من أدب المقاومة العراقية - يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة القنابل تنهي عنوسة سرى

﴿ الحلقة الأخيرة ﴾

 
 
شبكة المنصور
كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية
بغداد المحتلة العانس

أنا دنيا، شقيقة سُرى الصغرى (آخر العنقود). أكتب يومية سرى الأخيرة والتي لم تستطع كتابتها بنفسها لأنّ يد الغدر طاولتها، وكأن الموت قريب منها فلم يمهلها أن تكتب حتى الحلقة الأخيرة من يومياتها، أو أن تبين مصير فتاة أحست بالعنوسة منذ أن وطئت أقدام الغزاة الأميركان أرض هذا البلد.


اليوم فقط اكتشفت أن سرى كانت على حق. كانت تقول دائماً: على كل عراقي، أن يكتب وصيته ويحفظها في أحد أدراج المكتبة طالما أن الموت يفاجئنا ولا يمهل أحداً منّا حتى التقاط أنفاسه.


كل الذين يموتون في العراق اليوم، يموتون على غفلة، يداهمهم ملك الموت وهم يغادرون المساجد، وهم يمشون في الشوارع، يفاجئهم في الدوائر والأزقة والأسواق، لكنك نادراً ما تجد عراقياً مات وهو في عقر داره وبين أطفاله. لا أحد يتوقع موته بتاتاً.


الكثيرون يغادرون بيوتهم صباحاً، يطبعون القبل على جبين أطفالهم النيامّ لأنهم يشعرون أنهم ربما لن يعودوا إلى بيوتهم، يراودهم إحساس بأنّ الموت يتربص بهم لكنه إحساس يزول بتلاوة آية معطرة من القرآن الكريم والاستغفار وترديد البسملة.


جارنا ثائر نهض صباحاً وصلّى وأنهى قراءة القرآن، ثم خرج ليشتري خبزاً حاراً من الفرن الموجود في نهاية الشارع، خرج من البيت جسداً ليعود جثةً هامدة بعد دقائق معدودة. تقول زوجته: أوصدت الباب خلفه ودخلت إلى المطبخ لإعداد الشاي والحليب، ملأت الأباريق بالماء، وسمعتُ صوت انفجار قوي هُزت الأبواب والشبابيك على هولها، بسملت وقرأت المعوذات وسورة "ياسين"، ناديت يالله، استنجدت بالنبي (صلي الله عليه وسلم)، صحت: "دخيلك يالله استرنا". لست امرأة جريئة، فصوت مواء القطط في الخارج يرعبني أحياناً، إذا تهاوت أشياء على الأرض في الليل وأنا نائمة استيقظ وبدني مقشعر من الخوف، ارتجف مثل الغصن. فكيف بي وأنا أسمع صوت انفجار قنابل كأنها وقعت داخل البيت. جاءني ليث ابن جارنا فؤاد راكضاً وهو يلهث: عمة، العبوة انفجرت على سيارة عمو ثائر. وخرجتُ لأرى أشلاء ثائر المتناثرة، ثائر بلا رأس، بلا ذراع، رأيت كفاً وإصبعا يرتدي خاتم زواج. فتيقنت أن ثائر من بين القتلى. فقد انفجرت عبوة ناسفة كانت موضوعة قرب برميل للقمامة عندما عبرت مجموعة من السيارات كانت سيارة ثائر من ضمنها.


عثرتُ على يوميات سُرى في الخزانة، وادركتُ أنها كانت تكتب يوميات الموت وليست يوميات الغرام والهوى كما كنا نظن.


في وطنٍ صار الموت يصبح ويمسي على أبنائه، شابة في عمر الفل والياسمين تكتب يوميات الموت وليس قصائد غزل ورسائل حب. يالسخرية القدر، ويا لمهازل الحياة. فتاة في عنفوان شبابها تشعر أنها ذبلت واصفر عودها، تتشبث بالحياة والأمل رغم ما تحيط بنا من كوارث ومحن جلبه المحتل. الموت أسرع الخطى نحوها وكان أسرع ما نتصور.


عندما كانت سرى توصد باب غرفتها على نفسها ساعات طويلة، كانت أمي تصرخ وتنادي عليها: "بس لو اعرف شتسوي بالغرفة"، وكان يخيلّ لها أحياناً وتبوح لنا بما يجول في خاطرها "إن سرى قد تكون تتحدث في الجوالّ وتغازل شاباً ما، أو أنها تكتب رسائل غرامية"، رغم أن سرى كانت تنفي وتضحك حين نعلمها بهواجس أمنا وتقول "والله بطرانة، يا حب يا غزل، إحنا بيا حال". وكانت ترفض كل الشباب الذين يتقدمون لخطبتها. زاهدة في كل شيء، لا يهمها إن كان الخاطب رجلاً ثرياً أم معدماً، لا تغريها مادة ولا منصب.


قلبت خزانة سرى فلم أجد سوى هذه الأوراق التي وضعتها بانتظام حسب التواريخ والأيام. عندما قرأت في الأوراق الأولى وجدت أنها كانت تدونّ كل شاردة وواردة تحصل معنا ومع أقربائنا وأصدقائنا وجيراننا. ومع إني لا أفهم لماذا كتبت سرى هذه الأوراق واليوميات التي لا تفوح منها سوى رائحة الموت والألم والعنوسة إلا أني أحببتها، ودمعت عيناي وأنا اقرأ في محتوياتها.


قررتُ أن أحتفظ بها لأنها تحوي حقائق انتهاكات قوات الاحتلال. سنوات الألم والموت والدمار الذي عشناها تحت سياط المحتلين. أوراق تحكي قصة مقاومة ومقاومين كانت سرى وأنا وأمي وأغلب العراقيين شهود عيان عليها.
كانت سرى ترصد وتراقب بعين ثاقبة كل ما تسمع وترى. تسجل أفراحنا وتوثق أحزاننا وأنين قلوبنا ومواجعنا، فمنذ أن احتلت بغداد، ونحن لا نعرف للسعادة طعما ولم نذق للراحة طعما. الابتسامة غادرتنا منذ أن صارت بغداد تابعة، يتحكم فيها المحتلون من جهة، وعملاؤها من جهة. الكل يعيث فيها فساداً وخراباً.


الحزن يخيم على البيت، أمي لم تنقطع عن البكاء منذ سبعة أيام، لا تزال تهذي، لا تصدق أن سرى كانت من بين القتلى، لم نستلم جثة، وإنما مجموعة أعضاء متناثرة، ولحم محترق. كيس أسود محشور بداخله فتات من اللحم المشوي يعطوها لأهل القتيل بمثابة جثة، تقول لعاصي وعمر: اذهبوا وابحثوا عنها بين الأنقاض، ربما لا تزال على قيد الحياة وتتنفس. لا يزال المعزون يتوافدون على بيتنا والكل مندهش من الحدث. كيف ماتت، لماذا ماتت: وبأي ذنب قُتلت؟


وأنا أجلس في العزاء، أحسست أن لا أحد يبكي على سرى، وأن وفاة سرى موضوع يخصنا نحن عائلتها. في العراق المحتل (الكل يبكي على ليلاه). أغلب النسوة اللواتي حضرن العزاء كن يرتدين السواد، وأغلب النسوة فجعن بعزيز وكل واحدة تبكي عزيزاً التهمهُ الموت المفخخ.


تقول أم حيدر لأمي، وهي تنتحب وتجهش بالبكاء: "خية كلنا مثلج مجروحات"، وأم حيدر فقدت حيدر قبل ثلاث سنوات، اختطف من قبل المليشيات وعثر على جثته في مشرحة بغداد. والخالة نوال تبكي حفيدها وابنها اللذين اختطفا في شارع القناة أثناء عودتهم إلى البيت، وأم يوسف تنوح على يوسف الذي قتل أمام الدار بمسدس كاتم للصوت.


أعيد قراءة اليوميات من جديد، فاكتشف أني كنت اقرأ بلا وعي. هناك أوراق لم اقرأ فيها. واكتشفُ الجانب الآخر من شخصية سرى، وكأنها كائن غريب عني لا أعرفه.


سرى قبل الاحتلال مختلفة تماماً عن سرى بعد الاحتلال. تلاعب المحتل بمزاج سرى، وكان يتحكم فيه كما يتحكم بأمور السياسة والاقتصاد في البلد. غدت مثل الزهرة الذابلة في حديقة المنزل لا تنعشها السقي، يتهيأ لنا انها عانس وأنها فقدت جاذبتيها ورقّتها وهي في ريعان الشباب.


الرمل الأحمر يلوّن السماء. منذ سبعة أيام وبغداد (معجّجة) وعاصفة الرمل الأحمر لم تتوقف. الرمل ينهال علينا من كل حدبٍ وصوب، بدأ صدر أمي يضيق عليها والأدوية التي تشربها لم تعد تجدي نفعاً.


سمر ابنة عمة نجود والمتزوجة في الغزالية حضرت اليوم لتعزي أمي، دخلت وهي تجهش بالبكاء، كانت مسافرة إلى دمشق لإجراء عملية جراحية لابنتها صدى. قالت إنها صدعت بالخبر ولم تتمكن من البقاء في سوريا بعد سماعها الخبر. كانت سمر صديقة سرى، تزوجت سمر منذ وقت مبكر وتركت الدراسة بينما أكملت سرى كلية الإدارة والاقتصاد وتعينت في إحدى الوزارات.


قالت سمر وهي تتحدث إلى أمها (العمة نجود) وأمي: إنّ الغزالية شبه مطوقة منذ الأمس بسبب حدوث أكثر من انفجار، وقالت إنها استقلت سيارة أجرة وتركت زوجها في البيت خشية عليه من المفارز التي أقيمت في الطرقات، فقد تكون مفارز وهمية تابعة للمليشيات.


وقالت إن الفضائيات نقلت أخبار انفجار عبوتين ناسفتين بشكل متزامن في ثاني حادث من نوعه تشهده منطقة الغزالية غرب بغداد. وقال المصدر إن "انفجاراً مزدوجاً بعبوتين ناسفتين وقع بعد ظهر يوم الأمس، في شارع المشجر بمنطقة الغزالية من دون أن يسفر عن وقوع أضرار بشرية، وعلى أثره فرضت القوات الأمنية طوقاً أمنياً حول مكان الحادث، ونفذت عملية دهم وتفتيش للبحث عن منفذي التفجير.


النساء يتداولن الأخبار فيما بينهنّ، بل أصبحن ساردات لكل الحوادث التي تقع في بغداد. قالت جارتنا سعاد التي تحضر يومياً إلى المنزل لتخفف عن أمي مصاب رحيل سرى: سمعت الأخبار من الشرقية، ثلاث عبوات ناسفة انفجرت في مناطق عدة من العاصمة، إحداها انفجرت في منطقة الغزالية، فيما انفجرت الثانية مستهدفة دورية للشرطة في حي الميكانيك بمنطقة الدورة جنوب بغداد، وألحقت أضراراً بإحدى سياراتها، والثالثة في تقاطع النجدة بحي الجهاد غرب العاصمة.


انتهت أربعينية سرى والحزن لا يزال يخيم على البيت، أمي تبدو مجهدة من الحزن. انقطع المعزون عن البيت، سهاد رافقت عمتي نجود إلى الإمارات لتتزوج من فيصل، الخالة وداد تزورنا بين يوم وآخر لتطمئن على أمي وتؤانسها، تقول لها حين تنهال دموع أمي على وجنتيها: لست وحدك فقدتي بنتاً، الآلاف مثلك فقدو عزيزاً بل أعزاء، كل البيوت فيها موتى. لن يرحل هؤلاء الكلاب قبل أن يوشحوا قلوب كل الأمهات بالأحزان.


يوميات سرى أصبحت في متناول يدي، أعيد قراءتها بين يوم وآخر. أمرر سطرا، وأتوقف عند الآخر. اتساءل في نفسي، وأنا اقرأ تلميحات سرى عن علي، هل ترى كانت تحبه، ولهذا السبب كانت ترفض الزواج من الآخرين. هل يدرك علي بحب سرى له أم أنه لا يدري، وسرى كتمت على السر في قلبها.


مر زمن طويل وعلي منقطع عن زيارة شقيقي عمر. أذكر أني سمعت حواراً دار بين عمر وأمي عنه قبل فترة، فقال عمر إن علي معتقل في سجن بوكا وأمه تتردد على زيارته كل شهر أو شهرين تقريباً.


دخلت أمي لتسبح في الحمام، وهند تقوم بتغيير ملابس سرمد ورند في جناحهما في الطابق الثاني، سمعتُ طرقاً على الباب، توقعت خالتي وداد هي التي تطرق لأنها تأتي يومياً في مثل هذا الوقت، لكني فوجئتُ بأن علي هو الطارق، حيّاني تحية الصباح، وسأل إن كان عمر في المنزل فأخبرته أنه خرج منذ الصباح الباكر مع شقيقي عاصي، وطلب مني أن ابلغه أنه خرج من المعتقل ويود رؤيته وهو بانتظاره في البيت. واستفسر لماذا أتوشح بالسواد فقلتُ إن سرى شقيقتي قتلت في الانفجار الذي وقع في الدائرة التي تعمل فيها، أدار وجهه وغادر دون أن يتفوه بكلمة واحدة حتى بكلمة عزاء.


عندما جاء عمر إلى المنزل، أبلغتهُ أن علي خرج من المعتقل وحضر يستفسر عنه وقال إنه ينتظره في البيت، هرع عمر مسرعاً دون أن يصعد إلى غرفته، غاب ساعات وعاد وهو مكهرب الوجه، وعيناه مغرورقتان بالدموع. قال لأمي التي صدمت برؤيته على هذا الحال: لقد استشهد علي، زرع عبوة ناسفة لرتل أميركي ودخل في اشتباك طويل معهم انتهى باستشهاده!

 

Golshanalbayaty2005@yahoo.com

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت  / ٠٨ جمـادي الاخر ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ٢٢أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور