المؤامرة على الأمة والإسلام حقيقة أم أوهام ، دراسة علمية تاريخية لمؤامرة التشيع الفارسي

﴿ الجزء العاشر ﴾

 
 
شبكة المنصور
حــديــد الـعـربي

الفصل الثاني

دور العثمانيين في إنجاح الغزو الصفوي للعراق

 

ظهور الدولة الصفوية عام 1501م كمنافس شديد للدولة العثمانية، والذي كان امتدادا طبيعيا لتكالب أصحاب الطموحات القومية العنصرية من كلا القوميتين خلال فترة الخلافة العباسية، جعل العراق ساحة مواجهة بين القوميتين الفارسية والتركية، ومعترك لتصفية حساباتهما، ومجالا حيويا لتحقيق أطماعهما وأطماع الغير معا.

وقد استُغلّ الدين الإسلامي كعامل حاسم في هذا الصراع الطويل، فصار تبعا لذلك أساساً لتبرير الصراعات وحشد الجموع خلف النوايا والأهداف القومية لكل منهما، رغم انه لم يتضمن في شريعته وسلوك رواده العرب أي شيء من هذه النوايا، بل هو النقيض لها تماماً.

 

وبما إن العثمانيين كانوا يدعون أنهم الورثة الشرعيين لنظام الحكم العربي الإسلامي من خلال التفويض الذي حصلوا عليه في مصر ممن تبقى من العباسيين بعد احتلالهم لأغلب أراضي الدولة العربية الإسلامية، فكان لزاماً على الصفويين الفرس أن ينتهجوا نهجاً مغايراً لنهج الأتراك لتبرير العداء وتثوير المجتمعات به.

 

وبذلك فقد استغلوا حب الناس لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أبشع استغلال فأوجدوا التشيع الفارسي الصفوي، والذي لم يكن وليد فراغ، بل ناتج طبيعي لحقب طويلة من التآمر الفارسي على الإسلام والعرب حملة راياته، كما وجدوا فيه السبيل الأمثل لتوحيد القوميات الخمس المختلفة والمكونة للواقع الإيراني تحت قيادة إسماعيل شاه الصفوي.

 

فهذه القوميات مختلفة ليس في أعراقها فحسب، بل في ثقافاتها وطباعها ولغاتها وحتى مواردها الاقتصادية، لذلك توحد تجار البازار مع رجال الدين خلف قيادة سياسية مثلها الحكام الصفويين، فأرغموا الشعوب الإيرانية على ثقافة مشتركة بصيغة الرابطة الدينية، مبنية على أساس تطويع الإسلام ليلبي متطلباتهم وحاجاتهم وميولهم النفسية والاجتماعية و موروثهم الحضاري، وبهذا فقد قاد الصفويون الدين الإسلامي إلى ما يحقق لهم أهدافهم القومية، لا إلى حيث يريد الله تعالى، فكان التشيع الصفوي لا يملك من الإسلام سوى هويته واليسير المقتضب من شريعته.

 

ولهذا كان للعراق أهمية قصوى في توجهات الصفويين، ذلك لأن الفكر والمكر الذي تمت صياغة تفاصيله العملية في العهد الصفوي كان قد اتخذ من التشيع لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ستارا وقناعا، لما يحتويه العراق من آثار لرموز دينية مهمة ألصقت بها مفاهيم التشيع، فاتخذوها عناوين بارزة لتشيعهم وسخروها كأدوات مثالية لتفريغ طموحاتهم الوثنية من خلالها وخلف قداستها، كما إن العراق بحد ذاته يعتبر هدفا ثمينا، فهو ساحة مثلى للنزال ومقارعة الأتراك، وموقعا حاكما يتعزز بالسيطرة علية وجود أي من الإمبراطوريتين الفارسية أو التركية.

 

ولعلنا نذكر هنا بعض الأدلة القاطعة التي تفيد بأن الصراع التركي الفارسي لم يكن من بين أهدافه الكبرى المحافظة على الإسلام كشريعة سماوية أوصلها لهما العرب، بل على العكس من ذلك، فقد كان الإسلام والعرب أداة لتسويق طموحاتهم في السلطة والحكم والتوسع.

 

ففي عام 1843م قام نجيب باشا الوالي العثماني باحتلال كربلاء، ونكل بالمتمردين العرب أشدَّ التنكيل فيما سمح للفرس - الذين توافدوا بهجرات كبيرة إلى العراق منذ عام 1722م حينما احتل الأفغان أصفهان - بالمزيد من السيطرة والتأثير، وزاد من حصانتهم واستمرت عمليات التغلغل حتى تكللت باتفاقية عام 1875م بين العثمانيين والفرس القاجاريين والتي أعطت الرعايا الفرس حقوقا وامتيازات في العراق لا يتمتع بها حتى الأتراك أنفسهم، وتطور واقع وجودهم وتأثيرهم حتى وصل حد السيطرة الكاملة وفي ظل الدولة العثمانية وبرعاية ولاتها، فقد كان الفرس" يسيطرون على غالبية النشاط الاقتصادي-الاجتماعي والديني في كربلاء.... وكانت روابط كربلاء المتينة مع إيران حتى فترة متأخرة، هي القرن العشرين بادية في المركز الرفيع لعائلة كمونة"(1) حيث كان سادن الحضرة الحسينية محمد علي كمونة وشقيقه فخرالدين كمونة رئيسا للبلدية أو عمدة المدينة، ينتسبان إلى جدتهما ابنة فتح علي شاه الفارسي، ويرتبطان بالبلاط الفارسي ارتباطا مصيريا، وقد كانت لهم قبلها نقابة الأشراف في بغداد تحت حكم العثمانيين، وهما من الأدلة الواضحة على دور النساء الإيرانيات في تطويع العرب لمناهج الفرس المجوس.

 

ولعل هذه الأحوال ساهمت بشكل كبير في احتلال كربلاء والنجف فكريا واقتصاديا ومن ثم سياسيا وأثمرت واقعا دخيلا على سكان المدينتين العرب بشكل خاص وأهل العراق بشكل عام، بأن شاعت في تلك المدن ثقافة التشويه للتاريخ العربي الإسلامي، والسب والشتم والتكفير للخلفاء الراشدين وسائر الصحابة الكرام، والطعن فيهم وفي أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومعها الكثير من الممارسات الغريبة عن الإسلام كالتطبير واللطم وغيرها من العقائد المنافية للشريعة الإسلامية، وبدأت تُحشر وتُرسخ في وعي الكثير من العرب، وبخاصة بين أفراد العشائر التي تشيعت حديثا وهي لا تملك من قبل سوى اسم الإسلام، فقد كانت حياتهم تحكمها الأعراف العشائرية ومفاهيم البداوة بالكامل وجلها بعيدة عن الإسلام وشريعته، كنتيجة طبيعية للانتكاسة التي تعرض لها كيان الدولة العربية الإسلامية ونظامها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي منذ العصر العباسي الثاني مرورا بالغزو المغولي وحتى بداية القرن التاسع عشر الميلادي الذي شهد أخطر موجات التطرف السعودي الوهابي.

 

وقد كان من أهم نتائج الحكم العثماني للعراق أن تحولت مدن عديدة من مدن العراق إلى مرتع للفرس الصفويين بكل أصنافهم السياسية والاقتصادية والدينية، ففي عام 1919م أجرت الحكومة البريطانية تعدادا تقريبيا لسكان العراق بعد اكتمال احتلاله وطرد الأتراك خارج أرضه، تبين من نتائجه أن مدينة النجف التي كان عدد سكانها العرب لا تجاوز 30 ألف نسمة، يقطنها زهاء 60 ألف إيراني، أي ضعف عدد العرب، أما كربلاء فقد أظهرت نتائج هذا التعداد أن عدد سكانها لا يتعدى 50 ألف نسمة يشكل الفرس والهنود نسبة 75% منهم.

 

ودأبت الحكومة العثمانية بالتعاون مع الفرس رغم العداء على إنعاش هاتين المدينتين اقتصاديا بعد سيطرة الفرس الكاملة عليهما، فقد تم إنشاء قناتي الهندية والحسينية لإيصال الماء إليهما، مما جعل منهما حاضرتين ومركزين مهمين على أطراف الصحراء الممتدة بين العراق والجزيرة العربية، تفيان بكل احتياجات ومتطلبات العشائر المنتشرة في تلك الصحراء الواسعة.

 

ومما عزز ذلك الواقع هو عدم جدية الدولة العثمانية في التصدي للغارات التي كان يشنها ابن سعود وإخوانه الوهابيين على العشائر العربية في الجزيرة والعراق، والتي انطلقت منذ عام 1775م واستمرت حتى العقد الثاني من القرن العشرين، تلك الغارات التي ألحقت أذى كبيرا بالعشائر وممتلكاتها، مما خلق حافزا ودافعا مضافا لتلك العشائر للوقوف في الطرف المقابل للتطرف الوهابي، الذي تجسد تماما في التطرف الصفوي، مما ساعد على تشيع العديد من العشائر العربية، القاطنة منها في العراق والنازحة بفعل الهجمات حديثا، فقد تشيعت أعداد من عشائر زبيد وبني لام وتميم والبو محمد وربيعة وشمر طوقة والأقرع وآل بدير وعفك والجبور والشليحات والعبيد واتحاد المنتفق العشائري والمسعود وغيرهم، والذين لم يكن لهم أي ارتباط بالتشيع قبل القرن التاسع عشر الميلادي.

 

وفي ذات الوقت كان تخاذل الدولة العثمانية والمماليك عن التصدي للوهابيين وبخاصة بعد استباحتهم لكربلاء عام 1801م والوحشية التي مارسوها على السكان خلالها، قد أدى إلى حالة من الترابط والتكاتف بين القيادات الصفوية في تلك المدن وبين العشائر المنتشرة حولها، والتي امتهنت الزراعة بموجب الحملات التي قادها الولاة الأتراك للتوطين وقرار 1869 الذي أصدرته الحكومة العثمانية لتمليك الأراضي لشيوخ العشائر بهدف زيادة موارد الإمبراطورية، والذي قاد حملات تطبيقه مدحت باشا، الواقع الذي فرض على شيوخ العشائر ضغوطا كبيرة نتيجة التحول الاجتماعي من حياة البداوة البسيطة إلى حياة التوطين والزراعة، فقد تحول شيوخ العشائر إلى جباة للضرائب ومندوبين أمام الوالي العثماني عن أفراد عشائرهم وتلبية متطلباتها كالتجنيد في الجيش العثماني ومهمة حماية النظام وأمن أفراد عشائرهم، حيث أصبحت مهمات صعبة وشاقة إثر التوطين، فقد افتقدت خططهم الحربية إلى أساليب الكرّ والفرّ التي كانوا يمارسونها في البادية، كما صار لزاماً عليهم التدخل لفض المنازعات بين أفراد العشيرة الواحدة وبينها وبين العشائر المجاورة لها نتيجة الاحتكاك المستمر حول المياه والأرض وحتى الطرق، كما أرهقتهم متطلبات تنظيم السخرة والمساهمة في الأشغال العامة والإشراف على توزيع المياه.

 

وبهذا فقد أفقدت الظروف الجديدة شيوخ العشائر الكثير من سطوتهم على أفراد عشائرهم، مما استوجب البحث عن مصدر للقوة قادر على إسناد هؤلاء الشيوخ بما يسهل تمشية أحوال عشائرهم، فكان دهاقنة الصفويين قد أعدوا رجالهم لهذه المهمة وهذه المرحلة الحاسمة، تحت ستار "السيد" المفهوم الذي أحاطوه بقدسية كبيرة على أنه ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون قائد حملة التبشير والتثقيف بالفكر الصفوي بكل يسر وسهولة في مقابل إضفاء القدسية على سلوك شيخ العشيرة وضمان انصياع الأتباع له، ومما عزز من مكانة هؤلاء السادة أو "الموامنة" قيامهم بالتدخل في فض نزاعات كبيرة حدثت بين العشائر، منها النزاع الذي حدث بين عشائر عفك والدغارة عام 1881م على خلفية مشاكل المياه والأرض، والنزاع الذي حدث بين عشائر السماوة عام 1900م.

 

وبهذا فقد ساعدت الدولة العثمانية الفرس الصفويين على تحقيق أهدافهم بتثبيت أقدامهم على أرض العراق والتوغل في أعماقه بحرية تامة، كما سهلت عمل الفرس المتواجدين على أرض العراق بالتواصل مع مراجعهم في إيران عن طريق إدخال خدمة البرق بين العراق وإيران منذ العقد السابع من القرن التاسع عشر.

 

وليس أدل من واقع النجف الثقافي في السنوات الأخيرة من الحكم العثماني على مدى إحكام السيطرة الفارسية الصفوية الفعلية على أجزاء مهمة من واقع العراق، فبين عامي 1909و1911م كانت تصدر في النجف جريدة واحدة ومجلتان، اثنتان منها تصدر باللغة الفارسية هما (غرّي) و (نجف) وواحدة فقط كانت تصدر باللغة العربية هي (العلم)، ومع ذلك فقد كانت هي الأخرى مشبعة بالفكر الفارسي.

 

ولعل أحد أهم أسباب ذلك الوضع والواقع الذي أفرزه أن أغلب القيادات الدينية الشيعية، وبخاصة في العراق، كانت ترهن إراداتها بمواقف الحكومات الإيرانية وتأثير أصحاب القرار فيها، وهي الحقيقة المرة التي لامناص من مواجهتها، وإن كانت كالعلقم إن لم تكن أشدّ مرارة منه، وهي التي تجعل السواد الأعظم من شيعة العراق يعيشون حالة حرج دائم ومستمر أمام أنفسهم وأبناء جلدتهم العراقيين والعرب.

 

وقد يكون هذا أحد أهم الأسباب التي أدت، بتعاقب المراحل الزمنية وتراكم تأثير السلوكيات التي تنتهجها بعض هذه المرجعيات وما تفرزه مواقفها على الأتباع والمقتدين من آثار مدمرة، إلى ترسيخ واحد من أهم الأمراض الاجتماعية وآفاتها في سلوك نسبة لا يستهان بها من العرب عموما والعراقيين منهم بشكل استثنائي وخاص، ذلك هو مرض ازدواج الشخصية، والذي ظهرت أعراضه بشكل جلي وفاضح في عصرنا الراهن من خلال استشراء النفاق والانتهازية في سلوكيات ومواقف الكثير، وبخاصة الذين ورثوا وتغذوا على النهج عن قرب أو بالاستسلام لعمليات الجذب وسلب الإرادات عن بعد، تحت ستار القدسية والعصمة، وتحت ضغوط التجهيل والتهميش العقلي، من خلال ترسيخ السلوك الاتكالي.

 

هذا المرض الذي أدى إلى انسلاخ أعداد كبيرة من واقعهم، والوقوع تحت سطوة مفاهيم الغربة والشعور بالضياع ومن ثم الخنوع والخضوع، حتى صار كثير منهم مشاريع جاهزة مستسلمة لإرادة الأجهزة المخابراتية فجندتهم كجواسيس حقراء، كما أسهم في تكوين شخصيات غير متوازنة، متناقضة في سلوكها ووعيها، ترى في الكذب صدقا، وفي النفاق زهوا، وفي الحرام لذة الحلال وطيبه، وفي الغدر والخيانة شهامة ورجولة، مشتتة بين إسلامها وبين أهواء النفس ومتطلبات الضغوط المرجعية، بعضها تجند ذاتها للإسلام وترتكب باسمه كل محرم وتقترف كل رذيلة، وبعضها تتمادى حتى تنساق في مسار تدمير الإسلام والعروبة وتمزيق أوصالهما.

 

في عام 1921م كان خيار غالبية الشعب العراقي وبكل أطيافه هو إقامة دولة عربية يحكمها عربي مسلم، وقد انسجم هذا الخيار مع الهوى البريطاني على تسمية فيصل بن الشريف حسين ليكون ملكا للعراق، نتيجة الحاجة الملحة لشعب العراق عموما بالتخلص من ظروف الاضطهاد والتعسف التي مارسها ضباط الاحتلال البريطاني وهم يمارسون الحكم المدني للمناطق والمدن العراقية منذ عام 1917م، كما إن المفاضلة التي فرضت نفسها على الشعب بين محتل كافر وبين عربي مسلم كانت عاملا مرجحا وحاسما في القبول بتولي الأمير فيصل حكم العراق وتتويجه ملكا.

 

لكن المصالح والإرادة الفارسية متمثلة بمواقف حكام إيران ومراجعها الصفوية كانت تقضي بعدم الرضا والقبول بعراق موحد وقيادة يمكن للشعب أن يتوحد حولها ومن خلالها، بحكم وجود أحد أبناء الشريف حسين أمير الحجاز السابق وقائد الثورة العربية الكبرى عام 1916م، واجتماع اغلب ضباط الجيش العثماني العرب حول قيادته.

 

ذلك أن المطامع الفارسية بأرض العراق وخيراته لم تتوقف ولن تتوقف، خاصة وأنهم قد نجحوا في احتلال مدينتي كربلاء والنجف، والتوغل وسط العشائر العربية القادمة من الجزيرة العربية بعد توطينها بحملات مدحت باشا بين عامي 1869-1872م، وبث الثقافة الفارسية بين أفرادها وشيوخها عن طريق الوكلاء أو ما سمي بالسراكيل، وهي محرفة من التسمية الفارسية (سركار) وتعني رئيس العمل، واردفوها (بالمومن أو السيد) ليكونا مبشرين بالفكر والثقافة الشعوبية الصفوية المعادية للعرب بأساليب ماكرة لا يغيب عنها الخداع والدهاء، وقد حفروا في أرضٍ خصبة، فالقبائل التي نزحت من الجزيرة العربية أو التي كانت موجودة على أرض العراق قبل ذلك كلها كانت حانقة وخائفة في نفس الوقت من سلوك آل سعود وإخوانه وبطشهم.

 

منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى تكوين المملكة العراقية كانت السيطرة الفارسية على مدينتي كربلاء والنجف قد أُحكمت، والتوغل في المدن الأخرى مستمر وفاعل، وكان مما ساعد على هذا الاحتلال الأفغاني لأصفهان عام 1135ه - 1722 م في عهد الشاه سلطان حسين حيث تمكنت قبيلة غلزاي من قندهار وقبيلة أبادي من هراة السيطرة على عاصمة الصفويين أصفهان وتتويج محمود بن ميرويس ملكا عليها، فأدى ذلك إلى نزوح جماعي للمتدينين الإيرانيين ذوي الخلفية الصفوية وأتباعهم والتجار إلى مدينتي كربلاء والنجف، واستمر هذا الزحف حتى عام 1763م، كما إن الاحتلال البريطاني للهند وقضائهم على مملكة أوذة الصفوية التي تشكلت أيضا في عام 1722م، وضمها إلى الهند مجددا أدى بدوره إلى هجرة العائلات الملكية، والتي يطلق عليها (النَوّاب) مع ممتلكاتهم الكبيرة وأعداد غفيرة من أتباعها واستقرارها في كربلاء والنجف والكاظمية في بغداد، ومما يدلل على القدرات المادية الكبيرة لهذه العائلات، تبرع حسن رضا خان وزير مملكة أوذه الصفوية بمبلغ 500 ألف روبية للمساهمة في تنفيذ مشروع نهر الهندية الذي يتفرع من نهر الفرات جنوب مدينة المسيب بعدة كيلومترات.

 

وكنتيجة لما سبق فإن الأحوال تطورت بشكل متدرج ومدروس حتى صار اغلب مراجع المذهب الشيعي في النجف وكربلاء من الفرس، ففي عام 1908م كان المراجع الكبار هم: محمد كاظم الخراساني، عبدالله المازندراني، حسين مرزا خليل وشيخ الشريعة الأصفهاني، وكلهم من الفرس، وحتى الذين برزوا فيما بعد من العرب لمنافسة الفرس على الزعامة الدينية كانوا قد ارتبطوا مصيريا بدولة الفرس من خلال منحهم الجنسية الإيرانية تهربا من التجنيد في الجيش العثماني، فعلى سبيل المثال كان الشيخ مهدي الخالصي وأولاده الثلاثة بالإضافة إلى ابن أخيه، والشيخ حسن الجواهري وغيرهم الكثير يحملون الجنسية الإيرانية ويتمتعون بحقوق الرعايا الإيرانيين كاملة، وفي عام 1920م كانت المنافسة على صدارة المرجعية الشيعية تنحصر بين أبو الحسن الأصفهاني ومحمد حسين النائيني ومحمد فيروزأبادي، وثلاثتهم من الفرس، وقد أقر المفوض المدني البريطاني " ارنولد ولسن" بحقيقة الهيمنة الفارسية على جنوب العراق من خلال وجود موظفين دبلوماسيين إيرانيين في كل مدينة وقرية مهما كان حجمها.

 

في واقع هذه بعض ملامحه كان من الطبيعي أن تكون المواقف المرجعية ولا تزال منسجمة مع المصالح والأطماع الفارسية، أو على أقل تقدير غير متعارضة معها، ولم تكن ولن تكون في ظل هكذا حال بدوافع دينية خالصة أو مصالح وثوابت وطنية صرفة.

 

ولعلنا نستذكر هنا بعض الأحداث والمواقف التي تشير بوضوح كامل إلى ماذهبنا إليه، ففي 5/11/1922م أصدر مراجع الشيعة؛ أبو الحسن الأصفهاني ومحمد حسين النائيني ومهدي الخالصي فتاوى بتحريم المشاركة بالانتخابات المزمع إجراؤها من أجل تأسيس جمعية تأسيسية دستورية في العراق بعد إعلان المملكة وتشكيل الحكومة، فقد حرّم ابو الحسن الأصفهاني زوجة المشارك بالانتخابات عليه، ووصلت الحال حدّ تحريم دخوله الحمامات العامة، أما الشيخ الخالصي فقد حكم بحرمة الانتخابات " والمشارك فيها معادٍ لله ولرسوله وأئمة المسلمين، ولا يدفن في مقابر المسلمين"، وكان التصور والقناعة أن دوافع تلك الممانعات وطنية ودينية شرعية، خاصة أن المعلن حينها كان يبرر الامتناع عن المشاركة بالانتخابات التي ستأتي بجمعية دستورية مشكلة على عين المحتل البريطاني ليتمكن من تمرير الاتفاقية البريطانية العراقية، التي ترهن مصير العراق وقدراته عشرين سنة، كما نصت عليه مسودتها والتي خُفضت فيما بعد إلى أربع سنوات، وكذلك الخوف من استغلال قوائم الناخبين لأغراض التجنيد بالخدمة العسكرية فيما لو أقِر قانون التجنيد.

 

لكن أحداث احتلال العراق عام 2003م كشفت عن حقيقة تلك المواقف وأمثالها وعرتها تحت الشمس، فقد كان دافع تلك الممانعات الحقيقي هو الإرادة السياسية الإيرانية وحاجتها لتعويق عملية تكوين دولة عراقية قد تتمكن من تحويل العراق من غنيمة يتصارع على انتزاعها الفرس والأتراك والبريطانيين وغيرهم إلى كيان يملك أسباب الدفع عن أرضه وخيرات بلده ويتصدى لأطماعهم ويُفشل نواياهم السيئة تجاهه، أو على أقل تقدير اتخاذه ورقة ضغط على المحتل البريطاني لإجباره على تنفيذ بعض مطالب الفرس إن لم يكن كلها، وقد تحقق لهم ذلك في اقتطاع الأحواز من جسد العراق وإلحاقه بدولة الفرس عام 1925م.

 

وقد يكون من المفيد التنبيه إلى أن الشيخ الخالصي، وهو عربي وإن كان يحمل مع عراقيته وعروبته هو وعائلته الجنسية الفارسية، كان قد أفتى - بعد نفيه من العراق إلى عمان إثر مواقفه تلك بناءً على جنسيته الفارسية وذهابه من هناك إلى إيران - في عام 1923م بوجوب اقتطاع قسم من مبالغ "الخمس" التي تجبى من أهل العراق – وهي مبالغ كبيرة – وتسليمها ليس إلى فقراء العراق الذين كانوا السواد الأعظم من شعب العراق، بل إلى الحكومة الإيرانية بهدف تطوير قدراتها التسليحية، كما أفتى بتخصيص العوائد المالية الواردة لمرقد الإمام موسى الكاظم للهدف ذاته، مع إن الحكومة الإيرانية كانت واقعة أيضا تحت الهيمنة البريطانية وترتبط معها بمعاهدات.

 

ولما كانت المصالح والأطماع الإيرانية والأحقاد الفارسية تقتضي موقفا مغايرا تماما لتلك المواقف، وفتاوى تضرب بفتاوى مرحلة الاحتلال البريطاني عرض الحائط، فقد انبرى مراجع الشيعة في النجف وكربلاء والكاظمية ومدن أخرى منذ الاحتلال الصليبي الصهيوني الصفوي للعراق عام 2003م وانسجاما مع النوايا الفارسية ليناقضوا وبشكل صارخ كل الثوابت التي وثقتها فتاوى أسلافهم مراجع تلك المرحلة من تاريخ العراق، ويطعنوا بوطنيتهم وإسلامهم ويكشفوا دون قصد منهم عن نواياهم الحقيقية التي كانت تتخفى خلف أستار الوطنية والقيم والإيمان، مع إنهم كانوا أساتذتهم ومن أجازوا لهم الاجتهاد ومنحوهم الرتب والدرجات والسلطات المرجعية، ولو كان الأمر يتعلق ويرتبط بالقيم والدوافع الدينية لما صار حرامُ الأمس حلال في يومنا هذا، وإلا سيكون لزاما أن يخرج من الملة أحد الفريقين ويكفر، خاصة وأن الفتاوى السابقة كانت جماعية تقريبا ومن المراجع (العظام) الناطقين باسم (الغائب المعصوم)، ووصلت حد التكفير الصريح والخروج من الملة وأسهبت إلى حدّ تحريم دخول الحمامات مع إنها ليست أماكن للعبادة، بل ولا يجوز ذكر اسم الله فيها كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك المراجع الحاليين تلاميذ مدرسة بريمر.

 

لكن الأمر ليس كذلك على الإطلاق، بل محض أوامر يتلقفها الأتباع من ولي أمرهم الصفوي حسب ما تمليه عليه مصالح الفرس وأهدافهم المرحلية أو النهائية في استعادة مجدهم القومي فينطقون بها، منسجمين معه ومع أنفسهم، ولا علاقة للإسلام بهذا من بعيد أو قريب البتة، أما الذين لا يتحمسون لتلك الأوامر والولاية من المراجع العرب فهم في أضيق الزوايا محاصرون، وأدوارهم محجمة، وكلمتهم لا تكاد تُسمع، كما يحصل اليوم.

 

فانتخابات الجمعية التأسيسية في ظل الاحتلال البريطاني وما نتج عنها والتي وقف أولائك المراجع الكبار ضدها وحرموا المشاركة فيها وكفروا المخالفين لهم في ذلك لم تكن أسوأ من مجلس الحكم الذي شكله المحتل الأمريكي من أغلب المراجع الكبرى والصغرى ومعهم حفنة من أتباعهم الجواسيس، كما لم تكن أسوأ من الدستور الذي وضعه اليهودي فيلدمان وباركته المراجع وتمسكت به، ولا أسوأ من الانتخابات التي جرت مهازلها المخزية حتى للمحتل ذاته عام 2005م وما تلاها والتي أفتى المراجع بالويل والثبور لمن لا يساهم فيها، بل كانت أهون بكثير في نتائجها ومردوداتها ومدى تأثيرها على العراق والعروبة والإسلام معا.

 

ولا يخفى على أحد الفتاوى التي أطلقها بعض مراجع الشيعة حول مهازل ما سمي بالانتخابات، حيث تضمنت ذات المفردات التي تضمنتها فتاوى مراجع مرحلة الاحتلال البريطاني وبنفس التمثيل، لكنها تختلف فقط في استبدال الحلال بالحرام، وضرورات الإيمان وحسن الإتباع بدل التكفير، والسباحة في الحمامات الغربية بدل تحريم دخول الحمامات العامة.

 

فالزوجة التي حرمت على من شارك في انتخابات الاحتلال البريطاني حُرمت في الاحتلال الصليبي بكل مكوناته بما فيها بريطانيا ومعهم الصهيونية والفرس ولكن ليس على من يشارك في الانتخابات، بل على الذي لم يشارك ويُشرك عياله فيها، فكيف يستقيم هذا إلا أن يكون فيه مصلحة الفرس الصفويين، وليس فيه لشرع الله مكان.

 

والفتاوى بجهاد المحتل البريطاني، بل والمشاركة الفعلية من قبل بعض المراجع ومساعديهم في معارك الكوت عام 1917م، وإبان انتفاضة الشعب العراقي عام 1920م، قابلتها فتاوى المراجع منذ غزو العراق عام 2003م وحتى الآن بحرمة جهاد الغزاة والدفع المستمر باتجاه الوقوف صفا واحدا مع المحتل ضد المجاهدين المقاومين الذين تصدوا بصدورهم العامرة بالإيمان للغزاة ولقنوهم دروس التاريخ كلها، كما سكتت تلك المرجعيات إن لم نقل ساهمت بالهجمة الصفوية البربرية على أشراف العراق وبناة حضارته والمجاهدين في سبيل الله ومن أجل تحرير بلدهم، وأشاعوا في البلاد ثقافة السب والشتم والتطاول على كل غال وثمين في تاريخ العراق والعرب والمسلمين.

 

والفتاوى التي أطلقت حينذاك بحرمة إشغال الوظائف الحكومية، ومنها فتوى المرجع مرزا محمد تقي الشيرازي في آذار 1920م، وفتوى المرجع مهدي الخالصي عام 1921م حينما اعتبر ذلك عملا من أعمال التعاون مع الكفار، انقلبت الشريعة في القرن الحادي والعشرين لينبري المراجع للترويج خدمةً للمحتل ومشاريعه وتحقيقا لأهدافه فأفتوا بوجوب العمل تحت عين المحتل وعدوا ذلك واجبا وتكليفا شرعيا.

 

وعندما أرادت الحكومة المشكلة في ظل الاحتلال البريطاني تشكيل جيش وطني وإصدار قانون للتجنيد وقف المراجع الشيعة ضده وحرضوا الشعب بهذا الاتجاه، ولم تتمكن الدولة من إصدار ذلك القانون حتى عام 1934م بعد أن اعترفت الحكومة الإيرانية بالعراق كدولة، في حين نجد أن مراجع الاحتلال الحالي لم يعترضوا على قيام المحتل بحل الجيش العراقي العريق بتاريخه والمتميز ببطولاته على أرض فلسطين وفي الدفاع عن تربة العراق، لأن ذلك القرار كان بناءً على رغبة الفرس بطمس معالم وتاريخ الجيش الذي جرعهم الهزائم المنكرة خلال معارك قادسية صدام المجيدة، وكان السور الذي حمى العراق والأمة العربية من ريح ثورتهم الصفراء، وكان ذلك القرار مدعاة لإطلاق فتاواهم بوجوب الانخراط في الجيش الطائفي المشكل في جوهره من المليشيات وعصابات الجريمة الإيرانية، ومباركة نشوءه تحت عين المحتل وإرادته وبطولته النادرة في خدمة الغزاة والمساهمة في تحقيق أهدافهم بتدمير العراق وتمزيق أوصاله.

 

وقد لا نتجنى إذا قلنا أن بعضا من مراجع المسلمين من غير الشيعة لا يختلفون عن أقرانهم من الشيعة الذين وصفنا حال بعضهم، إلا بفوارق بسيطة، منها أن أغلبهم بحاجة إلى أموال الحكام ودعمهم، كبديل للخمس الشيعي وموارد أضرحة الأئمة والولاية الفارسية، التي تسخر أتباعها في مشروعها القومي الشعوبي الناقم على أمة العرب ودينها، اللذان أضاعا مجد إمبراطورية أسلافهم المجوس، وما عدا ذلك فليست هناك فوارق كبيرة بين المراجع الفرس والمستعجمين ورهطهم وبين من رهن عمامته واستعبد نفسه للمحتل من إخوان العراق وغيره وبين من يستبسل في تنفيذ أجندات الفرس الصفويين على أرض لبنان وغيرها وبين المعمم الغافل عن مصافحة جزار الصهيونية وعما يجري في غزة وعموم فلسطين ناهيك عن العراق فقد لا يعلم أنه تحت وابل النيران حتى الآن، وبين عمائم آل نفط عبيد الصليبيين وممولي غزواتهم على العرب، والذين أفتوا بكفر العراق وقيادته، ووجوب الاستنجاد بالنصارى واليهود لذبح العراق، يزكون بذلك سرقة حكام الكويت لنفط العراق وهو يدافع عنهم بدماء رجاله وثرواته، ويبررون لحكامه توليهم لليهود والنصارى واستجلاب جيوشهم لغزو ديار إخوانهم الذين صدوا عنهم شرور الخميني طيلة ثمان سنوات، ويستنكر حشد العراق لجيشه على حدود السعودية دفاعاً عن نفسه، ولا يستنكرون جيوش الكفر والضلال التي استجلبتها حكوماتهم وحشدتها على حدود العراق لغزوه، بل يباركون ويدعون لها بالسداد والنصر، أولائك عبيد الحكام وعمائم كراسيهم.

 

فهل يحق لنا بعد كل هذا أن نقول: إن العاصفة الصليبية الصهيونية الصفوية على العروبة والإسلام قد وصلت إلى أقصى مديات سرعتها وهيجانها، وتكاد تطبق على العرب من كل حدب وصوب، ييسر لها العرب أنفسهم تحقيق غاياتها بفعل حكامهم وبعض معمميهم وفساد مجتمعاتهم.

 

مع إن الأمة لو أرادت التصدي والمواجهة بما تملك من طاقات وقدرات ومنهج قويم أوصلها في مرحلة من مراحل التاريخ إلى قمة المجد الذي لم ترتق أمةٌ قبلها ولا بعدها مثيلها، لكن يبدو أنها لا تريد، أو كأنها مثل الذي يتلبسه الشيطان فيعجزه عن النهوض حينما ينادي مؤذن الفجر للصلاة، وإلا بم يفسر تخليها عن نصرة من سلك في سبيل الله الصعاب واستسهل التضحيات الجسام وأجزل العطاء من أجل وحدة أمة نبيه صلى الله عليه وسلم كي تنهض من جديد وتستأنف دورها ورسالتها، ثم تتولى هذا وذاك ممن ذكرنا ولم نذكر؟

 

-----------------------------------------------------------------------------------------

اسحاق نقاش، شيعة العراق، ت عبدالآله النعيمي، ص44، دار المدى، ط1،دمشق 1996م.

 

للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا  
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الثلاثاء  / ٢٧ جمـادي الاولى ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١١ / أيـــار / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور