع عادل للثروة ، وضمان حرية انتقال العلوم والتكنولوجيا لبناء عالم متوازن ومتوافق. السلام والأمن في فكر القائد يرتبط بحماية البيئة والأمن البيئي ، المهدد بفعل الاستثمارات الرأسمالية الواسعة ، السلام يرتبط بالتفاعل بين العناصر الاجتماعية والاقتصادية للأزمات ، والبحث عن مخارج وحلول من خلال تحليل أسباب ودوافع الأزمة ، فلا يمكن تجزئة مشكلات : كالطاقة أو المياه ، أو التلوث ، أو شعب فلسطين ، عن ظاهرة انعدام الاستقرار ، لذا يفترض البحث عن حلول جدية لجميع هذه المشكلات .

 
" نحن نريد السلام والاستقرار في العالم "، بهذه الكلمات العميقة عبر القائد عن إيمان الجماهيرية بأن " تْحترم الشعوب كبيرها وصغيرها "، من خلال العمل لتعزيز التعاون الإقليمي  والدولي لمعالجة مشكلات الفقر وتوفير الغذاء للشعوب التي تواجه مشكلات اقتصادية كبرى أو تتعرض إلى كوارث طبيعية أو بيئية ، والعمل لوضع حلول عملية على الصعيد الدولي لمعالجة تلوث المياه وسد النقص الحاد في الحاجات الأساسية للاستهلاك البشري من المياه ، والعمل بصورة جماعية لمواجهة انتشار الأمراض والأوبئة الخطيرة التي نهدد مستقبلنا وعالمنا المشترك، إلى جانب تبني الاتفاقيات الدولية والبرامج الخاصة بمعالجة تحديات التغيرات المناخية ، بما يعزز أمن وسلامة الشعوب الدول. فمن الضروري قيام الأطراف المعنية إقليميا ودوليا، بتقديم تضحيات من أجل تحقيق السلام دفاعا عن الحرية والسيادة، وضمان تطبيق قرارات الأمم المتحدة بعيداً عن المعايير المزدوجة، لخدمة قضية الإنسانية في الحرية والعدالة والتقدم والازدهار.

 

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاحد  / ٢٥ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٠٩ / أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور